المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

تمهيد

الاستقراء : هو استنتاج قانونٍ عامٍّ من تتبّع حالاتٍ جزئيةٍ كثيرة. ومثال ذلك : أن نلاحظ هذه القطعة من الحديد فنراها تتمدّد بالحرارة ، ونلاحظ تلك فنراها تتمدّد بالحرارة ، وهكذا الثالثة والرابعة ، فنستنتج من تتبّع هذه الحالات الجزئية قانوناً عاماً ، وهو : أنّ كلّ حديدٍ يتمدّد بالحرارة. وهذه الطريقة من الاستدلال هي الطريقة التي يستخدمها العلماء الطبيعيون في العلوم الطبيعية لاكتشاف قوانين الكون والطبيعة.

ونحن إذا تأمّلنا في الدليل الاستقرائي نجد أنّ كلّ حالةٍ من الحالات الجزئية التي نلاحظ فيها تمدّد الحديد بالحرارة تشكِّل قرينةً على القانون العام القائل : «إنّ كلّ حديدٍ يتمدّد بالحرارة» ، غير أنّ كلّ حالةٍ بمفردها تعتبر قرينة إثباتٍ ناقصة ، أي أنّها لا تؤدّي بنا إلى القطع بالقانون العام ، ولكن حين نضيف إليها حالةً جزئيةً اخرى مماثلةً يقوى في ظنِّنا أنّ ظاهرة التمدّد بالحرارة عامة ، فإذا لاحظنا التمدّد في حالةٍ ثالثةٍ مماثلةٍ أيضاً تأكّد ظنّنا بالتعميم نتيجةً لتجمّع ثلاث قرائن ، وهكذا تزداد القرائن كلّما ازدادت الحالات التي نستقرئها ، وبالتالي يزداد ظنّنا بالقانون العام حتّى نصل الى القطع به.

ونحن هنا نسمّي كلّ دليلٍ يقوم على أساس القرائن الناقصة ويستمدّ قوّته

٢٠١

من تجمّع تلك القرائن «دليلاً استقرائياً».

ومن أمثلة الدليل الاستقرائي بهذا المعنى الذي نريده هنا : «التواتر» ، وهو : أن يخبرك عدد كبير جدّاً من الناس بحادثةٍ رأوها بأعينهم ، فأنت حين تسمع الخبر من أحدهم تحتمل صدقه ؛ ولكنّك لا تجزم بذلك ، فتعتبر خبره قرينةً ناقصةً على وقوع الحادثة ، فإذا سمعت الخبر نفسه من شخصٍ آخر تقوَّى في نفسك احتمال وقوع الحادثة نتيجةً لاجتماع قرينتين ، وهكذا يظلّ احتمال وقوع الحادثة ينمو ويكبر كلّما جاء مخبر جديد عنها حتّى يصل الى درجة العلم.

وقد نطلق على الدليل الاستقرائي بالمعنى الذي حدّدناه اسم «الدليل الاحتمالي» ، أو «الدليل القائم على حساب الاحتمالات» ؛ لأنّ الدليل الاستقرائي لمّا كان مردّه في التحليل العلمي الى عملية تجميع القرائن فهو يتضمّن قياس قوة الاحتمال الناتج عن كلّ قرينةٍ وجمع القُوى الاحتمالية لمجموع القرائن وفقاً لقوانين سوف نشير إليها في الحلقات المقبلة ، وقياس تلك القوى الاحتمالية وجمعها هو ما يسمّى بحساب الاحتمالات ، وحيث إنّ الدليل الاستقرائي يتضمّن ويعتمد عليه فهو يقوم على أساس حساب الاحتمالات.

وسوف نتحدّث في ما يلي عن دور الدليل الاستقرائي في استنباط الأحكام ، وذلك في فصلين :

٢٠٢

الفصل الأول

الاستقراء في الأحكام

من ألوان الدليل الاستقرائي أن ندرس عدداً كبيراً من الأحكام الشرعية فنجد أنّها تشترك جميعاً في اتّجاهٍ واحد ، فنكتشف قاعدةً عامةً في التشريع الإسلامي عن طريقها.

ولنذكر على سبيل المثال لهذا الدليل محاولةً ذكرها الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابيه : الحدائق (١) والدرر النجفية (٢) تستهدف إثبات قاعدةٍ عامةٍ عن طريق الاستقراء ، وتلك القاعدة العامّة هي القاعدة القائلة بمعذورية الجاهل ، أي أنّ كلّ جاهلٍ إذا ارتكب خطأً نتيجةً لجهله بالحكم الشرعي فلا تترتّب على ذلك الخطأ تبعة. وقد استدلّ الفقيه البحراني على هذه القاعدة بحالاتٍ كثيرةٍ في الفقه ثبت شرعاً أنّ الجاهل بالحكم معذور فيها ، واستكشف عن طريق استقراء تلك الحالات القاعدة القائلة بمعذورية الجاهل شرعاً في جميع الحالات.

وتلك الحالات التي أقام عليها الفقيه البحراني استقراءه واستنتاجه للقاعدة العامة هي الحالات التي نصّت عليها الأدلّة التالية :

أولاً : ما دلّ من الشرع في أحكام الحجّ (٣) على أنّ الجاهل معذور ، فمن

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٧٧ ، المقدّمة الخامسة

(٢) الدرر النجفية : ٧ ، السطر ١٧

(٣) وسائل الشيعة ١٣ : ١٥٨ ، الباب ٨ من أبواب بقية كفّارات الإحرام ، الحديث ٤

٢٠٣

لبس وهو محرم ثوباً لا يجوز له لبسه جهلاً منه بالحكم لا شيء عليه.

وثانياً : ما دلَّ في أحكام الصوم (١) على أنّ الجاهل معذور ، فمن صام في السفر وهو لا يدري أنّ الصوم في السفر غير جائزٍ صحّ صومه ولا شيء عليه.

وثالثاً : ما دلّ في أحكام النكاح (٢) على أنّ الجاهل معذور ، فمن تزوّج امرأةً في عدّتها جهلاً منه بحرمة ذلك لم تحرم عليه بالحرمة المؤبّدة نظراً إلى جهله ، بل كان له أن يتزوّجها من جديدٍ بعد انتهاء عدّتها.

ورابعاً : ما دلّ في أحكام الحدود (٣) على أنّ الجاهل معذور ، فمن شرب الخمر جهلاً منه بحرمته لا يحدّ.

وخامساً : ما دلّ في أحكام الصلاة (٤) على أنّ من صلّى أربعاً وهو مسافر جهلاً منه بوجوب القصر صحّت صلاته ولم يجب عليه القضاء.

فكلّ حالةٍ من هذه الحالات قرينة إثباتٍ ناقصة بالنسبة الى القاعدة العامة القائلة بمعذورية الجاهل شرعاً في جميع الحالات. وبتجمّع تلك القرائن يقوى في نفس الفقيه احتمال القاعدة العامة ووثوقه بها.

ومثال آخر ، وهو : أنّا حين نريد أن نعرف اشتمال الاقتصاد الإسلامي على القاعدة القائلة : «إنّ العمل في الثروات الطبيعية أساس للملكية» قد نستعرض

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٧٩ ، الباب ٢ من أبواب من يصحّ منه الصوم

(٢) وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥١ و ٤٥٣ ، الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، الحديث ٤ و ١٠

(٣) وسائل الشيعة ٢٨ : ٢٣٢ ، الباب ١٠ من أبواب حدّ المسكر ، الحديث الأوّل

(٤) وسائل الشيعة ٨ : ٥٠٦ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٣ و ٤

٢٠٤

حالاتٍ عديدةً من العمل ثبت أنّ العمل فيها أساس للملكية ، فنستنتج من استقراء تلك الحالات صحة القاعدة العامة ، إذ نرى ـ مثلاً ـ أنّ العمل في إحياء الأرض ينتج ملكيتها ، والعمل في إحياء المعدن ينتج ملكيته ، والعمل في حيازة الماء ينتج ملكيته ، والعمل في اصطياد الطائر ينتج ملكيته فنستدلّ باستقراء هذه الحالات على قاعدةٍ عامةٍ في الاقتصاد الإسلامي ، وهي : «أنّ العمل في الثروات الطبيعية أساس للملكية».

وموقفنا من الاستقراء يتلخّص في التمييز بين القطعي منه وغيره ، فإذا كان قطعياً ـ أي أدّى الى القطع بالحكم الشرعي ـ فهو حجّة ؛ لأنّه يصبح دليلاً قطعياً ويستمدّ حجّيته من حجّية القطع ، وإذا لم يكن قطعياً فلا حجّية فيه مهما كانت قوة الاحتمال الناجمة عنه ؛ لأنّنا عرفنا سابقاً أنّ كلّ دليلٍ غير قطعيٍّ ليس حجّةً ما لم يحكم الشارع بحجّيته ، والشارع لم يحكم بحجّية الاستقراء الذي لا يؤدّي الى العلم.

القياس خطوة من الاستقراء :

وقد تؤخذ خطوة واحدة من خطوات الاستقراء ويكتفى بها في الاستدلال ، كما إذا اكتفينا بحالةٍ واحدةٍ من الحالات التي أقام صاحب الحدائق عليها استقراءه وجعلنا منها دليلاً على كون الجاهل معذوراً في سائر الحالات الاخرى. ويسمّى هذا ب «القياس» عند أبي حنيفة وغيره من فقهاء السنّة الذين يكتفون في الاستدلال على ثبوت حكمٍ لموضوعٍ بثبوت حكمٍ من نفس النوع على موضوعٍ واحدٍ مشابهٍ له ، ولا يكلِّفون أنفسهم بتتبّع موضوعاتٍ مشابهةٍ عديدةٍ واستقراء حالاتٍ كثيرة. فبينما كان الاستقراء يكلِّفنا بملاحظة حالاتٍ كثيرةٍ يعذر فيها الجاهل لكي نصل الى القاعدة العامة القائلة : «إنّ كلّ جاهلٍ معذور» لا يكلِّفنا

٢٠٥

القياس الحنفي إلّا بملاحظة حالةٍ واحدةٍ واتّخاذها دليلاً على إثبات حكمٍ من نفس النوع لسائر الحالات الاخرى.

وما دام الاستقراء ليس حجّةً ما لم يحصل منه القطع بالحكم الشرعي فمن الطبيعي أن لا يكون القياس حجّة ؛ لأنّه خطوة من الاستقراء فُصلت عن سائر الخطوات.

٢٠٦

الفصل الثاني

الدليل الاستقرائي غير المباشر

كان الدليل الاستقرائي الذي درسناه في الفصل السابق يشتمل على استقراء عددٍ من الأحكام الخاصّة واستنتاج حكمٍ عامٍّ منها ، فالحكم العامّ يكتشف بالاستقراء مباشرة ، ولهذا نطلق عليه اسم «الدليل الاستقرائي المباشر».

ويوجد قسم آخر من الدليل الاستقرائي ، وهو الدليل الاستقرائي غير المباشر ، ونريد به : أن نستدلّ بالاستقراء لا على الحكم مباشرة ، بل على وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ بدوره على الحكم الشرعي ، ففي هذا الاستقراء نكتشف بصورةٍ مباشرةٍ الدليل اللفظي ، وبعد اكتشاف الدليل اللفظي عن طريق الاستقراء نثبت الحكم الشرعي بذلك الدليل اللفظي.

ومثال ذلك : «التواتر» ، فقد عرفنا سابقاً (١) أنّ التواتر دليل استقرائي يقوم على أساس تجميع القرائن ، فإذا أخبرنا عدد كبير من الرواة بنصٍّ عن المعصوم عليه‌السلام أصبح النصّ متواتراً ، وحينئذٍ نستدلّ بالتواتر بوصفه دليلاً استقرائياً على صدور ذلك الكلام من المعصوم عليه‌السلام ، أي على الدليل اللفظي ، ثمّ نستدلّ بالدليل اللفظي ـ أي بذلك الكلام الثابت صدوره من المعصوم عليه‌السلام بالتواتر ـ على الحكم الشرعي الذي يدلّ عليه.

وللدليل الاستقرائي غير المباشر بهذا المعنى الذي شرحناه أمثلة عديدة ، منها : «الإجماع» و «الشهرة» و «الخبر» و «السيرة».

__________________

(١) تحت عنوان : الدليل الاستقرائي

٢٠٧

الإجماع والشهرة :

إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن نجد أنّها تشكِّل قرينة إثباتٍ ناقصةً على وجود دليلٍ لفظيٍّ مسبقٍ يدلّ على هذا الوجوب ؛ لأنّ فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها :

أحدهما : أن يكون قد استند في فتواه الى دليلٍ لفظيٍّ ـ مثلاً ـ بصورةٍ صحيحة.

والآخر : أن يكون مخطِئاً في فتواه. وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معاً فهي قرينة إثباتٍ ناقصة.

فإذا أضفنا إليها فتوى فقيهٍ آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضاً كبر احتمال وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ على الحكم نتيجةً لاجتماع قرينتين ناقصتين ، وحين ينضمّ الى الفقيهين فقيه ثالث نزداد ميلاً الى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي. وهكذا نزداد ميلاً الى الاعتقاد بذلك كلّما ازداد عدد الفقهاء المفتِين بوجوب الخمس في المعادن ، فإذا كان الفقهاء قد اتّفقوا جميعاً على هذه الفتوى سمِّي ذلك «إجماعاً» ، وإذا كانوا يشكّلون الأكثرية فقط سمّي ذلك «شهرة».

فالإجماع والشهرة على ضوء مفهومنا الخاصّ عن الدليل الاستقرائي دليلان استقرائيان على وجود دليلٍ مسبقٍ على الحكم قام على أساسه الإجماع أو الشهرة.

وحكم الإجماع والشهرة من ناحيةٍ اصوليةٍ أنّه متى حصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة وجب الأخذ بذلك في عملية الاستنباط ، وأصبح الإجماع والشهرة حجّة ، وإذا لم يحصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما.

الخبر :

الخبر هو نقل شيءٍ عن المعصوم عليه‌السلام استناداً الى الحسِّ ، كما يصنع الرواة ،

٢٠٨

إذ ينقلون نصوصاً سمعوها من المعصوم عليه‌السلام بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة. ويعتبر الخبر قرينة إثباتٍ ناقصة ؛ لأنّنا إذا سمعنا شخصاً ينقل شيئاً عن المعصوم عليه‌السلام احتملنا صدقة واحتملنا كذبه ، فيكون قرينة إثباتٍ ناقصة ، وتزداد قوة الإثبات إذا نقل شخص آخر نفس الشيء عن المعصوم عليه‌السلام أيضاً نتيجةً لاجتماع قرينتين. وهكذا يكبر احتمال الصدق كلّما كثر المخبرون حتّى يحصل الجزم ، فيسمّى الخبر «متواتراً».

وكما يكبر احتمال الصدق بسبب زيادة عدد المخبِرين كذلك يكبر بسبب نوعية المخبِر ، فالمخبِر الواحد يزداد احتمال صدقه كلّما ازداد اطّلاعنا على دينه وورعه وانتباهه.

وحكم الخبر : أنّه إذا ازداد احتمال صدقه الى درجةٍ شارفت على القطع كان حجّة ، سواء نشأت زيادة احتمال الصدق فيه من كثرة عدد المخبِرين ، أو من خصائص الورع والنزاهة في المخبِر الواحد ، وأمّا إذا لم يؤدِّ الخبر الى القطع فيجب أن يلاحظ الراوي ، فإن كان ثقةً أخذنا بروايته ولو لم نقطع بصحتها ؛ لأنّ الشارع جعل خبر الثقة حجّة ، ولكنّ هذه الحجّية ثابتة ضمن شروطٍ لا مجال هنا لتفصيلها. وإذا لم يكن الراوي ثقةً فلا يؤخذ بروايته ولا يجوز إدخالها في عملية الاستنباط.

سيرة المتشرِّعة :

سيرة المتشرِّعة هي السلوك العامّ للمتديّنين في عصر التشريع ، من قبيل اتّفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلاً عن صلاة الجمعة ، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.

وهذا السلوك العامّ إذا حلَّلناه الى مفرداته ولاحظنا سلوك كلّ واحدٍ بصورةٍ

٢٠٩

مستقلّةٍ نجد أنّ سلوك الفرد المتديّن الواحد في عصر التشريع يعتبر قرينة إثباتٍ ناقصة عن صدور بيانٍ شرعيٍّ يقرِّر ذلك السلوك ؛ لأنّنا نحتمل استناد هذا السلوك الى البيان الشرعي ، وإنّ كنّا نحتمل في نفس الوقت أيضاً الخطأ والغفلة وحتى التسامح. فإذا عرفنا أنّ فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك ويصلّيان الظهر ـ مثلاً ـ في يوم الجمعة ازدادت قوة الإثبات.

وهكذا تكبر قوة الإثبات ؛ حتّى تصل الى درجةٍ كبيرةٍ عند ما نعرف أنّ ذلك السلوك كان سلوكاً عاماً يتّبعه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع ، إذ يبدو من المؤكّد حينئذٍ أنّ سلوك هؤلاء جميعاً لم ينشأ عن خطإٍ أو غفلةٍ أو تسامح ؛ لأنّ الخطأ والغفلة والتسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك ، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع جميعاً.

وهكذا نعرف أنّ السلوك العامّ مستند الى بيانٍ شرعيٍّ يدلّ على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة ، وعدم وجوب الخمس في الميراث. ولأجل هذا نعتبر سيرة المتشرِّعة دليلاً استقرائياً كالإجماع والشهرة ، وهي في الغالب تؤدّي الى الجزم بالبيان الشرعي ضمن شروطٍ لا مجال لتفصيلها الآن. ومتى كانت كذلك فهي حجّة ، وأمّا إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها.

السيرة العقلائية :

وهناك نوع آخر من السيرة يطلق عليه في علم الاصول اسم «السيرة العقلائية». والسيرة العقلائية : عبارة عن ميلٍ عامٍّ عند العقلاء ـ المتديّنين وغيرهم ـ نحو سلوكٍ معيّنٍ دون أن يكون للشرع دور إيجابي في تكوين هذا الميل. ومثال ذلك : الميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم.

وفي هذا الضوء نعرف أنّ السيرة العقلائية تختلف عن سيرة المتشرّعة ، فإنّ سيرة المتشرّعة التي درسناها آنفاً كانت وليدة البيان الشرعي ، ولهذا تعتبر كاشفةً

٢١٠

عنه ، وأمّا السيرة العقلائية فمردّها ـ كما عرفنا ـ الى ميلٍ عامٍّ يوجد عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ ، لا كنتيجةٍ لبيانٍ شرعي ، بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثّرات الاخرى التي تتكيّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرّفاتهم ، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العامّ الذي تعبّر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتديّنين خاصّة ؛ لأنّ الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.

وعلى هذا الأساس يتّضح أنّ طريقة الاستدلال التي كنّا نستخدمها في سيرة المتشرِّعة لا يمكننا استعمالها في السيرة العقلائية ، فقد كنّا في سيرة المتشرِّعة نكتشف عن طريق السيرة البيان الشرعي الذي أدّى الى قيامها بوصفها نتيجةً للبيان الشرعي وناشئةً عنه ، إذ لم يكن من المحتمل أن يتّفق المتشرّعة جميعاً على أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة ـ مثلاً ـ دون أن يكون هناك بيان شرعي يدلّ على ذلك.

وأمّا الميل العامّ الذي تمثّله السيرة العقلائية فهو ليس ناشئاً عن البيان الشرعي ، ولا ناتجاً عن دوافع دينيةٍ ليتاح لنا أن نكتشف عن طريقه وجود بيانٍ شرعيٍّ أدّى الى تكوّنه وقيامه.

ولأجل هذا يجب أن ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجاً آخر يختلف عن نهجنا في الاستدلال بسيرة المتشرِّعة.

ويمكننا تلخيص هذا المنهج في ما يلي :

إنّ الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ يعتبر قوةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك ، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع عن الانسياق معه كشف سكوتها هذا عن رضاها بذلك السلوك وانسجامه مع التشريع الإسلامي.

ومثال ذلك : سكوت الشريعة عن الميل العامِّ عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم وعدم ردعها عنه ، فإنّ ذلك يدلّ على أنّها تقرّ هذه الطريقة في فهم

٢١١

الكلام ، وتوافق على اعتبار الظهور حجّةً وقاعدةً لتفسير ألفاظ الكتاب والسنّة ، وإلّا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العامّ وردعت عنه في نطاقها الشرعي.

والاستدلال بالسيرة العقلائية يقوم على أساس تجميع القرائن ، كما رأينا سابقاً في سيرة المتشرّعة أيضاً ؛ لأنّنا إذا حلَّلنا السيرة العقلائية الى مفرداتها وجدنا انّ الميل العامّ عند العقلاء نحو سلوكٍ معيَّنٍ ـ كالأخذ بالظهور مثلاً ـ يعبّر عن ميولٍ متشابهةٍ عند عددٍ كثيرٍ من الأفراد تشكِّل بمجموعها ميلاً عاماً ، وحين نأخذ فرداً من اولئك الأفراد الذين يميلون الى الأخذ بالظهور ـ مثلاً ـ ونلاحظ سكوت المولى عنه وعدم ردعه له عن الجري وفق ميله يمكننا أن نعتبر سكوت المولى هذا قرينةً ناقصةً على حجّية الظهور عند المولى ؛ لأنّ من المحتمل أن يكون هذا السكوت نتيجةً لرضا المولى وموافقته ، وهذا يعني الحجّية.

ومن المحتمل في نفس الوقت أيضاً أن لا يكون السكوت ناتجاً عن رضا المولى بالأخذ بالظهور ، وإنّما سكت عن ذلك الفرد ـ بالرغم من أنّه لا يقرّ العمل بالظهور في الأدلّة الشرعية ـ لسببٍ خاصٍّ ، نظير أن يكون المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد لا يرتدع عن العمل على وفق ميله ولو ردعه ، فتركه وشأنه ، أو أنّ المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد سوف لن يجري على وفق ميله ، ولن يأخذ بالظهور في الدليل الشرعي دون سؤالٍ من الشارع ، أو أنّ هذا الفرد لن يصادفه ظهور في النطاق الشرعي ليحاول الأخذ به وفقاً لميله ... ، الى غير ذلك من الامور التي يمكن أن تفسِّر سكوت المولى عن ذلك الفرد وتجعل منه قرينةً ناقصةً لا كاملة على رضا المولى.

ولكن إذا اضيف الى ذلك فرد آخر له نفس الميل وسكت عنه المولى فيقوى احتمال الرضا ؛ لاجتماع قرينتين ، وهكذا يكبر هذا الاحتمال حتى يؤدّي الى العلم حين يوجد ميل عامّ ويسكت عنه المولى.

٢١٢

الاستنباط القائم على أساس الدليل

٤

التعارض بين الأدلّة

التعارض بين دليلين لفظيّين.

التعارض بين الدليل اللفظي ودليل آخر.

٢١٣
٢١٤

بعد أن استعرضنا الأدلّة التي يمكن أن تساهم في عملية الاستنباط بأقسامها الثلاثة يتحتّم علينا أن ندرس موقف عملية الاستنباط منها إذا وجد بينها تعارض ، كما إذا دلّ دليل على وجوب شيءٍ ـ مثلاً ـ ودلّ دليل آخر على نفي ذلك الوجوب ، فما هي الوظيفة العامة للفقيه في هذه الحالة؟

والتعارض على قسمين : لأنّه يوجد تارةً في نطاق الدليل اللفظي بين كلامين صادرين من المعصوم ، واخرى بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ من نوعٍ آخر استقرائي أو برهاني ، أو بين دليلين من غير الأدلّة اللفظية.

وسوف نتحدّث عن كلٍّ من القسمين في فصل :

٢١٥

الفصل الأوّل

[في التعارض بين دليلين لفظيّين]

في حالة التعارض بين دليلين لفظيّين توجد قواعد نستعرض في ما يلي عدداً منها :

١ ـ من المستحيل أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كلّ منهما بصورةٍ قطعيةٍ عن نوعٍ من الحكم يختلف عن الحكم الذي يكشف عنه الكلام الآخر ؛ لأنّ التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل يؤدّي الى وقوع المعصوم في التناقض ، وهو مستحيل.

٢ ـ قد يكون أحد الكلامين الصادرين من المعصوم صريحاً وقطعياً ، ويدلّ الآخر بظهوره على ما ينافي المعنى الصريح لذلك الكلام. ومثاله : أن يقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نصٍّ مثلاً : «يجوز للصائم أن يرتمس في الماء حال صومه» ، ويقول في نصٍّ آخر : «لا ترتمس في الماء وأنت صائم» ، فالنصّ الأول دالّ بصراحةٍ على إباحة الارتماس للصائم ، والنصّ الثاني يشتمل على صيغة نهي ، وهي تدلّ بظهورها على الحرمة ؛ لأنّ الحرمة هي أقرب المعاني الى صيغة النهي وإن أمكن استعمالها في الكراهة مجازاً ، فينشأ التعارض بين صراحة النصّ الأول في الإباحة وظهور النصّ الثاني في الحرمة ؛ لأنّ الإباحة والحرمة لا يجتمعان. وفي هذه الحالة يجب الأخذ بالكلام الصريح القطعي ؛ لأنّه يؤدّي الى العلم بالحكم الشرعي ، فنفسِّر الكلام الآخر على ضوئه ونحمل صيغة النهي فيه على الكراهة ؛ لكي ينسجم مع النصّ الصريح القطعي الدالّ على الإباحة.

وعلى هذا الأساس يتّبع الفقيه في استنباطه قاعدةً عامة ، وهي الأخذ

٢١٦

بدليل الإباحة والرخصة إذا عارضه دليل آخر يدلّ على الحرمة أو الوجوب بصيغة نهيٍ أو أمر ؛ لأنّ الصيغة ليست صريحة ودليل الإباحة والرخصة صريح غالباً.

٣ ـ قد يكون موضوع الحكم الذي يدلّ عليه أحد الكلامين أضيق نطاقاً وأخصّ دائرة من موضوع الحكم الذي يدلّ عليه الكلام الآخر. ومثاله أن يقال في نصٍّ : «الربا حرام» ، ويقال في نصٍّ آخر : «الربا بين الوالد وولده مباح» ، فالحرمة التي يدلّ عليها النصّ الأول موضوعها عامّ ؛ لأنّها تمنع بإطلاقها عن التعامل الربوي مع أيّ شخص ، والإباحة في النصّ الثاني موضوعها خاصّ ؛ لأنّها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصّة ، وفي هذه الحالة نقدِّم النصِّ الثاني على الأول ؛ لأنّه يعتبر بوصفه أخصَّ موضوعاً من الأول قرينةً عليه ، بدليل أنّ المتكلِّم لو أوصل كلامه الثاني بكلامه الأول فقال : «الربا في التعامل مع أيِّ شخصٍ حرام ، ولا بأس به بين الوالد وولده» لأبطل الخاصّ مفعول العامّ وظهوره في العموم.

وقد عرفنا سابقاً أنّ القرينة تقدّم على ذي القرينة ، سواء كانت متّصلةً أو منفصلة.

ويسمّى تقديم الخاصّ على العامّ تخصيصاً للعامّ إذا كان عمومه ثابتاً بأداةٍ من أدوات العموم ، وتقييداً له إذا كان عمومه ثابتاً بالإطلاق وعدم ذكر القيد ، ويسمّى الخاصّ في الحالة الاولى «مخصّصاً» وفي الحالة الثانية «مقيّداً».

وعلى هذا الأساس يتّبع الفقيه في الاستنباط قاعدةً عامة ، وهي الأخذ بالمخصّص والمقيّد وتقديمهما على العامّ والمطلق.

٤ ـ وقد يكون أحد الكلامين دالًّا على ثبوت حكمٍ لموضوع ، والكلام الآخر ينفي ذلك في حالةٍ معيّنةٍ بنفي ذلك الموضوع. ومثاله أن يقال في نصٍّ :

٢١٧

«يجب الحجّ على المستطيع» ، ويقال في نصٍّ آخر : «المَدين ليس مستطيعاً» ، فالنصّ الأوّل يوجب الحجّ على موضوعٍ محدّدٍ وهو المستطيع ، والنصّ الثاني ينفي صفة المستطيع عن المَدين ، فيؤخذ بالثاني ويسمّى «حاكماً» ويسمّى الدليل الأول «محكوماً».

٥ ـ إذا لم يوجد في النصّين المتعارضين كلام صريح قطعي ، ولا ما يصلح أن يكون قرينةً على تفسير الآخر ومخصِّصاً له أو مقيِّداً أو حاكماً عليه فلا يجوز العمل بأيِّ واحدٍ من النصّين المتعارضين ؛ لأنّهما على مستوى واحدٍ ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

٢١٨

الفصل الثاني

في التعارض بين الدليل اللفظي ودليلٍ آخر

وحالة التعارض بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ من نوعٍ آخر ، أو دليلين من غير الأدلّة اللفظية لها قواعد أيضاً نشير إليها ضمن النقاط التالية :

١ ـ الدليل اللفظي القطعي لا يمكن أن يعارضه دليل برهاني أو استقرائي قطعي ؛ لأنّ دليلاً من هذا القبيل إذا عارض نصّاً صريحاً من المعصوم عليه‌السلام أدّى ذلك الى تكذيب المعصوم عليه‌السلام وتخطئته ، وهو مستحيل. ولهذا يقول علماء الشريعة : إنّ من المستحيل أن يوجد أيّ تعارضٍ بين النصوص الشرعية الصريحة وأدلّة العقل القطعية.

وهذه الحقيقة لا تفرضها العقيدة فحسب ، بل يبرهن عليها الاستقراء في النصوص الشرعية ، ودراسة المعطيات القطعية للكتاب والسنّة ، فإنّها جميعاً تتّفق مع العقل ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أحكام العقل القطعية إطلاقاً. وبذلك تتميّز الشريعة الإسلامية عن الأديان الاخرى المحرّفة التي تعيش الآن على وجه الأرض ، فإنّها زاخرة بالتناقضات التي تتعارض مع صريح العقل السليم. ولهذا نشأت في المسيحية ـ مثلاً ـ مشكلة الدين والعقل ، وأنّ الإنسان كيف يُتاح له الاعتقاد بهما معاً على تناقضهما؟ بينما يقوم العقل في الإسلام بدور الرسول الباطني ، وتحتِّم الشريعة أن يقوم الاعتقاد باصولها على أساس العقل ، وترفض أخذها على سبيل التقليد.

٢ ـ اذا وجد تعارض بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ آخر ليس لفظياً ولا قطعياً قدَّمنا الدليل اللفظي ؛ لأنّه حجّة ، وأمّا الدليل غير اللفظي فهو ليس حجّةً ما دام لا يؤدّي

٢١٩

إلى القطع.

ومثاله : أن يدلّ النصّ على أنّ الجاهل بأحكام الزكاة ليس معذوراً ، ويدلّ الاستقراء غير القطعي الذي نقلناه سابقاً عن الفقيه البحراني على القاعدة العامة القائلة بمعذورية الجاهل في جميع الحالات.

٣ ـ إذا عارض الدليل اللفظي غير الصريح دليلاً عقلياً قطعياً برهانياً أو استقرائياً قدِّم العقلي على اللفظي ؛ لأنّ العقلي يؤدّي الى العلم بالحكم الشرعي ، وأمّا الدليل اللفظي غير الصريح فهو إنّما يدلّ بالظهور ، والظهور إنّما يكون حجّةً بحكم الشارع إذا لم نعلم ببطلانه ، ونحن هنا على ضوء الدليل العقلي القطعي نعلم بأنّ الدليل اللفظي لم يُرِد المعصوم عليه‌السلام منه معناه الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل ، فلا مجال للأخذ بالظهور.

٤ ـ إذا تعارض دليلان من غير الأدلّة اللفظية فمن المستحيل أن يكون كلاهما قطعياً ؛ لأنّ ذلك يؤدّي الى التناقض ، وإنّما قد يكون أحدهما قطعياً دون الآخر فيؤخذ بالدليل القطعي.

٢٢٠