المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

تمهيد

دراسة العلاقات العقلية :

حينما يدرس العقل العلاقات بين الأشياء يتوصّل الى معرفة أنواعٍ عديدةٍ من العلاقة ، فهو يدرك ـ مثلاً ـ علاقة التضادّ بين السواد والبياض ، وهي تعني استحالة اجتماعهما في جسمٍ واحد ، ويدرك علاقة التلازم بين السبب والمسبَّب ، فإنّ كلّ مسبَّبٍ في نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه ، نظير الحرارة بالنسبة الى النار. ويدرك علاقة التقدّم والتأخّر في الدرجة بين السبب والمسبَّب. ومثاله : إذا أمسكت مفتاحاً بيدك وحرَّكت يدك فيتحرّك المفتاح بسبب ذلك ، وبالرغم من أنّ المفتاح في هذا المثال يتحرّك في نفس اللحظة التي تتحرّك فيها يدك ، فإنّ العقل يدرك أنّ حركة اليد متقدِّمة على حركة المفتاح ، وحركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية ، بل من ناحية تسلسل الوجود ، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدّث عن ذلك : «حرّكتُ يدي فتحرَّك المفتاح» ، فالفاء هنا تدلّ على الترتيب وتأخّر حركة المفتاح عن حركة اليد ، مع أنّهما وقعا في زمانٍ واحد.

فهناك إِذن تأخّر لا يمتّ الى الزمان بصلة ، وإنّما ينشأ عن تسلسل الوجود في نظر العقل ، بمعنى أنّ العقل حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح ويدرك أنّ

١٨١

هذه نابعة من تلك يرى أنّ حركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد بوصفها نابعةً منها ، ويرمز الى هذا التأخّر بالفاء فيقول : «تحرَّكتْ يدي فتحرّك المفتاح» ، ويطلق على هذا التأخّر اسم «التأخّر الرتبي» أي التأخّر في الدرجة.

وبعد أن يدرك العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف وجود الشيء أو عدمه ، فهو عن طريق علاقة التضادّ بين السواد والبياض يستطيع أن يثبت عدم السواد في جسمٍ إذا عرف أنّه أبيض ؛ نظراً الى استحالة اجتماع البياض والسواد في جسمٍ واحد ، فما دام أبيض وجب بحكم علاقة التضادّ أن لا يكون أسود. وعن طريق علاقة التلازم بين المسبَّب وسببه يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبَّب إذا عرف وجود السبب ؛ نظراً الى استحالة الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدّم والتأخّر يستطيع العقل أن يكتشف عدم وجود المتأخّر قبل الشيء المتقدّم ؛ لأنّ ذلك يناقض كونه متأخّراً ، فإذا كانت حركة المفتاح متأخّرةً عن حركة اليد في تسلسل الوجود فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح ـ والحالة هذه ـ موجودةً بصورةٍ متقدِّمة على حركة اليد في تسلسل الوجود ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون متقدِّماً على الشيء ويكون في نفس الوقت متأخّراً عنه.

وكما يدرك العقل هذه العلاقات بين الأشياء ويستفيد منها في الكشف عن وجود شيءٍ أو عدمه ، كذلك يدرك العلاقات القائمة بين الأحكام ، ويستفيد من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكمٍ أو عدمه ، فهو يدرك ـ مثلاً ـ التضادّ بين الوجوب والحرمة ، كما كان يدرك التضادّ بين السواد والبياض ، وكما كان يستخدم هذه العلاقة في نفي السواد إذا عرف وجود البياض ، كذلك يستخدم علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة لنفي الوجوب عن الفعل إذا عرف أنّه حرام.

فهناك إذن أشياء تقوم بينها علاقات في نظر العقل ، وهناك أحكام تقوم بينها

١٨٢

علاقات في نظر العقل أيضاً. ونطلق على الأشياء اسم «العالم التكويني» ، وعلى الأحكام اسم «العالم التشريعي».

وكما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشيء أو عدمه في العالم التكويني عن طريق تلك العلاقات كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه في العالم التشريعي عن طريق تلك العلاقات.

ومن أجل ذلك كان من وظيفة علم الاصول أن يدرس تلك العلاقات في عالم الأحكام بوصفها قضايا عقليةً صالحةً لأن تكون عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط.

الطريقة القياسية :

وهذه العلاقات تدخل في عملية الاستنباط ضمن دليلٍ يشكِّله الفقيه بطريقةٍ قياسية ، وهي الطريقة التي نستنتج فيها نتيجةً خاصّةً من قانونٍ عام ، من قبيل قولنا : «هذا مثلّث ، وكلّ مثلّثٍ له ثلاثة أضلاع ، فهذا المثلث له ثلاثة أضلاع» ، فإنّ هذا القول يشتمل على استنتاج عدد أضلاع هذا المثلّث وأنّها ثلاثة من القانون العامِّ القائل : «إِنّ كلّ مثلّثٍ له ثلاثة أضلاع».

وهكذا الحال في العلاقات التي ندرسها في العالم التشريعي ، فإنّها تشكِّل قوانين عامةً ، ويستنتج الفقيه منها نتائج خاصّةً بطريقةٍ قياسية ، فيقول مثلاً : «الصلاة في المكان المغصوب حرام ، وكلّ حرامٍ لا يمكن أن يكون واجباً لعلاقة التضادّ القائمة بين الوجوب والحرمة ، فالصلاة في المكان المغصوب إذن لا يمكن أن تكون واجبة».

ومن الطبيعي على هذا الأساس أن نتكلّم عن العلاقات العقلية القائمة في عالم الأحكام تحت عنوان «الدليل القياسي» ؛ لأنّها تكوِّن العناصر المشتركة في

١٨٣

الدليل القياسي ، ولكنّا بالرغم من ذلك استبدلنا كلمة «القياس» ب «البرهان» ؛ لأنّ كلمة «القياس» قد يختلط معناها المنطقي الذي نريده هنا بمعانٍ اخرى ، فآثرنا أن نضع الدليل البرهاني عنواناً لدراسة تلك العلاقات العقلية.

وقد تعرّضت الطريقة القياسية في الاستدلال لنقدٍ شديدٍ من الناحية المنطقية وبخاصّةٍ في عصرنا الحديث ، وسوف نتناول ذلك في الحلقات المقبلة إِن شاء الله تعالى.

تقسيم البحث :

توجد في العالم التشريعي أقسام من العلاقات :

فهناك قسم من العلاقات قائم بين نفس الأحكام ، أي بين حكمٍ شرعيٍّ وحكمٍ شرعيٍّ آخر.

وقسم ثانٍ من العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه.

وقسم ثالث بين الحكم ومتعلّقه.

وقسم رابع بين الحكم ومقدّماته.

وقسم خامس ، وهو العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد.

وقسم سادس ، وهو العلاقات القائمة بين الحكم وأشياء اخرى خارجةٍ عن نطاق العالم التشريعي.

وسوف نتحدّث عن نماذج لأكثر هذه الأقسام (١) في فصول :

__________________

(١) أي لغير القسم السادس ، وأمّا القسم السادس فنريد به ما كان من قبيل علاقة التلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المقرّرة في المبدأ القائل : «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» ، فإنّ هذه العلاقة تقوم بين الحكم الشرعي وشيءٍ خارجٍ عن نطاق العالم التشريعي ، وهو حكم العقل. وقد أجَّلنا دراسة ذلك الى الحلقات المقبلة. (المؤلّف قدس‌سره)

١٨٤

الفصل الأول

في العلاقات القائمة بين نفس الأحكام

علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة :

من المعترف به في علم الاصول أنّه ليس من المستحيل أن يأتي المكلَّف بفعلين في وقتٍ واحدٍ أحدهما واجب والآخر حرام ، فيعتبر مطيعاً من ناحية إتيانه بالواجب وجديراً بالثواب ، ويعتبر عاصياً من ناحية إتيانه للحرام ومستحقّاً للعقاب. فشرب الماء النجس ـ مثلاً ـ حرام ، ودفع الزكاة الى الفقير واجب ، فلو أنّ إنساناً حمل الماء النجس بإحدى يديه وشربه وأعطى باليد الاخرى في نفس الوقت زكاته للفقير فقد عصى وامتثل ، وأتى بالحرام والواجب في وقتٍ واحد.

وأمّا الفعل الواحد فلا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً ؛ لأنّ العلاقة بين الوجوب والحرمة هي علاقة تضادٍّ ولا يمكن اجتماعهما في فعلٍ واحد ، كما لا يمكن أن يجتمع السواد والبياض في جسمٍ واحد ، فدفع الزكاة الى الفقير لا يمكن أن يكون ـ وهو واجب ـ حراماً في نفس الوقت ، وشرب النجس لا يمكن أن يكون ـ وهو حرام ـ واجباً في نفس الوقت.

وهكذا يتّضح :

أوّلاً : أنّ الفعلين المتعدّدين ـ كدفع الزكاة وشرب النجس ـ يمكن أن يتّصف أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ولو أوجدهما المكلَّف في زمانٍ واحد.

وثانياً : أنّ الفعل الواحد لا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً.

والنقطة الرئيسية في هذا البحث عند الاصوليّين هي : أنّ الفعل قد يكون واحداً بالذات والوجود ومتعدّداً بالوصف والعنوان ، وعندئذٍ فهل يلحق بالفعل

١٨٥

الواحد لأنّه واحد وجوداً وذاتاً ، أو يلحق بالفعلين لأنّه متعدّد بالوصف والعنوان؟

ومثاله : أن يتوضّأ المكلَّف بماءٍ مغصوب ، فإنّ هذه العملية التي يؤدّيها إذا لوحظت من ناحية وجودها فهي شيء واحد ، وإذا لوحظت من ناحية أوصافها فهي توصف بوصفين ، إذ يقال عن العملية : إنّها وضوء ، ويقال عنها في نفس الوقت : إنّها غصب وتصرّف في مال الغير بدون إذنه ، وكلّ من الوصفين يسمّى «عنواناً» ، ولأجل ذلك تعتبر العملية في هذا المثال واحدةً ذاتاً ووجوداً ومتعدّدةً وصفاً وعنواناً.

وفي هذه النقطة قولان للُاصوليّين :

أحدهما : أنّ هذه العملية ما دامت متعدّدةً بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعدّدين ، فكما يمكن أن يتّصف دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة كذلك يمكن أن يكون أحد وصفَي العملية وعنوانيها واجباً وهو عنوان الوضوء ، والوصف الآخر حراماً وهو عنوان الغصب ، وهذا القول يطلق عليه اسم «القول بجواز اجتماع الأمر والنهي» (١).

والقول الآخر يؤكّد على إلحاق العملية بالفعل الواحد على أساس وحدتها الوجودية ، ولا يبرِّر مجرّد تعدّد الوصف والعنوان عنده تعلّق الوجوب والحرمة معاً بالعملية ، وهذا القول يطلق عليه اسم «القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي» (٢).

وهكذا اتّجه البحث الاصولي الى دراسة تعدّد الوصف والعنوان من ناحية أنّه هل يبرّر اجتماع الوجوب والحرمة معاً في عملية الوضوء بالماء المغصوب ، أو أنّ العملية ما دامت واحدةً وجوداً وذاتاً فلا يمكن أن توصف بالوجوب والحرمة

__________________

(١) ذهب إلى ذلك المحقّق النائيني ، انظر فوائد الاصول ٢ : ٣٩٨

(٢) اختاره المحقّق الخراساني ، ونسبه أيضاً إلى المشهور. انظر كفاية الاصول : ١٩٣

١٨٦

في وقتٍ واحد.

ونحن نعتقد أنّ العملية التي لها وصفان وعنوانان يمكن أن يتعلّق الوجوب بأحدهما والحرمة بالآخر ، ولا تمنع عن ذلك وحدة العملية وجوداً ، ولكنّ هذا لا ينطبق على كلّ وصف ، بل إنّما تتّسع العملية الواحدة للوجوب والحرمة معاً إذا كان لها وصفان وعنوانان يتوفّر فيهما شرائط خاصّة لا مجال لتفصيلها الآن.

هل تستلزم حرمة العقد فساده؟ :

إنّ صحّة العقد معناها : أن يترتّب عليه أثره الذي اتّفق عليه المتعاقدان ، ففي عقد البيع يعتبر البيع صحيحاً ونافذاً إذا ترتّب عليه نقل ملكية السلعة من البائع الى المشتري ونقل ملكية الثمن من المشتري الى البائع ، ويعتبر فاسداً وباطلاً إذا لم يترتّب عليه ذلك.

وبديهيّ أنّ العقد لا يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً في وقتٍ واحد ، فإنّ الصحة والفساد متضادّان كالتضادّ بين الوجوب والحرمة ، فكما لا يمكن أن يكون الفعل الواحد واجباً وحراماً كذلك لا يمكن أن يكون العقد الواحد صحيحاً وفاسداً.

والسؤال هو : هل يمكن أن يكون العقد صحيحاً وحراماً؟

ونجيب على ذلك بالإيجاب ، إذ لا تضادّ بين الصحة والحرمة ، ولا تلازم بين الحرمة والفساد ؛ لأنّ معنى تحريم العقد منع المكلّف من إيجاد البيع ، ومعنى صحته أنّ المكلَّف إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتّب الأثر على بيعه وانتقلت الملكية من البائع الى المشتري ، ولا تنافي بين أن يكون إيجاد المكلَّف للبيع وممارسته له مبغوضاً للشارع وممنوعاً عنه وأن يترتّب عليه الأثر في حالة صدوره من المكلّف ، فلا تلازم إذن بين حرمة العقد وفساده ، ولا تضادّ بين حرمته

١٨٧

وصحته ، بل يمكن أن يكون العقد حراماً وصحيحاً في نفس الوقت.

ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أنّك قد لا تريد أن يزورك فلان وتبغض ذلك أشدّ البغض ، ولكن إذا اتّفق وزارك ترى لزاماً عليك أن ترتّب الأثر على زيارته وتقوم بضيافته. فكما أمكن في هذا المثال أن تبغض زيارة فلان لك وفي نفس الوقت ترتّب الأثر عليها إذا اتّفق له أن زارك ، كذلك يمكن في مسألتنا أن يبغض الشارع صدور عقد البيع من المكلّف ويمنع عنه ، ولكنّه يرتّب الأثر عليه إذا عصى المكلَّف ومارس البيع ، فيحكم بنقل الملكية من البائع الى المشتري ، كما ترتّب أنت الأثر على زيارة فلان لك ، اذا زارك بالرغم من أنّك تبغض زيارته.

وهذا يعني أنّ النهي عن المعاملة ـ أي عقد البيع ونحوه ـ لا يستلزم فسادها ، بل يتفق مع الحكم بصحة العقد في نفس الوقت ، خلافاً لعددٍ من الاصوليّين القائلين بأنّ «النهي عن المعاملة يقتضي فسادها» (١) إيماناً منهم بوجود علاقة تضادٍّ بين الصحة والحرمة.

__________________

(١) منهم الشهيد الأوّل في القواعد والفوائد ١ : ١٩٩ ، قاعدة [٥٧] والفاضل التوني في الوافية : ١٠١ و ١٠٣

١٨٨

الفصل الثاني

في العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه

الجعل والفعلية :

حين حكمت الشريعة بوجوب الحجّ على المستطيع وجاء قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) أصبح الحجّ من الواجبات في الإسلام ، وأصبح وجوبه حكماً ثابتاً في الشريعة ، ولكن إذا افترضنا أنّ المسلمين وقتئذٍ لم يكن يوجد فيهم شخص مستطيع تتوفّر فيه خصائص الاستطاعة شرعاً فلا يتوجّه وجوب الحجّ الى أيِّ فردٍ من أفراد المسلمين ؛ لأنّهم ليسوا مستطيعين ، والحجّ إنّما يجب على المستطيع ، أي أنّ وجوب الحجّ لا يثبت في هذه الحالة لأيِّ فردٍ بالرغم من كونه حكماً ثابتاً في الشريعة ، فإذا أصبح أحد الأفراد مستطيعاً اتّجه الوجوب نحوه وأصبح ثابتاً بالنسبة إليه.

وعلى هذا الضوء نلاحظ أنّ للحكم ثبوتين : أحدهما ثبوت الحكم في الشريعة ، والآخر ثبوته بالنسبة الى هذا الفرد أو ذاك. فحين حكم الإسلام بوجوب الحجّ على المستطيع في الآية الكريمة ثبت هذا الحكم في الشريعة ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذٍ إطلاقاً ، بمعنى أنّ شخصاً لو سأل في ذلك الوقت ما هي أحكام الشريعة؟ لذكرنا من بينها وجوب الحجّ على المستطيع ، سواء كان في المسلمين مستطيع فعلاً أوْ لا ، وبعد أن يصبح هذا الفرد أو ذاك مستطيعاً يثبت الوجوب عليه.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧

١٨٩

ونعرف على هذا الأساس أنّ الحكم بوجوب الحجّ على المستطيع لا يتوقّف ثبوته في الشريعة بوصفه حكماً شرعياً إلّا على تشريعه وجعله من قِبل الله تعالى ، سواء كانت الاستطاعة متوفّرةً في المسلمين فعلاً أوْ لا. وأمّا ثبوت وجوب الحجّ على هذا المكلّف أو ذاك فيتوقّف ـ إضافةً الى تشريع الله للحكم وجعله له ـ على توفّر خصائص الاستطاعة في المكلّف.

والثبوت الأول للحكم ـ أي ثبوته في الشريعة ـ يسمّى بالجعل «جعل الحكم».

والثبوت الثاني للحكم ـ أي ثبوته على هذا المكلّف بالذات أو ذاك ـ يسمّى بالفعلية «فعلية الحكم» ، فجعل الحكم معناه تشريعه من قبل الله ، وفعلية الحكم معناها ثبوته فعلاً لهذا المكلّف أو ذاك.

موضوع الحكم :

وموضوع الحكم مصطلح اصولي نريد به مجموع الأشياء التي تتوقّف عليها فعلية الحكم المجعول بمعناها الذي شرحناه ، ففي مثال وجوب الحجّ يكون وجود المكلّف المستطيع موضوعاً لهذا الوجوب ؛ لأنّ فعلية هذا الوجوب تتوقّف على وجود مكلَّفٍ مستطيع.

ومثال آخر : حكمت الشريعة بوجوب الصوم على كلّ مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ إذا هلَّ عليه هلال شهر رمضان ، وهذا الحكم يتوقّف ثبوته الأول على جعله شرعاً ، ويتوقّف ثبوته الثاني ـ أي فعليته ـ على وجود موضوعه ، أي وجود مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ وهلَّ عليه هلال شهر رمضان ، فالمكلّف وعدم السفر وعدم المرض وهلال شهر رمضان هي العناصر التي تكوِّن الموضوع الكامل للحكم بوجوب الصوم.

١٩٠

وإذا عرفنا معنى موضوع الحكم استطعنا أن ندرك أنّ العلاقة بين الحكم والموضوع تشابه ببعض الاعتبارات العلاقة بين المسبّب وسببه ، كالحرارة والنار ، فكما أنّ المسبّب يتوقّف على سببه ، كذلك الحكم يتوقف على موضوعه ؛ لأنّه يستمدّ فعليته من وجود الموضوع. وهذا معنى العبارة الاصولية القائلة : «إنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية موضوعه» أي أنّ وجود الحكم فعلاً يتوقّف على وجود موضوعه فعلاً.

وبحكم هذه العلاقة بين الحكم والموضوع يكون الحكم متأخّراً في درجته عن الموضوع ، ويكون الموضوع متقدّماً عليه كما يتقدّم كلّ سبب على مسبَّبه.

وتوجد في علم الاصول قضايا تستنتج من هذه العلاقة وتصلح للاشتراك في عمليات الاستنباط لا مجال للدخول في تفاصيلها الآن.

١٩١

الفصل الثالث

العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه

عرفنا أنّ وجوب الصوم ـ مثلاً ـ موضوعه مؤلَّف من عدّة عناصر تتوقّف عليها فعلية الوجوب ، فلا يكون الوجوب فعلياً وثابتاً إلّا إذا وجد مكلّف غير مسافرٍ ولا مريضٍ وهلَّ عليه هلال شهر رمضان ، وأمّا متعلّق هذا الوجوب فهو الفعل الذي يؤدّيه المكلّف نتيجةً لتوجّه الوجوب إليه ، وهو الصوم في هذا المثال.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نميِّز بين متعلّق الوجوب وموضوعه ، فإنّ المتعلّق يوجد بسبب الوجوب ، فالمكلّف إنّما يصوم لأجل وجوب الصوم عليه ، بينما يوجد الحكم نفسه بسبب الموضوع ، فوجوب الصوم لا يصبح فعلياً إلّا إذا وجد مكلّف غير مريضٍ ولا مسافرٍ وهلّ عليه الهلال.

وهكذا نجد أنّ وجود الحكم يتوقّف على وجود الموضوع ، بينما يكون سبباً لإيجاد المتعلّق وداعياً للمكلّف نحوه.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ من المستحيل أن يكون الوجوب داعياً الى إيجاد موضوعه ومحرِّكاً للمكلّف نحوه كما يدعو الى إيجاد متعلّقه ، فوجوب الصوم على كلِّ مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ لا يمكن أن يفرض على المكلّف أن لا يسافر ، وإنّما يفرض عليه أن يصوم إذا لم يكن مسافراً ، ووجوب الحجّ على المستطيع لا يمكن أن يفرض على المكلّف أن يكتسب ليحصل على الاستطاعة ، وإنّما يفرض الحجّ على المستطيع ؛ لأنّ الحكم لا يوجد إلّا بعد وجود موضوعه ، فقبل وجود الموضوع لا وجود للحكم لكي يكون داعياً الى إيجاد موضوعه ،

١٩٢

ولأجل ذلك وضعت في علم الاصول القاعدة القائلة : «إنّ كلّ حكمٍ يستحيل أن يكون محرِّكاً نحو أيِّ عنصرٍ من العناصر الدخيلة في تكوين موضوعه ، بل يقتصر تأثيره وتحريكه على نطاق المتعلَّق».

١٩٣

الفصل الرابع

العلاقات القائمة بين الحكم والمقدِّمات

المقدِّمات التي يتوقّف عليها وجود الواجب على قسمين :

أحدهما : المقدِّمات التي يتوقّف عليها وجود المتعلّق ، من قبيل السفر الذي يتوقّف أداء الحجِّ عليه ، أو الوضوء الذي تتوقّف الصلاة عليه ، أو التسلّح الذي يتوقّف الجهاد عليه.

والآخر : المقدِّمات التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب ، من قبيل نيّة الإقامة التي يتوقّف عليها صوم شهر رمضان ، والاستطاعة التي تتوقّف عليها حجّة الإسلام.

والفارق بين هذين القسمين : أنّ المقدِّمة التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب يتوقّف على وجودها الوجوب نفسه ؛ لما شرحناه سابقاً من أنّ الحكم الشرعي يتوقّف وجوده على وجود موضوعه ، فكلّ مقدِّمةٍ دخيلةٍ في تحقّق موضوع الحكم يتوقّف عليها الحكم ولا يوجد بدونها ، خلافاً للمقدِّمات التي لا تدخل في تكوين الموضوع ، وإنّما يتوقّف عليها وجود المتعلَّق فحسب ، فإنّ الحكم يوجد قبل وجودها ؛ لأنّها لا تدخل في موضوعه.

ولنوضِّح ذلك في مثال الاستطاعة والوضوء : فالاستطاعة مقدِّمة تتوقّف عليها حجّة الإسلام ، والتكسّب مقدِّمة للاستطاعة ، وذهاب الشخص الى محلّه في السوق مقدِّمة للتكسب ، وحيث إنّ الاستطاعة تدخل في تكوين موضوع وجوب الحجّ فلا وجوب للحجّ قبل الاستطاعة وقبل تلك الامور التي تتوقّف عليها الاستطاعة. وأمّا الوضوء فلا يدخل في تكوين موضوع وجوب الصلاة ؛ لأنّ

١٩٤

وجوب الصلاة لا ينتظر أن يتوضّأ الإنسان لكي يتّجه إليه ، بل يتّجه اليه قبل ذلك ، وإنّما يتوقّف متعلَّق الوجوب ـ وهو الصلاة ـ على الوضوء ، ويتوقّف الوضوء على تحضير الماء الكافي ، ويتوقّف تحضير هذا الماء على فتح خزّان الماء مثلاً.

فهناك إذن سلسلتان من المقدّمات :

الاولى : سلسلة مقدِّمات المتعلَّق ، أي الوضوء الذي تتوقّف عليه الصلاة ، وتحضير الماء الذي يتوقّف عليه الوضوء ، وفتح الخزّان الذي يتوقّف عليه تحضير الماء.

والثانية : سلسلة مقدِّمات الوجوب ، وهي الاستطاعة التي تدخل في تكوين موضوع وجوب الحجّ ، والتكسّب الذي تتوقّف عليه الاستطاعة ، وذهاب الشخص الى محلّه في السوق الذي يتوقّف عليه التكسّب.

وموقف الوجوب من هذه السلسلة الثانية ، وكلّ ما يندرج في القسم الثاني من المقدِّمات سلبيّ دائماً ؛ لأنّ هذا القسم يتوقّف عليه وجود موضوع الحكم ، وقد عرفنا سابقاً أنّ الوجوب لا يمكن أن يدعو الى موضوعه. وتسمّى كلّ مقدِّمةٍ من هذا القسم «مقدِّمة وجوب» أو «مقدِّمة وجوبية».

وأمّا السلسلة الاولى والمقدّمات التي تندرج في القسم الأول فالمكلّف مسئول عن إيجادها ، أي أنّ المكلّف بالصلاة ـ مثلاً ـ مسئول عن الوضوء لكي يصلّي ، والمكلّف بالحجّ مسئول عن السفر لكي يحجّ ، والمكلّف بالجهاد مسئول عن التسلّح لكي يجاهد.

والنقطة التي درسها الاصوليون هي نوع هذه المسئولية ، فقد قدَّموا لها تفسيرين :

أحدهما : أنّ الواجب شرعاً على المكلّف هو الصلاة فحسب ، دون مقدّماتها من الوضوء ومقدّماته ، وإنّما يجد المكلّف نفسه مسئولاً عن إيجاد

١٩٥

الوضوء وغيره من المقدّمات ؛ لأنّه يرى أنّ امتثال الواجب الشرعي لا يتأتّى له إلّا بإيجاد تلك المقدّمات (١).

والآخر : أنّ الوضوء واجب شرعاً ؛ لأنّه مقدّمة للواجب ، ومقدّمة الواجب واجبة شرعاً ، فهناك إذن واجبان شرعيان على المكلّف : أحدهما الصلاة ، والآخر الوضوء بوصفه مقدّمةً للصلاة. ويسمّى الأول ب «الواجب النفسي» ؛ لأنّه واجب لأجل نفسه. ويسمّى الثاني ب «الواجب الغيري» ؛ لأنّه واجب لأجل غيره ، أي لأجل ذي المقدّمة وهو الصلاة.

وهذا التفسير أخذ به جماعة من الاصوليّين (٢) إيماناً منهم بقيام علاقة تلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، فكلّما حكم الشارع بوجوب فعلٍ حكم عقيب ذلك مباشرةً بوجوب مقدّماته.

__________________

(١) مصابيح الاصول ١ : ٤٠٥

(٢) منهم المحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ١٥٦ ، والمحقّق النائيني في فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٨٤ ، والمحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ : ٣٥١

١٩٦

الفصل الخامس

في العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد

قد يتعلّق الوجوب بشيءٍ واحد ، كوجوب السجود على كلّ من سمع آية السجدة. وقد يتعلّق بعمليةٍ تتألّف من أجزاءٍ وتشتمل على أفعالٍ متعدّدة ، من قبيل وجوب الصلاة ، فإنّ الصلاة عملية تتألّف من أجزاءٍ وتشتمل على أفعالٍ عديدة ، كالقراءة والسجود والركوع والقيام والتشهّد ، وما إلى ذلك. وفي هذه الحالة تصبح العملية بوصفها مركّبةً من تلك الأجزاء واجبةً ، ويصبح كلّ جزءٍ واجباً أيضاً ، ويطلق على وجوب المركّب اسم «الوجوب الاستقلالي» ، ويطلق على وجوب كلّ جزءٍ فيه اسم «الوجوب الضمني» ؛ لأنّ الوجوب إنّما يتعلّق بالجزء بوصفه جزءاً في ضمن المركّب ، لا بصورةٍ مستقلّةٍ عن سائر الأجزاء ، فوجوب الجزء ليس حكماً مستقلّاً ، بل هو جزء من الوجوب المتعلّق بالعملية المركّبة. ولأجل ذلك كان وجوب كلّ جزءٍ من الصلاة ـ مثلاً ـ مرتبطاً بوجوب الأجزاء الاخرى ؛ لأنّ الوجوبات الضمنية لأجزاء الصلاة تشكِّل بمجموعها وجوباً واحداً استقلالياً. ونتيجة ذلك قيام علاقة التلازم في داخل إطار الحكم الواحد بين الوجوبات الضمنية فيه.

وتعني علاقة التلازم هذه : أنّه لا تمكن التجزئة في تلك الوجوبات أو التفكيك بينها ، بل إذا سقط أيّ واحدٍ منها تحتّم سقوط الباقي نتيجةً لذلك التلازم القائم بينها.

مثال ذلك : إذا وجب على الإنسان الوضوء وهو مركّب من أجزاءٍ عديدةٍ ، كغسل الوجه وغسل اليمنى وغسل اليسرى ومسح الرأس ومسح القدمين ، فيتعلّق

١٩٧

بكلّ جزءٍ من تلك الأجزاء وجوب ضمني بوصفه جزءاً من الوضوء الواجب ، وفي هذه الحالة إذا تعذّر على الإنسان أن يغسل وجهه لآفةٍ فيه وسقط لأجل ذلك الوجوب الضمني المتعلّق بغسل الوجه كان من المحتّم أن يسقط وجوب سائر الأجزاء أيضاً ، فلا يبقى على الإنسان وجوب غسل يديه فقط ما دام قد عجز عن غسل وجهه ؛ لأنّ تلك الوجوبات لا بدّ أن ينظر إليها بوصفها وجوباً واحداً متعلّقاً بالعملية كلّها ، أي بالوضوء ، وهذا الوجوب إمّا أن يسقط كلّه ، أو يثبت كلّه ، ولا مجال للتفكيك.

وعلى هذا الضوء نعرف الفرق بين ما إذا وجب الوضوء بوجوبٍ استقلاليٍّ ووجب الدعاء بوجوبٍ استقلاليٍّ آخر ، فتعذّر الوضوء ، وبين ما إذا وجب الوضوء فتعذّر جزء منه كغسل الوجه مثلاً ، ففي الحالة الاولى لا يؤدّي تعذّر الوضوء إلّا الى سقوط الوجوب الذي كان متعلّقاً به ، وأمّا وجوب الدعاء فيبقى ثابتاً ؛ لأنّه وجوب مستقلّ غير مرتبطٍ بوجوب الوضوء.

وفي الحالة الثانية حين يتعذّر غسل الوجه ويسقط وجوبه الضمني يؤدّي ذلك الى سقوط وجوب الوضوء وارتفاع سائر الوجوبات الضمنية.

قد تقول : نحن نرى أنّ الإنسان يكلّف بالصلاة ، فإذا أصبح أخرس وعجز عن القراءة فيها كلّف بالصلاة بدون قراءة ، فهل هذا إلّا تفكيك بين الوجوبات الضمنية ونقض لعلاقة التلازم بينها؟

والجواب : أنّ وجوب الصلاة بدون قراءةٍ على الأخرس ليس تجزئةً لوجوب الصلاة الكاملة ، وإنّما هو وجوب آخر وخطاب جديد تعلّق منذ البدء بالصلاة الصامتة ، فوجوب الصلاة الكاملة والخطاب بها قد سقط كلّه نتيجةً لتعذّر القراءة ، وخلفه وجوب آخر وخطاب جديد.

١٩٨

الاستنباط القائم على أساس الدليل

٣

الدليل الاستقرائي

تمهيد.

الاستقراء في الأحكام.

الدليل الاستقرائي غير المباشر.

١٩٩
٢٠٠