المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

تمهيد

الاستدلال بالدليل اللفظي على الحكم الشرعي يرتبط بالنظام اللغوي العامّ للدلالة ، ولهذا نجد من الضروري أن نمهِّد للبحث في الأدلّة اللفظية والعناصر الاصولية المشتركة فيها بدراسةٍ إجماليةٍ لطبيعة الدلالة اللغوية ، وكيفية تكوّنها ، ونظرة عامة فيها :

ما هو الوضع والعلاقة اللغوية؟ :

في كلّ لغةٍ تقوم علاقات بين مجموعةٍ من الألفاظ ومجموعةٍ من المعاني ، ويرتبط كلّ لفظٍ بمعنى خاصٍّ ارتباطاً يجعلنا كلّما تصوّرنا اللفظ انتقل ذهننا فوراً إلى تصوّر المعنى ، فالإنسان العارف بالعربية متى تصور كلمة «الماء» ـ مثلاً ـ قفز ذهنه فوراً إلى تصور ذلك السائل الخاصّ الذي نشربه في حياتنا الاعتيادية ، وهذا الاقتران بين تصور اللفظ وتصور المعنى وانتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم «الدلالة» ، فحين نقول : «كلمة الماء تدلّ على السائل الخاصّ» نريد بذلك أنّ تصور كلمة «الماء» يؤدّي إلى تصور ذلك السائل الخاص ، ويسمّى اللفظ «دالّا» ، والمعنى «مدلولاً».

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ العلاقة بين تصور اللفظ وتصور المعنى تشابه

١٤١

إلى درجةٍ ما العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار والحرارة ، أو بين طلوع الشمس والضوء ، فكما أنّ النار تؤدّي إلى الحرارة وطلوع الشمس يؤدّي إلى الضوء كذلك تصور اللفظ يؤدّي إلى تصور المعنى ، ولأجل هذا يمكن القول بأنّ تصور اللفظ سبب لتصور المعنى ، كما تكون النار سبباً للحرارة ، وطلوع الشمس سبباً للضوء ، غير أنّ علاقة السببية بين تصور اللفظ والمعنى مجالها الذهن ؛ لأنّ تصور اللفظ والمعنى إنّما يوجد في الذهن ، وعلاقة السببية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء مجالها العالم الخارجي.

والسؤال الأساسي بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ والمعنى هو السؤال عن مصدر هذه العلاقة وكيفية تكوّنها ، فكيف تكوَّنت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف أصبح تصور اللفظ سبباً لتصور المعنى مع أنّ اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كلّ الاختلاف؟

ويذكر في علم الاصول عادةً اتّجاهان في الجواب على هذا السؤال الأساسي :

يقوم الاتّجاه الأول على أساس الاعتقاد بأنّ علاقة اللفظ بالمعنى نابعة من طبيعة اللفظ ذاته ، كما نبعت علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار ذاتها ، فلفظ «الماء» ـ مثلاً ـ له بحكم طبيعته علاقة بالمعنى الخاصّ الذي نفهمه منه ، ولأجل هذا يؤكّد هذا الاتّجاه أنّ دلالة اللفظ على المعنى ذاتية ، وليست مكتسبةً من أيّ سببٍ خارجي.

ويعجز هذا الاتّجاه عن تفسير الموقف تفسيراً شاملاً ؛ لأنّ دلالة اللفظ على المعنى وعلاقته به إذا كانت ذاتيةً وغير نابعةٍ من أيّ سببٍ خارجيٍّ ، وكان اللفظ بطبيعته يدفع الذهن البشري إلى تصور معناه فلما ذا يعجز غير العربي عن الانتقال الى تصور معنى كلمة «الماء» عند تصوره للكلمة؟ ولما ذا يحتاج إلى تعلّم اللغة

١٤٢

العربية لكي ينتقل ذهنه إلى المعنى عند سماع الكلمة العربية وتصورها؟

إنّ هذا دليل على أنّ العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصور اللفظ وتصور المعنى ليست نابعةً من طبيعة اللفظ ، بل من سببٍ آخر يتطلّب الحصول عليه إلى تعلّم اللغة ، فالدلالة إذن ليست ذاتية.

وأمّا الاتّجاه الآخر فينكر بحقٍّ الدلالة الذاتية ، ويفترض أنّ العلاقات اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كلّ لغةٍ على يد الشخص الأول أو الأشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلّموا بها ، فإنّ هؤلاء خصَّصوا ألفاظاً معيّنةً لمعانٍ خاصّة ، فاكتسبت الألفاظ نتيجةً لذلك التخصيص علاقةً بتلك المعاني ، وأصبح كلّ لفظٍ يدلّ على معناه الخاصّ ، وذلك التخصيص الذي مارسه اولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة يسمّى ب «الوضع» ، ويسمّى الممارِس له «واضعاً» ، واللفظ «موضوعاً» ، والمعنى «موضوعاً له».

والحقيقة أنّ هذا الاتّجاه وإن كان على حقٍّ في إنكاره للدلالة الذاتية ولكنّه لم يتقدم إلّا خطوةً قصيرةً في حلّ المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمةً حتّى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذا الاتّجاه ، فنحن إذا افترضنا معهم أنّ علاقة السببية نشأت نتيجةً لعملٍ قام به مؤسِّسو اللغة إذ خصّصوا كلّ لفظٍ لمعنىً خاصٍّ فلنا أن نتساءل : ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسّسون؟

وسوف نجد أنّ المشكلة لا تزال قائمة ؛ لأنّ اللفظ والمعنى ما دام لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ، ولا أيّ ارتباطٍ مسبق ، فكيف استطاع مؤسّس اللغة أن يوجد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما؟ وهل يكفي مجرّد تخصيص المؤسِّس للَّفظ وتعيينه له سبباً لتصوّر المعنى لكي يصبح سبباً لتصوّر المعنى حقيقة؟ وكلّنا نعلم أنّ المؤسِّس وأيّ شخصٍ آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سبباً لحرارة الماء ولو كرّره مائة مرّةٍ قائلاً : «خصصت حمرة الحبر الذي أكتب به

١٤٣

لكي يكون سبباً لحرارة الماء» ، فكيف استطاع أن ينجح في جعل اللفظ سبباً لتصور المعنى بمجرّد تخصيصه لذلك دون أيِّ علاقةٍ سابقةٍ بين اللفظ والمعنى؟

وهكذا نواجه المشكلة كما كنّا نواجهها ، فليس يكفي لحلّها أن نفسِّر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عمليةٍ يقوم بها مؤسّس اللغة ، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية لكي نعرف كيف قامت علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة؟

والصحيح في حلِّ المشكلة : أنّ علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ والمعنى توجد وفقاً لقانونٍ عامٍّ من قوانين الذهن البشري.

والقانون العام هو : أنّ كلّ شيئين اذا اقترن تصوّر أحدهما مع تصوّر الآخر في ذهن الإنسان مراراً عديدةً ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة ، وأصبح أحد التصورين سبباً لانتقال الذهن الى تصور الآخر. ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في مختلف شئون حياتهما نجدهما دائماً معاً ، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين الصديقين منفرداً أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصور الصديق الآخر ؛ لأنّ رؤيتهما معاً مراراً كثيرةً أوجد علاقةً بينهما في تصورنا ، وهذه العلاقة تجعل تصورنا لأحدهما سبباً لتصور الآخر.

ومثال آخر من تجارب الفقهاء : أنّا قد نجد راوياً يقترن اسمه دائماً باسم راوٍ آخر معيَّنٍ كالنوفلي الذي يروي دائماً عن السكوني ، فكلّما وجدنا في الأحاديث اسم النوفلي وجدنا إلى صفّه اسم السكوني أيضاً ، فتنشأ بسبب ذلك علاقة بين هذين الاسمين في ذهننا ، فإذا تصورنا بعد ذلك النوفلي أو وجدنا اسمه مكتوباً في ورقةٍ قفز ذهننا فوراً إلى السكوني نتيجةً لذلك الاقتران المتكرّر بين الاسمين في مطالعاتنا.

وقد يكفي أن تقترن فكرة أحد الشيئين بفكرة الآخر مرّةً واحدةً لكي تقوم بينهما علاقة ، وذلك إذا اقترنت الفكرتان في ظرفٍ مؤثّر ، ومثاله : إذا سافر أحد

١٤٤

إلى المدينة المنوّرة ومُنِي هناك بالملاريا الشديدة ثمّ شفي منها ورجع فقد يُنتِج ذلك الاقتران بين الملاريا والسفر إلى المدينة علاقةً بينهما ، فمتى تصور المدينة انتقل ذهنه إلى تصور الملاريا.

وإذا درسنا على هذا الأساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت المشكلة ، إذ نستطيع أن نفسِّر هذه العلاقة بوصفها نتيجةً لاقتران تصور المعنى بتصور اللفظ بصورةٍ متكرّرةٍ أو في ظرفٍ مؤثّر ، الأمر الذي أدّى إلى قيام علاقةٍ بينهما ، كالعلاقة التي قامت بين المدينة والملاريا أو بين النوفلي والسكوني ، فالسبب في تكوّن العلاقة اللغوية والدلالة اللفظية هو السبب في قيام العلاقة بين المدينة المنورة والملاريا ، أو بين النوفلي والسكوني تماماً.

ويبقى علينا بعد هذا أن نتساءل : كيف اقترن تصور اللفظ بمعنى خاصٍّ مراراً كثيرةً أو في ظرفٍ مؤثّرٍ فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما؟ فنحن نعلم ـ مثلاً ـ أنّ اسم السكوني واسم النوفلي اقترنا مراراً عديدةً في مطالعاتنا للروايات ؛ لأنّ النوفلي يروي دائماً عن السكوني ، فكنّا نجد السكوني إلى جانبه كلّما وجدنا اسمه فقامت العلاقة بينهما ، فما هي الأسباب التي جعلت اللفظ يقترن بالمعنى كما اقترن اسم النوفلي باسم السكوني أو كما اقترنت فكرة الملاريا بفكرة المدينة في ذهن الشخص الذي اصيب بها حال سفره إلى المدينة؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ بعض الألفاظ اقترنت بمعانٍ معيّنةٍ مراراً عديدةً بصورةٍ تلقائية ، فنشأت بينهما العلاقة اللغوية ، وقد يكون من هذا القبيل كلمة «آه» ، إذ كانت تخرج من فم الإنسان بطبيعته كلّما أحسّ بالألم ، فارتبطت كلمة «آه» في ذهنه بفكرة الألم ، فأصبح كلّما سمع كلمة «آه» انتقل ذهنه إلى فكرة الألم.

ومن المحتمل أنّ الإنسان قبل أن توجد لديه أيّ لغةٍ قد استرعى انتباهه

١٤٥

هذه العلاقات التي قامت بين الألفاظ ، من قبيل «آه» ومعانيها نتيجةً لاقترانٍ تلقائيٍّ بينهما ، وأخذ ينشئ على منوالها علاقاتٍ جديدةً بين الألفاظ والمعاني.

وبعض الألفاظ قرنت بالمعنى في عمليةٍ واعيةٍ مقصودةٍ لكي تقوم بينهما علاقة سببية ، وأحسن نموذجٍ لذلك الأسماء الشخصية ، فأنت حين تريد أن تسمِّي ابنك علياً تقرن اسم عليٍّ بالوليد الجديد لكي تنشئ بينهما علاقةً لغويةً ويصبح اسم عليٍّ دالًّا على وليدك ، ويسمّى عملك هذا «وضعاً».

فالوضع : هو عملية تقرن فيها لفظاً بمعنى نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصور اللفظ دائماً.

ونستطيع أن نشبِّه الوضع على هذا الأساس بما تصنعه حين تسأل عن طبيب العيون فيقال لك : هو «جابر» ، فتريد أن تركِّز اسمه في ذاكرتك وتجعل نفسك تستحضره متى أردت ، فتحاول أن تقرن بينه وبين شيءٍ قريبٍ من ذهنك ، فتقول مثلاً : أنا بالأمس قرأت كتاباً أخذ من نفسي مأخذاً كبيراً اسم مؤلّفه جابر فلأتذكّر دائماً أنّ اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك الكتاب. وهكذا توجِد عن هذا الطريق ارتباطاً خاصّاً بين صاحب الكتاب والطبيب جابر ، وبعد ذلك تصبح قادراً على استذكار اسم الطبيب متى تصورت ذلك الكتاب.

وهذه الطريقة التي تستعملها لإيجاد العلاقة بين تصور الكتاب وتصور اسم الطبيب لا تختلف جوهرياً عن الطريقة التي تستعمل في الوضع لإقامة العلاقة اللغوية بين الألفاظ والمعاني.

ما هو الاستعمال؟ :

بعد أن يوضع اللفظ لمعنىً يصبح تصور اللفظ سبباً لتصور المعنى ، ويأتي عندئذٍ دور الاستفادة من هذه العلاقة اللغوية التي قامت بينهما ، فإذا كنت تريد أن

١٤٦

تعبِّر عن ذلك المعنى لشخصٍ آخر وتجعله يتصوره في ذهنه فبإمكانك أن تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح سبباً لتصور المعنى ، وحين يسمعه صاحبك ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية بينهما ، ويسمّى استخدامك للّفظ بقصد إخطار معناه في ذهن السامع «استعمالاً».

فاستعمال اللفظ في معناه يعني إيجاد الشخص لفظاً لكي يعدَّ ذهن غيره للانتقال إلى معناه ، ويسمّى اللفظ «مستعملاً» ، والمعنى «مستعملاً فيه» ، وإرادة المستعمل إخطار المعنى في ذهن السامع عن طريق اللفظ «إرادة استعمالية».

الحقيقة والمجاز :

ويقسَّم الاستعمال إلى حقيقيٍّ ومجازي.

فالاستعمال الحقيقي : هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة لغوية بسبب الوضع ، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له اسم «المعنى الحقيقي».

والاستعمال المجازي : هو استعمال اللفظ في معنىً آخر لم يوضع له ، ولكنّه يشابه ببعض الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له ، ومثاله : أن تستعمل كلمة «البحر» في العالم الغزير علمه ؛ لأنّه يشابه البحر من الماء في الغزارة والسعة ، ويطلق على المعنى المشابه للمعنى الموضوع له اسم «المعنى المجازي» ، وتعتبر علاقة اللفظ بالمعنى المجازي علاقةً ثانويةً ناتجةً عن علاقته اللغوية الأولية بالمعنى الموضوع له ؛ لأنّها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي.

والاستعمال الحقيقي يؤدّي غرضه ، وهو انتقال ذهن السامع إلى تصور المعنى بدون أيِّ شرط ؛ لأنّ علاقة السببية القائمة في اللغة بين اللفظ والمعنى

١٤٧

الموضوع له كفيلة بتحقيق هذا الغرض. وأمّا الاستعمال المجازي فهو لا ينقل ذهن السامع إلى المعنى ، إذ لا توجد علاقة لغوية وسببية بين لفظ «البحر» و «العالم» ، فيحتاج المستعمل لكي يحقّق غرضه في الاستعمال المجازي إلى قرينةٍ تشرح مقصوده ، فإذا قال مثلاً : «بحر في العلم» كانت كلمة «في العلم» قرينةً على المعنى المجازي ، ولهذا يقال عادة : إنّ الاستعمال المجازي يحتاج إلى قرينةٍ دون الاستعمال الحقيقي.

قد ينقلب المجاز حقيقة :

وقد لاحظ الاصوليون بحقٍّ أنّ الاستعمال المجازي وإن كان يحتاج إلى قرينةٍ في بداية الأمر ولكن إذا كثر استعمال اللفظ في المعنى المجازي بقرينةٍ وتكرّر ذلك بكثرةٍ قامت بين اللفظ والمعنى المجازي علاقة جديدة ، وأصبح اللفظ نتيجةً لذلك موضوعاً لذلك المعنى ، وخرج عن المجاز إلى الحقيقة ، ولا تبقى بعد ذلك حاجة إلى قرينة.

وهذه الظاهرة يمكننا تفسيرها بسهولةٍ على ضوء طريقتنا في شرح حقيقة الوضع والعلاقة اللغوية ؛ لأنّنا عرفنا أنّ العلاقة اللغوية تنشأ عن اقتران اللفظ بالمعنى مراراً عديدةً أو في ظرفٍ مؤثّر ، فاذا استعمل اللفظ في معنىً مجازيٍّ مراراً كثيرةً اقترن تصور اللفظ بتصور ذلك المعنى المجازي في ذهن السامع اقتراناً متكرّراً ، وأدّى هذا الاقتران المتكرّر إلى قيام العلاقة اللغوية بينهما ، كما قامت العلاقة بين اسم النوفلي واسم السكوني.

تصنيف اللغة :

تنقسم كلمات اللغة ـ كما قرأتم في النحو ـ إلى اسمٍ وفعلٍ وحرف ، وقولنا :

١٤٨

«تهتدي الإنسانية في الإسلام» يشتمل على الأقسام الثلاثة ، ف «الإنسانية» و «الإسلام» من الأسماء ، و «في» حرف من حروف الجرّ ، و «تهتدي» فعل من أفعال المضارعة.

وإذا درسنا مفردات هذه الجملة بشيءٍ من الدقّة نجد أنّ كلمة «الإنسانية» لو فُصلت عن سائر الكلمات وبقيت بمفردها لظلّت تحتفظ بمدلولها ومعناها الخاصّ ، وكذلك كلمة «الإسلام» توحي بنفس المعنى الخاصّ بها ، سواء كانت جزءاً من الجملة أو منفصلةً عنها. وأمّا كلمة «في» فهي تفقد معناها إذا جُرِّدت عن الجملة ولوحظت بمفردها ، إذ لا توجد في ذهننا عندئذٍ أيّ تصورٍ محدّد ، بينما هي في داخل الجملة شرط ضروري فيها ، إذ لولاها لَما استطعنا أن نربط بين الإنسانية والإسلام ، فلو قلنا : «تهتدي الإنسانية الإسلام» لأصبحت الجملة غير مفهومة ، فكلمة «في» تقوم بدور الربط بين الإنسانية والإسلام (١) ، وهذا يعني أنّ معنى الحرف هو الربط بين معاني الأسماء والتعبير عن أنواع العلاقات والروابط التي تقوم بين تلك المعاني ، فكلمة «في» في قولنا : «تهتدي الإنسانية في الإسلام إلى أرقى الثقافات» تعبِّر عن نوعٍ من الربط بين الإنسانية والإسلام ، وكلمة «إلى» في قولنا : «تهتدي الإنسانية إلى الإسلام كلّما ازداد وعيها» تعبِّر عن نوعٍ آخر من الربط بينهما ، و «ب» في قولنا : «تهتدي الإنسانية بالاسلام إلى طريق الله المستقيم» يعبِّر عن نوعٍ ثالثٍ من الربط بينهما ، وهكذا سائر الحروف.

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أنّ الربط في الحقيقة يقوم في هذا المثال بين مادة الفعل ـ أي اهتداء الإنسانية ـ والإسلام ، لا بين الإنسانية نفسها والإسلام ، وإنّما نعبّر بذلك في المتن تسهيلاً على المبتدئ عند دراسته للكتاب ؛ لأنّنا حتّى الآن لم نذكر شيئاً عن تحليل الفعل إلى مادةٍ وهيئة. (المؤلّف قدس‌سره)

١٤٩

ونعتبر كلّ معنىً يمكن تصوره وتحديده بدون حاجةٍ إلى وقوعه في سياق جملةٍ معنىً اسمياً ، ونطلق على الروابط التي لا يمكن تصورها إلّا في سياق جملةٍ اسم «المعاني الحرفية».

وأمّا كلمة «تهتدي» في جملتنا المتقدّمة التي تمثّل فئة الأفعال من اللغة فهي تشتمل على معنى كلمة «الاهتداء» ، فإنّ ما نتصوره حين نسمع كلمة «الاهتداء» نتصوره من كلمة «تهتدي» ، وكلمة «الاهتداء» اسم ومعناها معنى اسمي ، فنعرف من ذلك أنّ الفعل يشتمل على معنىً اسميٍّ ما دامت كلمة «تهتدي» تدلّ على نفس المعنى الذي تدلّ عليه كلمة «الاهتداء» ، ولكنّ الفعل مع هذا لا يدلّ على المعنى الاسمي فحسب ، بدليل أنّه لو كان مدلوله اسمياً فقط لأمكن استبداله بالاسم ، ولصحّ أن نقول : «الإنسانية اهتداء في الإسلام» بدلاً عن قولنا : «الإنسانية تهتدي في الإسلام» ، مع أنّا نرى أنّ الجملة تصبح مفكَّكةً وغير مرتبطةٍ إذا قمنا بعملية استبدالٍ من هذا القبيل ، فهذا يدلّ على أنّ الفعل يشتمل إضافةً إلى المعنى الاسمي على معنىً حرفيٍّ يربط بين الاهتداء والإنسانية في قولنا : «الإنسانية تهتدي في الإسلام».

ونستخلص من ذلك : أنّ الفعل مركّب من اسمٍ وحرف ؛ لأنّه يشتمل على معنىً اسميٍّ استقلالي ، ومعنىً حرفيٍّ ارتباطي ، وهو يدلّ على المعنى الاسمي بمادته ، ويدلّ على المعنى الحرفي بهيئته ، ونريد بالمادة الأصل الذي اشتقّ الفعل منه كالاهتداء بالنسبة إلى «تهتدي» ، ونريد بالهيئة الصيغة الخاصّة التي صيغت المادة بها ـ أي صيغة «يَفْعَل» في المضارع و «فَعَل» في الماضي ـ فإنّ هذه الصيغة تدلّ على معنىً حرفيٍّ يربط بين معنى المادة ومعنىً آخر في الجملة. وقد ربطت صيغة «تهتدي» في مثالنا بين الاهتداء والإنسانية ـ أي بين مادة الفعل والفاعل ـ بوصفهما معنيين اسميّين.

١٥٠

هيئة الجملة :

عرفنا أنّ الفعل له هيئة تدلّ على معنىً حرفي ، أي على الربط ، وكذلك الحال في الجملة أيضاً. ونريد بالجملة (١) : كلّ كلمتين أو أكثر بينهما ترابط ، ففي قولنا : «عليّ إمام» نفهم من كلمة «عليّ» معناها الاسمي ، ومن كلمة «إمام» معناها الاسمي ، ونفهم إضافةً إلى ذلك ارتباطاً خاصّاً بين هذين المعنيين الاسميّين ، وهذا الارتباط الخاصّ لا تدلّ عليه كلمة «عليّ» بمفردها ، ولا كلمة «إمام» بمفردها ، وإنّما تدلّ عليه الجملة بتركيبها الخاصّ ، وهذا يعني أنّ هيئة الجملة تدلّ على نوعٍ من الربط ، أي على معنىً حرفي.

نستخلص ممّا تقدم : أنّ اللغة يمكن تصنيفها من وجهة نظرٍ تحليليةٍ إلى فئتين :

إحداهما : فئة المعاني الاسمية ، وتدخل في هذه الفئة الأسماء وموادّ الأفعال.

والاخرى : فئة المعاني الحرفية ـ أي الروابط ـ وتدخل فيها الحروف ، وهيئات الأفعال ، وهيئات الجمل.

الرابطة التامة والرابطة الناقصة :

«المفيد عالم بالعلوم الإسلامية كلّها». «المفيد العالم بالعلوم الإسلامية كلّها».

«الإسلام نظام كامل للحياة». «قلم أخي ...».

«الشريعة خالدة». «الدار المتهدّمة الواقعة في الشارع ...».

__________________

(١) ولا نتقيّد بالمصطلح النحوي للجملة. (المؤلّف قدس‌سره)

١٥١

«وجب الأمر بالمعروف». «الثوب الجميل ...».

إذا لاحظنا الفئة الاولى من هذه الجمل نجد أنّ كلّ جملةٍ منها تدلّ على معنىً مكتملٍ يمكن للمتكلِّم الإخبار عنه ، ويمكن للسامع تصديقه أو تكذيبه. بينما نجد أنّ الجمل في الفئة الثانية ناقصة لا يمكن للمتكلِّم الاكتفاء بها ، ولا يمكن للسامع أن يعلِّق عليها بتصديقٍ أو تكذيبٍ ما لم تكمل بخبرٍ من قبيل أن نقول : «قلم أخي ضائع». ومردّ الفرق بين الفئتين إلى نوع الربط الذي تدلّ عليه هيئة الجملة ، فهيئة الجملة في الفئة الاولى تدلّ على نوعٍ من الربط يختلف عن الربط الذي تدلّ عليه هيئة الجملة في الفئة الثانية. وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الربط نوعان :

أحدهما : الربط التامّ ، ويسمّى أحياناً ب «النسبة التامة» ، وهو الربط الذي يصوغ جملةً تامةً كما في الفئة الاولى.

والآخر : الربط الناقص ، ويسمّى أيضاً ب «النسبة الناقصة» ، وهو ما يصوغ جملةً ناقصةً كما في الفئة الثانية.

ونحن إذا دقّقنا في أكثر الجمل التي وردت في الفئة الاولى نجد فيها أكثر من معنىً حرفيٍّ واحد ، ففي الجملة الاولى نجد ـ مثلاً ـ المعنى الحرفي الذي تدلّ عليه هيئة الجملة ، وهو الربط بين المبتدأ والخبر ، ونجد أيضاً المعنى الحرفي الذي يدلّ عليه حرف الباء ، وهو الربط بين علم المفيد والعلوم الاسلامية كلّها ، غير أنّ الجملة إنّما أصبحت تامّةً نتيجةً للربط الأول الذي دلّت عليه هيئة الجملة دون الربط الذي دلّ عليه الحرف ، ولهذا إذا احتفظنا بالربط الثاني دون الأول أصبحت الجملة ناقصة ، كما إذا قلنا : «عالم بالعلوم الإسلامية كلّها» بدلاً عن قولنا : «المفيد عالم بالعلوم الإسلامية كلّها» ، فهيئة الجملة إذن هي التي تدلّ على النسبة التامة والربط التام دون الحرف ، وأمّا الحروف فهي تدلّ دائماً على النسبة الناقصة

١٥٢

والربط الناقص.

ونستخلص من ذلك : أنّ الحروف تدلّ دائماً على النسبة الناقصة ، وأمّا الهيئات فهي في بعض الأحيان تدلّ على النسبة التامة كما في الجمل المفيدة الاسمية والفعلية ، وأحياناً تدلّ على النسبة الناقصة كما في الجمل الوصفية.

وأمّا ما هو الفرق الجوهري بين واقع النسبة التامة وواقع النسبة الناقصة؟ فهذا ما نجيب عليه في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.

المدلول اللغوي والمدلول النفسي :

قلنا سابقاً (١) : إنّ دلالة اللفظ على المعنى هي : أن يؤدّي تصور اللفظ إلى تصور المعنى ، ويسمّى اللفظ «دالّا» ، والمعنى الذي نتصوره عند سماع اللفظ «مدلولاً».

وهذه الدلالة لغوية ، ونقصد بذلك : أنّها تنشأ عن طريق وضع اللفظ للمعنى ؛ لأنّ الوضع يوجِد علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، وعلى أساس هذه العلاقة تنشأ تلك الدلالة اللغوية ، ومدلولها هو المعنى اللغوي للَّفظ.

ولا تنفكّ هذه الدلالة عن اللفظ مهما سمعناه ومن أيِّ مصدرٍ كان ، فجملة «الحقّ منتصر» إذا سمعناها انتقل ذهننا فوراً إلى مدلولها اللغوي ، سواء سمعناها من متحدِّثٍ واعٍ أو من نائمٍ في حالة عدم وعيه ، وحتى لو سمعناها نتيجةً لاحتكاك حجرين ، فإنّ الجملة في جميع هذه الحالات تدلّ دلالةً لغويةً ، أي تؤدّي بنا إلى تصور معناها اللغوي ، فنتصور معنى كلمة «الحقّ» ونتصور معنى كلمة «منتصر» ، ونتصور النسبة التامة التي وضعت هيئة الجملة لها ، وتسمّى هذه

__________________

(١) مضى تحت عنوان : ما هو الوضع والعلاقة اللغويّة؟

١٥٣

الدلالة لأجل ذلك «دلالة تصورية».

ولكنّا إذا قارنّا بين تلك الحالات وجدنا أنّ الجملة حين تصدر من نائمٍ أو تنتج نتيجةً عن احتكاكٍ بين حجرين لا يوجد لها إلّا مدلولها اللغوي ذاك ، ويقتصر مفعولها على إيجاد تصوراتٍ للحقّ والانتصار والنسبة التامة في ذهننا. وأمّا حين نسمع الجملة من متحدِّثٍ واعٍ فلا تقف الدلالة عند مستوى التصور ، بل تتعدّاه إلى مستوى التصديق ، إذ تكشف الجملة عندئذٍ عن أشياء نفيسةٍ في نفس المتكلِّم ، فنحن نستدلّ عن طريق صدور الجملة منه على وجود إرادةٍ استعماليةٍ في نفسه ، أي أنّه يريد أن يخطر المعنى اللغوي لكلمة «الحقّ» وكلمة «المنتصر» وهيئة الجملة في أذهاننا ، وأن نتصور هذه المعاني. كما نعرف أيضاً أنّ المتكلِّم إنّما يريد منّا أن نتصور تلك المعاني لا لكي يخلق تصوراتٍ مجرّدةً في ذهننا فحسب ، بل لغرضٍ في نفسه ، وهذا الغرض الأساسي هو في المثال المتقدم ـ أي في جملة «الحقّ منتصر» ـ غرض الإخبار عن ثبوت الخبر للمبتدإ ، فإنّ المتكلِّم إنّما يريد منّا أن نتصور معاني الجملة لأجل أن يخبرنا عن ثبوتها في الواقع ، ويطلق على الغرض الأساسي في نفس المتكلِّم اسم «الإرادة الجدّية».

وتسمّى الدلالة على هذين الأمرين ـ الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدّية ـ «دلالة تصديقية» ؛ لأنّها دلالة تكشف عن إرادة المتكلِّم وتدعو إلى تصديقنا بها ، لا إلى مجرّد التصور الساذج. كما نسمّيها أيضاً ب «الدلالة النفسية» ؛ لأنّ المدلول هنا نفسيّ وهو إرادة المتكلِّم.

وهكذا نعرف أنّ الجملة التامة لها ـ إضافةً إلى مدلولها التصوري اللغوي ـ مدلولان نفسيّان :

أحدهما : الإرادة الاستعمالية ، إذ نعرف عن طريق صدور الجملة من

١٥٤

المتكلّم أنّه يريد منّا أن نتصور معاني كلماتها.

والآخر : الإرادة الجدّية ، وهي الغرض الأساسي الذي من أجله أراد المتكلِّم أن نتصور تلك المعاني.

وأحياناً تتجرّد الجملة عن المدلول النفسي الثاني ، وذلك إذا صدرت من المتكلّم في حالة الهزل لا في حالة الجدّ ، ولم يكن يستهدف منها إلّا مجرّد إيجاد تصوراتٍ في ذهن السامع لمعاني كلماتها ، فلا توجد في هذه الحالة إرادة جدّية ، بل إرادة استعمالية فقط.

والدلالة التصديقية ليست لغوية ، أي أنّها لا تعبِّر عن علاقةٍ ناشئةٍ عن الوضع بين اللفظ والمدلول النفسي ؛ لأنّ الوضع إنّما يوجد علاقةً بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، لا بين اللفظ والمدلول النفسي ، وإنّما تنشأ الدلالة التصديقية من حال المتكلِّم ، فإنّ الإنسان إذا كان في حالة وعيٍ وانتباهٍ وجدّيةٍ وقال : «الحقّ منتصر» يدلّ حاله على أنّه لم يقلْ هذه الجملة ساهياً ولا هازلاً ، وإنّما قالها بإرادةٍ معيّنةٍ واعية.

وهكذا نعرف أنّا حين نسمع جملةً كجملة «الحقّ منتصر» نتصور المعاني اللغوية للمبتدإ والخبر والهيئة بسبب الوضع الذي أوجد علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، ونكتشف الإرادة الواعية للمتكلِّم بسبب حال المتكلِّم ، وتصورنا ذلك يمثِّل الدلالة التصورية ، واكتشافنا هذا يمثِّل الدلالة التصديقية ، والمعنى الذي نتصوره هو المدلول التصوري واللغوي للَّفظ ، والإرادة التي نكتشفها في نفس المتكلِّم هي المدلول التصديقي والنفسي الذي يدلّ عليه حال المتكلّم.

وعلى هذا الأساس نكتشف مصدرين للدلالة :

أحدهما : اللغة بما تشتمل عليها من أوضاع ، وهي مصدر الدلالة التصورية ؛

١٥٥

لأنّها تقيم علاقات السببية بين تصور الألفاظ وتصور المعاني.

والآخر : حال المتكلّم ، وهو مصدر الدلالة التصديقية ، أي دلالة اللفظ على مدلوله النفسي التصديقي ، فإنّ اللفظ إنّما يكشف عن إرادة المتكلّم إذا صدر في حالة يقظةٍ وانتباهٍ وجدّية ، فهذه الحالة إذن هي مصدر الدلالة التصديقية ، ولهذا نجد أنّ اللفظ إذا صدر من المتكلّم في حالة نومٍ أو ذهولٍ لا توجد له دلالة تصديقية ومدلول نفسي.

الجملة الخبرية والجملة الإنشائية :

تقسَّم الجملة عادةً إلى خبريةٍ وإنشائية ، ونحن في حياتنا الاعتيادية نحسّ بالفرق بينهما ، فأنت حين تتحدّث عن بيعك للكتاب بالأمس وتقول : «بعتُ الكتابَ بدينارٍ» ترى أنّ الجملة تختلف بصورةٍ أساسيةٍ عنها حين تريد أن تعقد الصفقة مع المشتري فعلاً ، فتقول له : «بعتك الكتاب بدينار».

وبالرغم من أنّ الجملة في كلتا الحالتين تدلّ على نسبةٍ تامّةٍ بين البيع والبائع ـ أي بينك وبين البيع ـ يختلف فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الاولى عن فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الثانية ، فالمتكلّم حين يقول في الحالة الاولى : «بعت الكتاب بدينارٍ» يتصور النسبة بما هي حقيقة واقعة لا يملك من أمرها فعلاً شيئاً إلّا أن يخبر عنها إذا أراد ، وأمّا حين يقول في الحالة الثانية : «بعتك الكتاب بدينارٍ» فهو يتصور النسبة لا بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها ، بل يتصورها بوصفها نسبةً يراد تحقيقها.

ونستخلص من ذلك : أنّ الجملة الخبرية موضوعة للنسبة التامة منظوراً إليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه ، والجملة الإنشائية موضوعة للنسبة التامة منظوراً اليها بما هي نسبة يراد تحقيقها.

١٥٦

الظهور اللفظي :

قد تقوم عدّة علاقاتٍ بين لفظٍ واحدٍ ومعانٍ عديدة ، فيعتبر كلّ واحدٍ من تلك المعاني معنىً للّفظ. ومثاله : كلمة «المولى» فإنّها ذات معنيين : أحدهما السيد الحاكم ، والآخر الصديق ، وللّفظ علاقة بكلٍّ من هذين المعنيين.

وهذه العلاقات العديدة إمّا أن تكون متكافئةً ومتساويةً في الدرجة ، أوْ لا.

فالعلاقات المتكافئة توجد نتيجةً لوضع اللفظ في اللغة لعدّة معانٍ ، فتنشأ بسبب ذلك علاقات متساوية في الدرجة بين اللفظ وكلّ واحدٍ من تلك المعاني ، ويسمّى اللفظ في هذه الحالة «مشتركاً» ؛ لاشتراكه بين معنيين ، ومن أمثلته : كلمة «المولى» الموضوعة للسيّد الحاكم وللصديق ، وكلمة «القرء» الموضوعة للطهر والحيض ، وكلمة «العين» الموضوعة لعين الإنسان وعين الماء.

والعلاقات غير المتكافئة في الدرجة من أمثلتها : علاقات اللفظ الواحد بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، فكلمة «البحر» لها علاقة بالمعنى الحقيقي وهو البحر من الماء ، ولها علاقة بالمعنى المجازي وهو العالم الغزير علمه ، ولكنّ هاتين العلاقتين غير متكافئتين ، وليستا من درجةٍ واحدة ؛ لأنّ علاقة اللفظ بالمعنى المجازي نبعت من علاقته بالمعنى الحقيقي ، فقد قامت العلاقة أوّلاً بين كلمة «البحر» و «البحر من الماء» ، ولأجل الشبه بين ماء البحر والعالم الغزير علمه في الغزارة والسعة نشأت في ظلّ ذلك علاقة بين كلمة «البحر» و «العالم الغزير علمه» ، فمن الطبيعي أن تكون هذه العلاقة أقلّ درجةً من علاقة اللفظ بمعناه الحقيقي.

وفي حالة عدم تكافؤ العلاقات يعتبر المعنى الأوثق علاقةً من الناحية اللغوية هو المعنى الظاهر من اللفظ ؛ لأنّ الذهن ينتقل إليه قبل أن ينتقل إلى غيره

١٥٧

من معاني اللفظ ، ونطلق على هذا الظهور اسم «الظهور اللفظي».

تقسيم البحث :

الدليل اللفظي : هو الكلام الصادر من المعصوم ، وهو يتألّف من كلماتٍ وجملٍ لغوية ، وفهم الحكم الشرعي من الدليل اللفظي يتوقّف على العلم بالعلاقات اللغوية التي تقوم بين ألفاظ الدليل والمعاني في اللغة العربية ، ومعرفة أقوى المعاني علاقةً باللفظ إذا كانت معانيه متعدّدة ؛ لكي نحدّد بذلك الظهور اللفظي للدليل ، حتّى إذا حدّدنا الظهور اللفظي للدليل جاء دور البحث عن حجّية الظهور وإمكانية جعله أساساً لتفسير الدليل اللفظي وفهم الحكم الشرعي منه.

وعلى هذا الأساس سوف نقسِّم البحث إلى فصلين :

أحدهما : في تحديد الظهور اللفظي للدليل عن طريق تحديد العلاقات اللغوية التي تقوم بين ألفاظ الدليل والمعاني ، ومعرفة أقوى المعاني علاقة باللفظ عند تعدّد معانيه.

والفصل الآخر : في إمكان جعل الظهور اللفظي أساساً لتفسير الدليل.

١٥٨

الفصل الأول

في تحديد ظهور الدليل اللفظي

١ ـ «أحسِنْ إلى الفقير». ٢ ـ «حافِظْ على أحكام الشريعة». ٣ ـ «ادفع الخطر عن الإسلام».

١ ـ «إذا زالت الشمس وجبت الصلاة». ٢ ـ «إذا هلَّ هلال شهر رمضان وجب الصوم». ٣ ـ «إذا هاجم العدو بلاد الإسلام وجب الجهاد».

١ ـ «العلماء أولياء الامور». ٢ ـ «يجب على الفقهاء إيصال الأحكام». ٣ ـ «الصبيان لا يجوز بيعهم».

هذه ثلاث فئاتٍ من الكلام تشتمل كلّ فئةٍ على مجموعةٍ من الجمل تصلح كلّ واحدةٍ من تلك الجمل أن تكون دليلاً لفظياً لإثبات حكمٍ شرعي ، ولكي نفهم الحكم الذي تدلّ عليه تلك الجملة يجب أن نعرف المعاني اللغوية والظواهر اللفظية في الجملة.

ونحن إذا دقّقنا النظر في كلِّ فئةٍ وجدنا أنّ كلّ جملةٍ فيها تتميّز بألفاظها عن الجمل الاخرى ، فالإحسان والفقير كلمتان تتميّز بهما الجملة الاولى القائلة : «أحسن إلى الفقير» ، كما أنّ الجملة الثانية تتميّز بكلمة «الشريعة» وكلمة «أحكام» وكلمة «حافظ» ، وهكذا. ولهذا إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي تدلّ عليه الجملة الاولى يجب أن نعرف معنى «الإحسان» ومعنى كلمة «الفقير» ، بينما

١٥٩

لا نحتاج إلى معرفة ذلك إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي تدلّ عليه الجملة الثانية ، وإنّما نحتاج بدلاً عن ذلك إلى معرفة كلمة «الشريعة» وكلمة «أحكام» وكلمة «حافظ» الامور التي جاءت في الجملة الثانية ، ولكن يوجد في جميع جمل الفئة الاولى عنصر عامّ يتوقّف فهم الحكم الشرعي من جميع تلك الجمل على معرفة معناه ، وهذا العنصر هو صيغة فعل الأمر ، فإنّ هذه الصيغة موجودة في الجمل الثلاث بالرغم من اختلاف تلك الجمل في جميع كلماتها ، فلا بدّ أن نعرف ما هو مدلول صيغة فعل الأمر؟ وأنّها هل تدلّ على الوجوب أو الاستحباب؟ لكي نستنبط نوع الحكم المتعلّق بالإحسان إلى الفقير ، ونوع الحكم المتعلّق بالمحافظة على أحكام الشريعة ، ونوع الحكم المتعلّق بدفع الخطر عن الإسلام.

وإذا لاحظنا الجملة في الفئة الثانية وجدنا فيها أيضاً عنصراً عامّاً يتوقّف على معرفة معناه فهم الأحكام التي تدلّ عليها تلك الجمل ، وهذا العنصر العام هو أداة الشرط المتمثِّلة في كلمة «إذا» ، فإنّ هذه الأداة هي التي تدلّ على ربط وجوب الصلاة بالزوال ، وربط وجوب الصوم بهلال رمضان ، وربط وجوب الجهاد بمهاجمة العدو لبلاد الإسلام.

وفي الفئة الثالثة نجد عنصراً عامّاً وهو صيغة الجمع المعرَّف باللام ، فإنّ هذه الصيغة موجودة في كلمة «العلماء» وكلمة «الفقهاء» وكلمة «الصبيان» ، فيجب لكي نفهم حدود الأحكام التي دلّت عليها الجمل الثلاث أن نعرف ما هو المدلول اللغوي لصيغة الجمع المعرّف باللام؟ وهل تدلّ على العموم ـ أي على شمول الحكم لجميع الأفراد ـ أوْ لا؟

وفي هذا الضوء نستطيع أن نقسِّم العناصر اللغوية من وجهة نظرٍ اصولية إلى عناصر مشتركةٍ في عملية الاستنباط ، وعناصر خاصّةٍ في تلك العملية.

فالعناصر المشتركة : هي كلّ أداةٍ لغويةٍ تصلح للدخول في أيِّ دليلٍ مهما

١٦٠