المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

في دراساته الفلسفية التحليلية للّغة ووضع له أكثر من تفسير.

٣ ـ وكذا نجد لدى بعض المفكّرين الاصوليّين بذور نظرية الأنماط المنطقية ، فقد حاول المحقّق الشيخ محمد كاظم الخراساني في الكفاية (١) أن يميِّز بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي بما يتّفق مع الفكرة الرئيسية في تلك النظرية. وبهذا يكون الفكر الاصولي قد استطاع أن يسبق «برتراند رسل» صاحب تلك النظرية ، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا ، فقام بمناقشتها ودحضها ، وحلّ التناقضات التي بنى «رسل» نظريته على أساسها.

٤ ـ ومن أهمّ المشاكل التي درستها الفلسفة القديمة وتناولتها البحوث الجديدة في التحليل الفلسفي للّغة هي مشكلة الكلمات التي لا يبدو أنّها تعبِّر عن شيءٍ موجود ، فما ذا نقصد بقولنا مثلاً : «الملازمة بين النار والحرارة»؟ وهل هذه الملازمة موجودة إلى جانب وجود النار والحرارة ، أو معدومة؟ وإذا كانت موجودة فأين هي موجودة؟ وإذا كانت معدومةً ولا وجود لها فكيف نتحدّث عنها؟

وقد درس الفكر الاصولي هذه المشكلة متحرّراً عن القيود الفلسفية التي كانت تحصر المسألة في نطاق الوجود والعدم ، فأبدع فيها.

وكلّ هذه الأمثلة والنماذج نذكرها الآن لينفتح لها الطالب على سبيل الإجمال ، وأمّا توضيحها وشرحها فنؤجِّله إلى الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٤

١٢١
١٢٢

الحكم الشرعي وتقسيمه

عرفنا أنّ علم الاصول يدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ، ولأجل ذلك يجب أن نكوِّن فكرةً عامةً منذ البدء عن الحكم الشرعي الذي يقوم علم الاصول بتحديد العناصر المشتركة في عملية استنباطه.

الحكم الشرعي : هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان ، والخطابات الشرعية في الكتاب والسنّة مبرِزة للحكم وكاشفة عنه ، وليست هي الحكم الشرعي نفسه.

وعلى هذا الضوء يكون من الخطأ تعريف الحكم الشرعي بالصيغة المشهورة بين قدماء الاصوليّين ، إذ يعرِّفونه : بأنّه الخطاب الشرعي المتعلّق بأفعال المكلّفين (١) ، فإنّ الخطاب كاشف عن الحكم ، والحكم هو مدلول الخطاب.

أضف إلى ذلك : أنّ الحكم الشرعي لا يتعلّق بأفعال المكلّفين دائماً ، بل قد يتعلّق بذواتهم أو بأشياء اخرى ترتبط بهم ؛ لأنّ الهدف من الحكم الشرعي تنظيم

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ٣٩ ، قاعدة [٨] ، وراجع للتفصيل مفاتيح الاصول للسيّد المجاهد : ٢٩٢

١٢٣

حياة الإنسان ، وهذا الهدف كما يحصل بخطابٍ متعلّقٍ بأفعال المكلّفين ـ كخطاب «صلِّ» و «صُم» و «لا تشرب الخمر» ـ كذلك يحصل بخطابٍ متعلّقٍ بذواتهم ، أو بأشياء اخرى تدخل في حياتهم ، من قبيل الأحكام والخطابات التي تنظِّم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجةً للرجل في ظلِّ شروطٍ معيّنة ، أو تنظِّم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكاً للمال في ظلّ شروطٍ معيّنة ، فإنّ هذه الأحكام ليست متعلّقةً بأفعال المكلّفين ، بل الزوجية حكم شرعي متعلّق بذواتهم ، والملكية حكم شرعي متعلّق بالمال.

فالأفضل إذن استبدال الصيغة المشهورة بما قلناه من أنّ الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من الله لتنظيم حياة الإنسان ، سواء كان متعلّقاً بأفعاله أو بذاته أو بأشياء اخرى داخلةٍ في حياته.

تقسيم الحكم إلى تكليفيٍّ ووضعي :

وعلى ضوء ما سبق يمكننا تقسيم الحكم إلى قسمين :

أحدهما : الحكم الشرعي المتعلّق بأفعال الإنسان والموجّه لسلوكه مباشرةً في مختلف جوانب حياته الشخصية والعبادية والعائلية والاقتصادية والسياسية التي عالجتها الشريعة ونظّمتها جميعاً ، كحرمة شرب الخمر ، ووجوب الصلاة ، ووجوب الإنفاق على بعض الأقارب ، وإباحة إحياء الأرض ، ووجوب العدل على الحاكم.

والآخر : الحكم الشرعي الذي لا يكون موجّهاً مباشراً للإنسان في أفعاله وسلوكه ، وهو كلّ حكمٍ يشرِّع وضعاً معيّناً يكون له تأثير غير مباشرٍ على سلوك الإنسان ، من قبيل الأحكام التي تنظِّم علاقات الزوجية ، فإنّها تشرّع بصورةٍ مباشرةٍ علاقةً معيّنةً بين الرجل والمرأة ، وتؤثّر بصورةٍ غير مباشرةٍ على السلوك

١٢٤

وتوجّهه ؛ لأنّ المرأة بعد أن تصبح زوجةً ـ مثلاً ـ تُلزَم بسلوكٍ معيَّنٍ تجاه زوجها ، ويسمّى هذا النوع من الأحكام بالأحكام الوضعية.

والارتباط بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية وثيق ، إذ لا يوجد حكم وضعي إلّا ويوجد إلى صفّه حكم تكليفي ، فالزوجية حكم شرعي وضعي توجد إلى صفِّه أحكام تكليفية ، وهي : وجوب إنفاق الزوج على زوجته ، ووجوب التمكين على الزوجة. والملكية حكم شرعي وضعي توجد إلى صفّه أحكام تكليفية ، من قبيل حرمة تصرّف غير المالك في المال إلّا بإذنه ، وهكذا.

أقسام الحكم التكليفي :

ينقسم الحكم التكليفي ـ وهو الحكم المتعلّق بأفعال الإنسان والموجّه لها مباشرةً ـ إلى خمسة أقسام ، وهي كما يلي :

١ ـ «الوجوب» : وهو حكم شرعي يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجة الإلزام ، نحو وجوب الصلاة ، ووجوب إعالة المعوِزين على وليّ الأمر.

٢ ـ «الاستحباب» : وهو حكم شرعي يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجةٍ دون الإلزام ، ولهذا توجد إلى صفّه دائماً رخصة من الشارع في مخالفته ، كاستحباب صلاة الليل.

٣ ـ «الحرمة» : وهي حكم شرعي يزجر عن الشيء الذي تعلّق به بدرجة الإلزام ، نحو حرمة الربا ، وحرمة الزنا ، وبيع الأسلحة من أعداء الإسلام.

٤ ـ «الكراهة» : وهي حكم شرعي يزجر عن الشيء الذي تعلّق به بدرجةٍ دون الإلزام ، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث ، كما أنّ الحرمة في مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث ، ومثال المكروه :

١٢٥

خلف الوعد.

٥ ـ «الإباحة» : وهي أن يفسح الشارع المجال للمكلَّف لكي يختار الموقف الذي يريده ، ونتيجة ذلك أن يتمتّع المكلّف بالحرّية ، فله أن يفعل وله أن يترك.

١٢٦

المعالم الجديدة للُاصول

القسم الثاني

بحوث علم الاصول

تنويع البحث.

النوع الأوّل : العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل.

النوع الثاني : العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي.

١٢٧
١٢٨

تنويع البحث

حينما يتناول الفقيه مسألةً ـ كمسألة الإقامة للصلاة ـ ويحاول استنباط حكمها يتساءل في البداية : ما هو نوع الحكم الشرعيّ المتعلّق بالإقامة؟ أهو وجوب ، أو استحباب؟ فإن حصل على دليلٍ يكشف عن نوع الحكم الشرعي للإقامة أمكنه الجواب على السؤال الذي طرحه منذ البدء في ضوء هذا الدليل ، وكان عليه أن يحدِّد موقفه العملي واستنباطه على أساسه ، فيكون استنباطاً قائماً على أساس الدليل.

وإن لم يحصل الفقيه على دليلٍ يعيِّن نوع الحكم الشرعي المتعلّق بالإقامة فسوف يضطرّ إلى الكفِّ عن محاولة اكتشاف الحكم الشرعي ما دام لا يوجد في المجال الفقهي دليل عليه ، ويظلّ الحكم الشرعي مجهولاً للفقيه لا يدري أهو وجوب ، أو استحباب؟ وفي هذه الحالة يستبدل الفقيه سؤاله الأول الذي طرحه في البداية بسؤالٍ جديدٍ كما يلي : ما هي القواعد التي تحدِّد الموقف العملي تجاه الحكم الشرعي المجهول؟

فبينما كان الفقيه يحاول تحديد الموقف العملي عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي وإقامة الدليل عليه أصبح يحاول تحديد الموقف العملي على ضوء القواعد التي تعالج مثل هذا الموقف تجاه الحكم المجهول ، وهذه القواعد تسمّى بالاصول العملية. ومثالها : أصالة البراءة ، وهي القاعدة القائلة : «إنّ كلّ إيجابٍ أو تحريمٍ مجهولٍ لم يقم عليه دليل فلا أثر له على سلوك الإنسان ، وليس الإنسان ملزماً بالاحتياط من ناحيته والتقيّد به» ، ويقوم الاستنباط في هذه الحالة على أساس الأصل العملي بدلاً عن الدليل.

١٢٩

ولأجل هذا يمكننا تنويع عملية الاستنباط إلى نوعين :

أحدهما : الاستنباط القائم على أساس الدليل ، كالاستنباط المستمدِّ من نصٍّ دالٍّ على الحكم الشرعي.

والآخر : الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي ، كالاستنباط المستمدِّ من أصالة البراءة.

ولمّا كان علم الاصول هو : «العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط» فهو يزوّد كلا النوعين بعناصره المشتركة ، وعلى هذا الأساس ننوِّع البحوث الاصولية إلى نوعين ، نتكلّم في النوع الأول عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط القائمة على أساس الدليل ، ونتكلّم في النوع الثاني عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط القائمة على أساس الأصل العملي :

العنصر المشترك بين النوعين :

ويوجد بين العناصر المشتركة في عملية الاستنباط عنصر مشترك يدخل في جميع عمليات استنباط الحكم الشرعي بكلا نوعيها : ما كان منها قائماً على أساس الدليل ، وما كان قائماً على أساس الأصل العملي.

وهذا العنصر هو حجّية العلم «القطع» ، ونريد بالعلم : انكشاف قضيةٍ من القضايا بدرجةٍ لا يشوبها شكّ. ومعنى حجّية العلم يتلخّص في أمرين :

أحدهما : أنّ العبد إذا تورّط في مخالفة المولى نتيجةً لعمله بقطعه واعتقاده فليس للمولى معاقبته ، وللعبد أن يعتذر عن مخالفته للمولى بأنّه عمل على وفق قطعه ، كما إذا قطع العبد خطأً بأنّ الشراب الذي أمامه ليس خمراً ، فشربه اعتماداً على قطعه وكان الشراب خمراً في الواقع فليس للمولى أن يعاقبه على شربه للخمر ما دام قد استند إلى قطعه ، وهذا أحد الجانبين من حجّية العلم ، ويسمّى بجانب المعذّرية.

والآخر : أنّ العبد إذا تورّط في مخالفة المولى نتيجةً لتركه العمل بقطعه

١٣٠

فللمولى أن يعاقبه ويحتجّ عليه بقطعه ، كما إذا قطع العبد بأنّ الشراب الذي أمامه خمر ، فشربه وكان خمراً في الواقع فإنّ من حقّ المولى أن يعاقبه على مخالفته ؛ لأنّ العبد كان على علمٍ بحرمة الخمر وشربه فلا يعذر في ذلك ، وهذا هو الجانب الثاني من حجّية العلم ، ويسمّى بجانب المنجّزية.

وبديهيّ أنّ حجّية العلم بهذا المعنى الذي شرحناه لا يمكن أن تستغني عنه أيّ عمليةٍ من عمليات استنباط الحكم الشرعي ؛ لأنّ الفقيه يخرج من عملية الاستنباط دائماً بنتيجة ، وهي العلم بالموقف العملي تجاه الشريعة وتحديده على أساس الدليل ، أو على أساس الأصل العملي. ولكي تكون هذه النتيجة ذات أثرٍ لا بدّ من الاعتراف مسبقاً بحجّية العلم ، إذ لو لم يكن العلم حجّةً ولم يكن صالحاً للاحتجاج به من المولى على عبده ومن العبد على مولاه لكانت النتيجة التي خرج بها الفقيه من عملية الاستنباط لغواً ؛ لأنّ علمه ليس حجّة ، ففي كلّ عملية استنباطٍ لا بدّ إذن أن يدخل عنصر حجّية العلم ؛ لكي تعطي العملية ثمارها ويخرج منها الفقيه بنتيجةٍ إيجابية. وبهذا أصبحت حجّية العلم أعمَّ العناصر الاصولية المشتركة وأوسعها نطاقاً.

وليست حجّية العلم عنصراً مشتركاً في عمليات استنباط الفقيه للحكم الشرعي فحسب ، بل هي في الواقع شرط أساسي في دراسة الاصولي للعناصر المشتركة نفسها أيضاً ، فنحن حينما ندرس ـ مثلاً ـ مسألة حجّية الخبر أو حجّية الظهور العرفي إنّما نحاول بذلك تحصيل العلم بواقع الحال في تلك المسألة ، فإذا لم يكن العلم حجّةً ، فأيُّ جدوى في دراسة حجّية الخبر والظهور العرفي؟!

فالفقيه والاصولي يستهدفان معاً من بحوثهما تحصيل العلم بالنتيجة الفقهية «تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة» ، أو الاصولية «العنصر المشترك» ، فبدون الاعتراف المسبق بحجّية العلم تصبح بحوثهما عبثاً لا طائل تحته.

وحجّية العلم ثابتة بحكم العقل ، فإنّ العقل يحكم بأنّ للمولى سبحانه حقَ

١٣١

الطاعة على الإنسان في كلِّ ما يعلمه من تكاليف المولى وأوامره ونواهيه ، فإذا علم الإنسان بحكمٍ إلزاميٍّ من المولى «وجوب أو حرمة» دخل ذلك الحكم الإلزامي ضمن نطاق حقّ الطاعة ، وأصبح من حقّ المولى على الإنسان أن يمتثل ذلك الإلزام الذي علم به ، فإذا قصّر في ذلك أو لم يؤدِّ حقّ الطاعة كان جديراً بالعقاب ، وهذا هو جانب المنجّزية في حجّية العلم.

ومن ناحيةٍ اخرى يحكم العقل أيضاً بأنّ الإنسان القاطع بعدم الإلزام من حقّه أن يتصرّف كما يحلو له ، وإذا كان الإلزام ثابتاً في الواقع والحالة هذه فليس من حقّ المولى على الإنسان أن يمتثله ، ولا يمكن للمولى أن يعاقبه على مخالفته ما دام الإنسان قاطعاً بعدم الإلزام ، وهذا هو جانب المعذّرية في حجّية العلم.

والعقل كما يدرك حجّية القطع كذلك يدرك أنّ الحجّية لا يمكن أن تزول عن القطع ، بل هي لازمة له ، ولا يمكن حتى للمولى أن يجرّد القطع من حجّيته ويقول : «إذا قطعت بعدم الإلزام فأنت لست معذوراً» ، أو يقول : «إذا قطعت بالإلزام فلك أن تهمله» ، فإنّ كلّ هذا مستحيل بحكم العقل ؛ لأنّ القطع لا تنفكّ عنه المعذّرية والمنجّزية بحالٍ من الأحوال ، وهذا هو معنى المبدأ الاصولي القائل «باستحالة صدور الردع من الشارع عن القطع».

قد تقول : هذا المبدأ الاصولي يعني أنّ العبد إذا تورّط في عقيدةٍ خاطئةٍ فقطع ـ مثلاً ـ بأنّ شرب الخمر حلال فليس للمولى أن ينبِّهه على الخطأ.

والجواب : أنّ المولى بإمكانه التنبيه على الخطأ وإخبار العبد بأنّ الخمر ليس مباحاً ؛ لأنّه بذلك يزيل القطع من نفس العبد ويردّه إلى الصواب ، والمبدأ الاصولي الآنف الذكر إنّما يقرّر استحالة صدور الردع من المولى عن العمل بالقطع مع بقاء القطع ثابتاً ، فالقاطع بحلّية شرب الخمر يمكن للمولى أن يزيل قطعه ، ولكن من المستحيل أن يردعه عن العمل بقطعه ويعاقبه على ذلك ما دام قطعه ثابتاً ويقينه بالحلّية قائماً.

١٣٢

بحوث علم الاصول

النوع الأوّل

العناصر المشتركة

في الاستنباط القائم على أساس الدليل

تمهيد.

١ ـ الدليل اللفظي.

٢ ـ الدليل البرهاني.

٣ ـ الدليل الاستقرائي.

٤ ـ التعارض بين الأدلّة.

١٣٣
١٣٤

تمهيد

الدليل الذي يستند إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي إمّا أن يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، أوْ لا.

ففي الحالة الاولى يكون الدليل قطعياً ويستمدّ شرعيته وحجّيته من حجّية القطع ؛ لأنّه يؤدّي إلى القطع بالحكم ، والقطع حجّة بحكم العقل ، فيتحتّم على الفقيه أن يقيم على أساسه استنباطه للحكم الشرعي. ومن نماذج الدليل القطعي : كلّ آيةٍ كريمةٍ تدلّ على حكمٍ شرعيٍّ بصراحةٍ ووضوحٍ لا يقبل الشكّ والتأويل ، ومن نماذجه أيضاً : القانون القائل : «كلّما وجب الشيء وجبت مقدِّمته» ، فإنّ هذا القانون يعتبر دليلاً قطعياً على وجوب الوضوء بوصفه مقدِّمةً للصلاة.

وأمّا في الحالة الثانية فالدليل ناقص ؛ لأنّه ليس قطعياً ، والدليل الناقص إذا حكم الشارع بحجّيته وأمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط بالرغم من نقصانه أصبح كالدليل القطعي ، وتحتّم على الفقيه الاعتماد عليه. ومن نماذج الدليل الناقص الذي جعله الشارع حجّةً : خبر الثقة ، فإنّ خبر الثقة لا يؤدّي إلى العلم ؛ لاحتمال الخطأ فيه أو الشذوذ ، فهو دليل ظنّي ناقص وقد جعله الشارع حجّةً وأمر باتّباعه وتصديقه ، فارتفع بذلك في عملية الاستنباط إلى مستوى الدليل القطعي.

١٣٥

وإذا لم يحكم الشارع بحجّية الدليل الناقص فلا يكون حجّة ، ولا يجوز الاعتماد عليه في الاستنباط ؛ لأنّه ناقص يحتمل فيه الخطأ.

وقد نشكّ ولا نعلم هل جعل الشارع الدليل الناقص حجّةً ، أوْ لا ، ولا يتوفّر لدينا الدليل الذي يثبت الحجّية شرعاً أو ينفيها؟ وعندئذٍ يجب أن نرجع إلى قاعدةٍ عامةٍ يقرّرها الاصوليون بهذا الصدد ، وهي القاعدة القائلة : «إنّ كلّ دليلٍ ناقصٍ ليس حجّةً ما لم يثبت بالدليل الشرعي العكس» ، وهذا هو معنى ما يقال في علم الاصول من أنّ «الأصل في الظنّ هو عدم الحجّية إلّا ما خرج بدليلٍ قطعي».

ونستخلص من ذلك : أنّ الدليل الجدير بالاعتماد عليه فقهياً هو الدليل القطعي ، أو الدليل الناقص الذي ثبتت حجّيته شرعاً بدليلٍ قطعي.

تقسيم البحث :

والدليل في المسألة الفقهية ـ سواء كان قطعياً أو لم يكن ـ ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ الدليل اللفظي : وهو الدليل المستمدّ من كلام المولى ، كما إذا سمعت مولاك يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فتستدلّ بذلك على وجوب الصلاة.

٢ ـ الدليل البرهاني : (١) وهو الدليل المستمدّ من قانونٍ عقليّ عامّ ، كما إذا

__________________

(١) لا نريد بكلمة «البرهان» مصطلحها المنطقي ، بل نريد بها : الطريقة القياسية في الاستدلال ، غير أنّا تحاشينا عن استخدام كلمة «القياس» بدلاً عن كلمة «البرهان» ؛ لأنّ لها معنىً في المصطلح الاصولي يختلف عن مدلولها المنطقيِّ الذي نريده هنا. (المؤلّف قدس‌سره)

١٣٦

ثبت لديك وجوب الوضوء بوصفه مقدِّمةً للصلاة استناداً إلى القانون العقلي العام الذي يقول : «كلّما وجب الشيء وجبت مقدّمته».

٣ ـ الدليل الاستقرائي : وهو الدليل المستمدّ من تتبّع حالاتٍ كثيرة ، كما إذا استطعت أن تعرف أنّ أباك يأمرك بالإحسان إلى جارك الفقير عن طريق تتبّعك لذوقه وأمره بالإحسان إلى فقراء كثيرين في حالاتٍ مماثلة.

ولكلٍّ من هذه الأدلّة الثلاثة نظامه الخاصّ ، ومنهجه المتميِّز ، وعناصره المشتركة.

وعلى هذا الأساس سوف نقسِّم البحث إلى ثلاثة أقسام ، فندرس في القسم الأول الدليل اللفظي وعناصره المشتركة ، وفي القسم الثاني الدليل البرهاني وعناصره المشتركة ، وفي القسم الثالث الدليل الاستقرائي وعناصره المشتركة.

١٣٧
١٣٨

الاستنباط القائم على أساس الدليل

١

الدليل اللفظي

تمهيد.

الفصل الأوّل في تحديد ظهور الدليل اللفظي.

الفصل الثاني في حجّية الظهور.

١٣٩
١٤٠