المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

السنّي وطوّروا معناها ، فتراءى لعلمائنا الأخباريّين الذين لم يدركوا التحوّل الجوهري في مدلول المصطلح أنّ علم الاصول عند أصحابنا يتبنّى نفس الاتّجاهات العامة في الفكر العلمي السنّي ، ولهذا شجبوا الاجتهاد وعارضوا في جوازه المحقِّقين من أصحابنا.

٥ ـ وكان الدور الذي يلعبه العقل في علم الاصول مثيراً آخر للأخباريّين على هذا العلم نتيجةً لاتّجاههم المتطرّف ضدّ العقل ، كما رأينا في بحثٍ سابق (١).

٦ ـ ولعلّ أنجح الأساليب التي اتّخذها المحدِّث الأسترآبادي وأصحابه لإثارة الرأي العام الشيعي ضدّ علم الاصول هو استغلال حداثة علم الاصول لضربه ، فهو علم لم ينشأ في النطاق الإمامي إلّا بعد الغَيبة ، وهذا يعني أنّ أصحاب الأئمّة وفقهاء مدرستهم مضوا بدون علم اصول ، ولم يكونوا بحاجةٍ إليه. وما دام فقهاء تلامذة الأئمّة ـ من قبيل زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم ومحمد بن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم ـ كانوا في غنىً عن علم الاصول في فقههم فلا ضرورة للتورّط في ما لم يتورّطوا فيه ، ولا معنى للقول بتوقّف الاستنباط والفقه على علم الاصول.

ويمكننا أن نعرف الخطأ في هذه الفكرة على ضوء ما تقدم سابقاً من أنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية ، فإنّ عدم إحساس الرواة والفقهاء الذين عاشوا عصر النصوص بالحاجة إلى تأسيس علم الاصول لا يعني عدم احتياج الفكر الفقهي إلى علم الاصول في العصور المتأخّرة التي يصبح الفقيه فيها بعيداً عن جوِّ النصوص ويتّسع الفاصل الزمني بينه وبينها ؛ لأنّ هذا الابتعاد يخلق فجواتٍ

__________________

(١) سبق تحت عنوان : المعركة إلى صفّ العقل

١٠١

في عملية الاستنباط ، ويفرض على الفقيه وضع القواعد الاصولية العامّة لعلاج تلك الفجوات.

الجذور المزعومة للحركة الأخبارية :

وبالرغم من أنّ المحدِّث الأسترآبادي كان هو رائد الحركة الأخبارية فقد حاول في فوائده المدنية أن يرجع بتأريخ هذه الحركة إلى عصر الأئمّة ، وأن يثبّت لها جذوراً عميقةً في تأريخ الفقه الإمامي لكي تكتسب طابعاً من الشرعية والاحترام ، فهو يقول : إنّ الاتّجاه الأخباري كان هو الاتّجاه السائد بين فقهاء الإمامية إلى عصر الكليني والصدوق وغيرهما من ممثّلي هذا الاتّجاه في رأي الأسترآبادي ، ولم يتزعزع هذا الاتّجاه إلّا في أواخر القرن الرابع وبعده ؛ حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخطّ الأخباري ويعتمدون على العقل في استنباطهم ، ويربطون البحث الفقهي بعلم الاصول تأثّراً بالطريقة السنّية في الاستنباط ، ثمّ أخذ هذا الانحراف بالتوسّع والانتشار (١).

ويذكر المحدّث الأسترآبادي (٢) بهذا الصدد كلاماً للعلّامة الحلّي ـ الذي عاش قبله بثلاثة قرون ـ جاء فيه التعبير عن فريقٍ من علماء الإمامية بالأخباريّين ، ويستدلّ بهذا النصّ على سبق الاتّجاه الأخباري تأريخياً.

ولكنّ الحقيقة أنّ العلّامة الحلّي يشير بكلمة «الأخباريّين» (٣) في حديثه إلى مرحلةٍ من مراحل الفكر الفقهي ، لا إلى حركةٍ ذات اتّجاهٍ محدّد في

__________________

(١) الفوائد المدنية : ٤٣ ـ ٤٤

(٢) المصدر السابق : ٤٤

(٣) نهاية الاصول (مخطوط) : ٢٩٦

١٠٢

الاستنباط ، فقد كان في فقهاء الشيعة منذ العصور الاولى علماء أخباريون يمثّلون المرحلة البدائية من التفكير الفقهي ، وهؤلاء هم الذين تحدّث عنهم الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط (١) ، وعن ضيق افقهم ، واقتصارهم في بحوثهم الفقهية على اصول المسائل ، وانصرافهم عن التفريع والتوسّع في التطبيق. وفي النقطة المقابلة لهم الفقهاء الاصوليون الذين يفكّرون بذهنيةٍ اصوليةٍ ويمارسون التفريع الفقهي في نطاقٍ واسع. فالأخبارية القديمة إذن تعبِّر عن مستوى من مستويات الفكر الفقهي ، لا عن مذهبٍ من مذاهبه.

وهذا ما أكّده المحقّق الجليل الشيخ محمد تقي ـ المتوفّى سنة ١٢٤٨ ه‍ ـ في تعليقته الضخمة على المعالم ، إذ كتب بهذا الشأن يقول :

«فإن قلت : إنّ علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان على صنفين : أخباري واصولي ، كما أشار إليه العلّامة في النهاية وغيره.

قلت : إنّه وإن كان المتقدِّمون من علمائنا على صنفين وكان فيهم أخبارية إلّا أنّه لم تكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء ، بل لم يكن الاختلاف بينهم وبين الاصولية إلّا في سعة الباع في التفريعات الفقهية ، وقوة النظر إلى القواعد الكلّية والاقتدار على تفريع الفروع عليها ، فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الأخبار ، ولم تكن طريقتهم التعدّي عن مضامين الروايات وموارد النصوص ، بل كانوا يفتون غالباً على طبق ما يروون ويحكمون على وفق متون الأخبار ، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمّق في المسائل العلمية ... ، وهؤلاء لا يتعرّضون غالباً للفروع غير المنصوصة ، وهم المعروفون بالأخبارية. وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل ، وأصحاب التحقيق والتدقيق في استعلام الأحكام من

__________________

(١) المبسوط ١ : ١ ـ ٢

١٠٣

الدلائل ، ولهم الاقتدار على تأصيل الاصول والقواعد الكلّية عن الأدلّة القائمة عليها في الشريعة ، والتسلّط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها ، وهم الاصوليون منهم ، كالعماني ، والإسكافي ، وشيخنا المفيد ، وسيّدنا المرتضى ، والشيخ ، وغيرهم ممّن يحذو حذوهم.

وأنت إذا تأمّلت لا تجد فرقاً بين الطريقتين إلّا من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب ، وأصحاب النظر الدقيق في استنباط المقاصد وتفريع الفروع على القواعد ، ولهذا اتّسعت دائرتهم في البحث والنظر ، وأكثروا من بيان الفروع والمسائل ، وتعدَّوا عن متون الأخبار ... ، واولئك المحدّثون ليسوا غالباً بتلك القوة من الملكة وذلك التمكّن من الفنّ ، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ، ولم يتعدّوا غالباً عن ظواهر مضامينها ، ولم يوسّعوا الدائرة في التفريعات على القواعد ، وأنّهم لمّا كانوا في أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح اصول الأحكام التي عمدتها الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة ، فلم يتمكّنوا من مزيد إمعان النظر في مضامينها وتكثير الفروع المتفرّعة عليها ، ثمّ إنّ ذلك إنّما حصل بتلاحق الأفكار في الأزمنة المتأخّرة» (١).

وفي كتاب الحدائق يعترف الفقيه الجليل الشيخ يوسف البحراني ـ بالرغم من موافقته على بعض أفكار المحدّث الأسترآبادي ـ بأنّ هذا المحدّث هو أوّل من جعل الأخبارية مذهباً ، وأوجد الاختلاف في صفوف العلماء على أساس ذلك ، فقد كتب يقول : «ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ، ولا وقع هذا الاعتساف إلّا من زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته المرضية ، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب ، وأسهب في ذلك أيّ إسهاب ، وأكثر من التعصّبات

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٨٣ ، السطر ٣١

١٠٤

التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب» (١).

اتّجاه التأليف في تلك الفترة :

وإذا درسنا النتاج العلمي في الفترة التي توسّعت فيها الحركة الأخبارية في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر وجدنا اتّجاهاً نشيطاً موفّقاً في تلك المدّة إلى جمع الأحاديث وتأليف الموسوعات الضخمة في الروايات والأخبار ، ففي تلك المدّة كتب الشيخ محمد باقر المجلسي قدس‌سره ـ المتوفّى سنة ١١١٠ ه‍ ـ كتاب البحار وهو أكبر موسوعةٍ للحديث عند الشيعة ، وكتب الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي قدس‌سره ـ المتوفّى سنة ١١٠٤ ه‍ ـ كتاب «الوسائل» الذي جمع فيه عدداً كبيراً من الروايات المرتبطة بالفقه ، وكتب الفيض محسن القاساني ـ المتوفّى سنة ١٠٩١ ه‍ ـ كتاب «الوافي» المشتمل على الأحاديث التي جاءت في الكتب الأربعة ، وكتب السيّد هاشم البحراني ـ المتوفّى سنة ١١٠٧ ه‍ أو حوالي ذلك ـ كتاب «البرهان» في التفسير جمع فيه المأثور من الروايات في تفسير القرآن.

ولكنّ هذا الاتّجاه العامّ في تلك الفترة إلى التأليف في الحديث لا يعني أنّ الحركة الأخبارية كانت هي السبب لخلقه ، وإن كانت عاملاً مساعداً في أكبر الظنّ ، بالرغم من أنّ بعض أقطاب ذلك الاتّجاه لم يكونوا أخباريّين ، وإنّما تكوّن هذا الاتّجاه العام نتيجةً لعدّة أسباب ، ومن أهمّها : أنّ كتباً عديدةً في الروايات اكتشفت خلال القرون التي أعقبت الشيخ لم تكن مندرجةً في كتب الحديث الأربعة عند الشيعة ، ولهذا كان لا بدّ لهذه الكتب المتفرّقة من موسوعاتٍ جديدةٍ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٠

١٠٥

تضمّها وتستوعب كلّ ما كشف عنه الفحص والبحث العلمي من رواياتٍ وكتب أحاديث.

وعلى هذا الضوء قد يمكن أن نعتبر العمل في وضع تلك الموسوعات الضخمة التي انجزت في تلك الفترة عاملاً من العوامل التي عارضت نموّ البحث الاصولي إلى صفّ الحركة الأخبارية ، ولكنّه عامل مبارك على أيِّ حال ؛ لأنّ وضع تلك الموسوعات كان من مصلحة عملية الاستنباط نفسها التي يخدمها علم الاصول.

البحث الاصولي في تلك الفترة :

وبالرغم من الصدمة التي مُنِي بها البحث الاصولي في تلك الفترة لم تنطفئ جذوته ، ولم يتوقّف نهائياً ، فقد كتب الملا عبد الله التوني ـ المتوفّى سنة ١٠٧١ ه‍ ـ «الوافية في الاصول» ، وجاء بعده المحقّق الجليل السيد حسين الخونساري ـ المتوفّى سنة ١٠٩٨ ه‍ ـ وكان على قدرٍ كبيرٍ من النبوغ والدقّة ، فأمدَّ الفكر الاصولي بقوةٍ جديدةٍ كما يبدو من أفكاره الاصولية في كتابه الفقهي «مشارق الشموس في شرح الدروس» ، ونتيجةً لمرانه العظيم في التفكير الفلسفي انعكس اللون الفلسفي على الفكر العلمي والاصولي بصورةٍ لم يسبق لها نظير.

ونقول : انعكس اللون الفلسفي لا الفكر الفلسفي ؛ لأنّ هذا المحقّق كان ثائراً على الفلسفة ، وله معارك ضخمة مع رجالاتها ، فلم يكن فكره فكراً فلسفياً بصيغته التقليدية وإن كان يحمل اللون الفلسفي ، فحينما مارس البحث الاصولي انعكس اللون ، وسرى في الاصول الاتّجاه الفلسفي في التفكير بروحيةٍ متحرّرةٍ من الصيغ التقليدية التي كانت الفلسفة تتبناها في مسائلها وبحوثها ، وكان لهذه الروح أثرها الكبير في تأريخ العلم فيما بعد ، كما سنرى إن شاء الله تعالى.

١٠٦

وفي عصر الخونساري كان المحقّق محمد بن الحسن الشيرواني ـ المتوفّى سنة ١٠٩٨ ه‍ ـ يكتب حاشيته على المعالم.

ونجد بعد ذلك بحثين اصوليين : أحدهما قام به جمال الدين بن الخونساري ، إذ كتب تعليقاً على شرح المختصر للعضدي ، وقد شهد له الشيخ الأنصاري في الرسائل (١) بالسبق إلى بعض الأفكار الاصولية. والآخر السيد صدر الدين القمّي الذي تلمّذ على جمال الدين ، وكتب شرحاً لوافية التوني ، ودرس عنده الاستاذ الوحيد البهبهاني ، وتوفّي سنة [١١٦٥ ه‍].

والواقع أنّ الخونساري الكبير ومعاصره الشيرواني وابنه جمال الدين وتلميذ ولده صدر الدين ـ بالرغم من أنّهم عاشوا فترة زعزعة الحركة الأخبارية للبحث الاصولي وانتشار العمل في الأحاديث ـ كانوا عوامل رفعٍ للتفكير الاصولي ، وقد مهّدوا ببحوثهم لظهور مدرسة الاستاذ الوحيد البهبهاني التي افتتحت عصراً جديداً في تأريخ العلم كما سوف نرى ، وبهذا يمكن اعتبار تلك البحوث البذور الأساسية لظهور هذه المدرسة ، والحلقة الأخيرة التي أكسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى عصرٍ ثالث.

انتصار علم الاصول وظهور مدرسةٍ جديدة :

وقد قدّر للاتّجاه الأخباري في القرن الثاني عشر أن يتّخذ من كربلاء نقطة ارتكازٍ له ، وبهذا عاصر ولادة مدرسةٍ جديدةٍ في الفقه والاصول نشأت في كربلاء أيضاً على يد رائدها المجدّد الكبير محمد باقر البهبهاني المتوفّى سنة (١٢٠٦ ه‍) ، وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية والانتصار لعلم

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٠٠

١٠٧

الاصول ، حتّى تضاءل الاتّجاه الأخباري ومُنِي بالهزيمة ، وقد قامت هذه المدرسة إلى صفّ ذلك بتنمية الفكر العلمي والارتفاع بعلم الاصول الى مستوى أعلى ، حتّى أنّ بالإمكان القول بأنّ ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحقّقون الكبار قد كان حدّاً فاصلاً بين عصرين من تأريخ الفكر العلمي في الفقه والاصول.

وقد يكون هذا الدور الإيجابي الذي قامت به هذه المدرسة فافتتحت بذلك عصراً جديداً في تأريخ العلم متأثّراً بعدّة عوامل :

منها : عامل ردّ الفعل الذي أوجدته الحركة الأخبارية ، وبخاصّةٍ حين جمعها مكان واحد ككربلاء بالحوزة الاصولية ، الأمر الذى يؤدّي بطبيعته إلى شدّة الاحتكاك وتضاعف ردّ الفعل.

ومنها : أنّ الحاجة إلى وضع موسوعاتٍ جديدةٍ في الحديث كانت قد اشبعت ، ولم يبقَ بعد وضع الوسائل والوافي والبحار إلّا أن يواصل العلم نشاطه الفكري مستفيداً من تلك الموسوعات في عمليات الاستنباط.

ومنها : أنّ الاتّجاه الفلسفي في التفكير الذي كان الخونساري قد وضع إحدى بذوره الأساسية زوَّد الفكر العلمي بطاقةٍ جديدةٍ للنموّ وفتح مجالاً جديداً للإبداع ، وكانت مدرسة البهبهاني هي الوارثة لهذا الاتّجاه.

ومنها : عامل المكان ، فإنّ مدرسة الاستاذ الوحيد البهبهاني نشأت على مقربةٍ من المركز الرئيسي للحوزة ـ وهو النجف ـ فكان قربها المكاني هذا من المركز سبباً لاستمرارها ومواصلة وجودها عبر طبقاتٍ متعاقبةٍ من الأساتذة والتلامذة ، الأمر الذي جعل بإمكانها أن تضاعف خبرتها باستمرارٍ وتضيف خبرةَ طبقةٍ من رجالاتها إلى خبرة الطبقة التي سبقتها ، حتّى استطاعت أن تقفز بالعلم قفزةً كبيرةً وتعطيه ملامح عصرٍ جديد. وبهذا كانت مدرسة البهبهاني تمتاز عن

١٠٨

المدارس العديدة التي كانت تقوم هنا وهناك بعيداً عن المركز وتتلاشى بموت رائدها.

نصّ يصوِّر الصراع مع الحركة الأخبارية :

وللمحقّق البهبهاني رائد هذه المدرسة كتاب في الاصول باسم «الفوائد الحائرية» نلمح فيه ضراوة المعركة التي كان يخوضها ضدّ الحركة الأخبارية.

ونقتبس من الكتاب نصّاً يشير فيه إلى بعض شبهات الأخباريّين وحججهم ضدّ علم الاصول ، ويلمِّح لدى تفنيدها إلى ما شرحناه سابقاً من أنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية.

قال البهبهاني : «لمّا بَعُد العهد عن زمان الأئمّة عليهم‌السلام وخفت أمارات الفقه والأدلّة ـ على ما كان المقرّر عند الفقهاء والمعهود بينهم بلا خفاءٍ بانقراضهم وخلوّ الديار عنهم إلى أن انطمس أكثر آثارهم ، كما كانت طريقة الامم السابقة والعادة الجارية في الشرائع الماضية : أنّه كلّما يبعد العهد عن صاحب الشريعة تخفى أمارات قديمة ، وتحدث خيالات جديدة إلى أن تضمحلّ تلك الشريعة ـ توهّم متوهّم أنّ شيخنا المفيد ومن بعده من فقهائنا إلى الآن كانوا مجتمعين على الضلالة ، مبدِعين بدعاً كثيرةً ... ، متابعين للعامة ، مخالفين لطريقة الأئمّة ، ومغيِّرين لطريقة الخاصّة مع غاية قربهم (١) لعهد الأئمّة ونهاية جلالتهم وعدالتهم ومعارفهم في الفقه والحديث وتبحرهم وزهدهم وورعهم» (٢).

__________________

(١) أي أنّ هذه التهمة توجّه إليهم بالرغم من أنّهم في غاية القرب لعهد الأئمّة عليهم‌السلام. (المؤلّف قدس‌سره)

(٢) الفوائد الحائرية : ٨٥ ـ ٨٦

١٠٩

ويستمرّ في استعراض مدى جرأة خصومه على اولئك الكبار ويحاسبهم على تلك الجرأة ، ثمّ يقول : «وشُبهتهم الاخرى هي : أنّ رواة هذه الأحاديث ما كانوا عالمين بقواعد المجتهدين (١) ، مع أنّ الحديث كان حجّةً لهم ، فنحن أيضاً مثلهم لا نحتاج إلى شرطٍ من شرائط الاجتهاد ، وحالنا بعينه حالهم ، ولا ينقطعون بأنّ الراوي كان يعلم أنّ ما سمعه كلام إمامه ، وكان يفهم من حيث إنّه من أهل اصطلاح زمان المعصوم عليهم‌السلام ، ولم يكن مبتلى بشيءٍ من الاختلالات التي ستعرفها ، ولا محتاجاً إلى علاجها» (٢).

استخلاص :

ولا يمكننا على مستوى هذه الحلقة أن نتوسّع في درس الدور المهمّ الذي قامت به هذه المدرسة استاذاً وتلامذةً وما حقّقته للعلم من تطويرٍ وتعميق.

وإنّما الشيء الذي يمكننا تقريره الآن مع تلخيص كل ما تقدّم عن تأريخ العلم هو : أنّ الفكر العلمي مرَّ بعصورٍ ثلاثة :

الأول : العصر التمهيدي ، وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الاصول ، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد ، وينتهي بظهور الشيخ.

الثاني : عصر العلم ، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور ، وأثمرت وتحدّدت معالم الفكر الاصولي ، وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاقٍ واسع ، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي ، ومن رجالاته الكبار : ابن إدريس ، والمحقّق الحلّي ، والعلّامة ، والشهيد الأوّل ، وغيرهم من النوابغ.

__________________

(١) يقصد بقواعد المجتهدين : علم الاصول. (المؤلّف قدس‌سره)

(٢) الفوائد الحائرية : ٨٨ ـ ٨٩

١١٠

الثالث : عصر الكمال العلمي ، وهو العصر الذي افتتحته في تأريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الاستاذ الوحيد البهبهاني ، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهودٍ متضافرةٍ في الميدانين الاصولي والفقهي.

وقد تمثّلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الاستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن ، حتّى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القِمّة.

ففي هذه المدّة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة :

ويتمثّل الجيل الأول في المحقّقين الكبار من تلامذة الاستاذ الوحيد ، كالسيّد مهدي بحر العلوم المتوفّى سنة (١٢١٢ ه‍) ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه‍) ، والميرزا أبي القاسم القمّي المتوفّى سنة [١٢٣١ ه‍] ، والسيّد علي الطباطبائي المتوفّى سنة [١٢٣١ ه‍] ، والشيخ أسد الله التستري المتوفّى سنة (١٢٣٤ ه‍).

ويتمثّل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء ، كالشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم المتوفّى سنة (١٢٤٨ ه‍) ، وشريف العلماء محمد شريف ابن حسن بن عليّ المتوفّى سنة (١٢٤٥ ه‍) ، والسيّد محسن الأعرجي المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه‍) ، والمولى أحمد النراقي المتوفّى سنة (١٢٤٥ ه‍) ، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفّى سنة (١٢٦٦ ه‍) ، وغيرهم.

وأمّا الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقّق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري ، الذي ولد بُعَيد ظهور المدرسة الجديدة عام (١٢١٤ ه‍) ، وعاصرها في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموّها ونشاطها ، وقدِّر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمّة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها اليها.

١١١

ولا يزال علم الاصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإمامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الاستاذ الوحيد.

ولا يمنع تقسيمنا هذا لتأريخ العلم إلى عصورٍ ثلاثةٍ إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النموّ ، ولكلّ مرحلةٍ رائدها وموجِّهها. وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ المتوفّى سنة ١٢٨١ ه‍ ـ رائداً لأرقى مرحلةٍ من مراحل العصر الثالث ، وهي المرحلة التي يتمثّل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مائة سنةٍ حتّى اليوم.

١١٢

مصادر الإلهام للفكر الاصولي

لا نستطيع ـ ونحن لا نزال في الحلقة الاولى ـ أن نتوسّع في دراسة مصادر الإلهام للفكر الاصولي ، ونكشف عن العوامل التي كانت تلهم الفكر الاصولي وتمدّه بالجديد تلو الجديد من النظريات ؛ لأنّ ذلك يتوقّف على الإحاطة المسبقة بتلك النظريات ، ولهذا سوف نلخِّص في ما يلي مصادر الإلهام بصورةٍ موجزة :

١ ـ بحوث التطبيق في الفقه : فإنّ الفقيه تتكشّف لديه من خلال بحثه الفقهي التطبيقي المشاكل العامة في عملية الاستنباط ، ويقوم علم الاصول عندئذٍ بوضع الحلول المناسبة لها ، وتصبح هذه الحلول والنظريات عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط. ولدى محاولة تطبيقها على مجالاتها المختلفة كثيراً ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدةٍ يكون لها أثر في تعديل تلك النظريات أو تعميقها.

ومثال ذلك : أنّ علم الاصول يقرّر أنّ الشيء إذا وجب وجبت مقدمته ، فالوضوء يجب ـ مثلاً ـ إذا وجبت الصلاة ؛ لأنّ الوضوء من مقدمات الصلاة ، كما يقرّر علم الاصول أيضاً أنّ مقدمة الشيء إنّما تجب في الظرف الذي يجب فيه ذلك الشيء ولا يمكن أن تسبقه في الوجوب ، فالوضوء إنّما يجب حين تجب

١١٣

الصلاة ، ولا يجب قبل الزوال ، إذ لا تجب الصلاة قبل الزوال ، فلا يمكن أن يصبح الوضوء واجباً قبل أن يحلّ وقت الصلاة وتجب.

والفقيه حين يكون على علمٍ بهذه المقرّرات ويمارس عمله في الفقه فسوف يلحظ في بعض المسائل الفقهية شذوذاً جديراً بالدرس ، ففي الصوم يجد ـ مثلاً ـ أنّ من المقرّر فقهياً أنّ وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب الصوم قبل ذلك ، وكذلك من الثابت في الفقه أنّ المكلَّف إذا أجنب في ليلة الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصحّ صومه ؛ لأنّ الغسل من الجنابة مقدمة للصوم فلا صوم بدونه ، كما أنّ الوضوء مقدمة للصلاة ولا صلاة بدون وضوء.

ويحاول الفقيه بطبيعة الحال أن يدرس هذه الأحكام الفقهية على ضوء تلك المقرّرات الاصولية ، فيجد نفسه في تناقض ؛ لأنّ الغسل وجب على المكلّف فقهياً قبل مجيء وقت الصوم ، بينما يقرّر علم الاصول أنّ مقدمة كلّ شيءٍ إنّما تجب في ظرف وجوب ذلك الشيء ولا تجب قبل وقته. وهكذا يُرغِم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع من جديدٍ النظرية الاصولية ، ويتأمّل في طريقةٍ للتوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي ، وينتج عن ذلك تولّد أفكارٍ اصوليةٍ جديدةٍ بالنسبة الى النظرية تحدّدها أو تعمّقها وتشرحها بطريقةٍ جديدةٍ تتّفق مع الواقع الفقهي.

وهذا المثال مستمدّ من الواقع ، فإنّ مشكلة تفسير وجوب الغسل قبل وقت الصوم تكشَّفت من خلال البحث الفقهي ، وكان أول بحثٍ فقهيٍّ استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن إدريس في السرائر (١) وإن لم يوفّق لعلاجها.

وأدّى اكتشاف هذه المشكلة الى بحوثٍ اصوليةٍ دقيقةٍ في طريق التوفيق

__________________

(١) السرائر ١ : ١٣٠

١١٤

بين المقرّرات الاصولية السابقة والواقع الفقهي ، وهي البحوث التي يطلق عليها اليوم اسم بحوث المقدمات المفوّتة.

٢ ـ علم الكلام : فقد لعب دوراً مهمّاً في تموين الفكر الاصولي وإمداده ، وبخاصّةٍ في العصر الأول والثاني ؛ لأنّ الدراسات الكلامية كانت منتشرةً وذات نفوذٍ كبيرٍ على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم الاصول يشقّ طريقه الى الظهور ، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه.

ومثال ذلك : نظرية الحسن والقبح العقليّين ، وهي النظرية الكلامية القائلة بأنّ العقل الإنساني يدرك بصورةٍ مستقلّةٍ عن النصّ الشرعي قبح بعض الأفعال ، كالظلم والخيانة ، وحسن بعضها ، كالعدل والوفاء والأمانة ، فإنّ هذه النظرية استخدمت اصوليّاً في العصر الثاني لحجّية الإجماع ، أي أنّ العلماء إذا اتّفقوا على رأيٍ واحدٍ فهو الصواب ، بدليل أنّه لو كان خطأً لكان من القبيح عقلاً سكوت الإمام المعصوم عنه وعدم إظهاره للحقيقة ، فقبح سكوت الإمام عن الخطأ هو الذي يضمن صواب الرأي المجمع عليه.

٣ ـ الفلسفة : وهي لم تصبح مصدراً لإلهام الفكر الاصولي في نطاقٍ واسعٍ إلّا في العصر الثالث تقريباً ، نتيجةً لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلاً عن علم الكلام ، وانتشار فلسفاتٍ كبيرةٍ ومجدّدة ، كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفّى سنة (١٠٥٠ ه‍) ، فإنّ ذلك أدّى إلى إقبال الفكر الاصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام ، وبخاصّةٍ التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي. ومن أمثلة ذلك : ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل اصوليةٍ متعدّدة ، كمسألة اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة تعلّق الأوامر بالطبائع والأفراد ، الأمر الذي لا يمكننا فعلاً توضيحه.

١١٥

٤ ـ الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكّر الاصولي : فإنّ الاصولي قد يعيش في ظرفٍ معيّنٍ فيستمدّ من طبيعة ظرفه بعض أفكاره ، ومثاله : اولئك العلماء الذين كانوا يعيشون في العصر الأول ويجدون الدليل الشرعي الواضح ميسراً لهم في جُلِّ ما يواجهونه من حاجاتٍ وقضايا ، نتيجةً لقرب عهدهم بالأئمّة عليهم‌السلام ، وقلّة ما يحتاجون إليه من مسائل نسبياً ، فقد ساعد ظرفهم ذلك وسهولة استحصال الدليل فيه على أن يتصوّروا أنّ هذه الحالة حالة مطلقة ثابتة في جميع العصور. وعلى هذا الأساس ادّعوا أنّ من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كلِّ حكمٍ شرعيٍّ دليلاً واضحاً ما دام الإنسان مكلّفاً والشريعة باقية.

٥ ـ عامل الزمن : وأعني بذلك أنّ الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلّما اتّسع وازداد تجدّدت مشاكل وكلّف علم الاصول بدراستها ، فعلم الاصول يُمنى نتيجةً لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوانٍ من المشاكل ، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها.

ومثال ذلك : أنّ الفكر العلمي ما دخل العصر الثاني حتى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ تجعل أكثر الأخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور ، ولا يتيسّر الاطّلاع المباشر على صحتها كما كان ميسوراً في كثيرٍ من الأحيان لفقهاء العصر الأول ، فبرزت أهمّية الخبر الظنّي ومشاكل حجّيته ، وفرضت هذه الأهمّية واتّساع الحاجة إلى الأخبار الظنّية على الفكر العلمي أن يتوسّع في بحث تلك المشاكل ويعوِّض عن قطعية الروايات بالفحص عن دليلٍ شرعيٍّ يدلّ على حجّيتها وإن كانت ظنّية ، وكان الشيخ الطوسي رائد العصر الثاني هو أول من توسّع في بحث حجّية الخبر الظنّي وإثباتها.

ولمّا دخل العلم في العصر الثالث أدّى اتّساع الفاصل الزمني إلى الشكّ حتّى في مدارك حجّية الخبر ودليلها الذي استند إليه الشيخ في مستهلّ العصر

١١٦

الثاني ، فإنّ الشيخ استدلّ على حجّية الخبر الظّني بعمل أصحاب الأئمّة به ، ومن الواضح أنّا كلّما ابتعدنا عن عصر أصحاب الأئمّة ومدارسهم يصبح الموقف أكثر غموضاً ، والاطّلاع على أحوالهم أكثر صعوبة.

وهكذا بدأ الاصوليون في مستهلّ العصر الثالث يتساءلون : هل يمكننا أن نظفر بدليلٍ شرعيٍّ على حجّية الخبر الظنّي ، أوْ لا؟

وعلى هذا الأساس وجد في مستهلِّ العصر الثالث اتّجاه جديد يدّعي انسداد باب العلم ؛ لأنّ الأخبار ليست قطعية ، وانسداد باب الحجّة ؛ لأنّه لا دليل شرعيّ على حجّية الأخبار الظنّية ، ويدعو إلى إقامة علم الاصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد ، كما يدعو إلى جعل الظنّ بالحكم الشرعي ـ أيّ ظنٍّ ـ أساساً للعمل ، دون فرقٍ بين الظنّ الحاصل من الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلاً شرعياً خاصّاً على حجّية الخبر يميِّزه عن سائر الظنون.

وقد أخذ بهذا الاتّجاه عدد كبير من روّاد العصر الثالث ورجالات المدرسة التي افتتحت هذا العصر ، كالاستاذ البهبهاني ، وتلميذه المحقّق القمّي ، وتلميذه صاحب الرياض ، وغيرهما ، وبقي هذا الاتّجاه قيد الدرس والبحث العلمي حتّى يومنا هذا.

وبالرغم من أنّ لهذا الاتّجاه الانسدادي بوادره في أواخر العصر الثاني فقد صرّح المحقّق الشيخ محمد باقر (١) بن صاحب الحاشية على المعالم : بأنّ الالتزام بهذا الاتّجاه لم يعرف عن أحدٍ قبل الاستاذ الوحيد البهبهاني وتلامذته ، كما أكّد أبوه المحقّق الشيخ محمد تقي في حاشيته (٢) على المعالم أنّ الأسئلة التي يطرحها

__________________

(١) لم نعثر على التصريح

(٢) هداية المسترشدين : ٣٨٥

١١٧

هذا الاتّجاه حديثة ولم تدخل الفكر العلمي قبل عصره.

وهكذا نتبيّن كيف تظهر بين فترةٍ وفترةٍ اتّجاهات جديدة ، وتتضخّم أهمّيتها العلمية بحكم المشاكل التي يفرضها عامل الزمن.

٦ ـ عنصر الإبداع الذاتي : فإنّ كلّ علمٍ حين ينمو ويشتدّ يمتلك بالتدريج قدرةً على الخلق والتوليد الذاتي نتيجةً لمواهب النوابغ في ذلك العلم والتفاعل بين أفكاره. ومثال ذلك في علم الاصول : بحوث الاصول العملية ، وبحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام الشرعية ، فإنّ أكثر هذه البحوث نتاج اصولي خالص.

ونقصد ببحوث الاصول العملية : تلك البحوث التي تدرس نوعية القواعد الاصولية والعناصر المشتركة التي يجب على الفقيه الرجوع إليها لتحديد موقفه العملي إذا لم يجد دليلاً على الحكم وظلّ الحكم الشرعي مجهولاً لديه.

ونقصد ببحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام : ما يقوم به علم الاصول من دراسة الروابط المختلفة بين الأحكام ، من قبيل مسألة أنّ النهي عن المعاملة هل يقتضي فسادها ، أوْ لا؟ إذ تدرس في هذه المسألة العلاقة بين حرمة البيع وفساده ، وهل يفقد أثره في نقل الملكية من البائع إلى المشتري إذا أصبح حراماً ، أو يظلّ صحيحاً ومؤثّراً في نقل الملكية بالرغم من حرمته؟ أي أنّ العلاقة بين الحرمة والصحة هل هي علاقة تضادٍّ أوْ لا؟

عطاء الفكر الاصولي وإبداعه :

وبودِّي أن اشير بهذا الصدد إلى حقيقةٍ يجب أن يعلمها الطالب ولو بصورةٍ مجملة ، حيث لا يمكن توضيحها والتوسّع فيها على مستوى هذه الحلقة.

وهذه الحقيقة هي : أنّ علم الاصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله

١١٨

الأصيل ، أي مجال تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، بل كان له إبداع كبير في عددٍ من أهمّ مشاكل الفكر البشري ؛ وذلك أنّ علم الاصول بلغ في العصر العلمي الثالث وفي المرحلة الأخيرة من هذا العصر بصورةٍ خاصّةٍ قمّة الدقّة والعمق ، ووعى بفهمٍ وذكاءٍ مشاكل الفلسفة وطرائقها في التفكير والاستدلال ، وبحثها متحرّراً من التقاليد الفلسفية التي تقيّد بها البحث الفلسفي منذ ثلاثة قرون ، إذ كان يسير في خطٍّ مرسوم ، ولا يجسر على التفكير في الخروج عن القواعد العامّة للتفكير الفلسفي ، ويستشعر الهيبة للفلاسفة الكبار ، وللمسلّمات الأساسية في الفلسفة بالدرجة التي تجعل هدفه الأقصى استيعاب أفكارهم والقدرة على الدفاع عنها.

وبينما كان البحث الفلسفي على هذه الصورة كان البحث الاصولي يخوض بذكاءٍ وعمقٍ في درس المشاكل الفلسفية متحرّراً من سلطان الفلاسفة التقليديّين وهيبتهم. وعلى هذا الأساس تناول علم الاصول جملةً من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتّصل بأهدافه ، وأبدع فيها إبداعاً أصيلاً لا نجده في البحث الفلسفي التقليدي ، ولهذا يمكننا القول بأنّ الفكر الذي أعطاه علم الاصول في المجالات التي درسها من الفلسفة والمنطق أكثر جدةً من الفكر الذي قدّمته فلسفة الفلاسفة المسلمين نفسهم في تلك المجالات.

وفي ما يلي نذكر بعض تلك الحقول التي أبدع فيها الفكر الاصولي (١) :

١ ـ في مجال نظرية المعرفة : وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة

__________________

(١) هذه النماذج لا يطلب تدريسها بالتفصيل ، وإنّما يكتفي المدرِّس ـ إذا رأى مجالاً ـ بالإشارة الى بعضها ، وسوف نستعرضها بصورةٍ أوضح في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى. (المؤلّف قدس‌سره)

١١٩

البشرية ومدى إمكان الاعتماد عليها ، وتبحث عن المصادر الرئيسية لها.

فقد امتدّ البحث الاصولي إلى مجال هذه النظرية ، وانعكس ذلك في الصراع الفكري الشديد بين الأخباريّين والمجتهدين ، الذي كان ولا يزال يتمخّض عن أفكارٍ جديدةٍ في هذا الحقل ، وقد عرفنا سابقاً كيف أنّ التيّار الحسّي تسرّب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر العلمي عند فقهائنا ، بينما لم يكن قد وجد في الفلسفة الاوروبية إلى ذلك الوقت.

٢ ـ في مجال فلسفة اللغة : فقد سبق الفكر الاصولي أحدثُ اتّجاهٍ عالميّ في المنطق الصوري اليوم ، وهو اتّجاه المناطقة الرياضيّين الذين يردّون الرياضيات إلى المنطق ، والمنطق إلى اللغة ، ويرون أنّ الواجب الرئيسي على الفيلسوف أن يحلِّل اللغة ويفلسفها بدلاً عن أن يحلِّل الوجود الخارجي ويفلسفه.

فإنّ المفكّرين الاصوليّين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي ، وليست بحوث المعنى الحرفي والهيئات في الاصول إلّا دليلاً على هذا السبق.

ومن الطريف أن يكتب اليوم «برتراند رسل» ـ رائد ذلك الاتّجاه الحديث في العالم المعاصر ، محاولاً التفرقة بين جملتين لغويّتين في دراسته التحليلية للّغة ، وهما : «مات قيصر» و «موت قيصر» أو «صدق موت قيصر» ، فلا ينتهي إلى نتيجة ، وإنّما يعلّق على مشكلة التمييز المنطقي بين الجملتين ـ فيقول : «لست أدري كيف اعالج هذه المشكلة علاجاً مقبولاً؟» (١).

أقول : من الطريف أن يعجز باحث في قمّة ذلك الاتّجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين ، بينما يكون علم الاصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق

__________________

(١) اصول الرياضيات ١ : ٩٦ ترجمة الدكتور محمد موسى أحمد والدكتور أحمد فؤاد الأهواني. (المؤلّف قدس‌سره)

١٢٠