نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

وقال ابن عيينة : كنت عند ابن شهاب ، فجاء ابراهيم بن سعد فرفعه وأكرمه وقال : إنّ سعدا وصّاني بابنه سعد ، وسعد سعد.

وقال ابن عدي : هو من ثقات المسلمين حدّث عنه جماعة من الأئمّة ولم يختلف أحد في الكتابة عنه ، وقول من تكلم فيه تحامل ، وله أحاديث صالحة مستقيمة عن الزهري وغيره » (١).

٣ ـ في طريقه « سعد بن إبراهيم »

وفي طريق الحديث الذي استدل به الفخر الرازي « سعد بن ابراهيم » وقد ذكر علماء الرجال ترك مالك بن أنس الرواية عن سعد ... قال الحافظ ابن حجر : « وقال الساجي : ثقة أجمع أهل العلم على صدقه والرواية عنه إلاّ مالك ، وقد روى مالك عن عبيد الله بن إدريس ، عن سعيد ، عن سعد بن إبراهيم ، فصحّ باتّفاقهم أنه حجة.

ويقال : إن سعدا وعظ مالكا فوجد عليه فلم يرو عنه.

حدثني أحمد بن محمد : سمعت أحمد بن حنبل يقول : سعد ثقة ، فقيل له : إنّ مالكا لا يحدّث عنه ، فقال : من يلتفت إلى هذا؟ سعد ثقة رجل صالح.

ثنا أحمد بن محمد ، سمعت المطيعي يقول لابن معين : كان مالك يتكلّم في سعد سيد من سادات قريش ، ويروي عن ثور وداود بن الحصين خارجيين خسيسين [ خبيثين ].

قال الساجي : ومالك إنما ترك الرواية عنه ، فإما أن يكون يتكلّم فيه فلا أحفظه ، وقد روى عنه الثقات والله [ والأئمّة و ] كان ديّنا عفيفا.

وقال أحمد بن البرقي : سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعد أنه كان يرى القدر وترك مالك الرواية عنه ، فقال : لم يكن يرى القدر ، وإنما ترك مالك

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

٣٦١

الرواية عنه ، لأنّه تكلّم في نسب مالك ، فكان مالك لا يروي عنه ، وهو ثبت لا شك فيه » (١).

٨. هذا الحديث مرويّ بالمعنى

والظاهر ـ على تقدير صحة الحديث ـ أن أبا هريرة قد نقله بالمعنى ، فأضاف إليه لفظتي « ليس » و « دون » الدالّين على الحصر ، نظير ما زعمه ابن حجر المكي في ( صواعقه ) بالنسبة إلى حديث الغدير ، والكابلي في ( صواقعه ) و ( الدهلوي ) في ( تحفته ) بالنسبة إلى حديث ابن عباس في معنى آية المودة.

ويؤكّد ما ذكرنا من عدم وجود اللفظين في أصل الحديث ، ما أخرجه مسلم بطريق آخر ، حيث قال : « حدثني زهير بن حرب ، نا يزيد ـ هو ابن هارون ـ أنا أبو مالك الأشجعي ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي أيوب ، قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع ومن كان من بني عبد الله موالي دون الناس ، والله ورسوله مولاهم » (٢).

٩. قيل : « انما » قد لا تدل على الحصر

لقد زعم غير واحد من علماء أهل السنة ومحققيهم كالتفتازاني في ( شرح المقاصد ) والقوشجي في ( شرح التجريد ) و ( الدهلوي ) في ( التحفة ) في الجواب عن الاستدلال الشيعة بآية الولاية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ... ) زعموا أنّ أداة الحصر إنما يكون نفيا لما وقع فيه تردد ونزاع ...

فنقول : وهل كان في ولاية الله ورسوله لهذه القبائل تردد ونزاع حتى يحتاج إلى أداة الحصر؟ كلا اللهم كلا ...

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٣ / ٤٤٦ ـ ٤٦٥.

(٢) صحيح مسلم ٧ / ١٧٨.

٣٦٢

وهذا أدل دليل على بطلان الحديث الذي تمسك به الفخر الرازي ، وعلى بطلان استدلاله به على فرض صحته ...

بل زعم الرازي نفسه أن أداة الحصر قد لا تدل على الحصر ، فقد قال في تفسير آية الولاية الدالة على إمامة علي ـ عليه‌السلام ـ :

« أما الوجه [ الأول ] الذي عوّلوا عليه وهو : إن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ، والولاية بمعنى النصرة عامة ، فجوابه من وجهين :

الأول : لا نسلّم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ، ولا نسلم أنّ كلمة « إنما » للحصر ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل ... » (١).

أقول : ولو تم ما ذكره الرازي حول هذه الآية ، لأمكننا القول بعدم دلالة « ليس » و « دون » المذكورين في الحديث المزعوم على الحصر ، وحينئذ يمتنع معارضة حديث الغدير المتواتر بهذا الحديث.

١٠. لا تنافي بين الحديثين

ومع التنزل عن جميع ما تقدم من وجوه الجواب عن حديث أبي هريرة نقول : كيف يعارض حديث الغدير بهذا الحديث ولا تنافي بينهما!؟

وبيان ذلك : إن الفقرة الأولى من الحديث تفيد كون هذه القبائل موالي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأيّ معنى كان من المعاني ـ وذلك لا ينافي ولاية أمير المؤمنين ، عليه الصلاة والسلام.

وأما الفقرة الثانية ـ والظاهر أنها ـ محل الاستدلال لوجود أداة الحصر فكالفقرة الأولى ، لأنّ المراد من ولاية الله ورسوله إن كان ما عدا التصرف في الأمور فلا تناقض بين حديث أبي هريرة وحديث الغدير ، إذ أنّ معنى « مولى » في

__________________

(١) التفسير الكبير ١٢ / ٣٠.

٣٦٣

حديث الغدير ليس إلاّ « الأولى بالتصرف » أو « المتصرف في الأمور » وليس هذا المعنى في حديث أبي هريرة.

وإن كان المراد : الأولوية في التصرف ، فهي محصورة في الله ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ دون غيرهما ، فالحديث يعارض حديث الغدير ، فنقول : إنه ـ بالاضافة إلى الاعتراف الضمني بكون « مولى » في حديث الغدير بمعنى « الأولى بالتصرف » وهو المطلوب ـ يستلزم بمقتضى الحصر عدم كون أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وليّا وإماما في وقت من الأوقات ، وهذا يخالف إجماع المسلمين ، بل يستلزم بطلان خلافة الخلفاء أيضا ، ولكنهم لا يرتضون بذلك.

فالحديث إذا لا ينافي حديث الغدير في مدلوله.

والحل التحقيقي لحديث أبي هريرة ـ على فرض صحته باللفظ المذكور ـ هو : احتمال أن يكون المراد نفي ولاية غير الله ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على هذه القبائل في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما حديث الغدير ، فيدل على استقرار ولاية علي ـ عليه‌السلام ـ بعد رسول الله ـ صلّى الله عليهما وآلهما ـ مباشرة ... كما سيأتي شرح ذلك فيما بعد ، إن شاء الله تعالى.

٣٦٤

(٨)

الردّ على أنه

« لم يكن علي مع النّبي »

٣٦٥
٣٦٦

وقول الفخر الرازي : « ولم يكن علي مع النبي في ذلك الوقت فانه كان باليمن ».

من أعاجيب الأكاذيب ، يترفّع عن التفوّه به أقل الطلبة فضلا عن أكابر أهل العلم ... فإنّ رجوع الامام أمير المؤمنين من اليمن وموافاته النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حجة الوداع ، مما ثبت بالأحاديث الصحيحة وتحقق في التواريخ المعتبرة والآثار المشهورة :

قال البخاري : « حدثنا الحسن بن علي الخلال الهذلي ، قال : حدثنا سليم ابن حيان قال : سمعت مروان الأصغر ، عن أنس بن مالك ، قال : قدم علي على النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من اليمن ، فقال : بم أحللت؟ قال بما حل به النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لو لا أن معي الهدي لأحللت » (١).

وقال مسلم : « وقدم علي من اليمن ببدن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت إن أبي أمرني بهذا ... » (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٧٢.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ٤٠.

٣٦٧

وقال ابن ماجة : « وقدم علي ببدن على النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا ... » (١).

وقال أبو داود : « وقدم علي من اليمن ببدن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ... » (٢).

وقال الترمذي : « عن أنس بن مالك : إنّ عليّا قدم على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من اليمن ، فقال : بما أحللت ... » (٣).

وقال النسائي : « أخبرني أحمد بن محمد بن جعفر ، قال : حدثني يحيى بن معين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كنت مع علي حين أمّره النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على اليمن فأصبت عليه [ معه ] أواقي. فلما قدم علي على النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال [ علي ] : وجدت فاطمة قد نضحت البيت ... » (٤).

هذا ، وقال ابن حجر المكي حول حديث الغدير :

« ولا التفات لمن قدح في صحته ، ولا لمن ردّه بأن عليّا كان باليمن ، لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحج مع النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ... » (٥).

وقال القاري : « وأبعد من ردّه بأن عليّا كان باليمن ، لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحج مع النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ .... » (٦).

ولا يخفى أنه لو فرضنا عدم رجوعه عليه‌السلام من اليمن عند خطبة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بغدير خم ، فانه غير قادح في صحة حديث الغدير

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ / ١٠٢٤.

(٢) سنن أبي داود ٢ / ١٥٨.

(٣) سنن الترمذي ٢ / ٢١٦.

(٤) سنن النسائي ٥ / ١٥٧.

(٥) الصواعق المحرقة ٢٥.

(٦) المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٧٤.

٣٦٨

وثبوته ... نعم إن ذلك يقدح في الأحاديث التي اشتملت على حضوره عنده ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأخذه بيده ، وقد صرح بهذا المعنى الشريف الجرجاني في ( شرح المواقف ) (١).

وجاء بعضهم وأراد التشكيك في صحة هذا الحديث بنحو آخر ، ذكره العلامة الأمير وقد أجاد في ردّه ، حيث قال :

« تنبيه ـ اعترض بعض من قصر نظره عن بلوغ مرتبة التحقيق في حديث الغدير الذي رواه زيد بن أرقم ـ رضي‌الله‌عنه ـ مشكّكا ذلك المعترض بقوله : إن في الرواية أنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خطب بالجحفة يوم ثامن عشر في شهر ذي الحجة ، وأنه لا يمكن بلوغ الجحفة لمن خرج بعد الحج من مكة في ذلك اليوم ، وجعله قادحا في الحديث.

وأقول : هذا تشكيك بلا دليل وخبط جبان خال عن عدة الأدلة ذليل. فقد ثبت أنه عليه‌السلام خرج من مكة يوم الخميس خامس عشر ذي الحجة ، راجعا إلى المدينة ، وثبت أن الجحفة على اثنين وثمانين ميلا من مكة كما صرح به مجد الدين في القاموس رحمه‌الله. وثبت أن المرحلة العربية أربعة برد كمن جدة إلى مكة ، كما أخرجه البخاري تعليقا من حديث ابن عباس وابن عمر أنّهما كانا يقصّران من مكة إلى العرفات ، وثبت تقدير الأربعة البرد بالمرحلة بما رواه الشافعي بسند صحيح : أنه قيل لابن عباس أتقصر من مكة إلى العرفات؟ قال : لا ، ولكن إلى عرفات وإلى جدة وإلى الطائف ، وكل جهة من هذه مرحلة إلى مكة. فإذا كانت المرحلة أربعة برد ، والبريد اثني عشر ميلا ، يكون المرحلة ثمانية وأربعين ميلا.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٦٠.

٣٦٩

وإذا عرفت هذا ، عرفت أن من مكة إلى الجحفة لا يكون إلاّ دون المرحلتين الكاملتين ، لأنّهما اثنان وثمانين ميلا. وإذا عرفت أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خرج من مكة يوم خامس عشر من ذي الحجة فيوم ثامن عشر رابع أيام سفره ، فعلم أنه بات ليلة ثامن عشر في الجحفة وصلى بها الظهر وخطب بعد الصلاة.

فيا للعجب ممن قصر نظره عن البحث ، كيف يقدح فيما صح باتفاق الكل بأمر يرجع إلى المحسوس المشاهد. لقد نادى على نفسه بالبلاهة وسوء الظن وعدم الدراية.

ولا يقال : إنه باعتبار هذه الأزمنة لا يمكن.

لأنا نقول : إن أريد أسفار أهل الرفاهة والمترفين والمرضى والزمناء فلا اعتبار به. وإن أريد في أسفار العرب ، ففي هذا الزمن يبلغ من مكة الى المدينة على الركاب في أربع ، وأهل المدينة يسافرون الحج في زماننا هذا يوم خامس أو رابع ذي الحجة ، ويوافون عرفات. وأمّا أهل الرفاهة فلا اعتبار بهم. وقد كان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على نهج العرب ، وقد كان بلغ في دخوله بمكة في تلك الحجة في سبعة أيام أو ثمانية على اختلاف الرواية.

وبالجملة فالتشكيك بهذا نوع من الهذيان ، فقد عرفت بما قدمنا أن الحديث متواتر والأسفار تختلف وليس محالا عادة ولا عرفا. ثم حديث الموالاة قد ثبت باتفاق الفريقين ، فلا يسمع هذا التشكيك من قائله ، والله الموفق » (١).

__________________

(١) الروضة الندية ـ شرح التحفة العلوية : ٧٨.

٣٧٠

الخاتمة

فيها كلمات في ذم الفخر الرازي

ومن المناسب ـ في خاتمة الرد على الفخر الرازي ودحض مزاعمه ـ أن نورد طرفا من كلمات بعض علماء الرجال والحديث في الفخر الرازي :

قال الذهبي : « الفخر ابن الخطيب صاحب تصنيف ، رأس في الذكاء والتعليقات ، لكنه عري من الآثار ، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا.

وله كتاب : السر المكتوم في مخاطبة النجوم ، سحر صريح ، فلعلّه تاب من تأليفه إن شاء الله » (١).

وقال ابن تيمية في الكلام على الصفات بعد كلام له :

« وأمّا الجبرية ، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهم ، ونفاة الصفات من الجبرية منهم من يتأوّل نصوصها ومنهم من يفوض معناها الى الله تعالى » (٢).

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ / ٣٤٠.

(٢) منهاج السنة. مبحث صفات الباري ١ / ١١١.

٣٧١

وهذا الكلام صريح في كون الرازي من الجبرية.

وقال الشعراني في ( ارشاد الطالبين ) : « وقد طلب الشيخ فخر الدين الرازي الطريق إلى الله ، فقال له الشيخ نجم الدين البكري : لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك ، فقال : يا سيدي ، لا بدّ إن شاء الله تعالى. فأدخله الشيخ خلوة وسلبه جميع ما معه من العلوم ، فصاح في الخلوة بأعلى صوته : لا تطيق ، فأخرجه وقال : أعجبني صدقك وعدم نفاقك ».

وقال المولوي عبد العلي في مبحث الإجماع : « واستدل ثانيا بقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم : لا تجتمع أمتي على الضلالة ، فانه يفيد عصمة الأمة عن الخطأ فانه متواتر المعنى ، فانه قد ورد بألفاظ مختلفة يفيد كلها العصمة ، وبلغت رواة تلك الألفاظ حد التواتر ...

[ واستحسنه ابن الحاجب ] فانه دليل لا خفاء فيه بوجه ولا مساق للارتياب فيه.

[ واستبعد الامام الرازي ] صاحب المحصول ، كما هو دأبه من التشكيكات في الأمور الظاهريّة [ التواتر المعنوي على حجيته ] ...

وهذا الاستبعاد في بعد بعيد كبرت كلمة خرجت من فيه ... » (١).

وقال الحافظ ابن حجر بترجمته بعد كلام الذهبي المتقدم ما ملخصه :

« وقد عاب التاج السبكي على المصنف ، ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب ، وقال : إنه ليس من الرواة ، وقد تبرأ المصنف من الهوى والعصبية في هذا الكتاب.

والفخر كان من أئمة الأصول وكتبه في الأصلين شهيرة ، وله ما يقبل وما يرد ، وقد ترجم له جماعة من الكبار بما ملخصه :

انّ مولده سنة ٥٣٣ واشتغل على والده ، وكان من تلامذة البغوي. ثمّ

__________________

(١) فواتح الرحموت ٢ / ٢١٥.

٣٧٢

اشتغل على الكمال السمناني وتمهّر في عدة علوم ، وأقبل على التصنيف. فصنّف التّفسير الكبير ، والمحصول في أصول الفقه ، والمعالم ، والمطالب العالية ، والأربعين ، والخمسين ، والملخّص ، والمباحث المشرقية ، وطريقه في الخلاف ، ومناقب الشافعي.

قال ابن الربيب : وكان مع تبحره في الأصول يقول : من التزم دين العجائز فهو فائز ، وكان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها ، قال بعض المغاربة : يورد الشبهة نقدا ويحلها نسيئة.

وقد ذكره ابن دحية فمدح وذم.

وذكره ابن شامة فحكى عنه أشياء ردية.

وكانت وفاته بهراة سنة ٦٥٦.

ورأيت في الإكسير في علم التفسير للنجم الطوخي ما ملخّصه : ما رأيت في التفاسير أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي ومن تفسير الامام فخر الدين إلاّ أنّه كثير العيوب. فحدّثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمساجي المغربي أنّه صنّف كتاب المآخذ في مجلدين ، بيّن فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج ، وكان ينقم عليه كثيرا.

قال الطوخي : ولعمري هذا دأبه في الكتب الكلامية حتى اتّهمه بعض الناس.

وذكر ابن خليل السكوني في كتاب الرد على الكشاف : ان ابن الخطيب قال في كتبه في الأصول إنّ مذهب الجبر هو المذهب الصحيح ، وقال بصحة بقاء الأعراض وبنفي صفات الله الحقيقيّة ، وزعم أنها مجرّد نسب وإضافات كقول الفلاسفة ، وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع.

ونقل عن تلميذه التاج الأرموي : إنه نظر كلامه فهجره إلى مصر وهمّوا به فاستتر ، ونقلوا عنه أنه قال : عندي كذا وكذا مائة شبهة على القول بحدوث العالم.

٣٧٣

ثم أسند عن ابن الطباخ : إن الفخر كان شيعيا يقدم محبة أهل البيت كمحبة الشيعة ، حتى قال في بعض تصانيفه : وكان علي شجاعا بخلاف غيره ، وعاب عليه تسميته لتفسيره مفاتيح الغيب.

وقد مات الفخر يوم الاثنين سنة ست وخمسين وستمائة بمدينة هراة ، واسمه محمد بن عمر بن الحسين ، وأوصى بوصية تدل على حسن اعتقاده » (١).

__________________

(١) لسان الميزان ٤ / ٤٢٦.

٣٧٤

وقفة مع من أنكر

تواتر حديث الغدير

٣٧٥
٣٧٦

وأمّا دعوى عدم تواتر حديث الغدير فمن العجائب المضحكة ، خصوصا دعوى عدم تواتره لدى الشيعة « كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبا » وكيف يتفوّه بهذه الهفوة الباطلة عاقل بالنسبة إلى حديث رواه أكثر من مائة صحابي ، وجمع طرقه جمع من كبار الحفاظ في مصنفات عديدة!؟ قد علمت أنه ليس متواترا عند الشيعة فحسب ، بل صرح بتواتره كبار حفّاظ أهل السنة ، كالحافظ الذهبي الذي تمسك ابن حجر المكي بتصحيحه طرق حديث الغدير حيث قال : « فقد ورد ذلك من طرق صحيح الذهبي كثيرا منها » (١). فمن العجيب تمسكه بتصحيح الذهبي بعض طرق الحديث وإعراضه عن تصريحه وتنصيصه على تواتره.

ومن الطريف دعوى ابن حجر تواتر حديث صلاة أبي بكر لرواية ثمانية من الصحابة إيّاه ـ مع العلم ببطلانه لدى الشيعة ـ وهو ينكر تواتر حديث الغدير المروي عن أكثر من مائة نفس من الصحابة ، ولا أقل من الثلاثين ، العدد الذي اعترف ابن حجر نفسه به ، وهل هذا إلاّ تناقض قبيح وتحكّم لا يعتضد بشيء من

__________________

(١) الصواعق المحرقة / ٢٥.

٣٧٧

الترجيح؟

نور الدين الحلبي

وقد نسج نور الدين الحلبي على منوال ابن حجر الهيتمي ـ المكي ، فقال في جواب حديث الغدير : « وقد ردّ عليهم في ذلك بما بسطته في كتابي المسمّى بالقول المطاع في الرد على أهل الابتداع ، لخصّت فيه الصواعق للعلامة ابن حجر الهيتمي ، وذكرت أن الرد عليهم في ذلك من وجوه :

أحدها : إن هؤلاء الشيعة والرافضة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الامامة من الأحاديث ، وهذا الحديث مع كونه آحادا طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كأبي داود وأبي حاتم الرازي كما تقدم ، فهذا منهم مناقضة » (١).

وهذا الكلام مردود من وجوه :

أحدها : إنّ نفي تواتر حديث الغدير مصادمة مع الواقع وإنكار للحقيقة الراهنة ، وقد صرح بتواتره كبار أئمة أهل السنة كما سبق.

الثاني : إنه يكفي ثبوت تواتره لدى الشيعة.

الثالث : إنّه يكفي في الإلزام في باب الامامة الاستدلال بالحديث الوارد من طرق أهل السنّة ولو آحادا ، ولا ضرورة لأن يكون متواترا حتى يجوز الاحتجاج به وإلزامهم به.

الرابع : إن ذكر طعن بعض أئمة الحديث في صحة حديث الغدير ، هو في الحقيقة إثبات للطعن في هؤلاء الأئمّة المتعصبين.

الخامس : نسبة الطعن في صحته إلى أبي داود ، كذب صريح وبهتان مبين كما دريت سابقا.

__________________

(١) انسان العيون ٣ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣٧٨

علي القاري

ولقد ناقض الشيخ نور الدين علي بن سلطان الهروي القاري نفسه وجاء بكلمات متهافتة حول حديث الغدير ، فقال مرّة :

« ثمّ هذا الحديث مع كونه آحادا مختلف في صحته ، فكيف ساغ للشيعة أن يخالفوا ما اتفقوا عليه اشتراط التواتر في أحاديث الامامة ، ما هذا إلاّ تناقض صريح وتعارض قبيح؟! » (١).

فهو هنا يزعم كونه آحادا وأنه مختلف في صحّته لدى العلماء ، والحال أنه قد ذكر قبل هذا الكلام بقليل : « والحاصل أن هذا حديث لا مرية فيه ، بل بعض الحفّاظ عدّه متواترا ، إذ في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ثلاثون صحابيا وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته » (٢).

فهل من الإنصاف دعوى كونه آحادا مختلفا في صحته مع الاعتراف بأنه صحيح لا مرية فيه ، بل بعض الحفاظ عدّه متواترا ...؟

وقال في موضع آخر : « رواه أحمد في مسنده ، وأقلّ مرتبته أن يكون حسنا ، فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث » (٣).

فأيّ تحقيق هذا؟ وأيّ إنصاف هذا؟ وأيّ ضبط هذا؟ أن يتلون الرجل في كتاب واحد حول حديث واحد ، ما هذا إلاّ تناقض صريح وتعارض قبيح!! ولو فرض عدم تواتر هذا الحديث عند أهل السنة ، لصحّ استدلال الشيعة به بلا ريب لوجهين :

الأول : لكونه متواترا لدى الشيعة ، واعتضاده بروايات المخالفين يفيد القطع واليقين.

__________________

(١) المرقاة ٥ / ٥٧٤.

(٢) نفس المصدر ٥ / ٥٦٨.

(٣) نفس المصدر ٥ / ٥٧٤.

٣٧٩

والثاني : لجواز الاستدلال بالآحاد عند أهل السنة ، فالالزام بحديث الغدير والاحتجاج به صحيح على كل تقدير.

الميرزا مخدوم بن عبد الباقي

وقال الميرزا مخدوم بن عبد الباقي : « وما أدري ما الذي يورث في طبائعهم المنحرفة الجزم بدلالة ما نقل عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في غير الكتب الصحاح أنه قال بغدير خمّ : من كنت مولاه ، على إمامة المرتضى » (١).

ولقد كذب في مقالته هذه الكذب الصريح ، فإن الحديث مخرج في الكتب الصحاح كما نص عليه ابن روزبهان كما سيجيء.

ويوضّح ذلك مراجعة صحيح الترمذي وصحيح ابن ماجة والمستدرك على الصحيحين وصحيح ابن حبان والمختارة للضياء المقدسي وما ماثلها.

وفوق ذلك كلّه : تصريح هذا الرجل بتواتر حديث الغدير في مقام آخر من كتابه بعد هذا الكلام ... وقد ذكرنا نص عبارته سابقا فراجع.

إسحاق الهروي

وقال إسحاق الهروي سبط صاحب النواقض لمذكور في ( سهامه ) في جواب حديث الغدير : « قلنا : أولا لا نسلّم تواتر الخبر ، وكيف ولم يذكره الثقات من المحدّثين كالبخاري ومسلم والواقدي ، وقد قدح في صحة الحديث كثير من أئمّة الحديث كأبي داود والواقدي وابن خزيمة وغيرهم من الثقات ، ومن رواه لم يرو أوّل الحديث أي قوله : ألست أولى بكم من أنفسكم ، وهو القرينة على كون المولى بمعنى أولى ».

وهذا الكلام عجيب للغاية ، فإنه يقتضي أن لا يكون هذا الجمّ الغفير من

__________________

(١) نواقض الروافض ـ مخطوط.

٣٨٠