نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

والجواب عن تشبّث الرّازي بترك الجاحظ رواية حديث الغدير من وجوه :

١. الجاحظ من النواصب

إن الجاحظ يعدّ من كبار النواصب لأمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ومن أنصار المروانية أعداء الامام ، حتى أنه ألّف لهم كتابا في تأييد مذهبهم شحنه كذبا وافتراء على علي ـ عليه‌السلام ـ ، وملأه تنقيصا وتشكيكا في فضائله ومناقبه وخصائصه ، ومواقفه التي لم يشركه فيها أحد من المسلمين ، في الدفاع عن الإسلام ونبي الإسلام محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

قال ( الدهلوي ) : « الجاحظ معتزلي وناصبي معا ، وله كتاب ذكر فيه نقائص أمير المؤمنين ، وأكثر رواياته هي عن إبراهيم النظام » (١).

ثم إن ( الدهلوي ) صرح في باب الامامة من كتابه بأن الطعن في أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ كفر.

هذا ، وقد نص على تأليف الجاحظ الكتاب المشار اليه ابن تيمية الحراني حيث قال بعد كلام له حول مراتب الصحابة :

__________________

(١) حاشية التحفة الاثنا عشرية ـ مبحث الدلائل العقلية على إمامة أمير المؤمنين.

٢٦١

« فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة ، كما دلّ عليه الكتاب والسنة ، وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح ، ممن أسلم بعد الحديبية ، وعلم تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية ، وعلم أن البدريين أفضل من غير البدريين ، وأن عليا أفضل من جماهير هؤلاء ، لم يقدّم عليه أحدا غير الثلاثة ، فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته بمعاوية أو تقديم معاوية عليه؟

نعم ، مع معاوية طائفة كثيرة من المروانية وغيرهم ، كالذين قاتلوا معه وأتباعهم ، يقولون إنه كان في قتاله على الحق مجتهدا مصيبا ، وإنّ عليّا ومن معه كانوا ظالمين أو مجتهدين مخطئين ، وقد صنّف لهم في ذلك مصنفات مثل كتاب المروانية الذي صنفه الجاحظ » (١).

وقال ابن تيمية في موضع آخر من كتابه :

« والمروانية الذين قاتلوا عليا وإن كانوا لا يكفّرونه ، فحجتهم أقوى من حجّة هؤلاء الرافضة ، وقد صنف الجاحظ كتابا للمروانية ذكر فيه من الحجج التي لهم ما لا يمكن للزيدية نقضه ، دع الرافضة » (٢).

فهذا هو حال الجاحظ الذي يتمسك الرازي بتركه رواية حديث الغدير.

٢. أضاليل الجاحظ وردود المفيد عليه

واعلم أن الجاحظ قد أورد في كتابه المذكور عن إبراهيم النظام مطاعن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ والعياذ بالله ـ. وقد أجاب عن تلك المزاعم شيخ الامامية الشيخ المفيد ـ رحمة الله عليه ـ في كتابه ( العيون والمحاسن ) الذي اختصره تلميذه الشّريف المرتضى علم الهدى ـ رحمه‌الله ـ في كتاب أسماه بـ ( الفصول المختارة من

__________________

(١) منهاج السنة ٢ / ٢٠٧.

(٢) المصدر نفسه ٤ / ٧٠.

٢٦٢

العيون والمحاسن ) ، وقد اعتمد ( الدهلوي ) على تلك الأجوبة فأوردها في ( التحفة ) في الجواب عن الدليل السادس من الأدلة العقلية على إمامة أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ نقلا عن النواصب.

ترجمة الشيخ المفيد

والشيخ المفيد من كبار أئمّة الإمامية ، وقد ترجم له علماء أهل السنة :

١ ـ الحافظ الذهبي : « والشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان البغدادي الكرخي ، ويعرف أيضا بابن المعلّم ، عالم الشيعة وإمام الرّافضة وصاحب التصانيف الكثيرة.

قال ابن أبي طي في تاريخ الامامية : هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام والفقه والجدل ، يناظر أهل كلّ عقيدة ، مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية ، قال : وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس.

وقال غيره : كان عضد الدّولة ربما زار الشيخ المفيد ، وكان شيخا ربعة نحيفا أسمر ، عاش ستا وسبعين سنة ، وله أكثر من مائتي مصنف ، كانت جنازته مشهودة ، وشيّعه ثمانون ألفا من الرافضة والشيعة ، وأراح الله منه ، وكان موته في رمضان » (١).

٢ ـ اليافعي : « وفيها توفي عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة ، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضا ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن أبي طي ... » (٢).

__________________

(١) العبر ـ حوادث سنة ٤١٣.

(٢) مرآة الجنان ـ حوادث سنة ٤١٣.

٢٦٣

٣ ـ الحافظ ابن حجر : « محمد بن محمد بن النعمان ، الشيخ المفيد ، عالم الرافضة أبو عبد الله ابن المعلم صاحب التصانيف البدعية وهي مائتا تصنيف ، طعن فيها على السلف ، له صولة عظيمة بسبب عضد الدولة ، شيّعه ثمانون ألف رافضي مات سنة ٤١٣.

قال الخطيب : صنّف كتبا كثيرة في ضلالهم والذب عن اعتقادهم والطعن على الصحابة والتابعين وأئمّة المجتهدين ، وهلك بها خلق ، إلى أن أراح الله منه في شهر رمضان.

قلت : وكان كثير التقشف والتخشع والإكباب على العلم ، تخرّج به جماعة وبرع في أفعاله الامامية حتى كان يقال : له على كل إمامي منة ، وكان أبوه مقيما بواسط وولد المفيد بها وقيل : بعكبرا. ويقال : إن عضد الدولة كان يزوره في داره ويعوده إذا مرض.

وقال الشريف أبو يعلى الجعفري ـ وكان تزوج بنت المفيد ـ : ما كان المفيد ينام من الليل إلاّ هجعة ، ثمّ يقوم يصلي أو يطالع أو يدرّس أو يتلو القرآن » (١).

ردود الاسكافي على الجاحظ

كما أورد ابن أبي الحديد المعتزلي في ( شرح نهج البلاغة ) طرفا من تشكيكات الجاحظ في فضائل الامام ـ عليه‌السلام ـ ومناقبه وخصائصه التي انفرد بها من بين الصحابة ، ككونه أول من أسلم ، ومبيته على فراش النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وشجاعته ومواقفه في الغزوات ، وغير ذلك ، ونقل ردود شيخه أبي جعفر الاسكافي المعتزلي على أضاليله وأباطيله في كتابه ( نقض العثمانية ) فمن أراد الوقوف عليها فليراجع.

__________________

(١) لسان الميزان ٥ / ٣٦٨.

٢٦٤

ترجمة أبي جعفر الاسكافي

وقد ترجم لأبي جعفر الاسكافي ـ صاحب الرد على الجاحظ ـ :

١ ـ السمعاني : « أبو جعفر محمد بن عبد الله الاسكافي ، أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين ، له تصانيف معروفة ، وكان الحسين بن علي الكرابيسي يتكلّم معه ويناظره. وبلغني أنه مات في سنة أربعين ومائتين » (١).

٢ ـ ياقوت الحموي : « محمد بن عبد الله أبو جعفر الاسكافي ، عداده في أهل بغداد ، أحد المتكلّمين من المعتزلة ، له تصانيف ، وكان يناظر الحسين بن علي الكرابيسي ويتكلّم معه. مات في سنة أربع ومائتين » (٢).

٣ ـ قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي * وهو صاحب كتاب ( المغني ) ترجم له الأسنوي في طبقاته ، فقال : القاضي أبو الحسن عبد الجبار الأسترآبادي ، إمام المعتزلة ، كان مقلّدا للشافعي في الفروع ، وعلى رأس المعتزلة في الأصول ، وله في ذلك التصانيف المشهورة ، تولى قضاء القضاة بالري ، ورد بغداد حاجّا وحدّث بها عن جماعة كثيرين ، توفي في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة ، ذكره ابن الصلاح * إذ قال ابن أبي الحديد ما نصه :

« أبو جعفر الاسكافي ، فهو شيخنا محمد بن عبد الله الاسكافي ، عدّه قاضي القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة ، مع عباد بن سليمان الصيمري ومع زرقان ومع عيسى بن الهيثم الصوفي ، وجعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن ، ثم أبا عثمان الجاحظ ، ثمّ أبا موسى عيسى بن صبيح المرداد ، ثم أبا عمران يونس بن عمران ، ثم محمد بن شبيب ، ثم محمد بن إسماعيل العسكري ، ثم عبد الكريم بن روح العسكري ، ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحّام ، ثم

__________________

(١) الأنساب ـ الاسكافي.

(٢) معجم البلدان ١ / ١٨١.

٢٦٥

أبا الحسين الصالح ، ثم صالح قبة ، ثم الجعفران جعفر بن جرير وجعفر بن ميسر ، ثم أبا عمران بن النقاش ، ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي ، ثم عباد ابن سليمان ثم أبا جعفر الاسكافي هذا.

وقال : كان أبو جعفر فاضلا عالما ، وصنّف سبعين كتابا في علم الكلام وهو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته ، ودخل الجاحظ سوق الورّاقين ببغداد ، فقال : من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرّض لنقض كتابي ـ وأبو جعفر جالس ـ؟ فاختفى منه حتى لم يره ، وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد يبالغ في ذلك ، وكان علويّ الرأي ، محققا منصفا ، قليل العصبية ».

٣. قال الخطابي : الجاحظ ملحد

ولهذه الأمور وغيرها صرّح الحافظ الخطابي بأن الجاحظ رجل ملحد ... وهل يستند الى ترك رواية هذا الرجل حديث الغدير للطعن فيه؟

إنّه لا قيمة لكلام هكذا شخص ولا وزن له في معرفة الأحاديث النبوية الشريفة مطلقا ...

أما كلام الخطابي فقد أورده الشيخ محمد طاهر الكجراتي * المتوفى سنة ٩٨٦ ، ترجمه الشيخ العيدروس في ( النور السافر عن أخبار القرن العاشر ) في حوادث السنة المذكورة بقوله : « استشهد الرّجل الصّالح العلامة جمال الدين محمد طاهر الملقب بملك المحدثين الهندي ـ رحمه‌الله آمين ـ على يدي المبتدعة من فرقتي الرافضة السّبابة والمهدوية القتّالة ... وهو الذي أشار إليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالمزية في الرؤيا التي رآها الشيخ علي المتقي السابقة ، وناهيك بها من منقبة علية ، وكان على قدم من الصلاح والورع والتبحّر في العلم ، كانت ولادته سنة ٩١٣ ، وحفظ القرآن وهو لم يبلغ الحنث ، وجدّ في العلم ومكث كذلك نحو خمسة عشر سنة ، وبرع في فنون عديدة وفاق الأقران ، حتى لم يعلم أن أحدا من

٢٦٦

علماء كجرات بلغ مبلغه في فن الحديث. كذا قال بعض مشايخنا. وله تصانيف نافعة ... » * في كتابه ( تذكرة الموضوعات ) حيث قال :

« في المقاصد : « اختلاف أمتي رحمة » للبيهقي ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، رفعه في حديث طويل بلفظ : واختلاف أصحابي لكم رحمة ، وكذا الطبراني والديلمي

. والضحاك عن ابن عباس منقطع ، وقال العراقي : مرسل ضعيف ، وقال شيخنا : إن هذا الحديث مشهور على الألسنة وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في القياس ، وكثر السؤال عنه ، فزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له. لكن ذكره الخطابي وقال : اعترض على هذا الحديث رجلان ، أحدهما ما جن والآخر ملحد ، وهما : إسحاق الموصلي والجاحظ ، وقالا : لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا ، ثم رد الخطابي عليهما » (١).

وقد نقله الشيخ نصر الله الكابلي أيضا ، حيث قال في ( صواعقه ) :

« الثامن ـ ما رواه البيهقي في المدخل ، عن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنه ـ انه قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : إختلاف أمتى رحمة.

قال شيخ الإسلام شهاب الدين ابن حجر العسقلاني : هو حديث مشهور على الألسنة. وقال الخطابي في غريب الحديث : اعترض على هذا الحديث رجلان أحدهما ما جن والآخر ملحد وهما : إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعا : لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا ».

وفي شرح حديث القرطاس من شرح مسلم للنووي عن الخطابي في الجاحظ إنه « مغموص عليه في دينه ».

ترجمة الخطابي

وقد ذكر الخطابي مترجموه بكل إطراء وثناء ، فقد ترجم له :

__________________

(١) تذكرة الموضوعات / ٩٠ ـ ٩١.

٢٦٧

١ ـ السمعاني : « أبو سليمان أحمد (١) بن محمد بن ابراهيم بن الخطاب البستي الخطابي ، إمام فاضل ، كبير الشأن ، جليل القدر ، صاحب التصانيف الحسنة مثل : أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري ، ومعالم السنن في شرح الأحاديث التي في السنن ، وكتاب غريب الحديث ، والعزلة ، وغيرها. سمع أبا سعيد ابن الأعرابي بمكة ، وأبا بكر محمد بن بكر بن داسة التمّار بالبصرة وإسماعيل ابن محمد الصفار ببغداد ، وغيرهم. وروى عنه الحاكم أبو عبد الله الحافظ ، وأبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي ، وجماعة كثيرة.

وذكره الحاكم أبو عبد الله في التاريخ فقال : الفقيه الأديب البستي أبو سليمان الخطابي ، أقام عندنا بنيسابور سنين ، وحدّث بها وكثرت الفوائد من علومه ، وتوفي في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ببست » (٢).

٢ ـ ابن خلكان : « كان فقيها ، أديبا محدثا ، له التصانيف البديعة ... وكان يشبّه في عصره بأبي عبيد القاسم علما وأدبا وزهدا وورعا وتدريسا وتأليفا ... » (٣).

٣ ـ الذهبي ، ووصفه بـ « الفقيه الأديب » وقال : « كان علامة محققا » (٤).

٤ ـ اليافعي ، ووصفه بـ « الامام الكبير والحبر الشهير » قال : « كان فقيها أديبا ، محدثا ... » (٥).

٥ ـ الصفدي ، وذكر عن السمعاني قوله : « كان الخطابي حجة صدوقا » وعن الثعالبي : « كان يشبّه في زماننا بأبي عبيد القاسم بن سلام » (٦).

__________________

(١) في بعض المصادر اسمه : حمد.

(٢) الأنساب ـ الخطابي.

(٣) وفيات الأعيان ١ / ٤٥٣.

(٤) العبر ـ حوادث سنة ٣٨٨.

(٥) مرآة الجنان ـ حوادث سنة ٣٨٨.

(٦) الوافي بالوفيات ٧ / ٣١٧.

٢٦٨

٦ ـ الأسنوي : « كان فقيها ، رأسا في علم العربية والأدب وغير ذلك » (١).

٧ ـ ابن قاضي شهبة الأسدي ، وأضاف : « ومحلّه من العلم مطلقا ومن اللّغة خصوصا ، الغاية العليا » (٢).

٨ ـ السيوطي : « الخطابي الامام العلامة المفيد المحدث الرحّال ... وكان ثقة ثبتا [ متثبتا ] من أوعية العلم » (٣).

٩ ـ محمد بن محمد السنهوري الشافعي ، وصفه بـ « العلامة الحافظ » (٤).

١٠ ـ عبد الحق الدهلوي : « المشار إليه في عصره والعلامة فريد دهره في الفقه والحديث والأدب ومعرفة الغريب ، له التصانيف المشهورة والتأليفات العجيبة » (٥).

١١ ـ ( الدهلوي ) ، ذكر النووي البغوي والخطابي وقال : « إنّهم من علماء الشافعية وهم معتمدون جدّا ، وكلامهم متين مضبوط » (٦).

١٢ ـ الفخر الرازي ، حيث مدحه وأطراه بقوله : « والمتأخرون من المحدثين فأكثرهم علما وأقواهم قوة وأشدّهم تحقيقا في علم الحديث هؤلاء وهم :

أبو الحسن الدارقطني ، والحاكم أبو عبد الله الحافظ ، والشيخ أبو نعيم الاصفهاني ، والحافظ أبو بكر البيهقي ، والامام أبو بكر عبد الله بن محمد بن زكريا الجوزقي صاحب كتاب المتفق ، والامام الخطيب صاحب تاريخ بغداد. والامام أبو سليمان الخطابي الذي كان بحرا في علم الحديث واللغة ، وقيل في وصفه : جعل الحديث لأبي سليمان كما جعل الحديد لأبي سليمان ، يعنون داود النبي

__________________

(١) طبقات الشافعية ١ / ٤٦٧.

(٢) طبقات الشافعية ١ / ١٥٩.

(٣) طبقات الحفاظ : ٤٠٣.

(٤) التعليق على فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي ـ مخطوط.

(٥) رجال المشكاة لعبد الحق الدهلوي : ٣٨٤.

(٦) أصول الحديث : ٢٣.

٢٦٩

صلّى الله عليه وسلّم ـ حيث قال تعالى فيه : وألنّا له الحديد.

فهؤلاء العلماء صدور هذا العلم بعد الشيخين ، وهم بأسرهم متفقون على تعظيم الشافعي » (١).

هذا ، وقد اعتمد عليه نصر الله الكابلي في ( صواقعه ) في الجواب عن منع عمر المغالاة في المهر ، واصفا إيّاه بـ « الحافظ ». وكذا ( الدهلوي ) في ( التحفة ) في الجواب عن القضية المذكورة ، وحيدر علي الفيض آبادي في كتابه ( منتهى الكلام ) (٢).

٤. آراء العلماء في الجاحظ

ومن المناسب أن نورد هنا طرفا من كلمات أئمّة الجرح والتعديل في الجاحظ ، الصريحة في سقوط الرجل عن درجة الاعتبار ، وفي عدم وثوقهم به :

١ ـ الحافظ الذهبي : « عمرو بن بحر الجاحظ المتكلم صاحب الكتب. قال ثعلب : ليس ثقة ولا مأمونا » (٣).

٢ ـ الذهبي أيضا : « عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف ، روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل. قال ثعلب : ليس ثقة ولا مأمونا. قلت : وكان من أئمّة البدع » (٤).

٣ ـ الذهبي أيضا : « الجاحظ العلاّمة المتبحر ، ذو الفنون ، ابو عثمان عمرو ابن بحر بن محبوب البصري المعتزلي ، صاحب التصانيف ، أخذ عن النظام وروى

__________________

(١) فضائل الشافعي للفخر الرازي : ٦٥.

(٢) وله ترجمة أيضا في يتيمة الدهر ٤ / ٣٣٤ ، إنباه الرواة ١ / ١٢٥ ، معجم الأدباء ٤ / ٢٤٦ ، شذرات الذهب ٣ / ١٢٧ تذكرة الحفاظ ١٠١٨ المنتظم حوادث ٣٨٨ ، تاريخ ابن كثير والنجوم الزاهرة في حوادث السنة المذكورة.

(٣) المغني في الضعفاء ٢ / ٤٧١.

(٤) ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٣ / ٢٤٧.

٢٧٠

عن أبي يوسف القاضي وثمامة بن أشرس. روى عنه أبو العيناء ، ويموت بن المزرع ابن أخته. وكان أحد الأذكياء.

قال ثعلب : ما هو بثقة ، وقال : قال يموت : كان جدّه جمالا أسود. وعن الجاحظ : نسيت نسبي ثلاثة أيام حتى عرفني أهلي.

قلت : كان ماجنا قليل الدين ، له نوادر ...

قلت : يظهر من شمائل الجاحظ أنه يختلق.

قال اسماعيل بن الصفار : أنا أبو العيناء ، قال : أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك ، فأدخلناه على الشيوخ ببغداد ، فقبلوه إلاّ ابن شيبة العلوي ، فإنّه قال : لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله.

أخبرنا أحمد بن سلامة كتابة ، عن أحمد بن طارق ، أنبأنا السلفي ، أنبأ المبارك بن الطيوري ، أنبأ محمد بن علي الصوري إملاء ، أنبأ خلف بن محمد الحافظ بصور ، أنبأ أبو سليمان بن زبر ، ثنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : أتيت الجاحظ فاستأذنت عليه فاطلع عليّ من كوّة في داره ، فقال : من أنت؟ فقلت رجل من أصحاب الحديث ، فقال : أو ما علمت أني لا أقول بالحشوية! فقلت إني ابن أبي داود. فقال : مرحبا بك وأبيك ، أدخل. فلما دخلت قال لي : ما تريد؟ فقلت تحدثني بحديث واحد. فقال : أكتب : أنبأ حجاج بن المنهال أنبأ حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس أن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ صلى على طنفسة. فقلت : زدني حديثا آخر ، فقال : ما ينبغي لابن أبي داود أن يكذب.

قلت : كفانا الجاحظ المئونة ، فما روى في الحديث إلاّ النزر اليسير ، ولا هو بمتّهم في الحديث ، بلى في النفس من حكاياته ولهجته ، فربما جازف ، وتلطخه بغير بدعة أمر واضح ، ولكنه أخباري علامة صاحب فنون وأدب باهر ، وذكاء بين. عفا الله تعالى عنه » (١).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ / ٥٢٦.

٢٧١

٤ ـ وقال ابن حجر العسقلاني بترجمته ما ملخصه :

« عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف ، روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل : قال ثعلب : ليس بثقة ولا مأمون. قلت : وكان من أئمّة البدع.

قلت : وروى الجاحظ عن حجاج الأعور وأبي يوسف القاضي وخلق كثير وروايته عنهم في أثناء كتابه في الحيوان.

وحكى ابن خزيمة أنه دخل عليه هو وإبراهيم بن محمود. وذكر قصة.

وحكى الخطيب بسند له : أنه كان لا يصلّي.

وقال الصولي : مات سنة خمسين ومائتين.

وقال إسماعيل بن محمد الصفار : سمعت أبا العيناء ، يقول : أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك.

وقال الخطابي : هو مغموص في دينه.

وذكر أبو الفرج الاصبهاني أنه كان يرمى بالزندقة ، وأنشد في ذلك أشعارا.

وقد وقفت على رواية ابن أبي داود عنه ، ذكرتها في غير الموضع ، وهو في الطيوريات.

قال ابن قتيبة في اختلاف الحديث : ثم نصير إلى الجاحظ وهو أحسنهم للحجة استنارة ، وأشدّهم تلطّفا ، لتعظيم الصغير حتى يعظم وتصغير العظيم حتى يصغر ، ويكمل الشيء وينقصه ، فتجده مرة يحتج للعثمانية على الرافضة ، ومرة للزندقة على أهل السنة ، ومرة يفضّل عليا ومرة يؤخّره ، ويقول : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كذا ، ويتبعه أقوال المجان ، ويذكر في الفواحش ما يجل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يذكر في كتاب ذكر أحد منهم فيه ، فكيف في ورقة أو بعد سطر أو سطرين؟ ويعمل كتابا يذكر حجج النصارى على المسلمين ، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز الحجة ، فكأنّه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة ، ويستهزئ بالحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم ، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوّده المشركون ، قال : وقد كان يجب

٢٧٢

أن يبيّضه المسلمون حين استلموه ، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب ، وهو مع هذا أكذب الأمة ، وأوضعهم للحديث ، وأنصرهم للباطل.

وقال النديم : قال المبرد : ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة : الجاحظ وإسماعيل القاضي والفتح بن خاقان.

وقال النديم ـ لما حكى قول الجاحظ لما قرأ المأمون كتبي ، قال هي كتب لا يحتاج إلى تحضير صاحبها ـ : إن الجاحظ حسّن هذا اللفظ تعظيما لنفسه وتفخيما لتآليفه. وإلاّ فالمأمون لا يقول ذلك.

وقال ابن حزم في الملل والنحل : كان أحد المجّان الضلاّل ، غلب عليه قول الهزل ، ومع ذلك فإنّا ما رأينا في كتبه تعمّد كذبة يوردها مثبتا لها ، وإن كان كثير الإيراد لكذب غيره.

وقال أبو منصور الأزهري في مقدّمة تهذيب اللّغة : وممّن تكلّم في اللغات بما حصده لسانه وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم الجاحظ. وكان أوتي بسطة في القول ، وبيانا عذبا في الخطب ومجالا في الفنون ، غير أنّ أهل العلم ذمّوه ، وعن الصدوق دفعوه.

وقال ثعلب : كان كذّابا على الله وعلى رسوله وعلى الناس » (١).

ترجمة أبي منصور الأزهري

والأزهري ـ الذي قال عن الجاحظ ما نقله الحافظ ابن حجر ـ هو : محمد ابن أحمد اللغوي من كبار علماء أهل السنة وأئمّتهم :

ترجم له ابن خلكان وقال : « الامام المشهور في اللغة ، كان فقيها شافعي المذهب ، غلبت عليه اللّغة فاشتهر بها ، وكان متفقا على فضله وثقته ودرايته وورعه ... » (٢).

__________________

(١) لسان الميزان ٤ / ٣٥٥.

(٢) وفيات الأعيان ٣ / ٤٥٨.

٢٧٣

وقال السبكي : « وكان إماما في اللغة ، بصيرا بالفقه ، عارفا بالمذهب ، عالي الاسناد ، كثير الورع ، كثير العبادة والمراقبة ، شديد الإنتصار لألفاظ الشافعي متحرّيا في دينه ... » (١).

وقال اليافعي : « وفيها الامام العلاّمة اللغوي الشافعي ... » (٢).

وذكره الذهبي في حوادث السنة المذكورة (٣).

وقال السيوطي : « وكان عارفا عالما بالحديث ، عالي الاسناد ، كثير الورع ... » (٤).

ترجمة ثعلب

واما ثعلب ـ الذي قال عن الجاحظ : « ليس ثقة ولا مأمونا » وقال : « كان كذابا على الله وعلى رسوله وعلى الناس » ـ فهو أيضا من كبار المحدّثين ، ومن أساطين الفقه والأدب واللغة ...

قال السيوطي : « ثعلب الامام المحدث ، شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني مولاهم البغدادي ، المقدّم في نحو الكوفيين. ولد سنة ٢٠٠ ، وابتدأ الطلب سنة ١٦ حتى برع في علم الحديث.

وإنما أخرجته في هذا الكتاب لأنه قال : سمعت من عبيد الله بن عمر القواريري ألف حديث.

وقال الخطيب : كان ثقة ثبتا حجة صالحا مشهورا بالحفظ. مات في جمادى الآخرة سنة ٢٩١ » (٥).

__________________

(١) طبقات الشافعية ٣ / ٦٣ ـ ٦٧.

(٢) مرآة الجنان حوادث ٣٧٠.

(٣) العبر حوادث ٣٧٠.

(٤) بغية الوعاة : ١ / ١٩.

(٥) طبقات الحفاظ ٢٩٠.

٢٧٤

وترجم له السيوطي أيضا ترجمة حافلة ووصفه فيها بـ « الامام » وأورد كلمات العلماء في حقه وقال : « قال أبو بكر بن مجاهد : قال لي ثعلب : يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا ، واصحاب الحديث بالحديث ففازوا ، وأصحاب الفقه بالفقه ففازوا ، واشتغلت أنا بزيد وعمرو ، فليت شعري ما ذا يكون حالي. فانصرفت من عنده فرأيت النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في تلك الليلة فقال لي : اقرأ أبا العباس منّي السّلام وقل له : أنت صاحب العلم المستطيل ».

قال السيوطي : « وذكره الداني في طبقات القراء » (١).

وقال ابن خلكان : « كان إمام الكوفيين في النحو واللغة ... وكان ثقة حجة صالحا مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة ، والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم مقدما عند الشيوخ منذ هو حدث. فكان ابن الأعرابي إذا شك في شيء قال له : ما تقول يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بغزارة حفظه ... » (٢).

وقال اليافعي : « وفي السنة المذكورة توفي الامام العلامة الأديب أبو العباس المشهور بثعلب ... صاحب التصانيف المفيدة ، انتهت اليه رئاسة الأدب في زمانه ... وكان ثقة صالحا ، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة » (٣).

وترجم له الحافظ الذهني ، وذكر أنه سمع من عبيد الله القواريري وطائفة ... » (٤).

وكذا ترجم له ابن الوردي في تاريخه (٥).

وقال النووي بترجمته ما ملخصه :

« ثعلب مذكور في باب الوقف من المهذّب والوسيط ، هو الامام المجمع على

__________________

(١) بغية الوعاة ١ / ٣٩٦ ـ ٣٩٨.

(٢) وفيات الأعيان ١ / ١٠٢ ـ ١٠٤.

(٣) مرآة الجنان حوادث سنة ٢٩١.

(٤) العبر ـ حوادث سنة ٢٩١.

(٥) تتمة المختصر ـ حوادث سنة ٢٩١.

٢٧٥

إمامته ، وكثرة علومه وجلالته ، إمام الكوفيين في عصره لغة ونحوا ، وثعلب لقب له. قال الامام أبو منصور الأزهري في خطبة كتابه تهذيب اللغة : أجمع أهل هذه الصناعة من العراقيين أنه لم يكن في زمن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد مثلهما ، وكان أحمد بن يحيى أعلم الرجلين وأورعهما وأرواهما للّغات والغريب ، وأوجزهما كلاما وأقلّهما فضولا ... » (١).

أقول : فهذا رأي علماء أهل السنّة وأئمّة الجرح والتعديل في الجاحظ ، فهل يليق بالرازي أن يستند إلى ترك هكذا شخص رواية حديث الغدير ، ويستدل بذلك على عدم صحته؟

٥. اتصاف الجاحظ بالصفات الذميمة

والجاحظ ـ بالاضافة إلى ما تقدم ـ متصف بصفات ذميمة وأعمال قبيحة تسقطه عن درجة الاعتبار ، ولا تدع مجالا للتوقف في عدم جواز الاعتماد على كلامه في رواية أو قدحه في حديث :

فمن ذلك : أنه كان لا يصلي ... وقد ذكر ذلك في ترجمته من كتاب ( لسان الميزان ).

ومن ذلك : أنه كان كذّابا ... وقد تقدم ذلك أيضا في ( لسان الميزان ).

ومن ذلك : انه كان مختلفا ... وقد صرح بذلك الحافظ الذهبي.

بل ذكر جماعة من علمائهم وضعه ـ مع أبي العيناء ـ حديث فدك ، وممن ذكر ذلك سبط ابن العجمي في ( الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث ) والسيوطي في ( تدريب الراوي ) وابن الأثير في ( جامع الأصول ).

ومن ذلك : أنه كان كثير الهزل ... نص على ذلك ابن الوردي وغيره.

ومن ذلك : انه كان يستمع إلى الغناء ويجتمع بالمغنيات ، وذكر ذلك ابن

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات للنووي ٢ / ٢٧٥.

٢٧٦

خلكان واليافعي في تاريخيهما.

٦. الآثار المترتبة على الاعتماد على الجاحظ

وأخيرا ، فإن الاعتماد على الجاحظ في الروايات والأخبار ، والدفاع عنه ونفي عداوته للإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ، وتنزيهه عمّا نسب اليه ، يؤدّي إلى وقوع أهل السنة في إشكال قوي يصعب بل يستحيل التخلّص منه ...

وبيان ذلك : انه قد ثبت أن الجاحظ كان يتبع شيخه إبراهيم النظّام في جميع أقو اله وآرائه وما كان يدين به ... وقد ثبت أيضا أن النّظام كان يعتقد بإسقاط عمر بن الخطاب جنين فاطمة الزهراء ـ عليها‌السلام ـ وبغير ذلك من الأمور التي لا يرتضيها أهل السنة عامة ... كما جاء في ترجمته من كتاب ( الوافي بالوفيات ).

وقد صرح باقتفاء الجاحظ أثر النّظام في جميع مقالاته جماعة من الأعلام كاليافعي وابن الوردي وابن خلكان.

فلو جاز للفخر الرازي أن يستدل بترك الجاحظ رواية حديث الغدير ـ أو قدحه فيه ـ جاز للامامية الاستدلال بكلام شيخه النظّام في باب الطعن في عمر ابن الخطاب وخلافته ...

ولقد اعتمد ( الدهلوي ) تبعا لابن حزم على كلام النظّام في الطعن في مؤمن الطاق ـ رحمه‌الله تعالى ـ وهكذا استشهد الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان ) بأشعار النظّام التي أنشدها في ذمّ أبي يوسف يعقوب بن ابراهيم القاضي ـ تلميذ أبي حنيفة ـ على قبره.

فإن قيل : ذمّ النظام أبا يوسف القاضي غير مسموع ، لذمّ العلماء النظّام وقدحههم فيه ، كما في ( الأنساب ) و ( لسان الميزان ) و ( الوافي بالوفيات ) وغيرها ...

قلنا : إن هذا إنّما يتوجه فيما إذا لم يركن العلماء إلى أقواله ، ولم يعتمد المحدّثون على مقالاته ، ولم يبذلوا قصارى عهدهم في الدفاع عن تلميذه

٢٧٧

الجاحظ الأخذ بأقواله والمقتفي لآثاره ، والناقل عنه وجوه المناقشة في فضائل مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ.

وإذا كان الجاحظ معتمدا عليه كما يدل عليه صنيع الرازي ... فقد ثبت ان الجاحظ قد انتقد أبا بكر وعمر على منعها ميراث فاطمة الزهراء من أبيها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وظلمهما لها وتعدّيهما عليها ... في كلام طويل له في الموضوع ، ذكره الشريف المرتضى ـ رحمه‌الله ـ حيث قال :

« فإن قيل : إذا كان أبو بكر قد حكم بخطإ في دفع فاطمة ـ عليها‌السلام ـ عن الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه ، فما بال الأمّة أقرّته على هذا الحكم ولم تنكر عليه؟ وفي رضائها وإمساكها دليل على صوابه.

قلنا : قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا ، إلاّ في المواضع التي لا يكون له وجه سوى الرضا ، وبيّنا في الكلام على إمامة أبي بكر هذا الموضع بيانا شافيا.

وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال ، جوابا جيّد المعنى واللفظ ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها.

قال : وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما ـ يعني أبا بكر وعمر ـ في منع الميراث وبراءة ساحتهما : ترك أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النكير عليهما.

ثم قال : فيقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ، ليكوننّ ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليلا على صدق دعوتهم واستحسان مقالتهم ، لا سيّما وقد طالت به المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة ، وظهرت الشكية واشتدّت المواجدة ، وقد بلغ ذلك من فاطمة حتى أنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر ، ولقد كانت قالت له حين أتته طالبة حقها ومحتجة برهطها :

٢٧٨

من يرثك يا أبا بكر إذا متّ؟

قال : أهلي وولدي.

قالت : فما بالنا لا نرث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فلمّا منعها ميراثها وبخسها حقّها واعتلّ عليها وحلج في أمرها ، وعاينت التهضم وأيست من النزوع ، ووجدت من الضعف وقلة الناصر ، قالت :

والله لأدعونّ الله عليك.

قالت : والله لأدعونّ الله لك.

قالت : والله لا أكلمّك أبدا.

قال : والله لا أهجرك أبدا.

فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعه ، إنّ في ترك النكير على فاطمة دليلا على صواب طلبها ، وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها على الخطأ ، ورفع قدرها عن البذاء ، وأن تقول هجرا وتجور عادلا وتقطع واصلا ، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب ، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم ، أوجب علينا وعليكم.

وإن قالوا : كيف يظنّ بأبي بكر ظلمها والتعدي عليها ، وكلّما ازدادت فاطمة عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة ، حيث يقول : والله لا أهجرك أبدا ثم تقول : والله لأدعونّ الله عليك ، فيقول : والله لأدعونّ الله لك!؟ ولو كان كذلك لم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة بحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة ، وما يجب لها من التنزيه والهيبة ، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا ومتقرّبا بالكلام المعظّم لحقّها المكرّم لمقامها ، والصائن لوجهها والمتحنّن عليها : ما أحد أعن به عليّ منك فقرا ، ولا أحب إليّ منك غنى ، ولكني سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول : إنا معشر الأنبياء لا نرث ولا نورّث ما تركناه صدقة.

٢٧٩

قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من العمد ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلّة المنتصب وحدب الوامق ومقة المحق.

وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة ، وقد زعمتم أن عمرا قال على منبره : « متعتان كانتا على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ متعة النّساء ومتعة الحج وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما » فما وجدتم أحدا أنكر قوله ، ولا استشنع مخرج نهيه ، ولا خطّئه في معناه ، ولا تعجّب منه ولا استفهمه؟

وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السّقيفة وبعد ذلك : أنّ النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال : « الأئمّة من قريش » ثمّ قال في شكاته : ولو كان سالم حيّا ما تخالجني فيه شك ـ حين أظهر الشك في استحقاق كلّ واحد من الستّة الذين جعلهم شورى ـ وسالم عبد لامرأة من الأنصار ، وهي أعتقته وحازت ميراثه ، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ولا قابل إنسان بين خبريه ولا تعجّب منه؟

وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة له ولا رهبة عنده ، دليلا على صدق قوله وصواب عمله ، فأمّا ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي ، والقتل والاستحياء ، والحبس والإطلاق ، فليس بحجّة نفي ولا دلالة ترضيّ.

قال : وقال آخرون : بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما ، وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل وردّ المنصوص ، ولو كانا كما يقولون وما يصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلاّ كسبيلهم فيه ، وعثمان كان أعزّ نفرا وأشرف رهطا وأكثر عددا وثروة وأقوى عدّة.

قلنا : إنّهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا المنصوص ، ولكنّهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ، ادّعيا رواية وتحدّثا بحديث لم يكن مجال كذبه ولا يمتنع في حجج العقول مجيؤه ، وشهد له عليه من علمه مثل علمهما فيه ، ولعلّ بعضهما كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلا في رهطه ، مأمونا في

٢٨٠