نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

والجواب عن تشبث الرازي بعدم رواية الواقدي حديث الغدير من وجوه :

١. الواقدي من رواة مثالب الخلفاء

١ ) إن الواقدي من رواة مثالب الخلفاء والصحابة ، فإن كان تركه رواية حديث الغدير ، يوجب قدحا في ثبوته وصدوره ، كانت روايته لمطاعن الخلفاء أدل على القدح والطعن فيهم ...

فقد روى الواقدي حديث إحراق عمر بن الخطاب ، بيت فاطمة الزهراء بضعة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فقد ذكر شيخنا العلامة الحسن بن المطهر الحلي ـ رحمة الله عليه ـ في بحث مطاعن أبي بكر ما نصه :

« ومنها ـ أنه طلب هو وعمر بن الخطاب إحراق بيت أمير المؤمنين ، وفيه أمير المؤمنين وفاطمة وابناهما وجماعة من بني هاشم ، لأجل ترك مبايعة أبي بكر ، ذكر الطبري في تاريخه قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ للبيعة.

وذكر الواقدي : أن عمر جاء إلى علي في عصابة ، فيهم أسيد بن الحصين ومسلمة بن أسلم ـ فقال : أخرجوا ، أو لنحرقنّها عليكم » (١).

__________________

(١) نهج الحق وكشف الصدق : ٢٧١.

٢٤١

لكن الفضل بن روزبهان الشيرازي كذّب الخبر وجميع رواته ، حيث قال في كتابه ( الباطل ) :

« أقول : من أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر ، وهو إحراق عمر بيت فاطمة ، وما ذكر أن الطبري ذكره في التاريخ ، فالطبري من الروافض مشهور بالتشيع ، حتى أن علماء بغداد هجروه لغلوّه في الرفض والتعصب ، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره.

وكل من نقل هذا الخبر لا يشك أنه رافضي متعصّب ، يريد إبداء القدح والطعن على الأصحاب ، لأن المؤمن الخبير بأخبار السلف ، ظاهر عليه أن هذا الخبر كذب صراح وافتراء بيّن ، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السّلف ».

٢ ) وروى الواقدي نفي عثمان بن عفان سيّدنا أبا ذر الغفاري ـ رضي‌الله‌عنه ـ إلى الربذة. وقد نقل العلامة الحلي المذكور روايته هذه ، ردّا على قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي ، حيث زعم خروج أبي ذر إليها اختيارا.

ولكن الفضل ابن روزبهان ، لما رأى أن هذه الرواية من مطاعن ثالث خلفائهم ، جعل يدافع عنه مؤيدا كلام قاضي القضاة برواية الطبري وابن الجوزي ثم قال :

« ومخالفة الواقدي في بعض النقول ، لا يقدح ما ذهب اليه العامة ».

أقول : والغريب من الفضل ، اعتماده هنا على رواية الطبري وقد رماه بأنه « من الروافض مشهور بالتشيع ، حتى أن علماء بغداد هجروه ... » ، وقديما قيل : من مدح وذم كذب مرتين.

وهذا أيضا مما يشهد بما ذكرنا من عدم تمسّك القوم بقواعد البحث والمناظرة ...

٣ ) وروى الواقدي : أن عثمان بن عفان ردّ الحكم بن أبي العاص إلى المدينة المنورة ، وهو طريد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ منها ... قال العلاّمة الحلي ـ رحمه‌الله ـ :

٢٤٢

« قال الواقدي من طرق مختلفة وغيره ، أن الحكم بن أبي العاص لما قدم الى المدينة بعد الفتح ، أخرجه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى الطائف وقال : لا يساكنني في بلد أبدا ، لأنه كان يتظاهر بعداوة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والوقيعة فيه ، حتى بلغ به الأمر إلى أنّه كان يعيب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في مشيه ، فطرده النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأبعده ولعنه ، ولم يبق أحد يعرفه إلاّ بأنه طريد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

فجاء عثمان إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكلّمه فيه ، فأبى. ثم جاء إلى أبي بكر وإلى عمر في ذلك ، في زمان ولايتهما فكلّمهما فيه ، فأغلظا عليه القول وزبراه ، قال له عمر : يخرجه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وتأمرني أن أدخله!؟ والله لو أدخلته لم آمن قول قائل غيّر عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم.

فكيف يحسن من القاضي هذا العذر؟ وهلاّ اعتذر به عثمان عند أبي بكر وعمر وسلم من تهجينهما إيّاه وخلص من عتابهما عليه » (١).

فقال الفضل ابن رزبهان :

« روى أصحاب الصحاح أن عثمان لما قيل له : لم أدخلت الحكم بن أبي العاص؟ قال : استأذنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في إدخاله ، فأذن لي.

وذكرت ذلك لأبي بكر وعمر ، فلم يصدّقاني ، فلمّا صرت واليا عملت بعلمي في إعادته إلى المدينة.

هذا مذكور في الصّحاح ، وإنكار هذا النقل من قاضي القضاة إنكار باطل ».

٤ ) وروى الواقدي قضايا من استئثار عثمان أهله وبني أبيه بأموال المسلمين قال العلامة الحلي ـ رحمة الله تعالى عليه ـ :

__________________

(١) نهج الحق وكشف الصدق : ٢٩١.

٢٤٣

« ومنها ـ أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عنده للمسلمين ، دفع إلى أربعة أنفس من قريش وزوّجهم ببناته أربعة آلاف دينار ، وأعطى مروان ألف دينار.

وأجاب قاضي القضاة : بأنه ربّما كان من ماله.

واعترضه المرتضى : بأن المنقول خلاف ذلك ، فقد روى الواقدي أن عثمان قال : إن أبا بكر وعمر كانا يناولان من هذا المال ذوي أرحامهما ، وإني ناولت منه صلة رحمي ، وروى الواقدي أيضا أنه بعث إليه أبو موسى الأشعري بمال عظيم من البصرة ، فقسّمه عثمان بين ولده وأهله بالصحاف. وروى الواقدي أيضا ، قال : قدمت إبل من إبل الصدقة إلى عثمان ، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص ، وولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له ، وأنكر الناس على عثمان إعطائه سعيد بن العاص مائة ألف درهم » (١).

وقد أجاب الفضل عن ذلك بأن هذه الأموال ربما كانت من أمواله الخاصة وبأن الأصل أن تحمل أعمال الخلفاء على الصواب ...

والحاصل : إن كان الواقدي رافضيا متعصّبا ـ كما يقول ابن روزبهان والبعض ـ سقط تشبث الفخر الرازي بتركه رواية حديث الغدير ، وإن كان عدلا ثقة صدوقا فيما يرويه ، فلتقبل رواياته الجمّة تلك التي يتمسك بها الامامية في مباحث مطاعن الخلفاء ، وغيرها من المسائل الكلامية والتأريخية التي يرويها ، وتسقط أجوبة قاضي القضاة وابن روزبهان وغيرهما من متكلّمي أهل السنة والجماعة.

وأما قبول روايته ، أو الاعتماد على تركه رواية حديث ، عند ما ينفعهم ذلك ، وردّ روايته في كلّ مورد يثبت بها بطلان مذهبهم ، فممّا لا يحسن بهم ...

__________________

(١) نهج الحق وكشف الصدق : ٢٩٢.

٢٤٤

٢. إعراض الرازي عن روايات الواقدي

إن الفخر الرازي نفسه لم يعبأ بروايات الواقدي ، وأسقطها من الحساب وكأنها لم تكن ، فقال في مبحث مطاعن عثمان بن عفان من كتابه ( نهاية العقول ) :

« قوله : ثانيا ـ إنه رد الحكم بن أبي العاص وقد سيّره رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.

قلنا : إنّه ـ رضي‌الله‌عنه ـ أجاب عن ذلك بنفسه فيما رواه سيف بن عمر في كتاب الفتوح : إنّي رددت الحكم وقد سيّره رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من مكة إلى الطائف ، ثمّ ردّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ، فرسول الله سيّره ورسول الله يردّه ، أفكذلك؟

قالوا : اللهم نعم.

وقيل : إنه روى عثمان ـ رضي‌الله‌عنه ـ في زمن أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه أذن في ردّه ، فقالا له : إنّك شاهد واحد ، لأنّ ذلك لم يكن شهادة على شرع حتى تكفى رواية الواحد ، بل كان حكما في غيره ، فلا بدّ من الشاهدين ، فلما صار الأمر اليه حكم بعلمه.

قوله : ثالثا ـ إنّه كان يعطي العطايا الجزيلة لأقاربه.

قلنا : لعلّه كان يعطيها من صلب ماله ، لأنّه كان ذا ثروة عظيمة ».

أقول : فالعجب من الرازي ، إنه حين يريد تضعيف حديث الغدير يقول : لم يخرجه الواقدي ، مع أنّ عدم الإخراج لا يفيد الردّ.

وحين يجيب عن مطاعن عثمان ، لم ينظر بعين الاعتبار إلى روايات الواقدي المؤكّدة لتلك المطاعن.

وعلى هذا أيضا : فإنّ لنا أن نقول : إنّ سكوت الواقدي عن رواية حديث الغدير غير قادح في تواتره وصحته.

٢٤٥

٣. الواقدي مجروح

ثم إنّ الواقدي ـ وإن تمسّك الرازي بعدم روايته حديث الغدير ، وعدّه القوشجي والتفتازاني من الأئمّة المحققين وفي مرتبة البخاري ومسلم ، ومدحه عبد الحق الدّهلوي وحسام الدين السهارنفوري ووصفاه بالحفظ والإتقان كالبخاري ومسلم ، واستند إلى روايته الكابلي و ( الدهلوي ) ، وعبّر عنه جماعة بـ « أمير المؤمنين في الحديث » ـ مجروح من قبل جماعة من أكابر الأئمّة الحفّاظ وعلماء الجرح والتّعديل ، كالبخاري وأحمد وابن معين وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وابن عديّ وابن الجوزي وابن المديني وابن راهويه والذّهبي وغيرهم ...

وتجد كلمات هؤلاء وغيرهم في الحطّ عليه والطّعن فيه بترجمته في معاجم الرجال ، أمثال :

١ ـ ميزان الاعتدال ٣ / ٦٦٢.

٢ ـ تذهيب التهذيب ـ مخطوط.

٣ ـ المغني في الضعفاء ٢ / ٦١٩.

٤ ـ العبر ـ حوادث سنة ٢٠٧.

٥ ـ الكاشف ٣ / ٨٢.

٦ ـ سير أعلام النّبلاء ٩ / ٤٥٤.

٧ ـ التاريخ الصغير للبخاري ٢ / ٣١١.

٨ ـ الأنساب ـ الواقدي.

٩ ـ مرآة الجنان ـ حوادث سنة ٢٠٧.

١٠ ـ تقريب التهذيب ٢ / ١٩٤.

١١ ـ طبقات الحفّاظ / ١٤٤.

ففي ( ميزان الاعتدال ) : « أحد أوعية العلم على ضعفه ، قال أحمد بن حنبل هو كذّاب يقلّب الأحاديث ، وقال ابن معين : ليس بثقة ، وقال مرّة : لا

٢٤٦

يكتب حديثه ، وقال البخاري وأبو حاتم : متروك ، وقال أبو حاتم أيضا والنسائي : يضع الحديث ، وقال الدارقطني : فيه ضعف ، وقال ابن عديّ : أحاديثه غير محفوظة والبلاء منه ، وقال ابن راهويه : هو عندي ممّن يضع الحديث ».

بل قال الذهبي في ( المغني ) : « مجمع على تركه ».

وفي ( وفيات الأعيان ) : « ضعّفوه في الحديث وتكلّموا فيه ».

وفي ( الأنساب ) : « وقد تكلّموا فيه ».

وفي ( مرآة الجنان ) : « لكن أئمّة الحديث ضعّفوه ».

وفي ( تقريب التهذيب ) : « متروك ».

وفي ( تدريب الراوي في شرح تقريب النّواوي ) : « قال النسائي : الكذّابون المعروفون بوضع الحديث أربعة : ابن أبي يحيى بالمدينة ، والواقدي ببغداد ، ومقاتل بخراسان ، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام ».

وقد ترجم ابن سيد الناس في أول ( عيون الأثر ) الواقدي بإسهاب فذكر كلمات المادحين والقادحين كلّها بالتفصيل.

والذي نقوله نحن بعد ذلك كلّه : إنّه لا يجوز التمسكّ بعدم إخراج الواقدي لحديث الغدير ، في مقابل الإماميّة ، حتى لو كان مجمعا على وثاقته والاعتماد عليه وذلك :

١ ـ لأنّه من أهل الخلاف.

٢ ـ لأنّ ترك إخراج الحديث لا يلتفت إليه.

٣ ـ لأنّ الرازي نفسه قد خالف رواياته.

٢٤٧
٢٤٨

(٣)

عدم رواية ابن إسحاق حديث الغدير

٢٤٩

٢٥٠

وأمّا الاستدلال الفخر الرازي بترك ابن إسحاق رواية حديث الغدير ، فهو مردود بوجوه :

١. ابن إسحاق من رواة حديث الغدير

إنّ ابن إسحاق روى حديث الغدير ، وروى قصة هذا الحديث ، كما نقل عنه جماعة من كبار علماء القوم. فدعوى عدم روايته حديث الغدير كذب واضح وبهتان مبين ...

ذكر من نقل عن ابن إسحاق حديث الغدير

ومن المناسب أن نورد في هذا المقام كلمات جماعة من الأعلام ونقلة حديث الغدير ، عن ابن إسحاق :

فمنهم : الحافظ ابن كثير الدمشقي ، فإنه قال في ذكر القصة :

« ولمّا رجع ـ عليه‌السلام ـ من حجة الوداع ، فكان بين مكة والمدينة بمكان يقال له « غدير خمّ » ، خطب الناس هنالك خطبته في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، فقال في خطبته : من كنت مولاه فعليّ مولاه. وفي بعض الروايات : أللهمّ

٢٥١

وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. والمحفوظ الأول.

وإنّما كان سبب هذه الخطبة والتنبيه على فضل عليّ ـ ما ذكره ابن إسحاق ـ من أنّ عليا بعثه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى اليمن أميرا على خالد بن الوليد ، فرجع عليّ فوافى حجة الوداع مع النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ، وقد كثرت فيه القالّة وتكلّم فيه بعض من كان معه ، بسبب استرجاعه منهم خلعا كان خلعها نائبه عليهم ، لما تعجّل السّير إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ، فلمّا فرغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من حجة الوداع أحبّ أن يبرئ ساحته مما نسب إليه من القول فيه ».

ومنهم : ابن حجر المكي ، حيث قال في الجواب عن الاستدلال بحديث الغدير ما نصّه.

« وأيضا فسبب ذلك ـ كما نقله الحافظ شمس الدين الجزري عن ابن إسحاق ـ إنّ عليّا تكلّم فيه بعض من كان معه في اليمن ، فلمّا قضى ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حجّه ، خطبها تنبيها على قدره وردّا على من تكلّم فيه كبريدة ، لما في البخاري : أنه كان يبغضه ، وسبب ذلك ما صحّحه الذهبي أنه خرج معه إلى اليمن ، فرأى منه جفوه ، فنقصّه للنبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ، فجعل يتغيّر وجهه ويقول : يا بريدة! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال : بلى يا رسول الله! قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه » (١).

ومنهم : محمد بن عبد الرسول البرزنجي ، فقد قال في رد حديث الغدير :

« الوجه الثاني ـ وهو : أنّ السبب في هذه الوصيّة ـ كما رواه الحافظ شمس الدين ابن الجزري عن ابن إسحاق صاحب المغازي ـ : أنّ عليّا ـ رضي‌الله‌عنه ـ لما رجع من اليمن ، تكلّم فيه بعض من كان معه في اليمن. فلمّا قضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حجّه ، خطب هذه الخطبة تنبيها على قدره ، وردّا على من

__________________

(١) الصواعق المحرقة / ٢٥.

٢٥٢

تكلّم فيه كبريدة ـ رضي‌الله‌عنه ـ ، لما في البخاري أنه كان يبغض عليا ، حين رجع معه من اليمن ، وسببه ـ كما صحّحه الذّهبي ـ أنه خرج معه إلى اليمن ، فرأى منه جفوة فنقّصه للنبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فجعل وجهه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يتغيّر ويقول : يا بريدة! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله! قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه » (١).

ومنهم : المولوي حسام الدين السهارنبوري ـ الذي طالما نقل ( الدهلوي ) خرافاته ، متى لم يجد بغيته في صواقع نصر الله الكابلي ـ فإنّه أورد كلام ابن حجر المكي المتقدم بنصه (٢).

ومنهم : ( الدّهلوي ) نفسه ، فقد ذكر في خاتمة كلامه في ردّ حديث الغدير ، رواية ابن إسحاق لهذا الحديث الشريف (٣).

وبعد :

فإنّ هذه التصريحات ، تكذّب الفخر الرازي في دعواه ترك ابن إسحاق رواية حديث الغدير.

ولقد تنبّه إلى قبح هذه الدعوى وبطلانها ، جماعة من علمائهم ، كالسّعد التفتازاني في ( شرح المقاصد ) ـ بالرغم من تقليده الرازي في منع تواتر هذا الحديث والقوشجي في ( شرح التجريد ) ، وعبد الحق الدهلوي في ( ترجمة المشكاة ) ، وصاحب ( المرافض ) ، فلم يذكروا « ابن إسحاق » في جملة من سكت عن رواية حديث الغدير.

هذا ، ومن الطريف : إسقاط كمال الدين الجهرمي اسم « ابن إسحاق » من عبارة ابن حجر صاحب الصواعق المتقدم نصها ، في كتاب ( البراهين القاطعة في

__________________

(١) نواقض الروافض ، في رد حديث الغدير.

(٢) مرافض الروافض ، في رد حديث الغدير.

(٣) التحفة الاثنا عشرية : ٢١٠.

٢٥٣

ترجمة الصواعق المحرقة ) ليكتم بذلك فضيحة الفخر الرّازي هذه ... ولكن « لن يصلح العطار ما أفسده الدهر ».

٢. ذكر ابن إسحاق حضور علي في حجة الوداع

لقد علم ممّا تقدم رواية ابن إسحاق حديث الغدير ، وقد عنون ابن إسحاق موافاة أمير المؤمنين رسول الله ـ صلّى الله عليهما وآلهما ـ في حجة الوداع أيضا ... فإن كان « ابن إسحاق » ثقة ، فلم ينكر الرازي وجود الامام ـ عليه‌السلام ـ في تلك الحجة مع رواية ابن إسحاق ذلك كغيره!؟ وإن لم يكن ثقة فلم يتشبّث به في عدم رواية حديث الغدير فضلا عن بطلان أصل النسبة!؟

وأمّا رواية ابن إسحاق قفول الامام ـ عليه‌السلام ـ من اليمن وموافاته النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فهذا نصها في سيرته التي هذّبها ابن هشام فاشتهرت باسمه :

« موافاة علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ في قفوله من اليمن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الحج : قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان بعث عليا ـ رضي‌الله‌عنه ـ إلى نجران ، فلقيه بمكة وقد أحرم ، فدخل على فاطمة بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فوجدها قد حلّت وتهيّأت ، فقال : مالك يا بنت رسول الله؟ قالت : أمرنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن نحل بعمرة فحللنا. قال : ثم أتى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فلما فرغ من الخبر عن سفره ، قال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : انطلق فطف بالبيت وحل كما حل أصحابك ، قال : يا رسول الله إنّي أهللت كما أهللت ، فقال : إرجع فاحلل كما حلّ أصحابك قال : يا رسول الله! إنّي قلت حين أحرمت : اللهمّ إنّي أهل بما أهل به نبيّك وعبدك ورسولك محمد ، قال : فهل معك من هدي؟ قال : لا ، فأشركه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حتى فرغا من الحجّ ،

٢٥٤

ونحر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الهدي عنهما.

قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، قال : لما أقبل علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ من اليمن ، ليلقى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بمكة تعجّل إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ واستخلف على جنده الذي معه رجلا من أصحابه فعمد ذلك الرجل ، فكسى كل رجل من القوم حلة من البرد الذي كان مع علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ فلما دنا جيشه خرج ليتلقّاهم ، فإذا عليهم الحلل ، قال : ويلك ما هذا؟

قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ، قال : ويلك انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. قال : فانتزع الحلل من الناس فردها في البز ، قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم » (١).

أقول : فثبت بالوجهين المذكورين رواية ابن إسحاق القصة والحديث معا ، وسقط ما زعمه الرازي.

٣. ابن إسحاق مجروح

هذا ، وقد جرح ابن إسحاق غير واحد علماء الجرح والتعديل منهم ، فالتمسك بسكوته عن حديث الغدير ـ على تقدير التسليم ـ غير صحيح بناء على ذلك :

فقد كذّبه القطان ، وقال ابن معين : ثقة وليس بحجة ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال الدارقطني : لا يحتجّ به ، وقال أحمد : هو كثير التدليس جدا وقد ذكرت هذه الكلمات بترجمة محمد بن إسحاق من كتاب ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) ، وكتاب ( المغني في الضعفاء ) للحافظ شمس الدين الذهبي.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣.

٢٥٥

ففي ( ميزان الاعتدال ) : « وثّقه غير واحد ، ووهّاه آخرون ، وهو صالح الحديث ، ماله عندي ذنب إلاّ ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة المنقطعة والأشعار المكذوبة ، وقال أحمد بن حنبل : هو حسن الحديث ، وقال ابن معين ثقة وليس بحجّة ، وقال علي بن المديني : حديثه عندي صحيح ، وقال النسائي وغيره : ليس بالقوي ، وقال الدارقطني : لا يحتج به ، وقال سليمان التيمي : كذّاب ، وقال عبد الرحمن بن مهدي : كان يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك يجرحان ابن إسحاق. فالذي يظهر أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق ، وما انفرد به ففيه نكارة ، فإن في حفظه شيئا ، وقد احتج به أئمّة ، فالله أعلم. وقد استشهد مسلم بخمسة أحاديث لابن إسحاق ذكرها في صحيحه » (١).

وترجم ابن سيد الناس لابن إسحاق في اول ( عيون الأثر ) كذلك وهذا مختصرها :

« ذكر الكلام في محمد بن إسحاق والطعن عليه ... روى ابن معين ، عن يحيى القطان أنه كان لا يرضى محمد بن إسحاق ولا يحدّث عنه ، وقيل لأحمد : يا أبا عبد الله إذا تفرد بحديث تقبله؟ قال : لا ، والله إنّي رأيته يحدّث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا ، وقال ابن المديني مرة : هو صالح وسط ، روى الميموني عن ابن معين : ضعيف ، وروى عنه غيره : ليس بذلك ، وروى الدوري عنه : ثقة ولكنه ليس بحجة ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال البرقاني : سألت الدارقطني ، عن محمد بن إسحاق بن يسار وعن أبيه. فقال : جميعا لا يحتج بهما وإنما يعتبر بهما ، وقال علي : قلت ليحيى بن سعيد : كان ابن إسحاق بالكوفة وأنت بها؟ قال : نعم. قلت : تركته متعمّدا؟ قال : نعم ، ولم أكتب عنه حديثا قط ، وقال سليمان التيمي : كذّاب وقال يحيى القطان : ما

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ / ٤٦٨.

٢٥٦

تركت حديثه إلاّ لله أشهد أنه كذّاب. قلت : والكلام فيه كثيرا جدّا. وقد قال أبو بكر الخطيب : قد احتج بروايته في الأحكام قوم من أهل العلم وصدف عنها آخرون » (١).

ولو كان ابن إسحاق ثقة بالإجماع ، لما كان سكوته عن رواية حديث من الأحاديث مطلقا موجبا للقدح ، فكيف والحال هذه!؟

والخلاصة

إنه لم يبق ريب في شناعة تمسك الرازي بعدم نقل البخاري ومسلم والواقدي وابن إسحاق ، بعد الوقوف على وجوه الجواب التي قدمنا ذكرها في الفصول المتقدمة ، وقد ثبت لدى أصحاب النظر وذوي الإمعان والتدبر ، أنه لو أعرض مائة رجل كهؤلاء الأربعة عن حديث الغدير ، لم يكن إعراضهم قادحا في تواتره ولا صحته ، بحال من الأحوال. كيف؟ وللتواتر شروط متى اجتمعت في حديث حكم بتواتره البتّة ، وليس من الشروط عدم سكوت هؤلاء أو أمثالهم عن ذلك الحديث ، وعلى من ادعى ذلك إقامة الدليل والبرهان.

نعم إن السبب الوحيد لترك هؤلاء رواية حديث الغدير ، إنما هو التعصّب والانحياز عن أهل البيت الطاهرين ، حتى يأتي من بعدهم الرازي وغيره ، فيقول في رد هذا الحديث : لم يخرجه فلان وفلان ... ولكنّ أبا زرعة الحافظ الامام أغلظ للبخاري ومسلم القول ، لئلاّ يتذرع بهما أحد ويتمسك بكتابيهما ... فبطلت ظنون القوم وخابت آمالهم ... والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) عيون الأثر ١ / ١٠ ـ ١٣.

٢٥٧
٢٥٨

(٤)

عدم رواية الجاحظ حديث الغدير

٢٥٩
٢٦٠