نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

فردّوه.

وأجيب : بأنه خبر واحد قد خصّ منه البعض ، أعني المتواتر والمشهور ، فلا يكون قطعيا ، فكيف يثبت به مسألة الأصول ، على أنه يخالف عموم قوله تعالى : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ).

وقد طعن المحدّثون بأن في روايته يزيد بن ربيعة وهو مجهول ، وترك في إسناده واسطة بين الأشعث وثوبان فيكون منقطعا.

وذكر يحيى بن معين : إنه حديث وضعته الزّنادقة.

وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية ... » (١).

ترجمة التفتازاني

وقد ترجم الحافظ السّيوطي للتّفتازاني بقوله : « مسعود بن عمر بن عبد الله ، الشّيخ سعد الدين التّفتازاني ، الامام العلاّمة ، عالم بالنحو والتصريف والمعاني والبيان والأصلين والمنطق وغيرهما ، شافعي.

قال ابن حجر : ولد سنة ستّين وسبعمائة وأخذ عن القطب والعضد ، وتقدّم في الفنون واشتهر بذلك ، وطار صيته وانتفع النّاس بتصانيفه ، وله شرح العضد ، وشرح التلخيص مطوّل وآخر مختصر ، شرح القسم الثاني من المفتاح ، وله التلويح على التنقيح في أصول الفقه ، شرح العقائد ، المقاصد في الكلام ، وشرحه الشّمسية في المنطق ، شرح تصريف العزّي ، الإرشاد في النحو ، حاشية الكشاف لم يتمّ ، وغير ذلك.

وكان في لسانه لكنة ، وانتهت اليه معرفة العلوم بالمشرق ، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة » (٢).

__________________

(١) التلويح على التنقيح ، في أصول الفقه ٢ / ٣٩٧.

(٢) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ٢ / ٢٨٥.

٢٠١

وقال محمد بن سليمان الكفوي : « وكان من كبار علماء الشافعية ، ومع ذلك له آثار جليلة في أصول الحنفيّة ، بلغني من الثقات أنه كتب حول صندوق قبره بسرخس : ألا أيّها والزوار زوروا وسلّموا على روضة الحبر الامام المحقق والحبر المدقق ، سلطان المصنفين ، وارث علوم الأنبياء والمرسلين ، معدّل ميزان المعقول والمنقول ، منقّح أغصان الفروع والأصول ، ختم المجتهدين أبي سعد الحقّ والدين مسعود القاضي الامام مقتدى الأنام ... ».

وقال الكفوي في ( كتائبه ) : « وكان ـ رحمه‌الله ـ من محاسن الزمان ، لم تر العيون مثله في الأعيان والأعلام ، والمذكور في بطون الأوراق ، اشتهرت تصانيفه في الأرض ذات الطول والعرض ، حتى أنّ السيد الشّريف في مبادي التأليف وأثناء التصنيف كان يغوص في بحار تحقيقه وتحريره ، ويلتقط الدرّ من تدقيقه وتسطيره ، ويعترف برفعة شأنه وجلالته ووفور فضله وعلوّ مقامه وإمامته ».

وترجم له جار الله أبو مهدي الثعالبي المالكي في رسالة ( أسانيده ) ترجمة حافلة ، حيث نقل كلام السيوطي المذكور ، ثمّ ترجمة ابن حجر العسقلاني إياه (١).

الحديث التاسع

وهو ما أخرجه البخاري قائلا :

« حدثني محمد بن حاتم بن بزيع ، ثنا شاذان ، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا في زمن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا نعدل بأبي بكر أحدا ، ثمّ عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا نفاضل بينهم.

__________________

(١) وتوجد ترجمة التفتازاني في : الدرر الكامنة ٤ / ٣٥٠ ، شذرات الذهب ٦ / ٣١٩ ، البدر الطالع ٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٥ ، وغيرها.

٢٠٢

تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز » (١).

الحافظ ابن عبد البر وهذا الحديث

وقد تكلّم الحافظ ابن عبد البر القرطبي على هذا الحديث وغلّطه وأبطله وذلك حيث قال ما نصه : « وأخبرنا محمد بن زكريا ويحيى بن عبد الرحمن [ وعبد الرحمن ] بن يحيى ، قالوا : حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم ، ثنا أحمد بن خالد ، ثنا مروان بن عبد الملك ، قال : سمعت هارون بن إسحاق يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : من قال : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي [ كرّم الله وجهه ] سابقته وفضله فهو صاحب سنة ، ومن قال : أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعرف لعثمان سابقته فهو صاحب سنة.

فذكرت له هؤلاء الذين يقولون : أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلّم فيهم بكلام غليظ ، وكان يحيى بن معين يقول : أبو بكر وعمر وعلي وعثمان.

قال أبو بكر : من قال بحديث ابن عمر : كنّا نقول على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت ـ يعني فلا نفاضل وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما أجمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر : أن عليّا أفضل الناس بعد عثمان. وهذا مما لم يختلفوا فيه ، وإنّما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان ، واختلف السلف أيضا في تفضيل علي وأبي بكر.

وفي إجماع الجميع ـ الذي وصفنا ـ دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط ، وأنه لا يصح معناه وإن كان إسناده صحيحا ، ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر وحديث أبي سعيد : كنّا نبيع أمّهات الأولاد على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهم يقولون بذلك ، فقد ناقضوا ، وبالله التوفيق » (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٨.

(٢) الاستيعاب ٣ / ١١١٥ ـ ١١١٧.

٢٠٣

ترجمة الحافظ ابن عبد البر

وقد ترجم الحافظ الذهبي الحافظ ابن عبد البر ترجمة ضافية نلخّصها في ما يلي :

« ابن عبد البر ، الامام العلاّمة ، حافظ المغرب ، شيخ الإسلام ، أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي ، صاحب التصانيف الفائقة. مولده في سنة ثمانين وستين وثلاثمائة في شهر ربيع الأول : وقيل : في جمادى الأولى. طلب العلم بعد التسعين والثلاثمائة وأدرك الكبار وطال عمره وتكاثر عليه الطلبة ، وجمع وصنف ووثّق وضعّف وسارت بتصانيفه الركبان وخضع لعلمه علماء الزمان ، وفاته السماع من أبيه الامام أبي محمد ، وكان تفقّه على التحسين وسمع من أحمد بن مطرف وأبي عمرو بن حزم المؤرّخ.

وصاحب الترجمة ، أبو عمرو ، سمع من أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، والمعمّر محمد بن عبد الملك بن صفوان ، وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر مولى الناصر لدين وأبي عمر أحمد بن محمد بن الحسور وخلف بن القاسم بن سهل الحافظ والحسين بن يعقوب البجارتي ، وقرأ على عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الموهراني ، وأبي عمر الطلمنكي والحافظ أبي الوليد ابن الفرضي ، وسمع من يحيى بن عبد الرحمن ابن وجه الجنة ومحمد بن رشيق المكتّب وأبي المطّرف عبد الرحمن بن مروان القنازعي وأحمد بن فتح بن الرسان وأبي عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن الباجي وأبي عمر أحمد بن عبد المكودي ، وطائفة سواهم.

قال الحميدي : أبو عمرو فقيه حافظ مكثر عالم بالقراءات وبالخلاف وبعلوم الحديث والرجال ، قديم السماع ، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي.

وقال أبو علي الغسّاني : لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد

٢٠٤

وأحمد بن خالد الحباب ، ثم قال أبو علي : ولم يكن ابن عبد البر بدونهما ولا متخلّفا عنهما ، وكان من النمر بن قاسط ، طلب وتقدم ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه ، ولزم أبا الوليد بن الفرضي ودأب في طلب الحديث وافتتن به وبرع براعة فاق بها من تقدّمه من رجال الأندلس ، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطة كبيرة في علم النسب والأخبار ، جلا عن وطنه فكان في الغرب مدة ثم تحول إلى شرق الأندلس.

قلت : كان إماما دينا ثقة متقنا علامة متبحرا ، صاحب سنة واتباع ، وكان أولا أثريا ظاهريا فيما قيل ، ثمّ تحوّل مالكيا مع ميل بيّن إلى فقه الشافعي في مسائل ، ولا ينكر له ذلك ، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين ، ومن نظر في مصنّفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن.

قال أبو القاسم ابن بشكوال : ابن عبد البر إمام عصره ، واحد دهره ، قال أبو علي ابن سكرة : سمعت أبا الوليد الباجي يقول : لم يكن بالأندلس مثل أبي عمرو ابن عبد البر في الحديث ، وهو أحفظ أهل المغرب.

مات أبو عمر ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستّين وأربعمائة ، واستكمل خمسا وتسعين سنة وخمسة أيام ، رحمه‌الله.

قلت : كان حافظ المغرب في زمانه ، وفيها مات حافظ المشرق أبو بكر الخطيب » (١).

الحديث العاشر

وهو حديث شريك في قصة الأسراء. أخرجه البخاري ومسلم ، قال

__________________

(١) سير أعلام النبلاء. وتوجد ترجمته أيضا في : تاريخ ابن كثير ١٢ / ١٠٤ ، مرآة الجنان ٣ / ٨٩ وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٨ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٤ ، تذكرة الحفاظ ٣ / ٣٠٦ ، طبقات السبكي ٤ / ٨ ، النجوم الزاهرة ٥ / ٧٧ المنتظم ٨ / ٣٤٢.

٢٠٥

البخاري : « حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، قال : حدثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله ، أنه قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة أسري برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من مسجد الكعبة : أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهم : أيّهم هو؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ـ وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ـ فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاّه منهم جبرئيل فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبتّه حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوا إيمانا وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدّنيا ، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا؟ فقال : جبرئيل ، قالوا : ومن معك؟ قال : معي محمد ، قالوا : وقد بعث؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحبا به ... » (١).

وأخرجه مسلم حيث قال :

« حدثنا هارون بن سعيد الايلي ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرنا سليمان ـ وهو ابن بلال ـ حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أسري برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من مسجد الكعبة ، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه ... » (٢).

كبار الأئمّة وهذا الحديث

وقد طعن في هذا الحديث جماعة من أئمة التحقيق من أهل السنة ، فقد قال الحافظ أبو زكريا النووي في شرح حديث مسلم :

__________________

(١) صحيح البخاري ٩ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٢) صحيح مسلم ١ / ١٠٢.

٢٠٦

« ـ وذلك قبل أن يوحى إليه ـ وهو غلط لم يوافق عليه ، فإن الاسراء أقلّ ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بخمسة عشر شهرا. وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بخمس سنين. وقال ابن إسحاق : أسري به ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل.

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق ، إذ لم يختلفوا أن خديجة ـ رضي الله عنها ـ صلّت معه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعد فرض الصلاة عليه ، ولا خلاف [ في ] أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل : بثلاث سنين ، وقيل : بخمس.

ومنها : أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء ، فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟

وأما قوله في رواية شريك : وهو نائم ، وفي الرواية الأخرى ، بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤية [ رؤيا ] نوم ، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه ، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلّها.

هذا كلام القاضي ـ رحمه‌الله ـ وهذا الذي قاله في رواية شريك وانّ أهل العلم أنكروها قد قاله غيره.

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس ، في كتاب التوحيد في [ من ] صحيحه وأتى بالحديث مطوّلا ، قال الحافظ عبد الحق ـ رحمه‌الله ـ في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكره هذه الرواية : هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك ابن أبي نمر عن أنس ، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.

وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة ـ يعني عن أنس ـ قال : فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. قال : والأحاديث التي

٢٠٧

تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها. هذا كلام الحافظ عبد الحق ، رحمه‌الله » (١).

ترجمة الحافظ النووي

وقد أنثى ( الدهلوي ) على الحافظ النووي في ( رسالة أصول الحديث ) ووصفه بـ « الإمام » وذكر بأنه والبغوي والخطابي علماء معوّل على كلامهم وتحقيقهم ...

وترجم له الحافظ الذهبي قائلا : « والشيخ محي الدين النواوي ، شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن الشافعي ، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة ، وقدم دمشق ليشتغل ، فنزل بالرواحية وحفظ التنبيه في سنة خمس ، وحج مع أبيه سنة إحدى وخمسين ، ولزم الاشتغال ليلا ونهارا نحو عشر سنين حتى فاق الأقران وتقدم على جميع الطلبة ، وحاز قصب السبق في العلم والعمل ...

وكان مع تبحّره في العلم وسعة معرفته بالحديث والفقه واللغة وغير ذلك ممّا سارت به الركبان رأسا في الزهد ، قدوة في الورع ، عديم المثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... » (٢).

وقال جمال الدين الأسنوي بترجمته في طبقاته : « هو محرر المذهب ومهذّبه ومنقّحه ومرتّبه ، سار في الآفاق ذكره وعلا في العالم محلّه وقدره ، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة ... » (٣).

وقال اليافعي في حوادث سنة ٦٧٦ : « وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الامام شيخ الإسلام مفتي الأنام ، المحدّث المتقن ، المدقق النجيب الحبر المفيد ، المقرئ المعيد محرّر المذهب ، الفاضل الوليّ الكبير الشهير ، ذو المحاسن العديدة والسيرة

__________________

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ٢ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) العبر في خبر من غبر ، حوادث سنة ٦٧٦.

(٣) طبقات الشافعية ٢ / ٤٧٦.

٢٠٨

الحميدة والتصانيف المفيدة ، الذي فاق جميع الأقران وسارت بمحاسنه الركبان ، واشتهرت فضائله في سائر البلدان ، وشوهدت منه الكرامات ، وارتقى في علاء المقامات ، ناصر السنة ومعتمد الفتوى ، الشيخ محي الدين النّووي يحيى بن شرف ابن مري بن حسن الشافعي ، مؤلّف : الروضة ، والمنهاج ، والمناسكين ، وتهذيب الأسماء واللغات ، وشرح صحيح مسلم ، وشرح المهذب ، وكتاب التّبيان ، وكتاب الإرشاد ، وكتاب التّيسير والتقريب ، وكتاب رياض الصالحين ، وكتاب الأذكار ، وكتاب الأربعين ، وكتاب طبقات الفقهاء الشافعية ...

روى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ ، قالوا : وكان الشّيخ محي الدين النووي متبحّرا في العلم ، متسعا في معرفة الحديث والفقه واللغة وغير ذلك ...

قلت : ورأيت لابن العطار جزء في مناقبه ، ذكر فيه أشياء عزيزة ... » (١).

وترجم له أبو بكر ابن قاضي شهبة الأسدي في طبقاته ترجمة ضافية وصفه فيها بـ « الفقيه الحافظ الزاهد أحد الأعلام شيخ الإسلام » وقال : « كان محققا في علمه وفنونه مدققا في عمله وشئونه ، حافظا لحديث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عارفا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه واستنباط فقهه ، حافظا للمذهب وقواعده وأصوله وأقوال الصّحابة والتابعين واختلاف العلماء ... » (٢).

وذكره جمال الدين ابن تغري بردي في حوادث سنة ٦٧٦ « وفيها توفي شيخ الإسلام ... النووي الفقيه الشافعي الزاهد ، صاحب المصنفات المشهورة ... قلت : وفضله وعلمه وزهده أشهر من أن يذكر ، وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة في تاريخنا المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي إذ هو كتاب تراجم يحسن الاطناب فيه » (٣).

__________________

(١) مرآة الجنان ، حوادث ٦٧٦.

(٢) طبقات الشافعية ٣ / ٩.

(٣) النجوم الزاهرة في محاسن مصر والقاهرة ، حوادث سنة ٦٧٦.

٢٠٩

الامام الكرماني وهذا الحديث

وقال الامام محمد بن يوسف الكرماني بشرح الحديث :

« قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، من جملتها : أنه قال ذلك قبل أن يوحى وهو غلط لم يوافق عليه. وأيضا : العلماء أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون قبل الوحي؟

أقول : وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء ، إذ قال : أبعث؟ نعم. صريح في أنه كان بعده » (١).

ترجمة الكرماني

وترجم الحافظ السيوطي للكرماني شارح البخاري بقوله : « محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ثم البغدادي ، الشيخ شمس الدين صاحب شرح البخاري ، الامام العلاّمة في الفقه والتفسير والأصلين والمعاني والعربية قال ابنه في ذيل المسالك : ولد يوم الخميس سادس عشر جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة ، وقرأ على والده بهاء الدين ، ثم انتقل إلى كرمان وأخذ عن العضد وغيره ، ومهر وفاق أقرانه وفضل غالب أهل زمانه ، ثم دخل دمشق ومصر وقرأ بها البخاري على ناصر الدين الفارقي ، وسمع من جماعة وحج ورجع إلى بغداد واستوطنها ، وكان تام الخلق ، فيه بشاشة وتواضع للفقراء وأهل العلم ، غير مكترث بأهل الدّنيا ولا يلتفت إليهم ، تأتي إليه السلاطين في بيته ويسألونه الدعاء والنصيحة ، وله من التصانيف شرح البخاري ، شرح المواقف ، شرح مختصر ابن الحاجب سماه السبعة السيارة ، شرح الغياثية في المعاني والبيان ، شرح الجواهر أنموذج الكشاف ، حاشية على تفسير البيضاوي ـ وصل فيها إلى سورة يوسف ـ

__________________

(١) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري ٢٥ / ٢٠٤.

٢١٠

رسالة في مسألة الكحل.

مات بكرة يوم الخميس سادس عشر المحرم ، سنة ست وثمانين وسبعمائة ، بطريق الحج ، فنقل إلى بغداد ودفن بقبر أعدّه لنفسه بقرب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي » (١).

وترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني وأثنى عليه (٢).

وكذلك ( الدهلوي ) في كتاب ( بستان المحدثين ) الذي انتحله من ( مفتاح كنز دراية المجموع من درر المجلد المسموع ) (٣).

العلامة ابن القيم وهذا الحديث

وقال العلامة الشهير ابن قيم الجوزية حول الحديث المذكور ، بعد كلام له :

« وقد غلّط الحفّاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ، ثم قال : فقدّم وأخّر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد ، رحمه‌الله » (٤).

الحديث الحادي عشر

وهو ما رواه البخاري بقوله : « حدثنا نعيم بن حماد ، نا هشيم ، عن حصين عن عمرو بن ميمون ، قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت ، فرجموها فرجمتها معهم » (٥).

__________________

(١) بغية الوعاة ١ / ٢٧٩.

(٢) إنباء الغمر ـ حوادث ٧٨٦ : ٢ / ١٨٢.

(٣) وتوجد ترجمته أيضا في البدر الطالع للشوكاني ٢ / ٢٩٢.

(٤) زاد المعاد ٢ / ٤٩.

(٥) صحيح البخاري ٥ / ٥٦.

٢١١

الحافظان الحميدي وابن عبد البر وهذا الحديث

وهذا الحديث قد استنكره ابن عبد البر ، وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي بأنه : « ليس في نسخ البخاري أصلا ، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري ». هذا كلامهما حول هذا الحديث. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر حيث قال :

« وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال : فيها إضافة الزنا إلى غير مكلّف وإقامة الحدّ على البهائم ، وهذا منكر عند أهل العلم. قال : فإن كانت الطريق صحيحة ، فلعلّ هؤلاء كانوا من الجن ، لأنّهم من جملة المكلّفين. وإنّما قال ذلك لأنّه تكلّم على الطريق التي أخرجها الاسماعيلي فحسب.

وأجيب : بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زناء حقيقة ولا حدّا ، وانما أطلق ذلك عليه لشبهه به ، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان.

وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين ، فزعم أن هذا الحديث [ وقع ] في بعض نسخ البخاري وأن أبا مسعود وحده ذكره في الأطراف ، قال : وليس في نسخ البخاري أصلا ، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري.

وما قاله مردود وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء ، من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه ، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته اليه ، وهذا الذي قاله تخيّل فاسد ، يتطرّق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح ، لأنه إذا جاز في واحد بعينه ، جاز في كل فرد فرد ، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور ... » (١).

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٢٧.

٢١٢

ثلاثة أحاديث في البخاري

وأخرج البخاري ثلاثة أحاديث عن عطاء ، عن ابن عباس اثنان منها في كتاب الطلاق والآخر في كتاب التفسير ، فأمّا ما أخرجه في كتاب الطلاق فهذا نصه :

« حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام ، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس : كان المشركون على منزلتين من النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والمؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه ، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه ، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر ، فإذا طهرت حل لها النكاح ، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردّت اليه ، وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حرّان ولهما ما للمهاجرين. ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد ، وإن هاجر عبد أو أمه للمشركين أهل العهد لم يردّوا وردّت أثمانهم.

وقال عطاء عن ابن عباس : كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطّاب فطلّقها ، فتزوّجها معاوية بن أبي سفيان. وكانت أم الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنم الفهري فطلّقها فتزوّجها عبد الله بن عثمان الثقفي » (١).

وأما حديثه في كتاب التفسير ، فهذا نصه :

« حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام ، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما ودّ [ ف ] كانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع كانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبا ، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ / ٦٢ ـ ٦٣.

٢١٣

الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا ، وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت » (١).

كبار الأئمّة وهذه الأحاديث

وهذا الأحاديث الثلاثة ، أخرجها البخاري من حديث عطاء عن ابن عباس في التفسير ، مع العلم بأن أكابر الأساطين والأئمّة من أهل السنة يقدحون في رواية عطاء في التفسير ، ويسقطونها عن درجة الاعتبار مطلقا.

والحافظ ابن حجر ـ وهو الذي طالما ساعد البخاري وذبّ عن كتابه ـ يذكر كلمات القدح ، ويعترف بأن هذا المقام من المواضع العقيمة عن الجواب السديد ، ويقول بأنه : لا بدّ للجواد من كبوة ، ومعنى هذا : أن البخاري قد أخطأ في إخراج أحاديث عطاء هذه في كتابه.

وهذا نص كلام الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع :

« الحديث الحادي والثمانون ـ قال أبو علي الغساني ، قال : البخاري : ثنا إبراهيم بن موسى ، ثنا هشام ـ هو ابن يوسف ـ ، عن ابن جريج قال قال ـ عطاء عن ابن عباس : كان المشركون على منزلتين من النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الحديث. وفيه قصة تطليق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية وغير ذلك.

تعقّبه أبو مسعود الدمشقي فقال : ثبت هذا الحديث والذي قبله ـ يعني بهذا الاسناد سوى الحديث المتقدّم في التفسير ـ في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس ، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذ الكتاب من ابنه عثمان ونظر فيه.

قال أبو علي : وهذا تنبيه بليغ [ بديع ] من أبي مسعود ـ رحمه‌الله ـ فقد رويناه عن صالح بن أحمد بن حنبل ، عن [ علي ] ابن المديني ، قال : سمعت هشام

__________________

(١) صحيح البخاري ٦ / ١٩٩.

٢١٤

بن يوسف يقول : قال لي ابن جريج : سألت عطاء ـ يعني ابن أبي رباح ـ عن التفسير من البقرة وآل عمران ، ثم قال : اعفني من هذا ، قال هشام : فكان بعد إذا قال : عطاء عن ابن عباس ، قال : الخراساني ، قال هشام : فكتبنا ما كتبنا ثم مللنا ـ يعني حسبنا [ كتبنا ] أنه عطاء الخراساني ـ.

قال علي بن المديني : وإنّما كتبت هذه القصة ، لأن محمد بن ثور كان يجعلها عطاء عن ابن عباس ، فظنّ الذين حملوها عنه ، أنّه عطاء بن أبي رباح قال عليّ : وسألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني فقال : ضعيف ، فقلت : له : إنه يقول : أخبرنا ، قال : لا شيء ، كلّه ضعيف ، إنما هو كتاب دفعه اليه.

قلت : ففيه نوع اتصال ، ولذلك استجاز ابن جريح أن يقول فيه : أخبرنا. لكن البخاري ما أخرجه إلاّ على أنّه من رواية عطاء بن أبي رباح ، وأمّا الخراساني فليس من شرطه ، لأنّه لم يسمع عن ابن عباس.

لكن لقائل أن يقول : هذا ليس بقاطع في أنّ عطاء المذكور هو الخراساني فإنّ ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضا ، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عند عطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني جميعا ، والله أعلم.

فهذا جواب إقناعي ، وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السّديد ، ولا بدّ للجواد من كبوة ، والله المستعان. وما ذكره أبو مسعود من التعقب قد سبقه إليه الاسماعيلي ، ذكر ذلك الحميدي في الجمع ، عن البرقاني ، عنه ، قال : وحكاه عن علي بن المديني ، يشير إلى القصة التي ساقها الغسّاني ، والله الموفّق » (١).

أقول :

والعجب من الحافظ ابن حجر ، فانه أورد هذا الجواب الإقناعي في شرح الحديث في كتاب التفسير ، ولم يقل هناك بأنّ هذا عنده « من المواضع العقيمة عن

__________________

(١) هدى الساري ـ مقدمة فتح الباري : ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢١٥

الجواب السديد ، ولا بدّ للجواد من كبوة » وهذا نصّ كلامه : « قوله : عن ابن جريج وقال عطاء. كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف ، وقد بيّنه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج ، قال في قوله [ تعالى ] : ( وَدًّا وَلا سُواعاً ... ) الآية ، قال : أوثان كان قوم نوح يعبدونها [ نهم ] ، وقال عطاء : كان ابن عباس إلى آخره.

قوله : عن ابن عباس ، قيل : هذا منقطع لأنّ عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس ، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج ، فقال : أخبرني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس.

وقال أبو مسعود : ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء ، فنظر فيه.

وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في الخلل عن علي بن المديني ، قال : سألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني ، فقال : ضعيف فقلت له : إنّه يقول : أخبرنا ، قال : لا شيء ، إنّما هو كتاب دفعه اليه. انتهى. وكان ابن جريح يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة.

وقال الاسماعيلي : أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر في [ عن ] تفسير ابن جريج كلاما معناه أنه كان يقول : عن عطاء الخراساني ، عن ابن عبّاس ، فطال على الورّاق أن يكتب الخراساني في كل حديث ، فتركه ، فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح. انتهى. وأشار بهذا إلى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني ، ونبّه عليها أبو علي الغسّاني في تقييد المهمل ، قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول : قال لي ابن جريج : سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران ، ثمّ قال اعفني من هذا ، [ قال : ] قال هشام : فكان بعد إذا قال عطاء عن ابن عباس ، قال عطاء الخراساني ، قال هشام : فكتبنا ثمّ مللنا ـ يعني حسبنا أنّه [ كتبنا ] الخراساني ـ قال ابن المديني وإنّما بيّنت هذا لأنّ محمد بن ثور كان يجعلها ـ يعني في روايته ـ عن ابن جريج ، عن عطاء عن ابن عباس فيظنّ

٢١٦

أنّه عطاء بن أبي رياح.

وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور ، من طريق محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، ولم يقل : الخراساني. وأخرجه عبد الرزاق كما تقدّم فقال : الخراساني.

وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه ، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني وعن عطاء بن أبي رباح جميعا ، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب ، أو في المذاكرة ، وإلاّ فكيف يخفى على البخاري ذلك مع تشدّده في شرط الاتصال واعتماده غالبا في العلل على علي ابن المديني شيخه ، وهو الذي نبّه على هذه القصّة. وممّا يؤيّد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة ، وإنما ذكر بهذا الاسناد موضعين هذا والآخر في النكاح ، ولو كان خفى [ ذلك ] عليه لا ستكثر من إخراجها ، لأنّ ظاهرها أنها [ على ] شرطه » (١).

أقول : وعلى أي حال ، فإنّا نريد إثبات تكلّم الحفّاظ والفقهاء في أحاديث الصحيحين ، وهذا ما هو الواقع ، وأمّا دفاع الحافظ ابن حجر ـ بعد اعترافه بعدم وجود جواب سديد في هذا المقام ـ فيرجع الحكم في صحته وسقمه الى جهابذة الفن ...

الحديث الخامس عشر

وهو ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي من كتابه ، حيث قال : « حدثنا موسى بن اسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن حصين ، عن أبي وائل ، قال : حدثني مسروق بن الأجدع ، قال : حدّثتني أم رومان ـ وهي أم عائشة ـ قالت : بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار ، فقالت : فعل الله بفلان وفعل ،

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ٥٤١.

٢١٧

فقالت أمّ رومان : وما ذاك؟ قالت : ابني ممّن [ فيمن ] حدّث الحديث ، قالت : وما ذاك؟ قالت : كذا وكذا ، قالت عائشة : سمع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت : نعم ، قالت : وأبو بكر؟ قالت : نعم ، فخرّت مغشيّا عليها ، فما أفاقت إلاّ وعليها حمّى بنافض ، فطرحت عليها ثيابها فغطّيتها ، فجاء النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال : ما شأن هذه؟ قلت : يا رسول الله! أخذتها الحمى بنافض ، قالت : فلعلّ في حديث تحدّث [ به ] ، قالت : نعم ، فقعدت عائشة ، فقالت : والله لئن حلفت لا تصدّقوني ، ولئن قلت لا تعذروني ، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه ، والله المستعان على ما تصفون. قالت : وانصرف ولم يقل [ لي ] شيئا ، فأنزل الله عذرها ، قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك » (١).

كبار الحفّاظ وهذا الحديث

وصريح هذا الحديث سماع مسروق بن الأجدع من أم رومان أم عائشة ، ولقد غلّط كبار الأئمّة الحفّاظ هذا الحديث وقالوا : إن مسروقا لم يدرك أم رومان ، ومن هؤلاء :

الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي.

الحافظ أبو عمرو ابن عبد البر القرطبي.

الحافظ أبو الفضل القاضي عياض اليحصبي.

الحافظ ابراهيم بن يوسف صاحب مطالع الأنوار على صحاح الآثار.

الحافظ أبو القاسم السهيلي شارح السيرة.

الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس الأندلسي.

الحافظ جمال الدين المزّي.

الحافظ شمس الدين الذّهبي.

الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي.

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٥٤.

٢١٨

وإليك كلمات القوم الصريحة في ذلك :

قال ابن عبد البر الحافظ ما نصّه : « رواية مسروق عن أم رومان مرسلة ، ولعله سمع ذلك من عائشة ـ رضي الله عنها ـ » (١).

وقال الحافظ المزّي بعد أن أورد الحديث المذكور :

« وقال الحافظ أبو بكر الخطيب : هذا حديث غريب من رواية أبي وائل عن مسروق ، لا نعلم رواه غير حصين بن عبد الرحمن عنه ، وفيه إرسال ، لأن مسروقا لم يدرك أم رومان ، وكانت وفاتها على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وكان مسروق يرسل رواية هذا الحديث عنها ويقول : سئلت أم رومان ، فوهم حصين فيه إذ جعل السائل لها مسروقا ، أللهمّ إلاّ أن يكون بعض النقلة كتب « سألت » بالألف ، فإن من الناس من يجعل الهمزة في الخط ألفا وإن كانت مكسورة أو مرفوعة ، فتبرأ حينئذ حصين من الوهم فيه ، على أن بعض الرواة قد رواه عن حصين على الصواب.

قال : وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه ، لما رأى فيه عن مسروق قال : سألت أم رومان ، ولم تظهر له علته.

وقد بيّنا ذلك في كتاب المراسيل وأشبعنا القول بما لا حاجة لنا إلى إعادته » (٢).

وقال الحافظ السهيلي بترجمة أم رومان :

« وروى البخاري حديثا عن مسروق فقال فيه :

سألت أم رومان وهي أم عائشة عما قيل فيها ، ومسروق ولد بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بلا خلاف ، فلم ير أم رومان قط ، فقيل : إنّه وهم في الحديث. وقيل : بل الحديث صحيح وهو مقدّم على ما ذكره أهل السيرة من موتها في حياة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.

__________________

(١) الاستيعاب ٤ / ١٩٣٧.

(٢) تهذيب الكمال في معرفة الرجال ٣٥ / ٣٦٠.

٢١٩

وقد تكلّم شيخنا أبو بكر ابن العربي ـ رحمه‌الله ـ على هذا الحديث واعتنى به لإشكاله ... » (١).

وقال ابن سيد الناس.

« وقد وقع في الصحيح رواية مسروق عنها بصيغة العنعنة وغيرها ولم يدركها ، وملخص ما أجاب به أبو بكر الخطيب أن مسروقا يمكن أن يكون قال : سئلت أم رومان ، فأثبت الكاتب صورة الهمزة فتصحفت على من بعده بسألت ، ثم نقلت إلى صيغة الإخبار بالمعنى في طريق ، وبقيت على صورتها في آخر ، ومخرجها التصحيف المذكور » (٢).

وقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام الحافظ الخطيب وتصدى للجواب عنه مدافعا عن البخاري ... ثم قال : « وقد تلقى كلام الخطيب بالتسليم : صاحب المشارق ، والمطالع ، والسهيلي ، وابن سيد الناس ، وتبع المزي الذهبي في مختصراته ، والعلائي في المراسيل ، وآخرون.

وخالفهم صاحب الهدى » (٣).

أقول : ( صاحب المشارق ) هو : الحافظ القاضي عياض ، وكتابه ( مشارق الأنوار على صحاح الأخبار ) من الكتب المعروفة المعتبرة ، ذكر فيه تحريفات وتصحيفات وأخطاء وقعت في الموطأ وكتاب البخاري وكتاب مسلم.

( وصاحب المطالع ) هو : الحافظ إبراهيم بن يوسف ، وكتابه ( مطالع الأنوار على صحاح الآثار ) قال الكاتب الجلبي بتعريفه :

« مطالع الأنوار على صحاح الآثار ، في فتح ما استغلق من كتب الموطأ ومسلم والبخاري ، وإيضاح مبهم لغاتها في غريب الحديث ، لابن قراقول ابراهيم ابن يوسف ، المتوفى سنة تسع وستين وخمسمائة صنّفه على منوال مشارق الأنوار

__________________

(١) الروض الأنف ٦ / ٤٤٠.

(٢) عيون الأثر ٢ / ١٠١.

(٣) فتح الباري ٧ / ٣٥٣.

٢٢٠