نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين ، تقي الدين ابن دقيق العيد ، في كتابه الاقتراح إلى هذا وقال : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدّثون والحكام.

قلت : ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري : تركه أبو زرعة وأو حاتم من أجل مسألة اللفظ ، فيا لله والمسلمين أيجوز لأحد أن يقول : البخاري متروك وهو حامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنّة والجماعة؟ يا لله والمسلمين أيجعل ممادحه مذام؟ فإن الحق في مسألة اللفظ معه ، إذ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفّظه من الأفعال الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى ، وإنما أنكرها الامام أحمد وابن صالح لبشاعة لفظها ».

والظاهر أنه يقصد من « بعضهم » الحافظ الذهبي وهو شيخه ، ولذلك آثر عدم التصريح باسمه.

وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي بترجمة البخاري : « زين الأئمة صاحب أصح الكتب بعد القرآن ، ساحب ذيل الفضل على ممر الزمان ، الذي قال فيه إمام الأئمّة ابن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم منه. وقال بعضهم : إنه آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض. قال الذهبي : كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة. هذا كلامه في الكاشف.

ومع ذلك غلب عليه الغرض من أهل السنة ، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين : ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ ، تركه لأجلها الرّازيان.

هذه عبارته وأستغفر الله تعالى ، نسأل الله السلامة ونعوذ به من الخذلان » (١).

« والرازيان » هما : أبو زرعة وأبو حاتم.

ثم اعلم أن الحافظ الذهبي وإن اكتفى بنقل طعن هذين الإمامين في كتابيه

__________________

(١) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ / ٢٤.

١٦١

( الميزان ) و ( المغني ) ، إلاّ أنه ذكر في سائر كتبه قدح الذهلي وابن أعين وغيرهما كذلك ، والظاهر أن السبكي والمناوي لم يقفا على ذلك وإلاّ لزاد تألمهما وعويلهما ...

ترجمة أبي زرعة الرازي

وترجم الذهبي لأبي زرعة ترجمة حافلة نذكر منها جملا ، قال : « أبو زرعة الرازي الامام سيد الحفاظ محدّث الري.

وقال أبو بكر الخطيب : كان إماما ، ربّانيا ، حافظا متقنا مكثرا ، جالس أحمد ابن حنبل وذاكره ، وحدّث عنه أهل بغداد.

قال أبو عبد الله ابن بطة : سمعت النجار سمعت عبد الله بن أحمد يقول :

لما ورد علينا أبو زرعة نزل عندنا فقال لي أبي : يا بنيّ قد اعتضت بنوافلي مذاكرة هذا الشيخ.

وقال ابن أبي شيبة : ما رأيت أحفظ من أبي زرعة.

ابن المقري : أنبأ عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني ، سمعت محمد بن إسحاق الصّاغاني يقول : أبو زرعة يشبّه بأحمد بن حنبل.

وقال علي بن الحسين بن الجنيد : ما رأيت أحدا أعلم بحديث مالك من أبي زرعة وكذلك سائر العلوم.

قال ابن أبي حاتم : سئل أبي عن أبي زرعة ، فقال : إمام.

قال عمر بن محمد بن إسحاق القطان : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول : ما جاوز الجسر أحد أفقه من إسحاق بن راهويه ولا أحفظ من أبي زرعة.

ابن عدي : سمعت أبا يعلى الموصلي يقول ما سمعنا يذكر أحد في الحفاظ إلاّ كان اسمه أكبر من رؤيته ، إلاّ أبو زرعة الرازي فإنّ مشاهدته كانت أعظم من اسمه ، وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير ، كتبنا بإملائه بواسطة ستة

١٦٢

آلاف حديث.

ابن عدي : سمعت الحسن بن عثمان ، سمعت ابن رواه ، سمعت إسحاق ابن راهويه ، يقول : كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ، فليس له أصل.

قال ابن أبي حاتم : سمعت يونس بن عبد الأعلى ، يقول : ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة ، هو وأبو حاتم إماما خراسان.

وقال يوسف الميانجي : سمعت عبد الله بن محمد القزويني القاضي ، يقول : حدثنا يونس بن عبد الأعلى يوما فقال : حدثني أبو زرعة ، فقيل له : من هذا؟ فقال : إنّ أبا زرعة أشهر في الدنيا من ابن أبي حاتم ، ثنا الحسن بن أحمد سمعت أحمد بن حنبل يدعو الله لأبي زرعة ، وسمعت عبد الواحد بن غياث يقول : ما رأى أبو زرعة مثل نفسه.

قال النسائي : أبو زرعة الرازي ثقة.

وقال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الحميد القرشي : سمعت عبد الله بن أحمد يقول : ذاكرت أبي ليلة الحفاظ فقال : يا بني! قد كان الحفظ عندنا ، ثم تحوّل إلى خراسان إلى هؤلاء الشباب الأربعة ، قلت : من هم؟ قال : أبو زرعة ذاك الرازي ، ومحمد بن إسماعيل ذاك البخاري ، وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك السمرقندي ، والحسن بن شجاع ذاك البلخي.

قلت : يعجبني كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل ، يبين عليه الورع والخبرة ، بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنّه جرّاح » (١).

وترجم له الحافظ ابن حجر ترجمة مفصلة أيضا ، نقل فيها الكلمات الواردة في حق أبي زرعة من كبار الأئمّة والحفاظ ، هذا ملخصها :

« أبو زرعة الرازي أحد الأئمّة الحفّاظ ، قال النسائي ثقة ، وقال أبو حاتم حدثني أبو زرعة ـ وما خلّف بعده مثله علما وفقها وصيانة وصدقا ، ولا أعلم في

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٦٥.

١٦٣

المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله ، قال : وإذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنه مبتدع. وقال ابن حبان في الثقات : كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة ، وترك الدنيا وما فيه الناس » (١).

وقال الذهبي أيضا : « أبو زرعة الحافظ ، أحد الأعلام » (٢).

وقال أيضا : « عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي ، الحافظ أحد الأعلام ، عن أبي نعيم والقعنبي وقبيصة وطبقتهم في الآفاق.

عنه : م ت س ق وأبو عوانة ومحمد بن الحسين والقطّان وأمم.

قال ابن راهويه : كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل. مناقبه تطول. ولد سنة ١٩٠. ومات سنة ٢٦٤ في آخر يوم من السنة » (٣).

وقال الحافظ : « إمام حافظ ثقة مشهور ، من الحادية عشر » (٤).

وقال اليافعي : « أبو زرعة الرازي الحافظ أحد الأئمّة الأعلام ... » (٥).

وقال السمعاني : « كان إماما ربّانيا ، حافظا مكثرا صادقا ، وقدم بغداد غير مرة ، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره وكثرت الفوائد في مجلسهما ... » (٦).

وقال السيوطي : « أحد أئمّة الأعلام وحفاظ الإسلام » (٧).

وقال عبد الغني المقدسي : « الامام ، أحد حفاظ الإسلام » (٨).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠.

(٢) العبر ـ حوادث ٢٦٤.

(٣) الكاشف ٢ / ٢٣٠.

(٤) تقريب التهذيب ١ / ٥٣٦.

(٥) مرآة الجنان ، حوادث ٢٦٤.

(٦) الأنساب ـ الرازي.

(٧) طبقات الحفاظ : ٢٤٩.

(٨) الكمال في معرفة الرجال ـ مخطوط ، لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الحافظ المتوفى سنة ٦٠٠. توجد ترجمته في العبر ومرآة الجنان في حوادث السنة المذكورة.

١٦٤

وروى النووي عن أحمد قوله : « انتهى الحفظ إلى الأربعة من أهل خراسان : أبو زرعة الرازي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، وعبد الله بن الرحمن السمرقندي ـ يعني الدارمي ـ والحسين بن الشجاع البلخي ».

ثم روى عن الحافظ أبي علي صالح بن محمد بن جزرة قوله : « أعلمهم بالحديث البخاري ، وأحفظهم أبو زرعة وهو أكثرهم حديثا ».

وعن محمد بن بشار شيخ البخاري ومسلم قوله : « حفّاظ الدنيا أربعة : أبو زرعة بالري ، ومسلم بن الحجاج بنيسابور ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ، ومحمد بن إسماعيل ببخارى » (١).

وروى أبو بكر الخطيب عن أبي جعفر الطّحاوي قوله : « ثلاثة من علماء الزمان بالحديث اتفقوا بالري ، لم يكن في الأرض في وقتهم أمثالهم ، فذكر أبا زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة وأبا حاتم الرازي » (٢).

هذا ، ولقد وصف ( الدهلوي ) أبا زرعة بـ « رئيس المحدثين » وترجم له ترجمة حافلة (٣) ، لكنه زعم في فصل الكلام على المتعة : أن كتاب مسلم بن الحجاج أصح الكتب (٤) ، مع علمه برأي « رئيس المحدثين » في مسلم وكتابه ...

٥ ) أبو حاتم الرازي

لقد ترك الامام أبو حاتم الرازي البخاري كرفيقه أبي زرعة الرازي ... كما علم من الكلمات المتقدمة.

ترجمة أبي حاتم

وتدل جملة من الكلمات المتقدمة في ترجمة أبي زرعة الرازي ، على عظمة

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٦٨. بترجمة البخاري.

(٢) تاريخ بغداد ٣ / ٢٥٦ بترجمة محمد بن مسلم بن وارة.

(٣) بستان المحدثين : ٩.

(٤) التحفة الاثنا عشرية ، باب المطاعن : ٣٠٢.

١٦٥

شأن أبي حاتم وجلالة قدره ، وقد أفادت أنه من أمثال البخاري وأبي زرعة ...

٦ ) ابن أبي حاتم

وابن أبي حاتم ذكر البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل ) ، فقد قال الحافظ الذهبي : « قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في الجرح والتعديل : قدم محمد بن إسماعيل الري سنة خمسين ومائتين ، وسمع منه أبي وأبو زرعة ، وتركا حديثه عند ما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق ... » (١).

ترجمة ابن أبي حاتم

ترجم له الحافظ الذهبي بما هذا ملخصه : « عبد الرحمن العلاّمة الحافظ قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم : كان ـ رحمه‌الله ـ قد كساه الله نورا وبهاء يسّر من نظر اليه.

قلت : وكان بحرا لا تدركه الدّلاء ، روى عنه ابن عدي وحسن بن علي التميمي ، والقاضي يوسف الميانجي ، وأبو الشيخ ابن حيان ، وابو أحمد الحاكم ، وعلي بن عبد العزيز بن مردك ، وأحمد بن محمد البصير الرازي ، وعبد الله بن محمد ابن يزداد ، وأخواه أحمد وإبراهيم بن محمد النصرآبادي ، وأبو سعيد عبد الوهاب الرازي ، وعلي بن محمد القصار وخلق سواهم.

قال أبو يعلي الخليلي : أخذ أبو محمد علم أبيه وأبي زرعة ، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال ، صنف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار ، قال : وكان زاهدا يعدّ من الأبدال.

قلت : له كتاب نفيس في الجرح والتعديل أربع مجلدات ، وكتاب الردّ على

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٣٩١.

١٦٦

الجهمية مجلد ضخم انتخبت منه ، وله تفسير كبير في عدة مجلدات عامّته آثار بأسانيد ، من أحسن التفاسير.

وقال الرازي المذكور في ترجمة عبد الرحمن : سمعت علي بن محمد المصري ـ ونحن في حارة ابن أبي حاتم ـ يقول : قلنسوة عبد الرحمن من السماء وما هو بعجب ، رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق. وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول : ما رأيت أحدا ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط.

قال الامام أبو الوليد الباجي : عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ » (١).

وقال صلاح الدين الكتبي : « الإمام ابن الإمام الحافظ ابن الحافظ ، سمع أباه وغيره ، قال ابن مندة ... له الجرح والتعديل في عدة مجلدات تدل على سعة حفظه وإمامته ... قال أبو يعلى الخليلي : كان يعدّ من الأبدال.

وقد أثنى عليه جماعة بالزهد والورع التام ، والعلم والعمل ، وتوفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة ، رحمه‌الله تعالى » (٢).

ووصفه الذهبي بـ « الحافظ الجامع » (٣) ، واليافعي بـ « الحافظ العالم » (٤).

ونقلا كلمة الخليلي المتقدمة.

٧ ) محمد بن يحيى الذهلي

وأما تكلّم محمد بن يحيى الذهلي في البخاري فمصرح به في عبارات الحفاظ ، قال الذهبي : « قال أبو حامد ابن الشرقي : سمعت محمد بن يحيى الذهلي ، يقول : القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته وحيث يصرف ، فمن

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٣.

(٢) فوات الوفيات ٢ / ٢٨٧.

(٣) العبر ـ حوادث ٣٢٧.

(٤) مرآة الجنان ـ حوادث ٣٢٧.

١٦٧

لزم هذا استغنى عن اللفظ وعمّا سواه من الكلام في القرآن. ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج عن الايمان ، وبانت منه امرأته ، يستتاب فإن تاب وإلاّ ضربت عنقه وجعل ماله فيئا بين المسلمين ، لم يدفن في مقابرهم. ومن وقف فقال : لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق ، فقد ضاهى الكفر. ومن زعم : أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلّم.

ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري ، فاتّهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلاّ من كان على مثل مذهبه » (١).

ولقد أورد الحافظ ابن حجر هذا الكلام في مقدمة شرح البخاري (٢).

وقال الذهبي : « قال الحاكم : ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم سمعت ابن علي المخلدي ، سمعت محمد بن يحيى ، يقول : قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية ، واللفظية عندي شرّ من الجهمية » (٣).

كفر الجهمية

وقد نصّ أئمّة أهل السنة وكبار حفّاظهم على كفر الجهميّة وهلاكهم وضلالهم ، فقد قال الذهبيّ بترجمة علي بن المديني : « قال ابن عمار الموصلي في تاريخه : قال لي علي بن المديني : ما يمنعك أن تكفّر الجهمية؟ وكنت أنا أوّلا لا أكفّرهم. فلمّا أجاب عليّ إلى المحنة ، كتبت إليه أذكّره ما قال لي وأذكّره الله ، فأخبرني رجل عنه أنه بكى حين قرأ كتابي ، ثم رأيته بعد ، فقال لي : ما في قلبي ممّا قلت وأجبت من شيء ، ولكنّي خفت أن أقتل وتعلم ضعفي أني لو ضربت سوطا واحدا لمتّ ، أو نحو هذا » (٤).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٥.

(٢) هدي الساري ٢ / ٢٦٣.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٥.

(٤) سير أعلام النبلاء ١١ / ٤١.

١٦٨

وقال الذّهبي أيضا : « جهم بن صفوان أبو محمد السّمرقندي ، الضّال المبتدع ، رأس الجهميّة ، هالك في زمان صغار التابعين ، وعلمته روى شيئا ، لكنه زرع شرّا عظيما » (١).

بين الذهلي والشيخين

وقال الحافظ الذّهبي : « قال ـ يعني الحاكم ـ : وسمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول : لما استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الاختلاف إليه. فلمّا وقع بين الذّهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللّفظ ، ونادى عليه ومنع النّاس عنه ، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم ، فقال الذهلي يوما : ألا من قال باللفظ ، فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا ، فأخذ مسلم ردائه فوق عمامته وقام على رءوس الناس ، وبعث إلى الذّهلي ما كتب عنه على ظهر حمّال ، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه.

قال : وسمعت محمد بن يوسف المؤذّن ، سمعت أبا حامد بن الشّرقي يقول : حضرت مجلس محمد بن يحيى ، فقال : ألا من قال لفظي بالقرآن مخلوق ، فلا يحضر مجلسنا ، فقام مسلم بن الحجاج عن المجلس ، رواها أحمد بن منصور الشيرازي ، عن محمد بن يعقوب ، فزاد : وتبعه أحمد بن سلمة.

قال أحمد بن منصور الشيرازي : سمعت محمد بن يعقوب الأخرم ، سمعت أصحابنا يقولون لمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي ، قال : لا يساكنني هذا الرجل في البلد ، فخشي البخاري وسافر » (٢).

وقال الحافظ ابن حجر : « وقال الحاكم أيضا عن الحافظ أبي عبد الله ابن الأخرم ، قال : لمّا قام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة من مجلس محمد بن يحيى بسبب البخاري ، قال الذهلي : لا يساكنني هذا الرجل في البلد. فخشي البخاري

__________________

(١) ميزان الاعتدال ١ / ٤٢٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٦.

١٦٩

وسافر » (١).

ترجمة محمد بن يحيى الذهلي

ترجم له الحافظ أبو بكر الخطيب ترجمة ضافية جدّا ، هذا ملخصها :

« وكان أحد الأئمّة العارفين والحفاظ المتقنين والثقات المأمونين ، صنّف حديث الزهري وجوّده ، وقدم بغداد وجالس شيوخها ، وحدّث بها.

وكان الامام أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله.

وقد حدّث عنه جماعة من الكبراء ، كسعيد بن أبي مريم المصري وأبي صالح كاتب الليث بن سعد ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وأبي داود السجستاني.

أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرني محمد بن عبد الله الضبّي في كتابه : قال : سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول : سمعت خالي عبد الله بن علي بن الجارود يقول : سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول : كنا عند الامام أحمد بن حنبل ، فدخل محمد بن يحيى ـ يعني الدهلي ـ فقام إليه أحمد وتعجّب منه الناس. ثم قال لبنيه وأصحابه : اذهبوا إلى أبي عبد الله فاكتبوا منه.

وأخبرنا ابن زرق ، أخبرنا دعلج بن أحمد ، حدثنا أبو محمد ابن الجارود قال : سمعت أبا عبد الرحيم محمد بن أحمد بن الجرّاح الجوزجاني يقول : دخلت على الامام أحمد بن حنبل. فقال لي : تريد البصرة؟ قلت : نعم ، قال : فإذا أتيتها فالزم محمد بن يحيى وليكن سماعك منه ، فإنّي ما رأيت خراسانيّا ـ أو قال : ما رأيت أحدا ـ أعلم بحديث الزهري منه ولا أصح كتابا منه.

أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن نعيم الضبيّ ، قال : سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ ـ وسأله أبو عمر الاصبهاني عن محمد بن يحيى وعباس بن عبد العظيم العنبري ، أيهما أحفظ؟ قال أبو علي : عباس بن

__________________

(١) هدي الساري ٢ / ٢٦٤.

١٧٠

عبد العظيم حافظ إلاّ أنّ محمد بن يحيى أجلّ ، حدثني فضلك الرازي أنه قال : حدثني من لم يخطئ في حديث قط محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري.

وقال أبو علي بن المديني : كفانا محمد بن يحيى جمع حديث الزهري.

أخبرنا هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري ، قال : سمعت العلاء بن محمد الروياني ومحمد بن الحسين الرازي ، يقولان : سمعنا عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول : سمعت أبي يقول : محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل زمانه.

أخبرني محمد بن أبي الحسن ، أخبرنا عبيد الله بن القاسم الهمداني بطرابلس ، أخبرنا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل العروضي بمصر ، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي إملاء قال : محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري ثقة مأمون.

أخبرنا محمد بن علي المقري قال : قرأنا على الحسين بن هارون ، عن أبي سعيد ، قال : سمعت عبد الرحمن بن يوسف ـ يعني ابن خراش ـ يقول : كان محمد بن يحيى من أئمّة أهل العلم.

أخبرني الحسين بن محمد الخلاّل ، حدثنا عمر بن أحمد الواعظ ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري وكان أمير المؤمنين في الحديث » (١).

وقال الحافظ الذهبي بترجمة الذّهلي : « الحافظ أحد الأعلام ، عن أحمد بن حنبل قال : ما رأيت خراسانيا أعلم بحديث الزهري منه ، ولا أصح كتابا منه.

وقال سعيد بن منصور لابن معيلم ، لم تجمع حديث الزهري؟ قال : قد كفانا محمد بن يحيى جمع حديث الزهري.

وقال أبو قريش الحافظ : كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم ، فجلس ساعة وتذاكرا ، فلمّا أن قام قلت : هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح ، قال : فلم ترك الباقي؟ ثم قال : ليس لهذا عقل ، لو دارى محمد بن يحيى لصار رجلا.

__________________

(١) تاريخ بغداد ٣ / ٤١٥ ـ ٤٢٠.

١٧١

قال أبو حاتم الرازي : محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل عصره ، أسكنه الله جنته مع جبّته.

وقال السلمي عن الدارقطني : قال : من أحبّ أن يعرف قصور علمه عن علم السلف ، فلينظر في علم حديث الزهري لمحمد بن يحيى » (١).

وقال الذهبي أيضا بترجمته : « الامام العلاّمة الحافظ البارع ، شيخ الإسلام وعالم أهل المشرق وإمام الحديث بخراسان ، وكان بحرا لا تدركه الدّلاء ، جمع علم الزهري وصنّفه وجوّده ، من أجل ذلك يقال له : الزهري ، ويقال له : الذهلي ، فانتهت إليه رئاسة العلم والعظمة والسؤدد ببلده ، كانت له جلالة عجيبة بنيسابور من نوع جلالة الامام أحمد ببغداد ومالك بالمدينة.

روى عنه خلائق منهم : الأئمّة سعيد بن أبي مريم ، وأبو جعفر النفيلي ، وعبد الله بن صالح ، وعمرو بن خالد ـ وهؤلاء من شيوخه ـ ومحمود بن غيلان ، ومحمد بن سهل بن عسكر ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ـ ويدلّسه كثيرا ، لا يقول محمد بن يحيى ، بل يقول : محمد فقط ، أو محمد بن خالد ، أو محمد بن عبد الله ، ينسبه إلى الجد ويعمّى اسمه لمكان الواقع بينهما ـ غفر الله لهما.

وممن روى عنه : سعيد بن منصور صاحب السنن ـ وهو أكبر منه ـ ، ومحمد ابن إسحاق الصاغاني ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، ومحمد بن عوف الطائي ، وأبو داود السجزي ، وأبو عيسى الترمذي ، وابن ماجة ، والنسائي في سننهم ، وإمام الأئمّة ابن خزيمة ، وأبو عوانة ، وأكثر عنه مسلم ، ثم فسد ما بينهما فامتنع من الرواية عنه ، فما ضره ذلك عند الله.

وقد سئل صالح بن جزرة عن محمد بن يحيى فقال : ما في الدنيا أحمق ممن يسأل عن محمد بن يحيى » (٢).

__________________

(١) تذهيب التهذيب ـ مخطوط.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٢٧٣.

١٧٢

ووصفه في موضع آخر بـ « أحد الأئمّة الأعلام » (١).

وفي آخر بـ « الحافظ » (٢).

وقال السمعاني في « الزهري » : « أما الامام أبو عبد الله محمد بن يحيى بن خالد الذّهلي إمام أهل نيسابور في عصره ورئيس العلماء ومقدّمهم ، لقب بالزهري لجمعه الزهريات ، وهي أحاديث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري » (٣).

وقال البدخشاني : « وهو من كبار الحفاظ الثقات الأثبات ، وأجلّة شيوخ البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ... » (٤).

وقال اليافعي : « الإمام الحافظ أحد الأعلام ... » (٥).

وترجم له الحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ (٦).

٨ ) أبو بكر ابن الأعين والبخاري

قال الحافظ الذهبي بترجمة علي بن حجر :

« قال الحافظ أبو بكر ابن الأعين : مشايخ خراسان ثلاثة : قتيبة ، وعلي بن حجر ، ومحمد بن مهران الرازي. ورجالها أربعة : عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ( قبل أن يظهر ) ، ومحمد بن يحيى ، وأبو زرعة » (٧).

فقوله : « قبل أن يظهر » يفيد الطعن كما لا يخفى.

__________________

(١) العبر في خبر من غبر ـ حوادث سنة ٢٥٨.

(٢) الكاشف ٣ / ١٠٧.

(٣) الأنساب ـ الزهري.

(٤) تراجم الحفاظ ـ مخطوط.

(٥) مرآة الجنان ـ حوادث سنة ٢٥٨.

(٦) طبقات الحفاظ / ٢٣٤.

(٧) سير أعلام النبلاء ١١ / ٥٠٧.

١٧٣

الامام أحمد واللّفظية

ثم قال الحافظ الذهبي :

« قلت : هذه دقة من الأعين ، الذي ظهر من « محمد » أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمّة في القول في القرآن ، وتسمّى مسألة أفعال التالين. فجمهور الأئمّة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، وبهذا ندين الله تعالى وندعو من خالف ذلك.

وذهب الجهميّة والمعتزلة والمأمون وأحمد بن أبي داود القاضي وخلق من المتكلّمين والرافضة ، إلى أنّ القرآن كلام الله المنزل مخلوق ، وقالوا : الله خالق كلّ شيء ، والقرآن شيء ، وقالوا : الله تعالى أن يوصف بأنّه متكلّم ، وجرت محنة القرآن وعظم البلاء ، فضرب أحمد بن حنبل بالسّياط ليقول ذلك ، نسأل الله تعالى السّلامة في الدين.

ثم نشأت طائفة فقالوا : كلام الله تعالى منزّل غير مخلوق ولكن ألفاظنا به مخلوقة ، يعنون لفظهم وأصواتهم به ، وكتابهم له ونحو ذلك ، وهم حسين الكرابيسي ومن تبعه ، فأنكر ذلك الامام أحمد وأئمّة الحديث.

وبالغ الامام أحمد في الحطّ عليهم وثبت عنه أنّه قال : اللفظية جهميّة ، وقال : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، وقال : من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع ، وسدّ باب الخوض في هذا.

وقال أيضا : من قال لفظي بالقرآن مخلوق ـ يريد القرآن ـ فهو جهميّ.

وقالت طائفة : القرآن محدث ، كداود الظاهري ومن تبعه ، فبدّعهم الامام أحمد فأنكر ذلك واثبت علم الجزم بأنّ القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنّه من علم الله تعالى ، وكفّر من قال بخلقه ، وبدّع من قال بحدوثه ، وبدّع من قال : لفظي بالقرآن قديم ، ولم يأت عنه ولا عن السّلف القول بأنّ القرآن قديم ، ما تفوّه به أحد منهم بهذا ، فقولنا قديم من العبارات المحدثة المبدعة ، كما أنّ قولنا محدث

١٧٤

بدعة.

وأمّا البخاري فكان من كبار الأئمّة الأذكياء ، فقال : ما قلت ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وإنما حركاتهم وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة ، والقرآن المسموع المتلوّ المكتوب في المصاحف كلام الله تعالى غير مخلوق ، وصنّف في ذلك أفعال العباد مجلّد ، فأنكر عليه طائفة ما فهموا مرامه ، كالذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي بكر ابن الأعين وغيرهم.

ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلاميّة والأشعرية ، وقالوا : القرآن معنى قائم بالنفس ، وإنّما هذا المنزل حكايته وعبارته ودال عليه. وقالوا : هذا المتلو معدود متعاقب ، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب والتعدّد ، بل هو شيء واحد قائم بالذات المقدسة.

واتسع المقال في ذلك ولزم منه أمور وألوان ، تركها ـ والله ـ من حسن الايمان ، وبالله تعالى نتأيّد » (١).

أقول : وإذا ثبت أنّ الامام أحمد قال : « اللفظية جهميّة » وأنّه أنكر على الكرابيسي ومن تبعه مقالتهم ، وبالغ في الحطّ عليهم ، وثبت أيضا « أنّ البخاري كان من اللفظية » ـ كما علم من سير أعلام النبلاء في ما سبق ـ فإنا نستنتج من ذلك شمول طعن الامام أحمد وإنكاره للبخاري أيضا ، فهو من « الجهميّة » والجهميّة « كفرة » كما سبق.

بل في ( ميزان الاعتدال ) و ( سير أعلام النّبلاء ) ، بترجمة الحسين الكرابيسي : « انّ الامام أحمد أنكر عقيدته وعدّه متجهّما ومقت النّاس الكرابيسي وتركوه » (٢). ومقتضى الاتّحاد بين الكرابيسي والبخاري في العقيدة في هذه المسألة ، كون البخاري كذلك عند أحمد. بل جاء بترجمة احمد بن حنبل من ( سير أعلام النبلاء ) ما نصّه :

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ / ٥١٠.

(٢) ميزان الاعتدال ١ / ٥٤٤ ، سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٩.

١٧٥

« قال اسماعيل بن الحسن السرّاج : سألت أحمد عمن يقول : القرآن مخلوق ، قال : كافر. وعمّن يقول : لفظي بالقرآن مخلوق فقال : فهو جهميّ » (١).

فلا بدّ لهم من الاعتراف بجهميّة البخاري وإن تجهّموا وتعبّسوا ، ولا محيص لهم من الإذعان بضلاله وإن تغيّروا وتربّدوا.

الامام أحمد بن صالح واللفظية

وقال الامام الحافظ أحمد بن صالح : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر ... نقله الحافظ الذّهبي عنه بترجمته ، حيث قال :

« قال محمد بن موسى المصري : سألت أحمد بن صالح ، فقلت له : إنّ قوما يقولون : إن لفظنا بالقرآن غير الملفوظ ، فقال : لفظنا بالقرآن هو الملفوظ والحكاية هي المحكي ، وهو كلام الله غير مخلوق. ومن قال : لفظي به مخلوق فهو كافر ».

موجز ترجمة أحمد بن صالح

وقد عنون الحافظ الذهبي أحمد بن صالح المذكور بقوله : « أحمد بن صالح الامام الكبير حافظ زمانه بالدّيار المصرية ، أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري ، كان أبوه جنديّا من أهل طبرستان ، وكان أبو جعفر رأسا في هذا الشأن ، قلّ أن ترى العيون مثله ، مع الثقة والبراعة ... » (٢).

مع الذهبي

ولنا هنا وقفة قصيرة مع الحافظ الذّهبي ... فإنّ الملاحظ أنّ الذهبي يتلوّن عند ما ينقل كلمات الأئمّة : الذهلي وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح وغيرهم في هذا المقام ...

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ / ١٧٧.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ / ١٦٠.

١٧٦

فمرّة : يصوّب كلام أحمد بن حنبل في الكرابيسي ولا يستعظم تكفيره إيّاه ...

وأخرى : يؤيّد الكرابيسي ويحاول توجيه طعن الامام أحمد وتكفيره له ، فيقول : « ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرّره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق ، لكن أباه الامام أحمد ، لئلاّ يتذرّع به إلى القول بخلق القرآن ، فسدّ الباب ، لأنّك لا تقدر أن تفرز المتلفّظ من الملفوظ الذي هو كلام الله تعالى إلاّ في ذهنك » (١).

ولكن هذا العذر لا يكفي لتصحيح تكفير الرجل ... لا سيّما وأن الكرابيسي كان قد أوضح مقالته وحرر مرامه ... على أن المفهوم من كلام الذهبي هو أنّ الامام أحمد كان يوافق الكرابيسي في هذا الاعتقاد ويصوّبه ، فهل يجوز دفع الباطل بإبطال الحق وإنكاره؟ ولو كانت الغاية في الواقع ما ذكره الذهبي ، فلتجز التقية ومجاملة أهل الباطل مطلقا ...

ومرّة ثالثة : يجوّز احتمالين في كلام الكرابيسي ، فيؤيّده على معنى ويحمل إنكار الامام أحمد على المعنى الآخر ، فيقول : « وكان يقول : القرآن كلام الله غير مخلوق ولفظي به مخلوق ، فإن عنى التلفظ ، فهذا جيّد ، فإنّ أفعالنا مخلوقة. وإن قصد الملفوظ وأنه مخلوق ، فهذا الذي أنكره الامام أحمد والسلف ، وعدوه تجهّما ، ومقت الناس حسينا لكونه تكلّم في أحمد ».

وهذا ينافي ما تقدم من أنه « لا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي ... هو حقّ ، لكن أباه الامام أحمد لئلاّ ... ».

ثم لو سلّمنا تحمّل كلامه للاحتمالين ، فما وجه تكفير الامام أحمد إيّاه ، وحمله كلامه على المحمل الباطل فحسب؟!

وعلى أي حال فلا جدوى لاعتذار الذهبي ، لوجود التنافي البيّن والتناقض

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٩.

١٧٧

الواضح في كلماته ...

وبهذا يندفع ما ذكره بترجمة أحمد بن صالح بعد كلامه المتقدم نقله : « قلت :

إن قال : لفظي ، وعنى به القرآن ، فنعم ، وإن قال : لفظي وقصد به تلفظي وصوتي وفعلي أنه مخلوق ، فهذا مصيب ».

وأما قول الذهبي بترجمة علي بن حجر في الدفاع عن البخاري : « وأمّا البخاري فكان من كبار الأئمّة الأذكياء ... » فغريب جدّا ، لأن معناه : أن البخاري لم يقل بأن ألفاظنا مخلوقة بالقرآن ، بل قال : إنّ حركاتنا وأصواتنا وأفعالنا مخلوقة ، والقرآن المسموع المتلوّ الملفوظ هو كلام الله تعالى وهو غير مخلوق ، فالبخاري إذا لا يقول بخلق القرآن.

والحال أنه يناقضه ما ذكره عن البخاري سابقا ، ومع غض النظر عن ذلك فإن هذا التفريق لا يتفوه به عاقل ذو فهم أبدا ، وهذا من أوضح البراهين على جمود عقول هؤلاء ، فإنّهم تارة يفرّقون بين اللفظ والملفوظ ويحكمون بكونه مخلوقا ، وأخرى يفرّقون بين الألفاظ وبين الأصوات والحركات ...

ولمّا كان هذا التفريق باطلا فإنّ الذهبي لمّا تنبّه إلى فساده ، أيّد الكرابيسي في قوله بخلق القرآن ، من غير التفات إلى تأويل البخاري ، فقال : « لا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرّره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق ... ».

فالعجب من الذهبي ، لما ذا يضطرب هذا الاضطراب؟ ويتلوّن هذا التلوّن؟ وكيف يزعم أن الذهلي وأبا زرعة وأبا حاتم وابن الأعين وغيرهم لم يفهموا مغزى كلام البخاري؟

بل كلام الذهبي بترجمة هشام بن عمار صريح في اتّحاد حكم اللفظ والأصوات ، وفي أنّهما مخلوقان ، وهذا نص كلامه :

« قلت : كان الامام أحمد يسدّ الكلام في هذا الباب ولا يجوّزه ، ولذلك كان يبدّع من يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق ، ويضلّل من يقول : لفظي بالقرآن قديم ، ويكفّر من يقول : القرآن مخلوق. بل يقول : القرآن كلام الله منزل غير

١٧٨

مخلوق ، وينهى عن الخوض في مسألة اللفظ.

ولا ريب أن تلفظنا بالقرآن من كسبنا ، والقرآن الملفوظ المتلوّ كلام الله تعالى غير مخلوق ، والتلاوة واللفظ والكتابة والصوت من أفعالنا ، وهي مخلوقة ، والله سبحانه وتعالى أعلم » (١).

هذا ، وقد قال الذهبي بترجمة محمد بن يحيى الذهلي :

« كان الذهلي شديد التمسك بالسنّة ، قام على محمد بن إسماعيل لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أنّ تلفظ القارئ بالقرآن مخلوق ، فلوّح وما صرّح والحق أوضح ، ولكن أبى البحث في ذلك أحمد بن حنبل وابو زرعة والذّهلي ، والتوسع في عبارات المتكلمين سدّ للذريعة ، فأحسنوا أحسن الله تعالى جزاهم.

وسافر ابن اسماعيل مختفيا من نيسابور ، وتألم من فعل محمد بن يحيى. وما زال كلام الكبار المتعاصرين بعضهم في بعض لا يلوى عليه بمفرده ، وقد سبقت ذلك في ترجمة ابن اسماعيل ، رحم الله تعالى الجميع وغفر لهم ولنا آمين » (٢).

أقول : وإذا كانت شدة تمسك الذهلي بالسنّة هي السبب في قيامه علي البخاري ، فإنّ قول الذهبي : « وما زال ... » غريب جدّا ، أفهل يقال : إن قيامه على البخاري كان حسدا منه له؟ أو عنادا؟ أم ما ذا؟

وعلى كلّ حال نقول : إذا لم يكن تكلّم الذهلي وغيره من كبار الأئمّة وقيامهم على البخاري وتركهم له قادحا في وثاقته ، فإن إعراض البخاري ومسلم عن حديث الغدير وتركهم روايته غير قادح في صحّته وثبوته بالأولوية.

وأيضا : لا يكون قدح أبي داود وأبي حاتم قابلا للاعتماد بعد سقوط كلام شيخهما الذهلي عن درجة الاعتبار ، كما لا يبقى بعد ذلك أيّ وزن واعتبار لقدح الجاحظ ...

فسقط تمسك الفخر الرازي بذلك كله ... والحمد لله.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ / ٤٢٠.

(٢) المصدر نفسه ١٢ / ٢٧٣.

١٧٩

٩ ) عبد العلي الأنصاري الهندي

وممن تكلّم في الكتابين : المولوي عبد العلي الأنصاري السهالي * المعروف * في بلاد الهند بـ « بحر العلوم » وقد أثنى عليه واعتمد على تحقيقاته كبار العلماء * فانه قال :

« فرع ـ ابن الصلاح وطائفة من الملقّبين بأهل الحديث زعموا أن رواية الشيخين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج صاحبي الصحيح ، يفيد العلم النظري ، للإجماع على أنّ للصحيحين مزيّة على غيرهما ، وتلقّت الأمّة بقبولها ، والإجماع قطعي.

وهذا بهت ، فإنّ من راجع إلى وجدانه ، يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين البتّة ، وقد روي فيهما أخبار متناقضة ، فلو أفاد روايتهما علما لزم تحقق النقيضين في الواقع ، وهذا ـ أي ما ذهب اليه ابن الصلاح وأتباعه ـ يخالف ما قالت الجمهور من الفقهاء والمحدّثين ، فإن انعقاد الإجماع على المزية على غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع. والإجماع على مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد ، ولأنّ جلالة شأنهما وتلقّي الأمّة بكتابيهما لو سلّم لا يستلزم ذلك القطع والعلم ، فانّ القدر المسلّم المتلقى بين الأمّة ، ليس إلاّ أن رجال مروياتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم ، وهذا لا يفيد إلاّ الظنّ.

وأمّا أن مروياتهما ثابتة عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فلا اجماع عليه أصلا ، فكيف ولا اجماع على صحة جميع ما في كتابيهما ، لأن رواتهما منهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع ، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه ، فأين الإجماع على صحة مرويات القدريّة؟ غاية ما يلزم أن أحاديثهما أصح الصحيح ، يعني أنها مشتملة على الشروط المعتبرة عند الجمهور على الكمال ، وهذا لا يفيد إلاّ الظنّ.

هذا هو الحق المتبع ، ولنعم ما قال الشيخ ابن الهمام : إنّ قولهم بتقديم

١٨٠