نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

مع الرازي في كلامه

حول حديث الغدير وفقهه

١٢١
١٢٢

لقد أوقفك البحث المتقدم على أن جماعات من علماء أهل السنة رووا حديث الغدير حاكمين بصحته وتواتره ، مصرّحين بطرقه الجمة وأسانيده الكثيرة ، حتى أن جماعة من كبار حفاظهم أفردوا كتبا لجمع ألفاظه وطرقه المعتبرة.

ولكن العصبية المقيتة والانحياز عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وحبّ الخلاف وإنكار الضروريات ... كل ذلك حدى بالفخر الرازي إلى دعوى عدم صحة الحديث وإنكار تواتره ، معلّلا ذلك بأمور تافهة وأخرى كاذبة ... وهذا نص كلامه حول هذا الحديث الشريف في ( نهاية العقول ) :

« لا نسلّم صحة الحديث ، أما دعواهم العلم الضروري بصحته فهي مكابرة ، لأنا نعلم أنه ليس العلم بصحته كالعلم بوجود محمّد عليه‌السلام وغزواته مع الكفّار وفتح مكة وغير ذلك من المتواترات ، بل العلم بصحة الأحاديث الواردة في فضائل الصّحابة أقوى من العلم بصحّة هذا الحديث ، مع أنّهم يقدحون بها ، وإذا كان كذلك فكيف يمكنهم القطع بصحة هذا الحديث؟

وأيضا : فلأن كثيرا من أصحاب الحديث لم ينقلوا هذا الحديث ، كالبخاري ومسلم والواقدي وابن إسحاق ، بل الجاحظ وابن أبي داود السجستاني وأبو حاتم الرازي وغيرهم من أئمة الحديث قدحوا فيه.

١٢٣

واستدلوا على فساده بقوله عليه‌السلام : قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار مواليّ دون الناس كلّهم ، ليس لهم موالي دون الله ورسوله.

والثاني ـ وهو أن الشيعة يزعمون أنّه ـ عليه‌السلام ـ إنّما قال هذا الكلام بغدير خم في منصرفه من الحج ، ولم يكن علي مع النبي في ذلك الوقت ، فإنه كان باليمن ».

هذا كلام الرازي الملقّب عندهم بـ « الامام » في رد حديث الغدير ، وقد رأينا من الضروري إثباته ، ثم الاشارة إلى ما فيه من أكاذيب وأغلاط وإنكار للحقائق الراهنة والقضايا الثابتة تاريخيا ، ليتبين للملإ مدى سوءة نفس الرجل ، وليكون ردّا حاسما لكلّ أولئك الذين تقودهم الأغراض إلى الافتراء ، وتدعوهم الأهواء إلى الافتعال ، وكأنهم نسوا قول الله عز وجلّ : ( وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى )!.

١٢٤

الرد

مقدمة

إن الرازي لم يكتف بالقدح في هذا الحديث الصحيح المروي بالطرق العديدة بالتواتر عن أكثر من مائة نفس من الصحابة ، بل زعم أن الأحاديث الواردة عندهم في فضائل الصحابة ـ مع العلم بأن كثيرا منها موضوع باعتراف أهل العلم والإنصاف ـ أقوى من حديث الغدير!!

وتفيد عبارته ـ حيث جاء لفظ « الأحاديث » فيها معرفا باللام ـ كون جميع تلك الأحاديث ـ في رأيه ـ أقوى من هذا الحديث. ولو تنزلنا عن ذلك فلا أقل من حمل « الأحاديث » على الأكثر ، فكأنه قال : إن العلم بصحة أكثر الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة أقوى من العلم بصحة حديث الغدير الوارد في فضل علي.

ولكن هذا الزعم على إطلاقه باطل ، إذ ليس في أحاديث فضائل الصحابة حديث واحد يجئ بمثابة حديث الغدير سندا ودلالة فضلا عن تلك الكثرة من الخرافات الواهية الموضوعة! وعلى من ادعى مثل ذلك أن يورد أوّلا بعض تلك الأحاديث المزعومة ، مع تصحيح أسانيدها من كبار أئمة الحديث وعلماء الجرح والتعديل ـ كما هو الثابت والحاصل بالنسبة إلى حديث الغدير ـ عن جماعة من

١٢٥

الصحابة مطلقا ، ثم يبين مدى العلم الحاصل بصحتها ، ومدى دلالتها على مطلوبهم ...

ثم إن ذلك إنما يتم فيما إذا جاءت تلك الأحاديث ـ كلها أو بعضها ـ عن طرق الشيعة الامامية متواترة أو قوية بأسانيد متكثرة ، كما هو الشأن في حديث الغدير عند الفريقين.

بل إنّا نوسّع المجال للرازي ومن لفّ لفّه ، فنتحدّاهم في إثبات مساواة أحاديث معدودة من أحاديث فضائل الصحابة لحديث الغدير ، في قوة العلم بالصحة ، فضلا عن إثبات كونها أقوى من هذا الحديث الشريف.

وباختصار : إن قوله : « وأما دعواهم العلم الضروري بصحته فهي مكابرة ». مكابرة ، إذ ما من شيء يدّعي أهل السنة التواتر فيه والعلم الضروري بصحّته إلاّ وحديث الغدير أقوى منه وأعظم ... والمنع المحض غير مجد وغير مسموع في مثل هذا الأمور ، وإلاّ لصحّ لمانع أن يمنع وجود مكة والمدينة والنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

اللهمّ إلاّ أن يذكروا فارقا بين هذا الحديث الشريف وسائر المتواترات والضروريات ... وأنى لهم ذلك ... ولنعم ما أفاد الامام المولى السيد محمد قلي حيث قال : « لا شكّ في أن كلّ من تأمل وأنصف في كثرة طرق الحديث واشتهاره بين الخاصة والعامة ، مع وفور الدواعي إلى الكتمان وكثرة الصوارف عن النقل ، يحصل له العلم الضروري بصحة هذا الحديث ، وكيف وقد يحصل للمسلمين القطع واليقين في كثير من الأمور الدينية التي هي أدون مرتبة في باب التواتر من هذا الحديث ، كآيات التحدّي والتحدّي بها على رءوس الاشهاد من الكفار وأعداء الدين ، مع وجود الدواعي إلى المعارضة وعدم وجود موانع ، وهكذا صدور المعجزات ونحو ذلك ، مع ان الكفار كافة ينكرون ذلك كلّه ، ويدّعون أن أهل الإسلام كلّهم تواطئوا على الكذب واختراع هذه الأخبار ، لأن كلّهم من ارباب الأغراض والدواعي إلى وضع تلك الأخبار ، كما أن أهل الإسلام يدّعون

١٢٦

كذلك في باب الأخبار المخصوصة بأهل المذاهب الفاسدة ، من اليهود والنصارى والصابئين وعبدة النيران والأوثان وسائر المشركين ، فكيف يسوغ لمسلم منصف أن ينكر التفاوت بين البديهيين ، فإنه قد يكون أحدهما أجلى من الآخر ، كيف ، ولو لم يكن الأمر كذلك يلزم إهمال الكثير من المتواترات » (١).

وبعد ، فلننظر بما ذا تشبّث الرازي في ردّ هذا الحديث :

لقد زعم الرازي عدم نقل كثير من أصحاب الحديث لحديث الغدير ، ولكن هذا مردود بما سننقله في الكتاب من أسماء مخرجي حديث الغدير ورواته وناقليه ، بحيث يتجلى لمن يقف على تلك القائمة من أسماء أعاظم علماء أهل السنّة أن الكثير منهم يروون هذا الحديث مع التنويه بعظمته وصحته وتواتره ، والتصريح بحصول العلم الضروري لهم بصدوره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والغريب من الرّازي حيث يقول : إنّ كثيرا من أصحاب الحديث لم ينقلوا هذا الحديث ، ثمّ يعدّ من أسماء تلك الكثرة المزعومة أسماء أربعة فقط ، وليته ذكر ثلاثين أو عشرين من أعيان المحدّثين حتى يناسب دعواه ، لأن عدم نقل أربعة بل عشرة لا يعارض نقل هذا الجم الغفير والجمع الكبير لحديث الغدير ...

ولو سلّمنا أن كثيرا من أصحاب الحديث لم ينقلوه ، فإنّ عدم نقلهم لحديث الغدير المشهور المتواتر إنما هو لانحيازهم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وكتمانهم فضائله الشريفة لأغراضهم الفاسدة ، بدليل أنهم في نفس الوقت يروون الخرافات الغريبة في فضائل خلفائهم وأئمّتهم ...

ومتى كان النافي بصراحة لا يعبأ بقوله ، لوجود المثبت ، فالساكت والمعرض أولى بعدم الاعتناء ...

هذا ، ولنتكلم على تشبّث الرّازي بعدم نقل البخاري ومسلم والواقدي وابن إسحاق.

__________________

(١) عماد الإسلام في الامامة ٤ / ٢١٧.

١٢٧
١٢٨

(١)

عدم رواية البخاري ومسلم حديث الغدير

١٢٩
١٣٠

لنا في ردّ تشبّث الرازي بعدم إخراج البخاري ومسلم حديث الغدير في كتابيهما وجوه :

١. إنه دليل التعصب

إنّ عدم إخراجهما حديث الغدير ـ على تواتره وشهرته ـ يدلّ على تعصّبهما المقيت وإعراضهما عن أهل البيت ـ عليهم الصّلاة والسلام ـ ، ولو لم يكونا كذلك لما تمسّك الجاهلون بمجرّد ذلك بالنّسبة إلى حديث من الأحاديث ... ومن ذلك حديث الغدير ...

٢. المثبت مقدّم على النافي

إنّ من القواعد المسلّمة لدى جميع أهل العلم ـ ولا سيما علماء الأصول ـ هي القاعدة المعروفة بـ « تقدم المثبت على النافي » ...

وبناء على هذه القاعدة : لا يعبأ بنفي النافي صريحا ـ مع وجود المثبت ـ فكيف يكون السّكوت المحض عن حديث قادحا؟

ولقد كثر استناد كبار العلماء إلى هذه القاعدة وهذا الأصل المسلّم ، واستدلوا به في مختلف بحوثهم كما لا يخفى على الخبير ، ولا بأس بذكر شواهد على ذلك :

١٣١

١ ) قال الحلبي في ذكر دخول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الكعبة المشرفة بعد الفتح : « قال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : فلمّا فتحوا كنت أوّل من ولج ، فلقيت بلالا فسألته هل صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال : نعم ، وذهب عني أن أسأله كم صلّى.

وهذا يدل على أن قول بلال ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنه صلّى الله عليه وسلّم ـ أتى بالصّلاة المعهودة ، لا الدعاء كما ادّعاه بعضهم. وفي كلام السهيلي في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : أنه صلى فيها ركعتين.

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : أخبرني أسامة بن زيد : أنه صلّى الله عليه وسلّم ـ لمّا دخل البيت دعا في نواحيه كلّها ، ولم يصلّ فيه حتى خرج ، فلمّا خرج ركع في قبل البيت ركعتين ، أي بين الباب والحجر الذي هو الملتزم وقال : هذه القبلة.

فبلال ـ رضي‌الله‌عنه ـ مثبت للصلاة في الكعبة ، وأسامة ـ رضي‌الله‌عنه ـ ناف ، والمثبت مقدّم على النافي ... » (١).

٢ ) قال ابن القيّم : « وذكر النسائي عن ابن عمر قال : من سنّة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة ، والجلوس على اليسرى ، ولم يحفظ عنه في هذا الموضوع جلسة غير هذه ، وكان يضع يديه على فخذيه ، ويجعل حدّ مرفقه على فخذه وطرف يده على ركبتيه ، وقبض ثنتين من أصابعه وحلّق حلقه ثم رفع إصبعه يدعو بها ويحركها ، هكذا قال وائل بن حجر عنه.

وأمّا حديث أبي داود ، عن عبد الله بن الزبير ، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحرّكها هكذا. فهذه الزيادة في صحتها نظر. وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في صحيحه عنه ولم يذكر الزيادة ، قال : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ إذ قعد في الصلاة ، جعل قدمه اليسرى بين فخذيه وساقه ،

__________________

(١) إنسان العيون في سيرة الامين والمأمون ٣ / ٣١.

١٣٢

وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بإصبعه. وأيضا : فليس في حديث أبي داود أنّ هذا كان في الصلاة ، فلو كان في الصلاة لكان نافيا وحديث وائل مثبتا وهو مقدّم ، وهو حديث ذكره أبو حاتم في صحيحه » (١).

٣ ) قال المنيني : « المشورة ـ بضم الشين لا غير كذا صحّحه الحريري في درّة الغواص ، قاله البجاتي. وفي المصباح المنير : وفيها لغتان : سكون الشين وفتح الواو ، والثانية : ضم الشين وسكون الواو وزان معونة ، والمثبت مقدّم على النافي ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ » (٢).

ترجمة المنيني

وقد ترجم المرادي الشيخ أحمد المنيني المذكور بقوله : « أحمد بن علي ، الشيخ العالم العلم العلامة الفهّامة ، المفيد الكبير المحدّث الامام الحبر البحر ، الفاضل المتقن المحرر المؤلّف المصنّف. كان ألمعيا لغويا أديبا أريبا حاذقا ، لطيف الطّبع حسن الخلال عشورا ، متضلّعا متطلّعا متمكّنا خصوصا في الأدب وفنونه ، حسن النظم والنثر. ولد سنة ١٠٩٨ ، طلب العلم بعد أن تأهّل له ، فقرأ على سادات أجلاّء ذكرهم في ثبته ، ومن تآليفه : شرح تاريخ العتبي في نحو أربعين كراسا ، ألّفه في رحلته الروميّة بطلب من مفتي الدولة العثمانية في ذلك الوقت ، وهو كتاب مفيد.

تزاحمت عليه الأفاضل من الطّلاب وكثر نفعه واشتهر فضله وعقدت عليه خناصر الأنام. وكانت وفاته يوم السبت تاسع عشر جمادى الثانية سنة ١١٧٢ » (٣).

__________________

(١) زاد المعاد ١ / ٦٠.

(٢) الفتح الوهبي ـ شرح تاريخ أبي نصر العتبي ١ / ٨.

(٣) سلك الدرر ١ / ١٣٣ ـ ١٤٥ ، ملخصا بلفظه.

١٣٣

٤ ) قال ابن الوزير الصنعاني : « المضعّف للحديث ، إذا لم يبيّن سبب التضعيف ناف ، والمثبت أولى من النافي » (١).

أقول ـ وبالإضافة إلى ما تقدّم ـ : تفيد بعض الكلمات أنّ عدم سماع أحد من أصحاب الحديث حديثا من الأحاديث وعدم تسليمه بصحته لا يكون قادحا بذاك الحديث ... قال ابن القيّم : « قال أبو عمرو ابن عبد البرّ : روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ أنه كان يسلّم تسليمة واحدة من حديث عائشة ومن حديث أنس ، إلاّ أنها معلولة لا يصحّحها أهل العلم بالحديث ، ثم ذكر علّة حديث سعد : إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ كان يسلّم في الصلاة تسليمة واحدة ، وقال : هذا وهم وغلط ، وإنما الحديث : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ يسلّم عن يمينه وعن يساره ، ثمّ ساقه من طريق ابن المبارك عن معصب بن ثابت ، وعن اسماعيل بن محمد بن سعد ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ يسلّم عن يمينه وعن شماله كأني أنظر إلى صفحة خدّه.

قال الزهري : ما سمعنا هذا من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقال له اسماعيل بن محمد : أكلّ حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ قد سمعته؟ قال : لا؟ قال : فنصفه؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذا في النّصف الّذي لم تسمع » (٢).

أقول : وإذا كان إنكار الزهري غير وارد ، فإعراض البخاري ومسلم ـ المجرّد عن كلّ إنكار ـ لحديث الغدير غير قادح بطريق أولى.

٣. الشهادة على النفي غير مسموعة

إنّ الشهادة على النفي غير مسموعة لدى أهل العلم ، قال ( الدهلوي ) في

__________________

(١) الروض الباسم في الذب عن أبي القاسم ١ / ٧٩.

(٢) زاد المعاد ١ / ٦٦.

١٣٤

( تحفته ) ما هذا تعريبه : « فإن أنكر الزجاج جرّ ( جوار ) مع وجود العاطف فلا يعبأ بإنكاره ، لأن أئمة علماء العربية ومهرة الفنّ يجوّزونه ، ولأنّه واقع في القرآن الكريم وكلام البلغاء من العرب.

فشهادة الزّجاج سببها قصور التتبّع ، وهي شهادة على النّفي ، والشهادة على النفي غير مقبولة ».

فإذا كان إنكار أحد العلماء ـ مهما كان جليلا وإماما في العلم ـ لا يقاوم إثبات المحققين ، فإن الإعراض المحض عن ذكر حديث وعدم إخراجه لا يكون قادحا في ثبوته وصحّته قطعا.

٤. عدم النقل لا يدل على العدم

إن عدم النقل لا يدل على العدم ، لا سيّما إذا كان العلم بالأمر ضروريا بين الناس كافة.

ويشهد بما ذكرنا قول الفاضل حيدر علي الفيض آبادي في كلام له : « وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفاروق ونظرائه ناظروا الصّديق الأكبر حول عزمه الواقع بالإلهام الالهي على قتال مانعي الزكاة ، فقالوا : إنّ مفاد الحديث النبوي ومقتضاه هو : أن من قال لا إله إلاّ الله فقد حقن دمه وماله ، وأنت تريد قتال هؤلاء؟ فقال أبو بكر : هلاّ حفظتم ذيل الحديث إذ قال : إلاّ أن يكون القتال من أجل الكلمة؟ والزكاة من أركانها ، والله لو فرق أحد بين الصلاة والزكاة لقاتلته. فقبل الأصحاب منه ذلك وهبّوا للقتال طائعين.

فلو فرضنا أنهم نصبوا قائدا لهم وأرسلوا ـ وغرضهم من ذلك ردع المرتدين ـ ثم لم يتذاكروا معهم على ذلك ، وكفّوا عن القتال عند الأذان ـ عملا بالسّنة ـ فإن ذلك لا يدل على أن أحدا من المرتدين لم ينكر أداء الزكاة ، بشيء من الدلالات الثلاث ، فإنّ عدم الذكر ليس دليل العدم ، ولا سيّما عدم ذكر ما ثبت من قبل مكررا وكان حصول العلم به عند الناس ضروريا ، بل إنّ اختفاء واستتار

١٣٥

أمثال هذه الأمور المذكورة في مجاميع السنّة ، والجارية على ألسن الأصاغر والأكابر ، من المحالات العادية ... » (١).

٥. عدم استيعاب الكتابين للصحاح

ومن القائل بانحصار الأحاديث الصحيحة في الكتابين؟ البخاري ومسلم أم غيرهما؟ ومتى ثبت ذلك؟ وكيف؟ وما الدليل عليه؟ وهل يصحّ القول بأن كان حديث لم يخرجاه فهو ضعيف؟

إنّا لا يسعنا إلاّ أن ننقل بعض النصوص الصريحة في الموضوع :

١ ) قال النووي ـ بعد ذكر إلزام الدارقطني وغيره الشيخين إخراج أحاديث تركا إخراجها ، قائلين : إن جماعة من الصحابة رووا عن رسول الله ، ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها ، ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فيلزمهما إخراجها ـ :

« وصنّف الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما ، وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة ، فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح ، بل صحّ عنهما تصريحهما بانّهما لم يستوعباه ، وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد [ المصنف ] في الفقه جمع جملة من مسائله » (٢).

٢ ) قال القاضي الكتاني : « لم يستوعبا كلّ الصحيح في كتابيهما ، وإلزام الدّارقطني وغيره لهما أحاديث على شرطيهما لم يخرجاها ، ليس بلازم في الحقيقة ، لأنّهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل جملة منه أو ما يسدّ مسده من غيره منه.

قال البخاري : ما أدخلت في كتاب الجامع إلاّ ما صحّ وتركت من الصحاح لحال الطول.

وقال مسلم : ليس كلّ شيء عندي صحيح وضعته هاهنا ، وإنّما وضعت ما

__________________

(١) منتهى الكلام / ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ١ / ٣٧.

١٣٦

أجمعوا عليه. ولعلّ مراده ما فيه شرائط الصحيح المجمع عليه عنده ، لا إجماعهم على وجودها في كل حديث منه ، أو أراد ما أجمعوا عليه في علمه متنا أو اسنادا ، وإن اختلفوا في توثيق بعض رواته ، فإنّ فيه جملة أحاديث مختلف فيها متنا أو إسنادا ، ثم قيل : لم يفتهما منه إلاّ القليل. وقيل : بل فاتهما كثير منه ، وإنّما لم يفت الأصول الخمسة : كتاب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. ويعرف الزائد عليهما بالنصّ على صحته من إمام معتمد في السنن المعتمدة ، لا بمجرد وجوده فيها ، إلاّ إذا شرط فيها مؤلّفها الصحيح ككتاب ابن خزيمة وأبي بكر البرقاني ونحوهما ... » (١).

٣ ) قال عبد الحقّ الدهلوي : « ليس الأحاديث الصحاح محصورة في كتابي البخاري ومسلم ، فإنّما لم يستوعبا الصحيح ، بل إنهما لم يخرجا كلّ الأحاديث الواجدة لشرائط الصحة عندهما فكيف بمطلق الصحّاح؟

قال البخاري : ما أدخلت في كتاب الجامع إلاّ ما صحّ ، وتركت من الصحاح لحال الطول. وقال مسلم : ليس كلّ شيء عندي صحيح وضعته هاهنا ، وإنّما وضعت ما أجمعوا عليه » (٢).

٤ ) قال الشمس العلقمي بشرح حديث : « ما من غازية ... » ردّا على من قدح فيه : « وأما قولهم : إنّه ليس في الصحيحين. فليس بلازم في صحة الحديث كونه في الصحيحين ولا في أحدهما » (٣).

٥ ) قال ابن القيّم ـ حول حديث أبي الصهباء في باب الطلاق ـ : « فصل :وأما تلك المسالك الوعرة التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء فلا يصحّ شيء منها :

أما المسلك الأول ـ وهو انفراد مسلم بروايته وإعراض البخاري عنه ـ

__________________

(١) المنهل الروي في علم أصول حديث النبي : ٦.

(٢) ترجمة المشكاة لعبد الحق الدهلوي.

(٣) الكوكب المنير في شرح الجامع الصغير. حرف الميم ـ مخطوط.

١٣٧

فتلك شكاة ظاهر عنك عارها ، وما ضرّ ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئا ، ثمّ هل تقبلون أنتم أو أحد مثل هذا في كلّ حديث ينفرد به مسلم عن البخاري؟ وهل قال البخاري قط : إنّ كلّ حديث لم أدخله في كتابي فهو باطل ، أو ليس بحجة أو ضعيف؟ وكم قد احتج البخاري بأحاديث خارج الصحيح وليس لها ذكر في صحيحه؟ وكم صحّح من حديث خارج عن صحيحه؟ » (١).

٦ ) قال حيدر علي الفيض آبادي : « وبالجملة فإنّي في حيرة من جهة الاعتراض على الحنيفة بما يخالف أصولهم المقرّرة ـ من تلقاء النفس الأمّارة والحكم بفساد مذهبهم ، مع تصريح البخاري ومسلم بأنه لا ينبغي الاعتقاد بحصر الأحاديث الصحاح في كتابيهما ».

وبمثل هذا صرّح في موضع آخر من كتابه أيضا (٢).

نقد ورد

وإذا عرفت عدم التزام البخاري ومسلم إخراج كافة الصحاح في كتابيهما وعرفت عدم استيعابهما الصحيح في مصنّفيهما ... فهلمّ معي وتعجّب من أولئك الذي يقدحون في الأحاديث النبوية الشريفة بمجرد عدم وجودها في كتابي البخاري ومسلم ...

فهذا ابن تيميّة الحرّاني يردّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حق أبي ذر ـ رضي‌الله‌عنه ـ : « ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر » ، فيقول : « والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناده يقوم به » (٣).

__________________

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٤ / ٦٠.

(٢) منتهى الكلام / ٢٧.

(٣) منهاج السنة ٣ / ١٩٩.

١٣٨

ويرد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ... » بقوله : « الوجه الرابع أن يقال أوّلا : أنتم قوم لا تحتجّون بمثل هذه الأحاديث ، إنّما يروونه أهل السنّة بأسانيد أهل السنّة ، والحديث نفسه ليس في الصحيحين ، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ، ولكن قد أورده أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه أهل المسانيد كالإمام أحمد وغيره ... » (١).

وهذا شاه سلامة الله يطعن في الحديث المشهور وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث الراية : « كرّار غير فرّار » ، فيقول : « إنّ هذه الزيادة غير مذكورة في الصحيحين » (٢).

وهذا الفاضل حيدر علي يردّ على ما أخرجه الحافظ الزرندي عن عائشة : « إنّه قيل لها لمّا حضرتها الوفاة : ندفنك مع رسول الله؟ فقالت : أدفنوني مع أخواتي بالبقيع ، فإنّي قد أحدثت أمورا بعده » ، فيقول : « لا نسلم صحّة لفظ « الأحداث » عن أم المؤمنين ، وسند المنع رواية البخاري ، فإنها عارية منه وهي هذه :

عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ إنها أوصت إلى عبد الله بن الزبير لا تدفنّي معهما وادفنّي مع صواحبي بالبقيع لا أزكى به أبدا.

فلا يدلّ الحديث على صدور الأحداث عن أمّ المؤمنين.

وأما رواية صاحب الأعلام في الباب الثالث عشر فهي مرسلة » (٣).

أقول : يكفى لدفع توهمات ابن تيميّة وشاه سلامة الله وصاحب المنتهى ما قدّمنا نقله من كلمات كبار علماء الحديث ، وقد كرر الفاضل حيدر علي نفسه القول بعد التزام البخاري ومسلم باستيعاب الصحاح في كتابيهما.

وأما زعم حيدر علي الفيض آبادي وإرسال رواية ( الاعلام ) فظاهر البطلان ،

__________________

(١) منهاج السنة ٢ / ١٠١.

(٢) معركة الآراء لشاه سلامة الله الهندي : ٨٩.

(٣) منتهى الكلام لحيدر علي الفيض آبادي الهندي : ١٢٦.

١٣٩

لأنه صاحبه أخرجها بكل جزم وقطع ، وهذا نص عبارته :

« ثمّ تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ بعد خديجة ، عائشة بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ وهي بنت ست سنين بمكة ، في شوال قبل الهجرة بسنتين ، وبنى بها وهي بنت تسع سنين بالمدينة بعد الهجرة بسبعة أشهر في شوال ، ولم ينكح بكرا غيرها ، ومكثت عنده تسع سنين ، ومات عنها صلّى الله عليه وسلّم ـ فقالت : ادفنوني مع أخواتي بالبقيع فإنّي قد أحدثت أمورا بعده ، وأوصت إلى عبد الله بن الزبير ابن أختها ـ رضي الله عنهما ـ » (١).

فالحافظ الزرندي ، صاحب الإعلام ، إنما لم يذكر الحديث بسنده لكونه جازما بصحّته مسلّما بثبوته ...

ومن قبله ابن قتيبة ، حيث قال ما نصه : « قال أبو محمد : ثمّ تزوّج [ النبي صلّى الله عليه وسلّم ] عائشة بنت أبي بكر الصديق ـ رضي‌الله‌عنه ـ بكرا ولم يتزوج بكرا غيرها ، وكان تزوجه بها [ إياها ] بمكة وهي بنت ست سنين ودخل بها بالمدينة وهي بنت سبع سنين بعد سبعة أشهر من مقدمة المدينة ، وقبض [ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ] وهي بنت ثماني عشرة سنة ، وتكنى أم عبد الله قال ابن قتيبة : وحدّثني أبو الخطاب ، قال : حدّثني مالك بن سعيد ، قال : حدّثني الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة [ ـ رضي الله عنها ـ ] قالت : تزوّجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ وأنا بنت تسع سنين ـ تريد دخل بي ـ كنت عنده تسعا ، وبقيت إلى خلافة معاوية ، وتوفّيت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين ، وقيل لها : ندفنك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت : إني قد أحدثت أمورا بعده ، فادفنوني مع أخواتي ، فدفنت بالبقيع وأوصت إلى عبد الله بن الزبير » (٢).

وإن أبي الخصم إلاّ الحديث المسند. فهذه رواية الحاكم أبي عبد الله على شرط البخاري ومسلم : « حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا أبو البختري

__________________

(١) الاعلام بسيرة النبي عليه‌السلام ـ مخطوط.

(٢) المعارف / ١٣٤.

١٤٠