قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

ويتفرع على هذا أمور.

منها : وجوب القضاء على النائم والناسي بل والمغمى عليه ، بناء على القول به لأنهم مكلفون ، ولأن هذه الحالات انما تمنع عن فعلية التكليف وتنجزه ، لا عن اصل التكليف ، فإن اصل التكليف ثابت ولا قبح فيه. نعم البعث الفعلي ممتنع لعجزهم وقصورهم في هذه الحالات ، ومن اجل ثبوت المقتضي في حقهم ، وتحقق إرادة المولى ثبت عليهم القضاء.

ومن المعلوم أن القضاء فرع الفوت. ومن البديهي أن الفوت لا يصدق في غير حق المكلف عرفا. وبعد وضوح ما ذكرناه يظهر أنه لا حاجة لاثبات امكان تكليفهم من طريق الخطاب بلازم حالاتهم ، فإنه تمحل وتكلف ، ونحن في واقع الأمر في غنى عنه.

ومنها : تكليف الجاهل الملتفت ، وثبوت القضاء عليه ، والعقاب على نفس المكلف به ، فإن العلم شرط في تنجز التكليف لا في ملاكه ، لما مر آنفا من وجود التكليف ، وحصول الإرادة في نفس المولى.

ومنها : إن التزاحم في باب المتزاحمين انما يمنع عن فعلية التكليف ، ولا يرفع ملاكه. ومن ثم لو عصى الأهم وأتى بالمهم ، يمكن القول بصحته إذا كان عبادة ، هذا ما حضرنا فعلا.

وأما القدرة الشرعية فالمتبع فيها سعة وضيقا الدليل الشرعي. ولكنها إذا اخذت في لسان الدليل حملت على القدرة العرفية. واطلاقها بنظر العرف قرينة على شرطيتها في الملاك ، ومن اوضح امثلتها الحج.

ثم انه مما يلحق بهذا الباب باب الاضطرار. فإن الاحكام التي يجوز مخالفتها للاضطرار صنفان.

الأول : الأحكام الاضطرارية المنصوصة ، المسماة بالاحكام الواقعية الثانوية ومنها تحليل المحرمات المنصوصة بقوله سبحانه (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) .. ٢ ـ ١٧٣ والظاهر أنها مباحة واقعا في حال

٨١

الاضطرار (١) فيكون الاضطرار حينئذ نظير القدرة الشرعية.

الثاني : الأحكام الاضطرارية التي تستباح بواسطة الاضطرار ، لدليل الضرر والحرج ، أو مزاحمة المهم والأهم. وهذه لا تستوجب تقييد ملاكات الأحكام الواقعية ، بل الملاكات محفوظة في مرتبتها ، وانما هي رخصة.

ويتفرع على هذا امور كثيرة.

منها : اجزاء العبادات الحرجية أو الضررية التي لم تبلغ مرتبة الحرمة.

ومنها : تصحيح العبادة بالملاك أو بالأمر الترتبي ، لأن المزاحمة إذا كانت ترفع الملاك ، لم يبق أمر بالمهم.

ومنها : وجوب قضاء العبادات من الصوم والصلاة على من فاتته بواسطة الاكراه أو الالجاء أو المرض أو غير ذلك مما يستوجب فوتها مما هو سائغ.

هذا ما توفقنا لتحريره هنا وهو افضل ما يلم به الفاضل ، لكثرة القلق في البيان وقول الباحثين عند ما يصلون إلى هذه الأمور بناء وبناء ... ثم يرجحون ويخدشون ، وتنتهي النهاية بدعوى احتياج المسألة إلى التأمل والتدبر (٢).

٣٢ ـ قاعدة الاشتراك

لا ريب في ثبوت قاعدة الاشتراك ، ونعني بها اشتراك المرأة والرجل ، والمراد بها توسعة الخطاب أو المخاطب. فقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... ينحل بقاعدة الاشتراك إلى قوله «يا أيها الذين آمنوا واللواتي آمنا » ...

ولكن كثيرا ما يقع التوهم فيها ، فتطبق في غير مواردها.

منها : حرمة نظر الرجل للمرأة ، فربما يتوهم ، بقاعدة الاشتراك ، حرمة

__________________

(١) لكون (إلا) أداة تخصيص ، فيكون عموم الحرمة مختصا بغير حال الاضطرار ، ويكون حال الاضطرار خارجا بالمخصص.

(٢) حرر ليلة الاربعاء ٨ شعبان سنة ١٣٧٢ ه‍ ثم هذب يوم الاربعاء وضحى الخميس غرة جمادي الأولى سنة ١٣٨١ ه‍ ـ النجف الاشرف.

٨٢

نظرها إليه. وهو غلط ، لأن ذلك من باب توسعة المتعلق لا الخطاب ولا المخاطب. ولو اولنا المرأة بالمخالف ، وقلنا بحرمة نظر الرجل لمخالفه ، امكن بقاعدة الاشتراك ، أن نقول بحرمة نظر المرأة لمخالفها ، ولكنه تأويل لظاهر الدليل.

ومنها : ما ورد في حرمة تزويج المحرم وتزوجه ، بناء على ظهوره في الرجل فإن ادخال المرأة معه من توسعة المتعلق ، إلا أن نقول أن الزوج يطلق على المؤنث والمذكر ، وأن حرمة تزويج المحرم ، وان انصرف للرجل ، ولكن المقدر (زوج) وهو مشترك ، لا (زوجة) مما يختص بالمؤنث ، فتأمل ..

ثم ان نظير هذه القاعدة ، قاعدة اشتراك الغائبين مع الحاضرين : وقد استدل لها بأمور.

منها : إن القضايا الشرعية قضايا حقيقية ، فليس المخاطب الناس الموجودين ، بل كل من صدق عليه الناس ، ولو بعد حين. ثم إنه لو كان الخطاب مفصلا ، بالنسبة للحاضرين ، ثم أجمل بالنسبة للغائبين ، ففي مثل المقام لا مجال لقاعدة الاشتراك ، لخفاء ما به يشتركون. كما لو علمنا اجمالا بأنه كان واضحا لدى الحاضرين ، ثم خفي علينا ما كان واضحا عندهم.

٣٣ ـ قاعدة

في تردد صيغة (افعل) بين الاستحباب والتقية

قاعدة إذا دار أمر صيغة (افعل) بين حملها على الاستحباب أو على التقية ، فأيهما المتعين .. مثلا ، إذا ورد الأمر بتزكية مال اليتيم إذا اتجر به بعد العلم بعدم وجوبها فيه ، نقول لا ريب في حجية كل من اصالة الظهور واصالة الجهة ولا ريب أن الذي يزاحم اصالة الظهور هو القرينة الصارفة المعينة ، والعلم بعدم ارادة الوجوب قرينة تصرف الصيغة عن المعنى الحقيقي ، ولكنها لا تصلح لرفع اليد عن اصالة الجهة. فإن القرينة على رفع اصالة الجهة هو تعادل الخبرين كما في باب التعادل والتراجيح. فموافقة احد الخبرين المتعادلين للعامة ، قرينة ، في باب المرجحات ، على عدم صدوره لبيان الواقع ، فيكون

٨٣

مرجوحا. وأما فيما عدا هذا المورد ، فليس ثمة قرينة تعاند اصالة الجهة (١).

ومن هذا الباب ما ورد من ناقضية الوضوء بالرعاف ، ولمس الفرج ، والقيء فإنه ، بعد العلم بكونه ليس ناقضا حقيقا ، يدور الأمر بين حمله على التقية أو على الاستحباب .. والمتعين الثاني ، لما مر. وتوهم أن الطهارة الحدثية ليست ذات مراتب ، فاسد. ويشهد لذلك قوله الطهور على الطهور نور على نور. واستحباب الوضوء للجنب وللنوم.

٣٤ ـ قاعدة

على اليد

تمهيد : اعلم أن الضمان في الجملة من ضروريات الشريعة الإسلامية فإن حرمة الغصب ووجوب رد المغصوب عينا مع وجوده ، وضمانه مع عدمه ، من ضروريات الفقه.

واعلم ايضا : إن الضمان في اصطلاح الفقهاء قسمان ضمان يد وضمان معارضة.

أما الأول ، فهو ضمان المثلي بمثله ، وضمان القيمي بقيمته ، كما في باب الغضب وغيره.

وأما الثاني : فهو الضمان بالمسمى في العقود الصحيحة.

واعلم ايضا : إن للضمان أسبابا متعددة ، منها الاتلاف ، والغرور ، والاستيفاء والاحترام. ومن امهات اسبابه اليد. وقد سمعت أنهم قسموا الضمان إلى قسمين ضمان يد وضمان معاوضة. فكل مورد ثبت فيه الضمان بالمثل والقيمة يسمى ضمان يد ، وكل ضمان يد يكون بالمثل أو القيمة ، كما في باب الغضب والنهب والسرقة والاختلاس ، أو التعدي والتفريط والاتلاف

__________________

(١) وتظهر الثمرة في جواز الفتوى بالاستحباب وعدمه ، بعد البناء على عدم التسامح في ادلة السنن ، فإنا إذا بنينا على جريان أصالة الجهة ، امكننا الافتاء بالاستحباب ، وإلا كان الدليل مجملا ، وتوضيح ذلك أن يقال لا ريب في حجية أصالة الظهور ، ولا ريب في حجية اصالة الجهة. ولا ريب أن العلم بعدم ارادة الوجوب يرفع ظهور الصيغة فيه ، ولكنه لا يرفع اصالة الجهة.

٨٤

والتسبيب وغيره. وربما تذكر اسباب أخرى لضمان اليد ، ولكنها بين ما هو مما لا مأخذ له ، وبين ما هو من صغريات ما مر ، وربما نذكرها ان شاء الله تعالى.

واعلم ايضا : إن مقتضى الأصل الأولي ، في باب الضمان ، هو البراءة إلى أن يقوم الدليل.

إذا عرفت هذا فلنشرع في قاعدة على اليد والكلام فيها في جهات

الجهة الأولى : في مدركها. وهو قوله (ص) على اليد ما أخذت حتى تؤدي. فإنه نبوي مرسل معمول به ، وهو يدل بعمومه على ضمان كل ما دخل تحت اليد سواء كان قبضا عدوانيا كالغصب والسرقة والنهب والاختلاس أو مقبوضا بالعقد الفاسد ، أو السوم والائتمان بالمعنى الأخص أو الأعم. وسواء كانت الأمانة امانة مالكية أو شرعية ، وسواء تلف بتعد أو تفريط أو بدونهما ، لاطلاق قوله (ص) على اليد ما أخذت حتى تؤدي. ولا نرفع اليد عن هذا العموم إلا بدليل.

فإذا خرجت الامانات التالفة بلا تعد ولا تفريط مثلا بدليل ، كان ما عداها باقيا إلى أن يثبت دليل آخر على خلاف هذا الاطلاق.

الجهة الثانية في أن الحديث هل هو وارد في بيان الحكم الوضعي أو التكليفي .. احتمالان.

لأن (على) مشتركة بينهما ، أو مستعملة فيهما ، إلا أنه يتعين اولهما ، بل لم نعرف مدعيا للثاني. وتقريب ذلك.

اولا : إن (على) إن كان موردها فعلا من افعال المكلفين ، كانت ظاهرة في التكليف ، وان كان عينا كانت ظاهرة في الوضع. والموصول في الحديث ظاهر في العين بقرينة الأخذ والتأدية.

وثانيا : إن (على) الحرفية لا ظهور لها في التكليف اصلا ، بل هي ظاهرة في الحكم الوضعي ، الذي يضاد الحكم الوضعي المستفاد من لام الجر. فاللام في قوله لليد ما استلمت ، وللعين ما رأت ، تحكي عن معنى اسمي ،

٨٥

وهو الملكية. و (على) في قولنا على اليد ما اخذت ، تحكي عن معنى اسمي يضاد الملكية ، ونتيجة سلب ملكية ما أخذت وثبوته عينا أو بدلا لصاحبه في عهدتها حتى تؤديه (١).

نعم ، (على) المتصلة بالضمير تكون اسم فعل ، وتكون حينئذ ظاهرة في التكليف نحو عليّ به وعليك بزيد. وقد تكون متصلة بالضمير ، وتبقى على حرفيتها. وربما يكون مدخولها عينا ، فيكون مفادها الوضع كما لو قال علي درهم وعليك درهم.

وثالثا : إن الظرف هنا ظرف مستقر يكون خبرا عن (ما) الموصولية. وتقدير المتعلق حينئذ ثابت ومستقر ، لا ظرف لغو ليكون تقديره يلزم ويثبت. هكذا قيل ومعنى الحديث حينئذ أن ما تأخذه اليد ثابت مستقر في الخارج والذمة ، لا ينتقل بالنوافل الاعتبارية ولا الخارجية ، وأنه يجب عليه ارجاعه ، أو ارجاع بدله.

الجهة الثالثة : في إنها هل تختص بضمان الأعيان ، أو تشمل المنافع معها .. قولان ... قرب الاستاذ الحكيم مد ظله أولهما وقرب غير واحد ثانيهما ، وهو الأظهر.

والتحقيق أن يقال لا ريب أن اليد حقيقة في الجارحة المعروفة. ولا ريب إنها بذاتها ، غير قابلة للخطاب بشيء من الأحكام ، تكليفية ووضعية. وحينئذ فلا بد من التصرف فيها ، بحملها على محمل يصح معه الخطاب ، ويكون مناسبا للكلام.

والمحتملات وإن تعددت ، إلا أن أظهرها تقدير مضاف محذوف ، وهو (ذو) فيكون التقدير ، على ذي اليد ما أخذت. وإنما عبر بها دون سائر الجوارح ، لكونها آلة للاستيلاء غالبا. ويمكن أن تكون اليد بمعنى السلطنة ،

__________________

(١) وبعبارة ثانية (اللام) في قوله لليد ما استلمت ، وللعين ما رأت ، تحكي عن معنى نتيجة الملكية. و (على) في قوله (ص) على اليد ما اخذت تحكي عن معنى نتيجة تضاد الملكية ، ومحصله سلب ملكية ما أخذته ، وثبوته عينا أو بدلا في عهدتها حتى تؤديه.

٨٦

ويكون في جعل الحكم عليها إشعارا بالتحكم على المتمردين ، ويكون في هذا من المبالغة في نفوذ الحكم ، ومن البلاغة في تأكده ، ما هو غني عن الاسهاب ... ويمكن أن تكون بمعنى القدرة ، ولكن القدرة والسلطنة متقاربتان ، ويؤيد عدم إرادة الجارحة المعلومة ، القطع بأنه ليس لها موضوعية في الضمان ، للقطع بضمان من استولى على شيء بغير اليد من الجوارح. وتوهم الاستناد في تضمينه حينئذ إلى غير حديث (على اليد) خلاف ما عليه الفقهاء.

ويؤيده أيضا أن الموصول من المبهمات التي تتضح بصلتها. وصلتها هنا (أخذت) والأخذ وإن كان ظاهرا في القبض الخارجي الذي لا يصدق إلا على الأعيان ، إلا أن هذا يتم لو كان متوجها على نفس الجارحة. وقد عرفت إنه متوجه إلى ذيها ، لا إليها نفسها. وأخذ ذي اليد أوسع مفهوما ، فإن أخذه بحسبه ، فقد يكون مباشرة وقد يكون تسبيبا يذهب معه اختيار الواسطة فيصبح المختار كالآلة. والمباشرة قد تكون بالجارحة ، وقد تكون بغيرها. وكذلك المأخوذ ، فإن أخذ كل شيء بحسبه ، فأخذ الدرهم غير أخذ الأرض. وقد أوضحنا هذا عند التعرض لمعنى القبض ، في قاعدة التلف قبل القبض.

ولا ريب في دخول المنافع تحت السلطنة فتكون مأخوذة بهذا المعنى. ومن ثم يصح أن يقال أعطيت فلانا منفعة داري عوضا عما له في ذمتي فأخذها ، وجعله مجازا خلاف الظاهر ، مضافا إلى أنه لا يضر بعد قيام القرينة الآنفة على ذلك.

وأما ما أفاده الاستاذ الحكيم مد ظله من أن لفظ (الأخذ) بمدلوله المطابقي ظاهر في الأعيان المقبوضة ، وإرادة الاستيلاء منه لكونه كناية عنه ، لا يستلزم إرادة سائر مصاديق الاستيلاء ، بل يتعين منها ما يناسب الأخذ. بيان ذلك أن الكرم مثلا له مصاديق كثيرة ، منها بذل ما تنضجه النار ويكثر بسببه الرماد ، ومنها بذل الدراهم والدنانير وسائر ما لا تنضجه النار. ولا ريب إن قولنا زيد كثير الرماد يراد به المعنى الكنائي ، وهو الكرم الذي هو لازم لكثرة الرماد ، لا الرماد نفسه. والتعبير بكثير الرماد إنما يحسن في حق من كان كرمه بالمطبوخ بالنار ذات الرماد ، ولا يحسن في حق من يكون كرمه بالدراهم. فلو

٨٧

قلنا عمن كان كريما ببذل اللباس والإبل كثير الرماد لم يكن مستحسنا. ويتحصل من هذا أنه يجب حفظ المناسبة بين اللازم والملزوم في باب الكناية بأن يكون المراد من اللازم لا يزيد عن حدود الملزوم. فيكون قولنا (كثير الرماد) كناية عن الكرم ببذل ما تنضجه النار ذات الرماد لا عن جميع أصناف الكرم بل ولا عن بذل ما يطبخ بواسطة الكهرباء والغاز ونحوهما وكذلك ما نحن فيه ، فإن لازم (الأخذ) وهو الاستيلاء ، يصدق على الأعيان والمنافع ، ولكن ملزومه مختص بالأعيان ولا يحسن أن يراد باللازم ما لا يتناسب مع ملزومه (١). وحكاه الاستاذ عن مكاسب الشيخ رحمه‌الله في ثالث أحكام المقبوض بالعقد الفاسد ولم نجده ، بل الموجود فيه ما لفظه (ودعوى أنه كناية عن مطلق الاستيلاء الحاصل في المنافع كقبض الأعيان مشكلة) ولعل الاستاذ ذكر ذلك وجها للأشكال. وفيه أن ما ذكر من الاستبشاع لو سلمناه في مثال الرماد ، فلا نسلمه فيما نحن فيه. والشاهد الذوق ، بل حمله على القبض باليد بمعنى العضو ، مما لا يستسيغه الذوق الأدبي. مضافا إلى أننا نتسالم معا على إرادة الاستيلاء. وقد عرفت آنفا إن الاستيلاء يختلف باختلاف المستولي وباختلاف المستولى عليه ..

ثم أنه ادعي امكان اختصاص الحديث بالأعيان ، وقرب بوجوه.

أولها : إن المنافع لا تدخل تحت اليد. وهب إنها تدخل تحتها تبعا لدخول العين تحتها ، إلا ان دخول الحر تحتها مشكل ، لأن المراد باليد السلطنة ، ولا سلطنة على الأحرار (٢).

وفيه : إن مرجعه إلى نفي تحقق عنوان الأخذ بالنسبة للمنافع ، وقد عرفت آنفا إن الأخذ عبارة عن الاستيلاء ، وإن الاستيلاء يكون على الأعيان والمنافع. وأما منافع الحر فلها حديث آخر ، أوضحناه مستوفى في (مكاسب الفقيه) ، في الأمر السادس من موضوع هذه المسألة (٣).

__________________

(١) هذا مدون منذ سنة ١٣٥٩ ه‍ ، والظاهر أنه من فوائد الدرس.

(٢) فيه أنه أن أريد بالسلطنة السلطنة الشرعية ، فهي أيضا منتفية عن المغصوب وما هو بحكمه ، وإن أريد بها السلطنة الخارجية فحال الحر المستضعف حال العبد المغصوب والدابة المغصوبة.

(٣) كتاب مخطوط للمؤلف.

٨٨

ثانيها : إن عنوان الأخذ لا ينطبق على المنافع ، إلا بعد استيفائها ، لكونها تدريجية الحصول ، وبعد استيفائها تنعدم.

وفيه : إنك عرفت إن الأخذ كناية عن الاستيلاء ، وإن الاستيلاء على كل شيء بحسبه. ولا ريب إن الاستيلاء على الأعيان استيلاء على منافعها عرفا. وتصرمها وهي في استيلاء المستولي ، محقق للأخذ ولا سيما إذا كانت مستوفاة.

ثالثها : إن التأدية ظاهرة في إرجاع نفس المأخوذ وإطلاقها على البدل مجاز دلت عليه القرينة المقامية ، وهي كون الشارع في مقام حفظ المال حفظا كاملا بنظر العقلاء ، ولا يتم ذلك إلا بإرجاع العين مع وجودها ، وإرجاع بدلها مع تلفها. وهذا بالنسبة للعين حسن ، لإمكان تأديتها بنفسها تارة ، وببدلها أخرى. وأما المنافع فلا يمكن تأديتها بنفسها ، لتصرمها وانعدامها ، فيتعين تأديتها بالبدل والتعبير عن البدل وحده بالتأدية مجاز مستبعد ، فالتأدية قرينة تصلح لصرف اليد والأخذ والموصول للأعيان ، وهذا بدوا امتن مما مر.

وفيه : إنه يمكن إرجاع المنافع بالتبع ، فإنه بإرجاع العين المستولى عليها ، يكون قد أرجع المنفعة التي لم يستوفها. ومن هذا يتضح إن المنافع المستوفاة والفائتة ، كالأعيان التالفة ، يكون إرجاعها بإرجاع بدلها. والمنافع غير الفائتة والمستوفاة يكون إرجاعها بإرجاع العين.

رابعها : إنها ظاهرة في لزوم إرجاع نفس العين دون بدلها ، كما هو المدلول المطابقي للتأدية.

وفيه : إنه بدوا كذلك ولكنه يستوجب صرف الحديث للحكم التكليفي ، وهو خلاف الضروري عند الفقهاء. وكونه كذلك يدل على ظهوره عرفا في الوضعي ، مضافا إلى ما مر في الجهة الثانية.

الجهة الرابعة : لا ريب في خروج الامانات عن الحديث في الجملة ،

٨٩

سواء كانت شرعية أو مالكية (١) بالمعنى الأخص أو الأعم. وهل هي خارجة عنه تخصيصا أو تخصصا .. احتمالان.

وتظهر الثمرة في المقبوض بالسوم ، وفي المقبوض بالعقود الفاسدة بل وسائر المعاملات الفاسدة ، وفي المقبوض للاطلاع والتعرف ، كما لو اشترى شخص متاعا فطلب آخر رؤيته فتلف في يده. وفي حمل الدابة المقبوضة بالسوم ، أو بالعقد الفاسد ، أو للاطلاع إذا كان الحمل غير داخل في السوم ولا في العقد ، ولا بقصد الاطلاع عليه وفي نظير هذه الموارد الأربعة ، فإن الامانات إن كانت خارجة تخصصا ، كان عموم الحديث بحاله ، ويكون شاملا للموارد الأربعة ، وإن كانت خارجة تخصيصا اشكل الأمر فيها ، لأحتمال كون الشبهة حينئذ مصداقية ، فلا يتمسك فيها بالعام ولا بالخاص ، بل يكون المرجع فيها الأصول العملية ، ومقتضاها البراءة ...

ويمكن تقريب التخصص بأمرين

أولهما : إن يد الأمين عين يد المؤمن ، ولذا كانت تصرفات الوكيل لا تحتاج إلى الاجازة. والحديث وارد لبيان حكم يد غير المالك ، وغير من هو بمنزلته.

وفيه : إنها إن كانت عينها حقيقة ، فالمغايرة وجدانية. وإن كانت عينها تنزيلا ، فلا دليل عليها شرعا. وعدم افتقار تصرفات الوكيل إلى الاجازة إنما هو من جهة سبق الأذن ، بعد عدم اشتراط المباشرة في المنوب به ، لكونه لا يتقوم بالمنشئ بنظر العقلاء والشارع ، والأمر في الولي أوضح.

ثانيها : إن قوله (ص) في الحديث (أخذت) منصرف إلى الأخذ بغير طريق الائتمان.

__________________

(١) الامانات الشرعية مثل اللقطة ومجهول المالك وما يقع في يد الانسان من مال الغير بغير اختياره كثوب اطارته الريح إلى داره. والامانة المالكية بالمعنى الأخص الوديعة بالمعنى الأعم العين المستعارة والمستأجرة والمرهونة ومال المضاربة وغير ذلك.

٩٠

وفيه : إن دعوى الانصراف ممنوعة ، وإن قوله (ص) (أخذت) لا يدل على ذلك بهيئته ولا بمادته. مضافا إلى أن انصراف الدليل عن مورد لا يجعله خارجا عنه تخصصا بل يكون خروجه تخصيصا ، لأن دعوى الانصراف إنما تصح فيما هو من مصاديق الطبيعة لا فيما هو خارج عنها ، فيكون الخارج عنها من مصاديقها ، ولكنه غير داخل في مقصود المتكلم. وتنشأ دعوى الانصراف ، من ملاحظة بعض الملابسات ، فيقال إن ظاهر الكلام منصرف عنها. وربما يسمى هذا بالمخصص اللبي ، فإن المخصصات اللبية ثلاثة العقل والاجماع والقرائن المقامية ...

وأما : خروجها تخصيصا ، فيدل عليه قوله (ع) في صحيح الحلبي صاحب البضاعة والوديعة مؤتمن. فإنه يشعر بكونه (ع) في مقام ضرب قاعدة كلية ، فيكون بمنزلة التعليل ويدل عليه أيضا قوله (ع) ليس على الأمين إلا اليمين.

وفيه : إنه لا يدل على نفي الضمان عنه ، لأن الحصر فيه إضافي في مقابل البينة ، فيكون بمنزلة قوله ليس عليه بينة ، بل عليه اليمين. لأن الذي يطلب من المتخاصمين البينة واليمن. فتكون الرواية حاصرة للمطلوب من الأمين باليمن ، وليست الرواية حينئذ في مقام السلب المطلق لتفيد نفي الضمان والبينة. ويدل عليه أيضا قوله تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ...

وفيه : إنها لو كانت ظاهرة في نفي الضمان ، فهي لا تشمل الموارد الأربعة لأن أرباب اليد فيها ليسوا محسنين. والتحقيق إن الامانات خارجة تخصيصا بأدلة خاصة ، مدونة في أبوابها ، واللازم ملاحظة كل باب على حدة.

وكيف كان : فبعد إثبات خروج الامانات تخصيصا ، فهل تكون الموارد الأربعة من الشبهات المصداقية أو لا؟ .. احتمالان .. ويمكن تقريب الأول بأن يقال : لا ريب إن القضايا الشرعية قضايا حقيقية ، وإن الحكم فيها وارد على الافراد الفرضية ، والتخصيص في القضايا الحقيقية يكون أنواعيا ، وإذا كان المخصص أنواعا كان منوعا ، لتقوم كل نوع بفصل موجب لتحصص

٩١

الجنس ، ومتى كان منوعا كانت الحصة الباقية من الجنس متقومة بفصل آخر ، يقابل الفصل الخارج ، لاستحالة تحقق الجنس بدون فصل ، لأنه اما أن يبقى بعد التخصيص أو يرتفع. وفرض ارتفاعه خلف ، فيتعين بقاؤه ، وبقاؤه بدون فصل محال. فإذا كان الخاص معنونا بعنوان الامانة الذي هو بمنزلة الفصل ، كان الباقي تحت العام معنونا بعنوان اليد العادية. والموارد الأربعة يشك في كونها من اليد العادية أو اليد الأمينة ، فلا تندرج في العام ولا الخاص. وحينئذ يرجع في ثبوت الضمان وعدمه للأصل ومقتضاه البراءة إلى أن يقوم دليل مثبت للضمان.

إذا عرفت هذا فاعلم ، إن الحديث عام ، يشمل بإطلاقه كل يد غير مالكة للتصرف ، فيشمل الامانات بأسرها ، فضلا عن الموارد الأربعة.

واعلم إن يد الوكيل والولي بأنواعه خارجة تخصصا ، لأن يد الوكيل يد الموكل ، ويد الولي يد المولى عليه ، بل لا يد للمولى عليه ، ولا لأحد على هذا المال إلا يد الولي.

واعلم : إن يد المستعير على المنفعة ، بناء على دخول المنفعة تحت اليد أيضا خارجة تخصصا ، بناء على أن المستعير يملك منفعة العارية. أما بناء على إباحتها له فلا. فإن في فائدة العارية احتمالين من كونها تمليك منفعة مجانا ، أو إباحة الانتفاع مجانا.

واعلم أيضا : إنا نمنع منوعية المخصص مطلقا ، ولا سيما في مثل المقام الذي لم يثبت فيه مخصص معنون بعنوان واضح يجمع هذه الأمور.

وهاهنا تنبيهات ..

أولها : إن المشهور بنوا على الضمان في المقبوض بالسوم والعقد الفاسد. فإنه يظهر ، من المسالك والجواهر في أول كتاب الغصب ، إن ضمان المقبوض بالسوم والعقد الفاسد مفروغ منه ، وإن الكلام في توابعه ، كحمل الدابة والأمة. والظاهر انعقاد الاجماع على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، كما عن

٩٢

الشيخ في باب الرهن ، وفي موضع من البيع. وتبعه على ذلك فقيه عصره في شرحه على القواعد ، وعن السرائر نسبته إلى أصحابنا ، كما في المكاسب.

وأما : حمل الأمة المقبوضة بالسوم أو بالعقد الفاسد ، فقد قال فيه في الجواهر ص ٩٩ وكذا يضمن حمل الأمة المبتاعة بالبيع الفاسد ، نعم لا وجه للقول بضمان حمل المقبوض بالسوم ، مع فرض كون السوم على الحامل دون الحمل ، كما صرح به غير واحد ، لكونه أمانة صرفة في يده. وضمان الحامل على خلاف مقتضى القواعد ـ ولعله يعني بالقواعد أصل البراءة ـ فيقتصر عليه. لكن عن التذكرة التصريح بضمانه أيضا. ويمكن حمله على المفروض دخوله في السوم مع الحامل ، أو يقال : إن مقتضى عموم (على اليد) الذي لا ينافيه كونها بالاذن ، بعد انصراف الامانة المنفي عنها الضمان إلى غير الفرض ، فتأمل جيدا. انتهى ، وقد ذكره في الجواهر أيضا بصورة أوضح ص ١٠٨ وذكره المحقق الرشتي في إجارته ص ٤٦.

والتحقيق هو الضمان في الموارد الأربعة ، للحديث ، ولانصراف المخصص عنه ، والله العالم.

التنبيه الثاني : بعد ما عرفت مذهب القوم في الأمور الأربعة آنفا ، وبعد البناء على منوعية المخصص ، يلزم كون الموارد الأربعة من الشبهات المصداقية.

والمنسوب للمتقدمين جواز التمسك بالعام فيها ، والمعروف عند المتأخرين العدم. ومع ذلك بنوا على الضمان ، مع إن ذلك لا يتلاءم مع مبناهم. ومن أجل ذلك تصدى جماعة ممن عاصرناهم لتطبيق فتواهم بضمان المقبوض بالسوم والعقد الفاسد على القواعد ، بوجوه

أولها : أن يقال إن الخارج من عموم الحديث هو ما علم كونه أمانة ، فيكون العام معنونا بما لم يعلم كونه أمانة. والأمور الأربعة مثلا لم يعلم كون اليد عليها يد أمانة فيكون من مصاديق العام.

وفيه : إن العلم لم يؤخذ قيدا في المخصص ، ولا عدمه أخذ قيدا في العام.

٩٣

ثانيها : أن يقال إن المسألة من باب قاعدة المقتضي والمانع ، بمعنى إن اليد بطبعها مقتضية للضمان ، والائتمان مانع منه ، وعند الشك في وجود المانع يكون الأصل عدمه.

وفيه : إن قاعدة المقتضي والمانع في نفسها لا دليل عليها. وحمل العام والخاص عليهما بعيد عن مرتكزات أهل المحاورة. فكيف يمكن استفادتها من الخطابات الشرعية .. مضافا إلى إن أصالة عدم المانع لا تثبت تأثير المقتضي إلا من باب الملازمة العقلية وهو مثبت ، مضافا إلى إن نفس التأثير حكم عقلي لا تناله يد الجعل فلا يمكن إثباته بالاستصحاب ...

ثالثها : أن يقال إن الحكم إذا علق على عنوان وجودي كان مجرد الشك فيه كافيا في عدمه ، وعدم الضمان علق على عنوان وجودي وهو الائتمان ، وهذا العنوان لم يحرز.

وفيه : إن هذه الدعوى لا برهان عليها إلا في الأحكام العقلية ، لان العقل لا يحكم إلا بعد إحراز مناطاته بجميع شئونها. بمعنى إنه يحصل الجزم بعدم حكمه ، ولا حاجة حينئذ إلى إحراز عدم المشكوك بالأصل.

أما في غير الأحكام العقلية ، فليس الأمر كذلك ، فإذا حرم الشارع شرب الخمر ، أو لمس الأجنبية ، ثم شككنا في مائع إنه خل أو خمر ، وشككنا في امرأة أنها أجنبية أو من المحارم ، لم يكن الشك في وجود العنوان المشكوك كافيا في عدمه ، بل لا بد من الرجوع للأصول.

رابعها : أن يقال إن موضوع المخصص عنوان وجودي ، وموضوع العام عنوان مركب من وجودي وعدمي. وحينئذ يكون الفرد الذي يشك في انطباق العنوان الوجودي عليه من مصاديق العام ، لأن أحد طرفيه محرز بالوجدان ، وهو اليد ، والآخر بالأصل ، وهو كونها ليست أمانة ، فيكون نظير مسألة القرشية وغيرها.

وفيه : إن ذلك لا يظهر من دليل العام ولا الخاص ، وقياسه على القرشية وغيرها ناشئ من عدم التبصر في تلك المسألة. وتوضيحها أن يقال المدار في تشخيص مجرى الاستصحاب المحرز لموضوع الحكم الشرعي ، هو القضايا

٩٤

الشرعية. فإذا دل الدليل على إن القرشية تتحيض للستين ، كان الحكم معلقا على عنوان وجودي بسيط. وإذا دل على أن غيرها تتحيض للخمسين ، كان الحكم معلقا على عنوان مركب من وجودي وعدمي ، وهو امرأة ليست قرشية. فالتي يشك في كونها من قريش أو من غيرها ، يجري عليها حكم غيرها ، لأن موضوع التحيض للخمسين امرأة من غير قريش ، وكونها امرأة محرز بالوجدان ، وكونها من غير قريش محرز بأصالة عدم انتسابها لقريش. ولا يعارضها أصالة عدم انتسابها لغير قريش ، فإنه وإن كان مسبوقا بالعدم ، إلا إنه ليس موضوعا للأحكام الشرعية في النص ، فإنه ليس لدينا دليل شرعي يقول : إن المرأة التي لم تنتسب لغير قريش تتحيض إلى الستين. ومن أجل هذا يكون الأصل مثبتا. ومسألتنا التي نحن فيها لا أثر فيها لشيء من ذلك.

التنبيه الثالث : قاعدة المقتضي والمانع ، وقضية كون الشك في العنوان الوجودي كاف في عدمه ، ربما نذكرهما كلّا على حدة (١).

٣٥ ـ قاعدة

ما يضمن بصحيحه وعكسها (٢)

الكلام في هذه القاعدة ينبغي وقوعه في ثلاث مقامات : الأول في الموجبة ، والثاني في السالبة ، والثالث في أمور مهمة تتعلق فيهما.

المقام الأول

في الموجبة ، وهي كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، أو كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، أو ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وفي هذا المقام مبحثان

__________________

(١) انتهينا من نقلها بعد تحوير وتغيير عصر الثلاثاء ٩ جمادي الأولى سنة ١٣٨٢ ه‍ في الكويت في بيت ابن الخال العلامة الشيخ إبراهيم سليمان حفظه الله تعالى ، وكان الفراغ من مسوداتها الأولى آخر ذي الحجة سنة ١٣٥٩ ه‍.

(٢) هذه القاعدة كانت رسالة مستقلة ، وكنت قد انهيتها مع السالبة ليلة السبت ١٨ جماد الأول سنة ١٣٥٦ ه‍. ثم أعدت النظر فيها في الكويت ٢٦ / ٢ سنة ١٣٨٢ ه‍.

٩٥

المبحث الأول : في أنها حجة بنفسها أو لا؟. ولا ريب أنها ليست حجة بنفسها لأنها ليست آية ولا رواية ، ولا هي بما تضمنته معقد إجماع. وإنما هي قاعدة كلية متصيدة من أسباب الضمان ، تشير إلى ضبط موارده في أبواب المعاملات في الجملة وضعت تسهيلا على الفقيه في مقام الاستدلال.

وأما عكسها فإنه متصيد من مسقطات الضمان.

المبحث الثاني : في مدركها وهو أحد أمور.

أولها : الاجماع كما قيل ، وفيه.

أولا : إنه ممنوع. لأنها لم توجد في كلام من تقدم على العلامة. قال شيخنا المرتضى رحمه‌الله في المكاسب ولم أجدها في كلام من تقدم على العلامة بلسانها المعروف. ثم استظهرها من عبارات الشيخ في كتاب الرهن ، ولا أعرف أحدا ناقشه في هذه الدعوى.

وثانيا : إنه لو تم فهو من باب الاجماع على الضابط. والاجماع عليه إن كان مطردا منعكسا كان ضابطا مقبولا ، وإلا فلا لانكشاف خطأ المجمعين حينئذ (١).

ثانيها : العقل. وتقريبه أن المقبوض بالعقد الفاسد غير مملوك للقابض لفرض الفساد وترخيص غير مالكه بأكله من غير عوض ظلم. والظلم قبيح عقلا ، فلا بد من الحكم بضمانه دفعا للقبح. وفيه :

أولا : أنه منقوض بإباحة بعض المملوكات لغير المالكين ، كما في حق المارة وكما في الأكل من البيوت التي اشتملت عليها الآية (٦١ من سورة النور) ، وكما في الأكل في المخمصة ، بناء على عدم الضمان ، ولو كان الترخيص قبيحا عقلا أو كان ملزوما للضمان لما جاز وقوعه بدون ضمان.

وثانيا : أن القبح لو ثبت فإنما ينفع في إثبات الحرمة التكليفية ، بناء على

__________________

(١) فإنه بمنزلة الاجماع على التعريف ، ولعل هذا هو مراد من ناقش فيه هنا وفي مقامات أخرى بقوله فيه أنه من الاجماع على القاعدة.

٩٦

ملازمة القبح للمفسدة ، وبناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. وأما إثبات الحرمة الوضعية به ، أعني الضمان بالمثل والقيمة ، فغير ظاهر ، بل لا نعرف له وجها.

وثالثا : أن هذا المناط لا يطرد عند من ينكر قاعدة الملازمة ، وحينئذ تبقى القاعدة عنده بلا مدرك.

ورابعا : أنه قد يتلف بلا تعد منه ولا تفريط ، فأين الظلم .. بل الظلم بتغريمه إياه مثلا.

ثالثها : أن المقبوض بالعقد الفاسد غير مملوك لفرض الفساد. وأكل غير المملوك أكل للمال بالباطل. وكل ما كان كذلك كان مضمونا ..

وفيه : مغالطة من جهات فإن الكبرى ممنوعة ، لأنا لا نسلم أن أكل كل ما ليس مملوكا أكل بالباطل ، كما يعرف من ملاحظة ما ذكرناه آنفا من النقض على الدليل الثاني .. ولو سلمنا أنه أكل بالباطل فلا نسلم ثبوت الضمان فإن الأصل البراءة منه. ومجرد كونه أكلا للمال بالباطل ليس دليلا على الضمان ، بل هو موضوع لأدلة الضمان كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ، فلا تشتبه.

رابعها : الإقدام. وحكي عن الشيخ والمحقق والشهيد الثانيين أنهم عللوها به وتبعهم غيرهم. وفيه :

أولا : أن الإقدام كالقاعدة في افتقاره إلى دليل ، لأنه ليس حجة بنفسه لأنه ليس لسان آية ولا رواية ولا هو معقد إجماع (١).

وثانيا : أنهما أقدما على الضمان بالمسمى. والضمان الثابت بالعقد الفاسد هو الضمان بالمثل والقيمة ، وهو غير ما أقدما عليه. وفيه أن المتيقن أنهما أقدما على أنه ليس مجانا ، أما كونهما أقدما عليه على نحو وحدة المطلوب ، فهو محل الكلام ، بل هو ممنوع.

__________________

(١) قد نتعرض لقاعدة الإقدام مستقلة ، وستعرف إن شاء الله تعالى أنه ضابط لبعض موارد الضمان ولمسقطاته ، لا أنه سبب لهما ، ثم أن ما حكي عن الشيخ (ره) من تعليلها بالإقدام ، ينافي المحكي عنه آنفا من أنها لم تذكر في كلامه صريحا.

٩٧

وثالثا : أن الإقدام على الضمان لا يكون مضمنا ما لم يقره الشارع ، وهو موضع الكلام. فليس كل ما قصده المكلف يترتب إلا إذا أمضاه الشارع المقدس ، فلا تشتبه. نعم ، الإقدام وعدمه قد ينفع منضما لقاعدة الاحترام في ثبوت الضمان وربما يتضح أن شاء الله تعالى.

خامسها : قاعدة الاستيفاء الثابتة بالإجماع ، ولها شروط ذكرناها عند التعرض لها في هذا الكتاب. وفيه أنها إنما تنفع في المنافع المستوفاة من الحر وغيره.

سادسها : قاعدة الاحترام. والأصل فيها موثق سماعة ومصحح الشحام. وفيهما أنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه. وفي صحيح ابن مسلم يا عبد الله ليس لك أن تذهب بحقه. وعن صاحب الأمر (عج) لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه. وعن تحف العقول أنه لا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. وقد أشرنا لمضامين هذه الأخبار في قاعدة الاحترام من هذا الكتاب. ويظهر من التتبع أن هذه القاعدة معقد إجماع.

ونوقش فيها بظهور موثق سماعة ومصحح الشحام ، في الحكم التكليفي دون الوضعي لاقتران المال بالدم وحرمة الدم تكليفية (وكما أفاده الأستاذ الحكيم مد ظله في الدرس) وبأن رواية تحف العقول مرسلة ، فإن تحف العقول كله مراسيل ، وبأن صحيحة ابن مسلم تدل على ضمان المنافع المستوفاة فقط ، وليس فيها قاعدة كلية ، وبأن رواية صاحب الأمر (ع) ناظرة للحكم التكليفي ، وبأن الإجماع مدركي. وقد استوفينا الدفاع في قاعدة الاحترام في هذا الكتاب ، وأهمه أن حرمة الدم أيضا وضعية ، لأن المراد به الدم بعد الجناية ، فهو كناية عن الدية. فهو ناظر لقيمة المال والدم. لا لنفس الأعضاء. ولأنه لو أريد منه نفس الدم قبل الجناية لزم أن يحل القتل وقطع العضو أو إتلافه بطيب النفس ، إلى غير ذلك ، ويمكن أن يناقش فيها أيضا باختصاصها بالأعيان بدعوى أن المنافع ليست أموالا ، وهو ممنوع. ولو سلمنا

٩٨

شمولها للأعيان والمنافع يمكن أن يناقش فيها أيضا بعدم شمولها لمنافع الحر غير المملوكة بالإجارة ، لأنها ليست مالا ولا دما. وعد الكسوب (في باب الزكاة والحج غنيا ويرجع إلى كفاية) لا يستلزم كون منافعه مالا مملوكا له ومضافا إليه.

سابعها : قاعدة (على اليد). ومدركها قوله (ص) على اليد ما أخذت حتى تؤدي ، فإنه نبوي مرسل معمول به. وهو يدل بعمومه على ضمان كل ما دخل تحت اليد سواء كان قبضا عدوانيا كالغصب والسرقة والاختلاس ، أو مقبوضا بالعقد الفاسد أو بالسوم أو للاطلاع أو تبعا لغيره كالحمل في الأخيرين ، أو بالائتمان بالمعنى الأخص أو الأعم ، وسواء كان أمانة مالكية أو شرعية خرجت منه الأمانة مثلا بدليل ، وبقي الباقي والمقبوض بالعقد الفاسد من الباقي.

ونوقش فيه بمناقشات يجمعها ثلاثة :

أولها : أن (على) مشتركة بين الحكم التكليفي والوضعي. ومن المحتمل إرادة التكليفي منها في الحديث الشريف .. والجواب أن موردها إن كان فعلا من أفعال المكلفين صرفها للتكليفي ، وإن كان عينا صرفها للوضعي. وظاهر لفظ (الأخذ والتأدية) إرادة المأخوذ وما يؤدي. فيكون المراد من الموصول العين وما يتبعها. كالمنافع التي يقبضها تبعا للعين ويؤديها بأداء بدلها إن كانت تالفة ، وبإرجاع العين إن كانت باقية ، مضافا إلى أن (على) المفيدة للتكليف هي المتصلة بالضمير ، التي هي اسم فعل نحو عليّ بزيد وعليك به.

ثانيها : أن قوله (ص) (أخذت) ظاهر في الاعتداء. والقبض في العقود الفاسدة مع الجهل بالفساد ، ليس أخذا عدوانيا.

والجواب : أنه ممنوع. بل الأخذ ظاهر في مطلق الاستيلاء.

ثالثها : وهو أهمها ، أنه لا يشمل المنافع. لأنها لا تدخل تحت اليد ، خصوصا منافع الحر. وحينئذ تكون المعاملات الفاسدة ، على المنافع بأقسامها ،

٩٩

خارجة عن الحديث. ولأن الأخذ لا يصدق عليها ، ولا سيما إذا كانت فائتة لا مستوفاة ، ولأن التأدية فيها عينا ممتنعة لتصرمها بتصرم الزمان بخلاف الأعيان. فيكون ذيل الحديث قرينة على عدم إرادتها منه. وقد أجبنا على ذلك كله في قاعدة (على اليد) من هذا الكتاب. وحينئذ يكون الحديث وحده صالحا لأن يكون مدركا للقاعدة بالنسبة للأعيان والمنافع. ولو سلمنا عدم شموله للمنافع ، أمكن أن يكون مدركها بالنسبة للمنافع قاعدة الاحترام والاستيفاء.

وحينئذ يكون حديث (على اليد (مع قاعدة الاحترام والاستيفاء مدركا للكلية ، ونحن لا نريد أكثر من ذلك.

إذا عرفت هذا عرفت أن مدرك القاعدة الموجبة هو قاعدة (على اليد) والاحترام والاستيفاء في الأعيان والمنافع المستوفاة وغيرها ، وهل هي مطردة منعكسة أو لا .. فيه كلام تعرفه موضحا في المقام الثالث إن شاء الله تعالى (١).

المقام الثاني

في السالبة : وهي كل ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، أو كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، أو ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، كما هو مقتضى المقابلة مع الموجبة. وهي ضابط لمسقطات الضمان في العقود أو في مطلق المعاملات وفيه مبحثان.

المبحث الأول : في أنها حجة بنفسها أو لا .. والكلام فيه هو الكلام في المبحث الأول من الموجبة.

والمبحث الثاني : في مدركها. وربما يستدل لها بدوا بأمرين الأصل والإقدام .. أما الأصل فإن مقتضاه براءة الذمة من البدل إلى أن يقوم الدليل على الضمان. ولا ريب أن المقبوض بالهبة والعارية مثلا ، لا يضمن بصحيحهما ، فيكون فاسدهما كذلك بمقتضى السالبة ، وهو على وفق الأصل.

__________________

(١) فرغنا منه صبح الأحد في الكويت ١٤ جماد الأول سنة ١٣٨٣ ه‍.

١٠٠