قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الموضوعية على أدلة الواقع ، فكأنها أخرجتها عنها إخراجا تعبديا ، وأما الشبهات الحكمية فبما يشبه ذلك.

وقد جمع بينهما في تقريرات شيخنا الكاظمي الخراساني رحمه‌الله باختلاف المرتبة بدعوى دفع أدلة الواقع عن التأثير في مرحلة الشك ، لضعف ملاكاتها. فمعنى أصل البراءة مثلا هو دفع المقتضيات عن التأثير في صورة الشك والجهل ، أو كشفها عن عدم قابليتها للتأثير. وذلك وإن استلزم التخصيص بالنسبة للادلة الواقعية ، إلا إننا قد نلتزم به ، وقد نعتذر عنه.

وبالجملة : دعوى تخصيص الأدلة الأولية يستلزم اختصاص الأحكام بالعالمين ، ويستلزم التصويب ، ويستلزم أجزاء الأحكام الظاهرية ، إلا أن يفرق بين التخصيص وبين ما نحن فيه ، بأن التخصيص يكشف عن كون المراد هو ما عدا الخاص من أول الأمر حتى في مرحلة الاقتضاء ، بينما يلاحظ هنا إن المراد في مرحلة الاقتضاء باق على سعته وشموله ، ولكنه في مرحلة الفعلية والتنجز لا يؤثر مع الجهل والشك ، وقد جمعنا بينها بجمع آخر ، فليلاحظ في القاعدة التي خصصناها لهذه المشكلة المعضلة.

تاسعها : العلم الاجمالي بالتكليف المنجز ، كالعلم التفصيلي في الداعوية إلى متعلقه ، ويستحيل الجعل فيه نفيا أو إثباتا. ومن أجل ذلك لا تجري الأصول في أطراف العلم الاجمالي المنجز ، لأنه يلزم من جريانها المخالفة العملية لدليل التكليف ، ولكن ربما يمنع مانع عن فعليته أو عن تنجزه ، فتبطل هذه الداعوية ويرتفع أثرها كما إذا كانت المخالفة العملية اليقينية غير ممكنة. فلو دار أمر الواقعة الواحدة الجزئية أو الكلية بين الوجوب والتحريم ، ولم يكن أحدهما أو كلاهما تعبديا كدوران حكم تدخين (التبغ) مثلا بين الوجوب والحرمة ، وكما لو علم مثلا أنه حلف إما على ترك وطء زوجته عصر الجمعة ، وإما على وطئها في ذلك الوقت ، فإن المخالفة اليقينية في المثالين متعذرة ، وحينئذ يمكن الرجوع للأصول الحكمية أو الموضوعية ، وإن علمنا بعدم موافقتها للواقع لأنها لا تستلزم مخالفة عملية ، فنقول حينئذ بإباحته ظاهرا أو بالتخيير مثلا ، أو بالوقف ، أو بترجيح جانب الحرمة ، هذا بالنسبة للشبهة الحكمية ، كما في مثال (التبغ) ،

٦١

أو نقول بالاباحة أو بالتخيير ، كما في مثال الزوجة فلو أجرى اصالة عدم الحلف على الوطء ، وعلى تركه ، لم يلزم من ذلك مخالفة عملية ، فإنه في الواقع لا ينفك عن الفعل أو الترك ، وجريان الأصلين لا يزيد على ذلك. وكذلك لو أجرى الأصول الحكمية ، أعني عدم الوجوب أو عدم الحرمة أو البراءة منهما.

إذا عرفت هذا علمت أنه لا مانع من جريان الأصول في مثل الفرض لعدم المحذور ، لأن المخالفة العملية لما كانت متعذرة كانت داعوية التكليف إلى متعلقه ساقطة ، فيكون جريان الأصول لا محذور فيه ، لأنه لا ينافي دليل التكليف ، فلا يكون مستلزما للمخالفة العملية. ولكن إذا قلنا بوجوب الموافقة الالتزامية أو بحرمة المخالفة الالتزامية ، فهل يكون ذلك موجبا لوقوف هذه الأصول أولا. احتمالان.

ربما نقول بها ومع ذلك نجريها فنلتزم بأنه في الواقع أما واجب وأما حرام ، وإنه في الظاهر مباح. وربما نقول بسقوطها ، ويكون التخيير حينئذ عقليا ويكون غير مأخوذ من نتيجة الأصول ، فلا نقول أنه مباح ، ولا نقول بالتخيير الشرعي. أما إذا قلنا بعدم وجوب الموافقة الالتزامية مطلقا ، وقلنا بوجوبها بالنسبة للأحكام المعلومة بالتفصيل دون ما عداها ، فإنه حينئذ لا مانع من جريانها في المقام أصلا.

عاشرها : يمكن الاستدلال لوجوب الالتزام بأن عدم الالتزام مساوق لتكذيب الرسل.

وفيه : إنه إن رجع إليه التزمنا بوجوبه فرارا عن هذا اللازم الباطل ، وإلا فلا.

والظاهر إن القول بعدم وجوب الالتزام تفصيلا ، لا ينافي وجوب تصديق النبي (ص) ، وحرمة تكذيبه ، فإن المراد من وجوب الالتزام وجوبه تفصيلا ، والمراد من وجوب التصديق وجوبه إجمالا ، ولا ملازمة بينهما.

وبالجملة : الالتزام المساوق للتصديق بالانبياء واجب ، وأما ما هو أكثر منه فلا دليل عليه ، والتكذيب عملا غير حاصل ، واعتقادا بالمعنى المطلوب هنا

٦٢

هو محل الكلام. فإن تصديق الرسل واجب وتكذيبهم كفر بالضرورة ، ولكن عدم عقد القلب على حكم الواقعة ليس تكذيبا. وبالجملة لا ملازمة بين عدم الالتزام والتكذيب.

ويمكن الاستدلال لعدم الوجوب بأمور

منها : إن المحكم في باب الاطاعة والعصيان هو العقل ، وهو يستقل باستحقاق العبد للثواب ، وبعدم استحقاقه للعقاب بمجرد امتثاله أمر مولاه ، وإن لم يكن ملتزما والوجدان أكبر شاهد. نعم ، الملتزم أعلى درجة عند مولاه ، ولكن هذا غير ما نحن فيه.

ومنها : الأصل إذا كان وجوبه شرعيا.

ومنها : إنه لو وجب ، لكان للممتثل الملتزم ثوابان ، وللمخالف غير الملتزم عقابان ولكان للملتزم بلا امتثال ثواب وعليه عقاب ، وللممتثل غير الملتزم ثواب وعليه عقاب ، ولو ثبت هذا لتكرر ذكره في الأخبار الاخلاقية ، ولأكثر الوعاظ من نشره وبيانه كما هو الحال فيما دون هذه المسألة العامة الابتلاء.

ومن هذا يتضح إنه إذا علمنا بحكم تفصيلا وجب الالتزام به كذلك على تقدير وجوب الالتزام ، وإذا علمنا به إجمالا وجب الالتزام به كذلك. أما الالتزام بأحدهما مخيرا فلا دليل عليه ، وتعيين الالتزام بأحدهما فيه محذور المخالفة الاحتمالية كما إن الالتزام بالمردد التزام بما لا يصدر عن الشارع.

إذا عرفت هذا كله يتضح لك إنه إذا دار أمر الشيء بين كونه واجبا أو حراما ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، وسواء كان منشأ الشك فقدان النص أو تعارضه أو إجماله ، يمكن ثبوتا الرجوع للأصول الموضوعية والحكمية ، وإن علمنا بعدم موافقة أحدهما للواقع إذا لم تستلزم مخالفة عملية ، فنقول بإباحته ظاهرا أو بالتخيير مثلا ، لو كان هناك دليل يقتضيه ، أو بالوقف أو بترجيح جانب الحرمة أو الوجوب لو ثبت المرجح ولا نتصور مانعا من ذلك إلا أحد أمور.

٦٣

الأول : كون الأصول متعارضة للعلم بمخالفة أحدها أو كلها للواقع.

وفيه : إنها غير متعارضة لما مر في الأمر الخامس من عدم لزوم المخالفة العملية ، ولما مر في الأمر التاسع والعاشر من عدم لزوم المخالفة الالتزامية لعدم ثبوت وجوبها من أصلها أو عدم ثبوت وجوبها في غير مورد العلم التفصيلي بالأحكام ، أو لعدم ثبوت وجوبها على نحو ينافي جريان الأصول ، فيمكن الالتزام بأن حكمها الواقعي إما الوجوب وإما الحرمة ، وحكمها الظاهري الاباحة مثلا أو غيرها.

الثاني : منافاته لدليل التكليف ، وفيه أن دليل التكليف يدعو للعمل بمقتضاه والمفروض أن العمل بمقتضاه متعذر في الأمثلة المذكورة ، فالمخالفة العملية إذن متعذرة وأما من حيث المخالفة الالتزامية ، فلا يعقل أن يتعرض لها دليل التكليف لما مر في ثاني الأمور وثالثها للزوم الدور ، فأين مخالفة دليل التكليف. وهل هذا إلا مغالطة.

الثالث : لزوم منافاة الحكم الظاهري للواقعي منافاة تفصيلية ، كما في الأمثلة السابقة أو إجمالية كما في توضأ بمائع مشتبه بين الطاهر والنجس ، فإنه يستصحب طهارة أعضائه وبقاء حدثه ، ولا يمكن الجمع بينهما في هذا الحال .. وفيه إن وجه الجمع بينهما في غير هذا الحال هو وجه الجمع بينهما فيه ، وقد مرت الاشارة إليه في الأمر الثاني ..

الرابع : إن الارتكاز العرفي يأباه ، وإن كان البرهان لا يمنعه.

الخامس : إن فتوى الفقيه بالتخيير في مثل هذا المورد ، فتوى بما يعلم أنه مخالف للواقع ، وهو تشريع ظاهر. وفيه إن التخيير في مثله عقلي لا شرعي وإن فتوى الفقيه بمضمونه بمنزلة إعلام المكلف به ، وليس إنشاء حكم شرعي ليكون تشريعا.

السادس : إن الحكم في الظاهر بما يخالف الواقع فيه مخالفة التزامية ، وفيه أنه مصادرة ، وأنه لا ينافي الالتزام بالواقع على ما هو عليه ، مضافا إلى ما

٦٤

قلناه من إن التخيير هنا حكم عقلي لا شرعي.

إن قلت : يجوز للفقيه أن يفتي بما يعلم أو يظن بمقتضى اجتهاده أنه مطابق للواقع ولكن لا يجوز له أن يفتي في الظاهر بما يعلم بمخالفته للواقع ، وإن لم يستلزم مخالفة عملية ، قلت قد عرفت آنفا إن ما نحن فيه ليس من الفتوى في شيء ، مضافا إلى إن ما ذكره هو محل النزاع ، فكيف يكون دليلا في قبال الخصم ، فهو مصادرة واضحة ـ (١) ـ.

٢٣ ـ قاعدة

في امكان خلو الواقعة

عن الحكم الظاهري وعدمه

قاعدة : هل الواقعة في الظاهر لا بد وأن تكون محكومة بحكم ، أو يمكن خلوها عن الأحكام. احتمالان .. ظاهر (الكفاية) في مبحث الضد ، و (الرسائل) في مسألة الدوران بين المحذورين من جهة فقد النص ، و (الآشتياني) في أوائل مبحث البراءة ، على ما أتخطره ، هو الثاني.

ويدل عليه إن موضوع الأحكام الظاهرية ، أو موردها هو الجهل والشك ، ومع الغفلة ينتفي الحكم الظاهري تبعا لانتفاء موضوعه أو مورده. ولا فائدة حينئذ في جعله إلا مصادفة موافقته ، وحينئذ فتكون مصادفته كمصادفة موافقة الواقع ، وهو كما ترى ، فإنه يستلزم تعدد الواقع لو كان مخالفا له ، ويكون مجزيا في التوصليات مع أنه مخالف للواقع.

ثم إن مخالفته تكون كمصادفة مخالفته الواقع ، وهو أيضا كما ترى لما مر ، مضافا إلى استحقاقه لعقابين لو كان مخالفا لهما ، ومن أجل هذا نقول باناطة جريان الأصول بحال الالتفات.

__________________

(١) انتهى مغرب الاحد في ٢٩ ذي القعدة سنة ١٣٧٥ ه‍.

٦٥

ثم أنه لو قطع بخلاف الواقع لم يكن لقطعه أثر ، فإن الحكم الواقعي في الفرض ثابت على ما هو عليه ، والقطع الطريقي ، لما لم يكن مجعولا ، لم يكن مفاده حكما ظاهريا ، ولذا كان الجري عليه لا يستلزم الأجزاء ، بل ولا يوجب توهمه ؛ ونظيره الجري على وفق الامارات بناء على الطريقية الصرفة ، والحمد الله رب العالمين.

٢٤ ـ قاعدة

الاذن في الشيء إذن في لوازمه

اعلم أن هذه الكبرى غير واضحة المأخذ ، فإنها بنفسها ليست آية ولا رواية ، ـ كما يظهر لنا من موارد ذكر الفقهاء لها ـ ولكن الظاهر أنها قاعدة عقلائية وحينئذ يكون تقرير الشارع لها ، بعد إثبات استقرار طريقة العقلاء عليها ، هو دليل حجيتها.

وبعبارة أوضح : دليل حجيتها هو استقرار طريقة العقلاء ، وتقرير الشارع لهم وحينئذ تكون من صغريات حجية الظواهر ، فإن دليل حجية ظاهر المقال ، هو بعينه دليل حجية ظاهر الحال.

ثم إنه يمكن الاستدلال لحجيته في موارد هذه القاعدة بمفهوم الموافقة ، فتكون من صغريات حجية ظواهر الالفاظ ، ألا ترى إن إباحة وطء الجارية يستلزم إباحة التقبيل والملامسة بالأولوية القطعية. والمدار حينئذ في حجيتها ، سعة وضيقا ، على إثبات الأمرين ، أعني استقرار طريقتهم وتقرير الشارع لهم ، ولا ريب في انطباقها في موارد كثيرة كالضيافة ولوازمها ، والدعوة إلى البيت ولوازمها ، وإعارة الثوب وإباحة وطء الجارية. فإن اللوازم كلها مأذون فيها بنظر العقلاء ، وهي المعبر عنها بشاهد الحال وقرائن المقام ، ولا ريب أيضا في كونها قاعدة ظاهرية موردها الشك في حصول الأذن ، ولذا لو علم بالاذن باللازم ، أو علم بالمنع عنه ، لم يبق معنى للاستدلال بها.

إذا عرفت هذا فاعلم : إن بعض الفقهاء أو المتفقهين رضوان الله عليهم

٦٦

ذكروها في موارد ليست من صغرياتها ، فأوجب ذلك اعتبار المبتدئين لها دليلا على الحكم في تلك الموارد ، أو مؤيدا له مع أنها أجنبية عنها.

منها : ما لو أذن له في الصلاة في منزله ، ثم رجع عن إذنه وهو في أثناء الصلاة ، فإن الاذن في الشروع إذن في لازمه وهو الاتمام.

ومنها : ما لو أعاره أرضا ليزرعها ، ثم رجع عن إذنه بعد الزرع ، وقبل اكتماله بدعوى أن الاذن به إذن بإبقائه إلى حين الاكتمال.

ومنها : ما لو أعاره العين للرهن فرهنها ، ثم رجع عن العارية.

ومنها : أذن السيد والوالد والزوج للعبد والولد والزوجة في الحج أو الصلاة أو الاعتكاف ، ورجوعهم عن الاذن بعد الدخول في الصلاة وبعد الاحرام في الحج ، وبعد اليومين من الاعتكاف.

ومنها : أن يبذل له زادا أو راحلة للحج ، أو يهبه ما يحج به ، ثم يرجع عن ذلك بعد تلبسه بالاحرام ، إلى غير ذلك.

ولكن هذه الموارد كلها ليست موردا لها ، لأن موردها ناظر لصورة الشك في حصول الاذن باللازم بمجرد الاذن بالملزوم ، ومورد هذه الأمور ناظر لصورة رجوع الاذن عن إذنه في اللازم أو في الملزوم ، فكيف تكون هذه الموارد من صغريات هذه القاعدة مع تباين الموردين ، وينبغي التكلم في هذه الموارد في موضعين.

أولهما : في إن الرجوع عن الاذن في الملزوم ، هل يستلزم الرجوع عن الاذن باللازم بالنسبة لما تلبس به ، أو لا .. وأما بالنسبة لما مضى فلا معنى له ، لأنه قد حصل التصرف باذن المالك ، ولا معنى للرجوع بما وقع ولا محصل له.

ثانيهما : في أنه هل يجوز له الرجوع أو لا. بمعنى أن رجوعه هل يؤثر أو لا. وهذا أمر تشترك فيه جميع هذه الموارد ، وتختلف فيما عداه ، ولذا ينبغي التكلم في كل واحد منها بما يخصه. فنقول إذا رجع الآذن في الإذن في الصلاة بعد

٦٧

التلبس بها ، فهل يجب عليه قطعها ، أو لا .. وإذا رجع في العارية ، فهل ينفسخ الرهن ، أو لا .. وإذا رجع في عارية الأرض للزرع ، فهل يؤثر رجوعه أو لا .. وهل يضمن الزرع إذا تلف بالقلع لكونه غارا أو لا .. وإذا وجب إبقاؤه ، فهل يبقيه باجرة أو مجانا .. وإن لا ضرر هل تجري هنا أو لا ..

وبالجملة : هذه المسائل لا تبتني على قاعدة الاذن في الشيء إذن في لوازمه وتوضيحا لذلك نقول

أما الأذن في الصلاة ، فإنه يجوز الرجوع فيها لاطلاق قاعدة السلطنة ، فإذا رجع وجب على المصلي قطع الصلاة لعدم قدرته على إتمامها شرعا ، ولوجوب التخلص من الحرام.

إن قلت رجوعه يستلزم وقوع المصلي في إبطال الصلاة ، وإبطالها محرم والتسبب إلى المحرم محرم.

قلت : لا ريب إن وقوعه مباح بعنوانه الأولي لقاعدة السلطنة ، وإبطال الصلاة بعد الرجوع لا يتصف بالحرمة بالنسبة للمصلي لكونه غير قادر على الإتمام ، فالرجوع تصرف في الموضوع. وإما الحكم ، فإنه يتقلب تبعا له.

ودعوى سببية رجوعه لتعجيز المصلي مسلمة ، ولكن مثل هذا التعجيز ليس محرما لأنه فعل فعلا مباحا ، ولم يتصرف في نفس المصلي ، ولا في صلاته ، وإنما تصرف في ملكه ، والتسبيب المذكور ليس من التسبيب المحرم ، لأن ضابط التسبيب المحرم أنه هو الذي لا يتوسطه إرادة فاعل مختار بين السبب والمسبب.

وبالجملة : إبطال الصلاة المحرم ، هو إبطال المصلي لصلاته اختيارا بدون عذر شرعي أو عقلي ، وهذا ليس منه. هذا مضافا إلى أن العمدة في حرمة الإبطال هو الإجماع ، والقدر المتيقن منه غير ما نحن فيه.

وأما الرجوع عن الأذن في الرهن ، فالظاهر أنه لا يؤثر ، لأن الرهن عقد لازم ، وقد وقع بإذن المعير ، فالمقتضي لبقائه موجود والمانع مفقود. وبالجملة فالرهن عقد لازم ولا سبيل لصيرورته جائزا إلا بدليل ، وهو مفقود ، وحينئذ فلا سبيل للخروج عن أصالة اللزوم.

٦٨

وأما رجوع الزوج والسيد والوالد عن الإذن لزوجته ومملوكه وولده بالحج بعد تلبسهم بالإحرام ، فإنه لا أثر له ، لوجوب إتمام النسك بعد التلبس بالإحرام ، ومن المعلوم أن طاعة الثلاثة إنما تجب فيما لا يزاحم حقوق الله سبحانه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

هذا ، مضافا إلى أن تأثير الإذن وعدمه مشروط بقابلية المحل ، وبعد وجوب الإتمام لا يكون المحل قابلا.

إن قلت : لما ذا لا يكون الرجوع تصرفا في الموضوع ..

قلت : يتضح الجواب مما قلناه آنفا من أن الموضوع غير قابل للتصرف ، فإن المولى والزوج والوالد ليس لهم التصرف في الإحرام الملزم بالإتمام ورجوعهم عن الإذن لهم تصرف فيه واضح.

ثم أن الزوج أو السيد لو أذن لزوجته في الصلاة أو لعبده ، ثم بعد تلبسهم فيها بتكبيرة الإحرام احتاجهما لأمر يجب عليهما إطاعته فيه ، فأمرهما بالقطع ، لم يجز لهما الإبطال وإن رجع في الإذن ، لأنه من جملة معصية الخالق في طاعة المخلوق.

وأما رجوع صاحب الأرض التي أذن لغيره في زرعها فزرعها ، فإن الحكم فيها يبتني على أن صاحب الأرض هل هو مسلط على الرجوع في إذنه. لقاعدة السلطنة ، أو لا لكون رجوعه مضرا بصاحب الزرع ، فتكون قاعدة السلطنة محكومة لحديث نفي الضرر ، وربما يرجح الأول بأمرين : أولهما إن جريان الحديث يستوجب الضرر على صاحب الأرض لأن منعه من الرجوع الذي هو عمل بقاعدة السلطنة يمنعه من الاستفادة من أرضه وذلك ضرر عليه واضح ، ونفي الضرر الذي يتولد منه ضرر ليس مشمولا لحديث نفي الضرر لوروده مورد المنة ، ثانيهما : أن المأذون إذا أقدم على ذلك عالما بجواز رجوع المعير يكون الضرر مسببا عن اقدامه لا عن حكم الشارع بجواز الرجوع في العارية.

والتحقيق : إن الإذن بالزرع والإقدام عليه يتصور على أنحاء ؛ لأنهما مرة يكونان عالمين وأخرى غافلين ، وثالثة يكون صاحبه عالما والآخر جاهلا ورابعا بالعكس.

٦٩

أولها : أن يلتفتا إلى أن الزرع يحتاج إلى زمن يبلغ فيه ويكونا مقدمين على ذلك وفي هذه الصورة ليس له الرجوع لقاعدة نفي الضرر وللإقدام.

ثانيها : أن يغفلا عن ذلك ، والظاهر جواز الرجوع لعدم إحراز الإذن في المدة المتأخرة ولقاعدة السلطنة.

ثالثها : أن يتنبه الزارع وحده لقضية الرجوع ، وحينئذ يكون ضرره ناشئا عن أقدامه ، لا عن حكم الشارع بالسلطة.

رابعها : أن ينعكس الأمر ، وحينئذ ينعكس الحكم.

ثم أنه في صورة لزوم الضرر بقلع الزرع يتعين على صاحب الأرض الإذن بإبقائه بأجرة المثل ، لأن الرجوع حينئذ من الضرار ما لم يكن ضرره أعظم ، والصلح في مثل المقام هو سيد الأحكام ..

تنبيه : ينبغي ملاحظة التنبيه الرابع ، من تنبيهات «لا ضرر»فإنه يرتبط بهذه المسألة وينبغي أيضا ملاحظة الوسائل م ١٧ ب ٢ من أبواب الغصب ص ٣١٠ فقد اشتمل على روايتي خالد بن عقبة ومحمد بن مسلم ، وقد تضمنا إبقاء الزرع ودفع الأجرة لصاحب الأرض وملاحظة الباب الثالث من أبواب الغصب أيضا ، فقد اشتمل على رواية تقضي برفع البناء من الأرض المغصوبة وقد عثرنا على هذه الروايات ليلة الأحد ليلة ٢٤ رمضان المبارك سنة ١٤٠٤ ه‍ في حاريص.

٢٥ ـ قاعدة

في مراتب الحكم

قيل : إن مراتب الحكم الواقعي أربعة ، الاقتضاء ، والإنشاء ، والفعلية ، والتنجز. وقيل بوحدة الفعلية والتنجز ، وقيل ليس للحكم إلا مرتبتان الإنشاء والفعلية.

أما مرتبة الاقتضاء : فيمكن أن يراد بها الاقتضاء الاصطلاحي ، بمعنى جزء العلة ، فإنه بعد البناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، يكون في

٧٠

متعلق الحكم مصلحة أو مفسدة تقتضي طلبه أو الزجر عنه ، ويمكن أن يكون المراد بها الاقتضاء بمعنى العلة التامة. فإن الحكيم إذا لاحظ الشيء فوجد فيه مصلحة غير مزاحمة وترجح وجوده على عدمه ، أراده وإذا أراده وطلبه. فيكون الترجيح الواجد للشرط الفاقد للمانع ، هو المراد بالحكم الاقتضائي ، وهذا معنى لا سبيل لإنكاره. وعليه فإن أريد بالحكم الاقتضائي أحد هذين المعنيين ، ولا سيما الأخير ، فهو شيء حسن وله واقع.

وأما مرتبة الإنشاء فهي مرتبة الإظهار ، سواء كانت بالقول أو بالفعل أو بالتدوين أو بالإشارة (١).

وأما مرتبة الفعلية فالمراد بها علم المكلف بذلك ، وقد يحصل العلم بمجرد الإظهار ، فتقترن مرتبة الفعلية بمرتبة الإنشاء اقتران المعلول بالعلة ، وقد لا تقترن بها.

وأما مرتبة التنجز فالمراد بها علم المكلف بالحكم مع قدرته على الامتثال.

وهذه المراتب منتزعة من الملاحظات الآنفة ، ومترتبة طبعا ترتب المعلول على العلة ، لأجل ذلك يخفى الفرق بينها ، وقد ظهر مما مر أن الملاحظات الآنفة تستدعي كونها أربعة. وأما ما يوجد خارجا ويصح أن يسمى أمرا أو نهيا ، فإنما هو الإنشائي منها ، ومن ثم عرف به.

وبهذا يتضح الحال ولا ينفتح باب القيل والقال ، وتكون النتيجة تعددها وأنها أربعة وكل حكم يعلم به المكلف يكون فعليا ، وإذا فقد المانع من إيجاده صار منجزا ، والله العالم.

٢٦ ـ قاعدة

في خلو الواقعة عن الحكم الواقعي وعدمه.

قاعدة : الواقعة في الواقع ونفس الأمر لها حكم عندنا ، ويدل على ذلك أمور (٢) :

__________________

(١) وهذه المرتبة هي الطلب ، الذي يكون عقيب الإرادة ، وقد حققنا ذلك في مسودات (مباني الفقيه) في مباحث الألفاظ من الأصول ولا يخفي أننا قررنا إهمال هذا الكتاب.

(٢) قال في الرسائل في مبحث الظن في آخر الوجه الأول من وجوه السببية ما لفظه وقد تواتر ، بوجود

٧١

أولها : ظهور التسالم على ذلك بيننا.

ثانيها : ظهور أدلة الأحكام الظاهرية كلها في ذلك ، سواء كانت من نوع الإمارات أو الأصول ، فإن موضوعها أو موردها الشك في الحكم الواقعي بالضرورة ، والشك في رتبة متأخرة عن الحكم المشكوك ، وذلك ظاهر.

ثالثها : الأدلة الدالة على اعتبار العلم ، والنافية لحجية الظن ، كقوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.) وقوله تعالى (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.) فإنها ظاهرة في وجود ما يعلم ، وفي وجود الحق.

رابعها : قوله تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).

خامسها : الإجماع على بطلان التصويب ، فإنه ظاهر في ثبوت حكم غير الحكم الذي قامت عليه الإمارة وغير الحكم الذي أفتى به المفتي ، إلا أن يقيد بطلانه في مورد يفرض وجود الحكم الواقعي فيه ، وهو كما ترى.

سادسها : بعض أدلة بطلان التصويب أو كلها ، فإنها تدل على ثبوت الحكم الواقعي. ودليل بطلانه لزوم التعطيل أو التفويض في التشريع ، أو كون الشيء حسنا قبيحا في آن واحد ، من جهة اختلاف نظر المجتهدين ، أو لزوم كونه مجمعا للأحكام الخمسة ، كما لو أفتى خمسة علماء كل واحد منهم بحكم من الأحكام الخمسة في واقعة واحدة. ويدل على بطلانه أيضا قوله تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ.) وقوله (ص) (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة).

سابعها : قوله (ص) حلال محمد حلال إلخ .. وفيه تأمل واضح ، لأنه يدل على استمرار ثبوت الحكم الواقعي الثابت إلى يوم القيامة ، ولا يدل على

__________________

ــ الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، الأخبار والآثار. وكان أستاذنا الخراساني الكاظمي رحمه‌الله يقول تتبعنا كثيرا ويعني نفسه واستاذه النائيني وتلامذته فلم نجد إلا رواية واحدة في مقدمة الحدائق ، وهي أن العبد يسأل هل عملت. فيقول لا فيقال له لما ذا فيقول ما علمت. فيقال له هلا تعلمت .. فتكون لله الحجة البالغة .. ولم نوفق لمراجعة الحدائق.

٧٢

ثبوت الحكم الواقعي لكل واقعة.

ثامنها : قوله (ص) في حجة الوداع في غدير خم ما من شيء يقربكم من الله ويبعدكم عن النار إلا بينته لكم ، وما من شيء يبعدكم عن الله ويقربكم من النار إلا بينته لكم حتى أرش الخدش ، كما هو مضمون الخطبة. والخطبة في الجملة متواترة عندنا بل وعند غيرنا فهي حجة علينا وعليهم في الفروع كما كانت حجة في الأصول.

وفيه : أنها لا تشمل المباحات لأنها ليست بمبعدة ولا بمقربة.

ثم لا يخفى أن الحكم الواقعي الموجود في الواقعة قد يتبع واقعها ويدور مدارها سواء كانت معلومة تفصيلا أو إجمالا ، أو مظنونة أو مشكوكة بالشك البدوي. فالخمر مثلا حرام في جميع هذه الأحوال ، ويمكن أن يكون حلالا لو أخذ العلم فيها جزء الموضوع. ولكن مقتضى إطلاق الأدلة هو الأول. وأما الثاني فهو مفتقر إلى الدليل ومن ثم استدل شيخنا الأنصاري رحمه‌الله في أول أصالة الاشتغال على اقتضاء العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية بعموم حرمة الخمر ، وتبعه غيره.

ثم إن بعض العناوين الثانوية قد تكون موضوعا لحكم شرعي أو عقلي كالاضطرار ، ويسمى واقعا ثانويا كما في حلية بعض المحرمات للاضطرار إليها ، وكالشك ، فإنه قد يكون موضوعا لحكم شرعي أو موردا له ، ويكون حينئذ حاكما على الأدلة الواقعية ، أو واردا عليها ، كما في أدلة أحكام الشك في عدد الركعات وفي أفعال الصلاة.

وقد يكون موضوعا لحكم عقلي ، كما في الشك في الشغل ، والشك في الحجية ، فإن العقل يستقل بالشغل ، فلا حاجة لاستصحابه (كما لو أتى المكلف بأحد فردي المعلوم بالإجمال ، وشك في بقاء التكليف) وكما في الشك في الحجية ، فإن العقل يستقل بعدم الحجية فلا حاجة لاستصحاب عدمها (كما لو شك في حجية الظن أو حجية الشهرة أو الإجماع المنقول.

٧٣

٢٧ ـ قاعدة

في أن العام هل هو حجة في عكس نقيضه ، أو لا

ويمكن تحرير هذه القاعدة على النحو الآتي ، فيقال :

إذا قال المولى لعبده ، كل عالم يجب إكرامه ، ثم قال لا تكرم زيدا ، ودار أمر زيد بين كونه عالما منع المولى من إكرامه ، فيكون خارجا تخصيصا وبين كونه ليس بعالم فيكون خارجا تخصصا ، فهل يستدل بهذه القاعدة على خروجه تخصصا ، فيقال : كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، وزيد لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم.

وتظهر الثمرة فيما لو أوجب المولى إهانة غير العالم ، فإذا ثبت كونه ليس عالما وجبت إهانته.

والتحقيق : أن ظهور العام لا يفيد إلا الظن ، وأن الظن ليس حجة بنفسه ولكن لما استقرت طريقة العقلاء على ترتيب آثاره ، وتبعهم الشارع وأقرهم كان حجة ، ومن المعلوم أن العقلاء لا يعرفون عكس النقيض ، ولا يتنبهون لمثل هذه اللوازم ، فكيف يتوهم استمرار طريقتهم على العمل به ، فضلا عن توهم تقرير الشارع لهم ، ثم أنه لا ريب في حجية عكس النقيض في التكوينيات للبرهان العقلي ، على ذلك بلزوم التناقض ، وأما في غيرها فلا برهان ، لأن التفكيك في الظنيات لا مانع من الالتزام به ، لأنه لا يستلزم تناقضا ، والله العالم (١).

٢٨ ـ قاعدة

في الفرق بين البدل والمسقط وفي الثمرة المترتبة على ذلك.

أعلم أن البدل على ثلاثة أنواع :

__________________

(١) أوائل جمادي الأولى سنة ١٣٧٢ ه‍.

٧٤

بدل اختياري في عرض المبدل منه ، وهو المعروف بأحد فردي التخيير ، كما هو الحال في خصال الكفارة المخيرة.

ولا يخفى أن امتثال الطبيعة بالإتيان بها في ضمن فرد من أفرادها ليس منه لأن التخيير بين أفراد الطبيعة لا يتصف بالبدلية المذكورة ، لأنه ليس ثمة بدل ولا مبدل منه ، وإن كان مخيرا بين أفرادها عقلا ، فالبدلية المذكورة مختصة ، بموارد التخيير الشرعي الدائر بين طبيعتين أو أكثر ، وبموارد التخيير العقلي الذي يكون مثله.

وبدل اختياري ، وليس هو أحد فردي التخيير ، كما في قراءة الإمام بالنسبة للمأموم ، بناء على أنها مسقطة للقراءة عن المأموم ، لا بدل عن قراءته ، وكل من هذين النوعين يفي بالملاك.

وبدل اضطراري ، وهو الذي يفي بالملاك ، أو ببعضه عند تعذر المبدل منه ، كالتيمم بالنسبة للطهارة المائية ، وكالمرتبة المتأخرة ، في باب الكفارات المرتبة ، بالنسبة للمرتبة التي قبلها.

إذا عرفت هذا فاعلم أن ثمرة البدل والمسقط تظهر في من وجبت عليه الصلاة وضاق وقته عن تعلم القراءة ، فإنه بعد عجزه ينتقل إلى تكرار ما قدر عليه منها بمقدارها ، أو الذكر بمقدارها ، ولا ريب أنه لو صلى جماعة تسقط عنه القراءة ، ولكن في هذا الحال ، هل يتعين عليه أن يصلي جماعة ، أو يتخير بينها وبين الصلاة فرادى ، وتكرار ما حفظه من القراءة بقدرها ، وجهان مبنيان على أن قراءة الإمام بدل عن قراءة المأموم أو مسقطة لها ، فإن كانت بدلا وجب الائتمام في الفرض ، لأنه أصبح واجبا تعيينا بالعرض بعد ما كان فردا تخييريا وأما بناء على أنها مسقط ، فإنه يجوز له الانفراد والإجتزاء بالذكر بقدر القراءة ، فيكون مخيرا بين الائتمام والانفراد ، مكتفيا بالذكر ، وأول من بنى هذه المسألة على المسقط والبدل فخر المحققين ، كما حكاه شيخنا المرتضى عنه في (الرسائل) في أواخر البراءة.

٧٥

ثم أعلم أن سقوط التكليف قد يحصل بالامتثال ، وقد يحصل بذهاب الموضوع كما لو وجب تغسيل الميت ، فجرفه السيل ، أو أكلته النار ، وقد يحصل بحصول الغرض منه كما في التوصليات ، كما لو كلف بتطهير الثوب لأجل الصلاة ، فأطارته الريح ، وانغمس في الماء الجاري ، أو طهره شخص آخر ، وقد يحصل السقوط بالعصيان في المضيقات.

وما نحن فيه ، بناء على المسقطية نوع آخر ، فإنه لا يندرج تحت واحد من الأمور الأربعة ، فلا تغفل.

٢٩ ـ قاعدة

في الفرق بين الاولوية ومفهوم الموافقة والمصالح المرسلة

والعلة المنصوصة وفي الفرق بين العلة المنصوصة والحكمة

الاولوية هي تأكد المناط في الحكم المشكوك بالنسبة للحكم المعلوم. فإن كان استناد الحكم الثابت للمناط قطعيا ، وكان التأكد قطعيا ، حصل القطع بالحكم الثاني. وإلا فهو ظني سواء كان الاستناد ظنيا أو التأكيد ظنيا. ومقتضى الأصل حرمة التعبد بالظن وعدم حجيته. ومن عمل بهذا الظن واعتمد عليه كان معتمدا على نوع من انواع القياس الباطل عندنا للاصل الآنف ، ولعدم الدليل ، وللنص الخاص. ويسميه الفقهاء تارة بالاولوية الظنية ، وأخرى بالقياس ، وثالثة بالاستحسان ، وإن كان الاستحسان أعم منه هذا.

وقد يراد بالأولوية العلة المستنبطة ، ثم قد يكون استنباطها بدعوى إدراك العلة ووحدتها في الموردين ، وقد يكون سبب استنباطها دعوى استفادتها من فحوى الكلام وقرائن المقام ، التي لم تبلغ مرتبة الحجية.

وأما مفهوم الموافقة فهو ثبوت الحكم من اللفظ لفرد خفي بحث يعلم دلالته على إرادة الأفراد الواضحة ، كما في قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ). فإنه لا يراد منه «الالف والفاء»، بل كل ما يكشف عن ضجره منهما. فالسباب

٧٦

القولي أو الكتبي أو العملي ، والإيذاء كله داخل في مدلول الكلام بنظر العرف ، فيكون حجة لاستقرار طريقتهم على ترتيب آثار مثل هذه الاستفادة وتقرير الشارع لهم ، ويكون المقام نفسه قرينة على إرادة ما هو أهم منه.

إذا عرفت هذا ، فالنسبة بين مفهوم الموافقة والأولوية العموم من وجه ، فإنهما يجتمعان في الأولوية القطعية التي يقتضيها ظهور اللفظ ، وينفرد مفهوم الموافقة فيما يقتضيه ظهور اللفظ ، وإن لم يكن قطعيا. وتنفرد الاولوية في الظنون التي لا تستند إلى ظهور الالفاظ.

وأما العلة المنصوصة فهي حجة ، فإن كانت قطعية فلحجية القطع الذاتية ، وإن كانت من جهة ظهور الكلام في ذلك فلما دل على حجية الظواهر.

وضابط العلة المنصوصة أنها تتقوم بامرين.

الأول : ان تكون من ذاتيات المعلل ، كالاسكار بالنسبة للخمر ، وكالمادة بالنسبة للبئر.

الثاني : صحة جعلها كبرى كلية ، ومتعلقا للحكم ، لتكون على نهج العلل التكوينية ، لأنها إذا كانت مخصصة ، أو قابلة للتخصيص ، كشف ذلك عن كونها ليست علة للمعلول. واعتبار هذين الأمرين بديهي لأن ما لا يتصف به الشيء ذاتا ، وأنما يتصف به عرضا ، وبواسطة الجعل لا يكون علة له ، وإنما يكون الجعل علة له. والجعل يتبع نظر الجاعل ضيقا وسعة ، وكذلك ما لا يصح أن يكون كبرى كلية. وإلى هذا يرجع ما افاده استاذنا الحكيم مد ظله ، وحررناه في مبحث الماء الجاري ، من لزوم كون التعليل بأمر ارتكازي صالح للعلية يعني بنظر العرف دون الجعل ، فإنه ليس علة ارتكازية ، ولا يصلح أن يكون كبرى كلية.

٧٧

ومما ذكرناه يتضح أن الحكمة خلاف العلة

٣٠ ـ قاعدة

في الفرق بين التكليف المحال والتكليف بالمحال

إن امتناع التكليف ، إن كان لقصور في قدرة المولى ، سمي تكليفا محالا ، وإن كان لقصور في قدرة العبد سمي تكليفا بالمحال.

مثلا طلب جمع النقيضين من التكليف المحال لامتناع توجه الإرادة نحو الممتنع بالذات أو بالعرض ، بل لامتناع حصول إرادة للممتنع ، بل يلزم في مثل طلب جمع النقيضين كون الشيء مرادا وغير مراد ، وكون المولى مريدا وغير مريد. فعند ما يريد وجود احد النقيضين يكون مريدا لعدم الآخر ، وعند ما يكون مريدا لوجوده يكون مريدا لعدم الأول. فكل منهما يراد وجوده ويراد عدمه في آن واحد ، وهو تناقض ..

وهذا مبني على ملازمة إرادة وجود أحد النقيضين لارادة عدم الآخر والظاهر أن الأمر كذلك.

نعم ، هذا لا يجيء في الضدين ، فإن البعث إلى بعض ما يكون ممتنعا بالعارض ممكن ، كما في الضدين المتزاحمين إذا كان منشأ التزاحم سوء اختيار العبد ، وكما في أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطة إذا لم يستلزم التكليف المحال ، كتكليف المرأة أو الحاضر الصحيح بالصوم ، مع العلم بأنها ستحيض وبأنه سيمرض أو سيسافر. فلو علم العبد بذلك لم يجز له المبادرة بالافطار قبل حصول شرطه ، كما عليه الفتوى بحسب الظاهر. اللهم إلا أن يقال بانه مكلف بالصوم الانحلالي. وإنما يفطر في الجزء الذي فقد فيه الشرط ، وحينئذ لا تكون هذه المسألة ثمرة لأمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط وهو قريب ، وللتأمل فيه مجال .. ومن ثمراتها ، تكليف الكفار بالعبادات.

إذا عرفت هذا فاعلم أن المولى مرة يطلب من العبد جمع النقيضين وجودا أو عدما ، ولا ريب في كونه من التكليف المحال. وهو أيضا من التكليف

٧٨

بالمحال لكون العبد أيضا عاجزا عنه بالضرورة ، فيتصادق تكليف المحال مع التكليف بالمحال موردا مع اختلاف جهة الانتزاع.

وثانية : يطلب منه ايجاد واجبين موسعين ، ثم يتزاحمان بسوء اختيار العبد أو لا بسوء اختياره ، على وجه لا يبقى له مندوحة ، وهو التكليف بالمحال.

وثالثة : يأمره بشيء ويرخصه بترك ملازمه. ولا ريب في كونه ليس من التكليف المحال ، لتعدد الإرادة بتعدد المراد ، فإن متعلقها متعدد بالضرورة. وهل يكون من التكليف بالمحال أو لا ..

الظاهر الثاني ، لأنه قادر على امتثال الأمر الالزامي. غاية الأمر أنه يكون غير قادر شرعا على ترك ملازمه المباح ، لأن العجز عن ترك المباح لا ينافي اباحته ، إما لأن القدرة ليست شرطا في اباحة المباح لعدم المقتضي لشرطيتها فيه ، أو لعدم الدليل على ذلك. وإما لأن القدرة على ملازمه قدرة عليه ، وعدم القدرة على التفكيك لا تنافي القدرة على إيجادهما أو اعدامهما معا ، مع بقاء طريق الاطاعة مفتوحا. ويكون هذا المقدار من القدرة كافيا في تحقق القدرة بالنسبة للمباحات بنظر العقل ولو فرض أن القدرة على المباح شرط في اباحته ، وأنها على نهج القدرة على الواجب والمحرم ، كانت اباحة اللازم مع الالزام بالملزوم موجبة للتعجيز ، ويكون نظير الالزام بإيجاد الملزوم والنهي عن إيجاد اللازم في الاستحالة والتعجيز. لكنه خلاف المرتكزات العقلائية. وهذا شيء ينفع في قاعدة جواز اختلاف المتلازمين في الحكم وعدمه (١).

٣١ ـ قاعدة

هل القدرة شرط في تنجز

التكليف أو في ملاكه ، أو أنها مختلفة

لا ريب أن القدرة شرط في التكليف عقلا ، وأنها هي احدى الشرائط العامة المعروفة.

__________________

(١) راجع القاعدة رقم ٢ ص ١٧ من هذا الكتاب.

٧٩

والدليل على شرطيتها الضرورة ، مضافا إلى تقبيح العقل والعقلاء البعث إلى الممتنع ، لما فيه من الظلم أو العبث ، سواء كان امتناعه بالذات كالممتنع والواجب ، أو بالعارض كالأمور التي تكون مقدورة بطبعها للعبد ، ثم يعرض لها الامتناع لقصور في الفاعل ، كالنوم والاغماء والنسيان ، أو فيه من جهة أخرى كما لو اجتمع عليه واجبان مضيقان بسوء اختياره أو بسبب يعذر فيه ، كالنسيان.

وبالجملة القدرة شرط عقلا. فإن كان منشأ الامتناع عجز المولى سمي تكليفا محالا ، وكان التكليف ممتنعا لعدم قدرة المولى عليه ، وان كان منشأ الامتناع عجز العبد مع قدرة المولى على الإرادة والإنشاء سمي تكليفا بالمحال ، وكان ممتنعا لعدم قدرة العبد عليه.

وهل القدرة شرط في أصل التكليف ، فبانتفائها ينتفي الملاك ، أو أنها شرط في تنجزه فبانتفائها ينتفي التنجز ، ويبقى الملاك بحاله.

التحقيق هو التفصيل ، فإن القدرة على ثلاثة انواع لأنها

مرة تكون شرعية.

وأخرى عقلية.

والعقلية مرة تكون من التكليف المحال واخرى من التكليف بالمحال ، فإن كانت من التكليف المحال كانت شرطا في أصل التكليف ومع انتفائها ينتفي الملاك ، لما عرفته في قاعدة (الفرق بين التكليف المحال والتكليف بالمحال) في هذا الكتاب ، من امتناع وجود الإرادة في نفس المولى ، لانتفاء ترجح الممتنع بنظر العاقل الحكيم ، فكيف يريده (١) ..

وإن كانت من التكليف بالمحال كانت شرطا في تنجز التكليف وفعليته ، لا في ملاكه لأن الإرادة من المولى حاصلة ولا قصور فيها ، وانما عرض عارض اوجب عجز العبد عن الجمع بين مرادات المولى.

__________________

(١) هذا معنى لم نشر له هناك. لاحظ ق ٣٠ ص ٧٨ فإنه ينبغي اضافته لذلك المبحث.

٨٠