قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

حجية أخبار الآحاد المتداولة بين أصحابنا في مقام الفتوى والعمل لا غير ، وقطع ببقاء ما عدا ذلك من الأخبار على أصالة عدم الحجية.

ثانيها : سيرة العقلاء ، فإن سيرة العقلاء من أهل الأديان وغيرهم على العمل بأخبار الآحاد الظنية.

وفيه أنها مسلمة في الجملة ، ولكن السيرة ليست حجة بالذات ، لأنها ليست آية ولا رواية ، ولا من المستقلات العقلية ، وإن حجيتها تتوقف على إحراز أمرين :

أولهما : اتصالها بالمعصوم.

وثانيهما : تقريره لها.

والواقع على خلاف ذلك ، فإن سيرة علماء الشيعة على عدم العمل بأخبار الآحاد الصحيحة الظاهرة إذا لم يعتمدها معظمهم ، ويظهر ذلك ممن تتبع مصنفاتهم في الفقه والأصول من وقتنا هذا إلى أن تصل إلى عهد القميين في عهد الإمامين العسكريين عليهما أفضل الصلاة والسلام.

وإذا كانت سيرتهم المتصلة بعهدهم (ع) على نبذ هذا الصنف من أخبار الآحاد فكيف يستطيع الفقيه أن يدعي متابعة سيرة الفقهاء لسيرة العقلاء .. وكيف يستطيع أن يدعي أن سيرة العقلاء مقررة من قبل أئمتهم (ع) ولو كانت مقررة لكان جمهور العلماء مخالفين لما قرره أئمتهم أو جاهلين به ، ولا أظن أن أحدا من الشيعة يجرؤ على رميهم بشيء من ذلك.

وبالجملة السيرة لبية ، والثابت منها عملا وتقريرا ما شاركهم علماؤنا فيه ، وأما ما خالفهم علماؤنا فيه ، فإنه ظن لا دليل على حجيته ، ولا سيرة لنا على العمل به ، ولا يبقى حينئذ موضوع لدعوى الاتصال ولا لدعوى التقرير والله الموفق للصواب (١)

__________________

(١) يرشدك إلى العمل والهجر في عهد الأئمة عليهم‌السلام ما رواه في المستدرك في ب ١٨ من أبواب صلاة المسافر ح ٣ ص ٥٠٤ عن كامل الزيارة جعفر بن محمد بن قولويه عن سعد بن عبد الله ، قال سألت أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد مكة ، المدينة ، والكوفة ، وقبر

٤١

ثالثها : الآيات : وأهمها عموم التعليل في آية النبأ ، وخلاصة ما يستفاد منه حجية الخبر الموثوق بصدوره ، الذي لا يستتبع العمل به ندامة ، على تقدير مخالفته للواقع ، ولا ريب أن ما أعرض عنه المشهور إذا عمل به المكلف ، وكان مخالفا للواقع ، كان فيه ندامة وملامة .. لأنه لا وثوق فيما أعرض عنه المشهور ، ولا سيما بعد ملاحظة ما كان عليه السلف من الورع والتثبت وقرب العهد ، فإن من كان هذا شأنهم لا يطرحون الخبر إلا لعلة لو وصلت إلينا لطرحناه. فلعله كان محتفا بقرائن أوجبت ضعفه ، وتلك القرائن وصلت إليهم ولم تصل إلينا ، وأما بقية الآيات فلم تثبت دلالتها لننظر في مقدار ما تدل عليه.

رابعها : الأخبار المتواترة معنى ، ولا ريب أنها لا تتناول ما أعرض عنه المشهور لأن الأخبار الدالة على حجية الخبر ، تكاد تكون كلها إرجاعات في موارد جزئية ، أو تقريرا في الرجوع ، وهي إنما تدل على حجية سائر الأخبار بتنقيح المناط ، أو بعدم الفصل أو بعدم الفرق عرفا ، لوحدة ما يتعدى عنه إلى ما يتعدى إليه بنظر أهل المحاورة. ولا ريب أنه لا يتم شيء من ذلك بالنسبة لما أعرض عنه المشهور. ثم إن هاهنا مناقشات مهمة.

منها : إن البناء على أن الأعراض يوهن السند ، يستلزم كون رواية الراوي الواحد حجة تارة وليست حجة أخرى ، فإن زرارة مثلا إذا روى خبرا قبله المشهور كان حجة ، وإذا روى خبرا اعرض عنه المشهور لم يكن حجة ، فيكون خبر زرارة حجة تارة وليس حجة تارة أخرى ، وهو كما ترى.

ومنها أن الشهرة ليست آية ولا رواية ، وحجيتها ليست ثابتة في هذا

__________________

ـ الحسين (ع) والذي روى فيها ، فقال : أنا أقصر وكان صفوان يقصر ، وابن أبي عمر يقصر ، وجميع أصحابنا يقصرون.

هذا عملهم وبالطبع أنهم كانوا يفتون من رجع إليهم به ، مع أن الأخبار المشتملة على الإتمام سواء كانت بنحو التعيين أو التخيير بين أيديهم ولو كان لي متسع من الوقت لراجعت تلك النصوص لأنني أعتقد أنهم من جملة رواتها.

ويعجبني تعقيب صاحب الجواهر للأخبار الصحيحة المهجورة بقوله وهذه الأخبار بين أيديهم ونحن أخذناها منهم وتلقيناها عنهم (نقل بالمعنى) ومع ذلك لم يعملوا بها.

٤٢

المقام (١) ، فكيف تعارض الحجة أو تزاحمها ..

ومنها أن ضم اللاحجة إلى مثلها أو إلى الحجة لا ينفع شيئا.

والتحقيق في الجواب أن حجية خبر الثقة العدل ليست ذاتية ولا علة تامة ، وإنما هي على سبيل الاقتضاء ، ولا مانع عقلا من تأثيرها في حال دون حال كما فيما نحن فيه ، فإن خبر زرارة في حال إعراض المشهور ليس حجة لعدم قيام دليل على حجيته ، وفي حال العمل به ، يكون حجة لقيام الدليل على حجيته.

فائدة

تتعلق بالقاعدة السابقة وفيها بيان

أصل الصدور وحجية الظهور وأصالة الجهة

اعلم : أن حجية خبر الواحد تتوقف على إثبات ثلاثة أمور كلها ظنية.

الأول : إثبات أصل الصدور ، وقد أسهب الأصوليون في الاستدلال عليه ، وقد أوجزنا تلك الأدلة في القاعدة المتقدمة ، وأوضحنا دلالتها على ذلك ، كما أوضحنا قصورها عن شمول أخبار الآحاد الصحيحة الصريحة ، التي لم يعتن بها مشهور أصحابنا.

الثاني : حجية الظهور ، والمقصود منها إثبات كون المتكلم يريد من كلامه ما هو ظاهر فيه ، ولا ريب أن ذلك الظهور ظني ، وأن طريقيته لإثبات كون ذلك هو ما يريد المتكلم أيضا ظني.

وقد استدل الأصوليون على حجية ذلك كله ، باستقرار طريقة العقلاء على العمل بذلك الظن ، والاعتماد عليه في محاوراتهم ، ومعاملاتهم ،

__________________

(١) بل ولا في غيره وقد برهن الأصوليون في الأصول على أنها ليست حجة في الفتوى ، وذلك لا ريب فيه ، نعم الشهرة الروايتية تكون حجة في باب ترجيح أحد الخبرين المتعارضين ، وتحقيق ذلك في محله.

٤٣

وأقاريرهم ، ووصاياهم ، وصكوكهم ، ومراسلاتهم ، وما أشبه ذلك ، وبان الشارع قد أقرهم على ذلك ، لأنه كان يرتب الآثار التي يرتبونها على هذه الأمور ، وذلك كله قطعي لا ريب فيه (١).

الثالث : جهة الصدور ، والمقصود بها حمل كلام العاقل الحكيم على أنه صادر لبيان ما يريده ، فلو اعتذر بأنه تكلم بدون قصد ، أو تكلم هزلا وعبثا أو تقية ، لم يسمع منه.

وعلى هذا الأساس نقول : الأصل في كلام المتكلم أن يكون صادرا لبيان ما هو ظاهر من كلامه ، وأنه لم يصدر عنه تقية ، ولا بدون قصد ولا هزلا وعبثا.

وبالجملة الخبر كما يحتمل وروده لبيان الواقع ، يحتمل وروده لبيان غيره ، لاحتمال عروض جهة عقلانية تدعو إلى ذلك ، كالتقية وشبهها. ولكن الأصل العقلاني يثبت صدوره لبيان الواقع ، لاستقرار عمل الحكماء والعقلاء على ذلك ، وعلى عدم ترتيب أي أثر على احتمال وروده لبيان غير الواقع ، والشارع واحد منهم ، وقد أقرهم على ذلك ، وهذا هو المقصود من أصالة الجهة.

إذا عرفت هذا ، عرفت أن دليلها لا يشمل الخبر الذي أعرض عنه المشهور. فلو صدر كلام من المولى الحكيم ، وأعرض عنه جمع من أصحابه ، لا يحصل لغيرهم الوثوق بوروده لبيان الواقع.

فمرجع أصالة الجهة إلى أصالة حجية الحال ، وبعد الاعراض يكون.

__________________

(١) وأما المجمل من الكلام والأفعال ، فإنه لا يفيد العلم ولا الظن ، وما يتأوله المتأول مجرد احتمال ومن أجل ذلك ، فهو لا يصلح لاثبات شيء من الأشياء. ولا ريب في حسن مؤاخذة العبد إذا تأول شيئا منه ، فعمل أو ترك اعتمادا على ما تأوله. ولا سيما إذا نسبه للمولى. وقد ذم الله سبحانه العمل بالمتشابه ، وتوعد على تأويله بقوله سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)

٤٤

ساهد الحال على خلاف ذلك. وقد علل الشيخ عبد الكريم القمي (ره) وهن الخبر الصحيح بالأعراض في صلاته في أول مبحث القراءة في الأخيرتين : بأنه مع صحته وإعراض المشهور عنه يضعف الأصل العقلاني بالنسبة إلى جهة الصدور ، إلى حد لا يمكن التمسك به بنظر العقلاء.

إذا عرفت هذا كله ، فاعلم أن بناء المشهور على عدم العمل بالخبر الصحيح الظاهر هو على مقتضى القواعد ، وأنه ليس تقليدا للسلف ، ولا التزاما بتوجيه أقوالهم على كل حال ، وليس مبنيا على حسن الظن بهم ، وسوء الظن بالنفس ، بل هو مقتضى الأصول والقواعد.

واعلم أيضا أننا لو ألفنا كتابا في الفقه ، وافتينا بمضمون كل خبر صحيح ، وان أعرض عنه المشهور ، كان هذا الكتاب أشبه بفقه جديد بالنسبة لما بين أيدينا من فتاوى علمائنا العظماء ، وبشاعة هذا لا تقل عن بشاعة فقه المخالفين بالنسبة لفقهنا.

١٥ ـ قاعدة

في بيان عدم توهين الخبر

بالإعراض إذا كان ليس بواضح الدلالة

قاعدة في بيان عدم توهين الخبر الصحيح الذي ليس بواضح الدلالة بإعراضهم عنه ، والسر فيه أن إعراضهم والحال هذه ، لا يوجب وقوف أصالة الجهة بنظر العقلاء ، فتكون حينئذ جهة الصدور محرزة ، ولا يوجب قصور أدلة أصل الصدور عن شموله ، ولا سيما آية النبأ ، بل والإجماع والسيرة ، فإن ديدن المشهور على الأخذ بهذا الصنف ، مع التزامهم بنبذ سابقه

وقد يستدل له مضافا إلى ما مر ، بأن مدرك الاعراض حينئذ معلوم ، وهو فهمهم منها غير ما نفهمه ، أو دعوى إجماله ، وبعد وضوح الدلالة عندنا لا موجب للطرح ، ويكون حينئذ نظير الإجماع المدركي. ومن هذا النوع فتوى المشهور بأمر من الأمور ، اعتمادا على الجمع بين الأخبار ، تقديما لبعضها على

٤٥

بعض ، كما في أخبار البئر ، فإن الصحيح منها ظاهر في الطهارة ـ وأكثرها ، ومنه الصحيح ، ظاهر في النجاسة ، أو في وجوب النزح تعبدا ، فإذا استفاد الفقيه وجها للجمع لا يمنع من العمل بالصحيح ، كاستحباب النزح كان الصحيح الذي أعرضوا عنه حينئذ ظاهرا في بيان عدم النجاسة ، وكان ما عداه ظاهرا في مرتبة منها ، فالذين أعرضوا عن هذا القسم ربما يكون منشأ إعراضهم ، عدم اهتدائهم لهذا الجمع ، ظنا منهم بأن النجاسة لا تكون ذات مراتب. ومن التزم بتوهين الإعراض مطلقا ، لزمه القول بنجاسة البئر ، لأن أدلتها بلا معارض حينئذ ، ولكننا لا نعرف أحدا يلتزم بذلك.

١٦ ـ قاعدة

في حكم الخبر إذا كان واضح

الدلالة وليس واضح السند.

قاعدة : في بيان حجية الخبر إذا أعرض عنه المشهور وكان واضح الدلالة ، وليس واضح السند ، كالخبر الذي يكون بعض رواته مشتركا ، أو يكون بعضهم محل خلاف ، أو يكون بعض مطاعنه محل خلاف كالغلو.

فإذا تميز عند الفقيه أو ثبتت وثاقته ، أو كان ذلك المطعن مدحا عنده كان الخبر حينئذ حجة بلا ريب. فإن قسما من الاعتقادات في أهل البيت (ع) مثلا كان غلوا بنظر السلف ، ويعد اعتدالا بنظر فقهاء العصر مثلا ، والوجه في حجية الخبر حينئذ هو أن الأعراض له مدرك لا يصلح سببا له.

١٧ ـ قاعدة

في حكم الخبر الصحيح الذي

يشك في عمل المشهور فيه

قاعدة في بيان حجية الخبر الصحيح الذي يشك في أن المشهور عملوا به أو أعرضوا عنه ، والكلام فيه في موضعين ، لأن الشك مرة يكون قبل الفحص

٤٦

عن عملهم به ، وأخرى بعده.

أما الموضع الأول : فربما يقال بحجيته فيه ، لأن المقتضي ، وهو عموم دليل الحجية موجود ، والمانع ـ وهو الإعراض ـ مفقود بحكم الأصل ، وربما يقال بالعدم وهو الأقوى ، وهو الذي اختاره شيخنا الوالد دام ظله في كتابه (الشذرات العاملية) المخطوط. ويمكن أن يقال أن وهن الخبر بالإعراض إن كان خارجا عن أدلة حجية الخبر بدليل خاص ، كان ما نحن فيه نظير التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص ، وإن كان من جهة أصالة عدم حجية الظن وقصور أدلة حجية الخبر عن شموله كما هو التحقيق ، كان نظير الرجوع للأصل قبل الفحص عن الدليل ، وهما وإن اشتركا في عدم الجواز قبل الفحص ، إلا أن الفحص بالنسبة للعام فحص عن مزاحم الحجة ، وبالنسبة للأصل فحص عن متممها ، والمناط فيهما واحد وهو العلم الإجمالي بوجود المخصصات في الأخبار وبوجود الأدلة المخالفة للأصول فيها أيضا ، وما نحن فيه نظيره ، فأنا نعلم إجمالا بعدم حجية قسم من الصحيح والموثق وهو الذي أعرض عنه المشهور ، وبعد احتمال كون المورد منه تسقط أدلة الحجية بالمعارضة ويكون المرجع أصالة عدم الحجية لعدم إحرازها حينئذ ، وبعبارة أوضح أنا نعلم إجمالا بإعراض الأصحاب عن جملة من النصوص الصحيحة والموثقة ، ونعلم بعدم حجية هذا الصنف والعلم الإجمالي منجز إذا استلزم مخالفة عملية ، ونفس الفتوى بمضمونه مخالفة عملية لأنها إخبار عن حكم الله بغير علم (١).

__________________

(١) العلم الإجمالي بوجود خبر أعرض عنه المشهور في جملة من الأخبار له صور فإنها تارة تكون مشتملة على أحكام الزامية مخالفة للاحتياط من حيث العمل ، ولا ريب في منجزيته حينئذ للزوم المخالفة العملية.

وأخرى لا تكون مخالفة له من حيث العمل ، ولكنها مخالفة من حيث الفتوى ولا ريب أيضا في منجزيته من هذه الجهة للزوم المخالفة العملية من حيث الفتوى.

وثالثة تكون المخالفة من حيث الالتزام ، والتحقيق أن وجوب الموافقة الالتزامية لا دليل عليه مطلقا ، فضلا عن مثل المقام وحينئذ فلا مخالفة لأنها فرع لثبوت ما يخالف.

ورابعة تكون الأحكام ليست إلزامية وحينئذ فإن بنينا على التسامح في أدلة السنن كان الأمر سهلا ، وإلا فالحكم فيه كالحكم في الصورة الثانية لثبوت المخالفة العملية من حيث الفتوى حينئذ ، ولو كانت الوقائع بعضها إلزامي وبعضها غير إلزامي ، أو كانت كلها إلزامية ولا يلزم منها مخالفة عملية

٤٧

ثم إن الاستدلال لحجيته بدعوى وجود المقتضي وفقد المانع ممنوع ، أما منع وجود المقتضي فلقصور أدلة الحجية عن شموله كما أوضحناه في ق ١٤.

وحينئذ يكون المقتضي لعدم العمل به موجودا ، وهو أصالة عدم حجية الظن الذي لم يقم على حجيته دليل نعم يمكن التمسك بوجود المقتضي بناء على أن الوجه في عدم حجية ما أعرضوا عنه هو عدم إحراز جهة الصدور ، ولكننا حينئذ نقول أن الأصل العقلائي لا يجري لاحراز جهة الصدور بنظر العقلاء قبل الفحص عن ثبوت الإعراض وعدمه. وأما دعوى فقد المانع ففيها أنه بعد العلم الإجمالي المذكور في هامش القاعدة ١٤ ص ٤٦ يكون المانع محتمل الوجود ولا سبيل إلى إحراز عدمه لأن أصالة العدم في نفسها لا دليل عليها ، وبمعنى الاستصحاب فيها مناقشات كثيرة وقاعدة المقتضى والمانع غير مسلمة في نفسها ، والمورد ليس منها ، مضافا إلى سقوط هذا الأصل لمعارضته بمثله في الأطراف الأخرى.

بيان ذلك : أن العلم الإجمالي المذكور يقتضي التوقف عن العمل بكل طرف من الأطراف قبل الفحص عن تحقق الإعراض وعدمه ، لأنه لا يجوز التمسك به في طرف منها إلا بعد إحراز صدوره لبيان الحكم الواقعي ، وهذا شيء لا طريق لإحرازه إلا أصالة الجهة ، وأصالة الجهة لا تجري بنظر العقلاء في مثل الفرض ، مضافا إلى معارضتها بمثلها من سائر الأطراف.

وقد تحصل مما قدمناه أنه لا يجوز التمسك به قبل الفحص ، أما بناء على كون ما أعرضوا عنه ليس حجة من جهة عدم إحراز جهة الصدور ، فلعدم جريان أصالة الجهة فيه بنظر العقلاء ، وأما بناء على كون ما أعرضوا عنه ليس حجة من حيث أصل الصدور فلقصور أدلة حجية الخبر عن شموله ، لكون

٤٨

الشك في مثل الفرض من قبيل الشك في الشبهة العنوانية.

وأما الموضع الثاني : ففيما لو فحصنا ولم يتضح لنا عملهم به أو إعراضهم عنه. والانصاف أن دليل الحجية من حيث اصل الصدور لا قصور فيه ، فإن دعوى ثبوت إجماعهم وسيرتهم على العمل بهذا الصنف قريبة ، وهو ايضا مما يحصل الوثوق النوعي بصدوره فيشمله التعليل في آية النبأ ، وأما من حيث جهة الصدور ، فالاصل العقلائي أيضا لا قصور فيه ، ومن هذا النوع النصوص المعتبرة للزاد في الاستطاعة ، فإن المشهور صرحوا باعتبار الراحلة فيها ، واهملوا أمر الزاد مع اشتمال النصوص الصحيحة عليه ، ولكن لم يتضح أنهم تركوا الزاد لعدم اعتباره ، فتكون النصوص غير معمول بها ، أو أنهم أهملوه لوضوح اعتباره. ومن هذا النوع أيضا النصوص الدالة على عدم جواز تقدم المصلي على قبر المعصوم ، فإن أول من تنبه إليها الشيخ البهائي حسبما أتذكره. ومنه روايات الاستصحاب ، فإن أول من تنبه إليها الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي أعلى الله مقاميهما.

ومن ذلك يظهر تحقق الاجماع عندهم على العمل بهذا النوع من الاخبار ويدلك على ذلك عمل هؤلاء بهذا الصنف ومتابعة من تأخر عنهما على العمل به مع عدم عملهم بالصحيح إذا اعرض عنه المشهور ، فإن ذلك في قوة شهادتهم بانعقاد الاجماع بمعنى أن من سبقهم من العلماء لو تنبهوا لهذه الاخبار لعملوا بها.

ثم أن هذا المبحث لا يبتني على كون العمل شرطا في الحجية ، ولا على كون الاعراض مانعا كنّا نقربه في مسوداتنا القديمة ، مضافا إلى أن شيخنا المرتضى ابطل الفرق بينهما في مكاسبه ، والذي اتخطره أننا لم نتقبله منه على الاطلاق.

ويظهر من صاحب الجواهر بل وغيره أن الشرط لا بد من احرازه ، وأما المانع فيمكن نفيه باصالة عدم المانع ، وحينئذ فما يشك في عملهم به إن كان العمل شرطا لم يكن حجة لعدم احراز شرط الحجية ، وإن كان الاعراض مانعا

٤٩

كان حجة لوجود المقتضي بمقتضى عموم الدليل ، وفقد المانع بمقتضى اصالة العدم (١) ولكنك عرفت أنه لا يوجد دليل لفظي يدل على حجية الخبر ، فكيف يمكننا دعوى وجود العموم.

١٨ ـ قاعدة

في جبر الخبر الضعيف بعمل المشهور وعدمه

قاعدة في جبر الخبر الضعيف بعمل المشهور به وعدمه ، وجبره به هو المشهور المعروف. وناقش فيه في المسالك في بعض المواطن بقوله : وفيه ما فيه. وعن المدارك أنه لا يعمل إلا بالاخبار الصحيحة. والذي نعرفه منه أنه يأخذ بالصحيح مهما امكن وإن أعرضوا عنه ، وينبذ الضعيف مهما امكن وإن عملوا به ويتابعهم كثيرا في كلا الموردين وقد يحتاط.

ووجه الاشكال أن الخبر بعد أن لم يكن حجة بنفسه. كيف يكون مجبورا بالشهرة مع أنها ليست حجة إلا في باب الترجيح كما هو المعروف. والمقام ليس منه ، فيكون ما نحن فيه من جبر اللاحجة بمثله ، وهو كما ترى ، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. وهو من الاستدلال على النظري بمثله ، من غير أن ينتهي ضروري ، وشهرة العمل به وأن استلزمت شهرته الروايتية في بعض الأحيان ،

__________________

(١) قلت لعله هو ومن وافقه كانوا يرون أن اصالة عدم المانع من الاصول العقلانية التي هي حجة مستقلة بنفسها ، وليست من صغريات الاستصحاب ، بل هي بنظرهم من صغريات اصالة العدم التي قال جماعة من القدماء بحجيتها بنفسها ، وقد ذكر ذلك المحقق الآشتياني في حاشيته على الرسائل عند تعرض المصنف لحصر الاصول في الأربعة؟؟؟ اتخطره فعلا ، وكان الشيخ الوالد اعلى الله درجته يبني عليها كما سمعته منه مذاكرة ، ويشهد لذلك ما ذكره شيخنا المرتضى رحمه‌الله في رسائله في مبحث الاصل المثبت من كلمات الاصحاب الذين اجروا هذه الاصول في عدة موارد من الفقه مع أنها من الأصول المثبتة والتحقيق أن اصالة عدم القرينة وعدم المقيد وعدم الحذف حجة بنفسها وأن كانت مثبتة ، والدليل عليها كل ما دل على حجية ظواهر الكلام وأما ما عداها من الاصول العدمية التي لا تندرج في روايات الاستصحاب ولا في باب الظواهر ، فالاصل عدم حجيتها ومن ادعى حجيتها فعليه اقامة الدليل وبهذه المناسبة افردنا قاعدة لاستقصاء موارد اصالة العدم والحقناها بالكتاب. اعدنا النظر فيه في ١٧ شوال ـ ١٤٠٣ ه‍. حرر صبح الخميس ١٧ رجب سنة ١٣٧٥ ه‍ في قلعة سكر ـ العراق.

٥٠

إلا أن هذه الشهرة لا تنفع إلا في مورد المعارضة ، وهي غاية ما تفيد الظن بصدوره ، والظن ليس حجة.

والحل : إن المرجع في مثل المقام هو أدلة حجية خبر الواحد حينئذ نقول : أما الإجماع والسيرة فإنهما وإن كانا لبيين إلا أن دعوى شمولهما للمورد قريبة ، وذلك لأن صاحب المسالك والمدارك كثيرا ما يعملان بالخبر الضعيف المجبور بعمل المشهور. وحينئذ فمناقشتهما بعد العمل تكون موهونة لأنها حينئذ علمية لا عملية ، ويكون عملهما حينئذ مؤكدا للسيرة والاجماع ، مضافا إلى أن خلافهما لا يضر لسبقه بالاجماع. ونحن لا ندعي ثبوت الاجماع على جبر الخبر الضعيف بعمل المشهور بخصوصه بل ندعي شمول الإجماع على حجية الخبر له ، ويظهر ذلك بعد التأمل في كلمات نقلة الاجماع.

وأما آية النبأ فلا ريب في شمولها له ، بناء على أن المستفاد منها حجية الخبر الذي يوثق بصدوره ، وهذا النوع من الاخبار يحصل الوثوق بصدوره ، لأن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ، كانوا اقرب منا عهدا ، واعرف بالاخبار ورواتها ونحن اخذناها منهم ، وتلقيناها عنهم فعملهم بالضعيف لا بد وأن يكون من جهة احتفافه بقرائن كانت عندهم موجبة للاخذ به ، خصوصا مع علمنا بتثبتهم واحتياطهم.

وإن قلت إننا قد اجتمعت عندنا احوالهم واحوال الرواة واصبحنا أكثر منهم احاطة بواسطة جمعها في الكتب ، ولعلهم كان يقلد بعضهم بعضا ، فنحن اعرف منهم بالاخبار والآثار.

قلت : القوم كانوا اشد اهتماما منا بالحديث ، وقرب العهد يستدعي الضبط ، وما يحفظه الاساتذة ويفهم من لحن قولهم اضعاف ما يسطر في الكتب. وإنا نعرف من انفسنا اننا نستفيد من بيان الاستاذ اكثر مما نستفيده من بنانه. وقد اشار شيخنا الشهيد رحمه‌الله في آداب المفيد والمستفيد إلى ذلك ، ونحن نعرف من انفسنا أن ما يجول في خواطرنا من الشبه والملاحظات لا ندونه ، ولكننا في مقام التدريس والمذاكرات نستعرضه.

٥١

وأما بقية الآيات والاخبار المتواترة معنى ، فإن ثبت فيها اطلاق يشمل المورد اخذ به ، وإلا فالأمر سهل ، لعدم الحاجة إليها ، وليس فيها ما ينفي حجية هذا الصنف من الأخبار ليعارض ما يثبتها.

ثم إن فتوى الاصحاب بما يوافق الخبر الضعيف ، إن كانت مستندة إليه فلا ريب في الجابرية ، وإن وافقته من غير أن تستند إليه ، فالجبر حينئذ مشكل لعدم ثبوت الاجماع والسيرة ولانتفاء الوثوق. ولو شك ، فالاصل عدم الحجية ، وتوهم ظهور الحال في الاستناد لامتناع افتائهم بلا مستند وانحصاره فيه مثلا ، فاسد ، لأن ذلك لا يستلزم اكثر من حملهم على الصحة ، بمعنى أنه لا بد أن يستندوا إلى امر معتبر عندهم ، وأما كونه خصوص هذا الخبر فلا ، لكون الفتوى من قبيل اللازم الاعم ، وبالجملة اصالة عدم الحجية محكمة ولا نرفع اليد عنها إلا بدليل وهو هنا منف.

ثم إنه هل المراد بالاصحاب خصوص القدماء منهم أو كل طبقة بالنسبة لمن تأخر عنها؟ احتمالان. والذي يظهر من تعليلات الجابرية في كلامهم هو الأول ، ولكن الظاهر عدم الخصوصية لاتحاد المناط اعني الوثوق فإنه متى حصل كان مشمولا لآية النبأ والمستفاد منه مطلق الوثوق من مطلق السبب لا وثوق خاص.

ومن ثم استشكل شيخنا المرتضى في دلالتها لاستلزامه حجية مطلق الظن الموثوق به ولا يمكن الالتزام به ، قلت : عدم إمكان الالتزام به يكون موجبا لتقييد الوثوق بالسبب الخاص.

ثم إن جبر الخبر الضعيف لا يوجب توثيق رجال السند ليكون خبرهم حجة في مقام آخر ، وإنما يوجب جعل الحجية في هذا المورد فقط ، ولا ملازمة بين الحجية وبين وثاقة الراوي ، كما يتضح من جميع ما قدمناه ، ويمكن إرجاع ما قيل من أنه يجبر المضمون إلى ما ذكرناه.

٥٢

ثم إنه من المسائل ، التي يظن أن القدماء اعرضوا عن طائفة من اخبارها واخذوا بالاخرى ، ثم جاء المتأخرون وعكسوا الأمر ، هي مسألة زكاة النقدين لمن سبكهما فرارا عنها.

١٩ ـ قاعدة

في بيان حكم الخبر الذي اعرض عنه المشهور

إذا كان ليس بواضح الدلالة أو ليس بواضح السند

قاعدة في بيان حكم الخبر الذي اعرض عنه المشهور ، إذا كان ليس بواضح الدلالة أو ليس بواضح السند ، ولا ينبغي الريب في أن اعراضهم عنه حينئذ لا يوجب وهنه ، لأنه مدركي ، فإذا ثبت عندنا وثاقة رجال السند أو اتضح المراد منه عملنا به لأن سبب الاعراض موهون عندنا.

والسر في ذلك أنهم قد يكونون اعرضوا عنه لأنهم لم يفهموا منه كما فهم منه غيرهم أو لأنهم وجدوا مطعنا في بعض رجال سنده وهو ليس بمطعن عند غيرهم أو لأنه لم تثبت عندهم وثاقة بعض رجال السند. والمفروض ثبوت توثيقه عند غيرهم مثلا ، أو ثبت تضعيف ذلك المطعن.

وبالجملة بعد العلم بسبب الاعراض سواء كان في السند أو الدلالة ، وبعد وهنه عندنا مثلا ، يدخل الخبر حينئذ في ادلة الحجية بلا اشكال ، للقطع بأنهم لو اطلعوا على ما اطلعنا عليه ، واعتقدوا بما اعتقدنا به ، لعملوا به ثم إنه يشكل الأمر لو شك في سبب الاعراض في الفرض ، فاحتمل أنه يكون من جهة الاستفادة أو السند واحتمل أن يكون من جهة احتفافه بقرائن تمنع من الأخذ به.

ثم إن الاعراض أنما يعرف من تصريح جمع به تارة ، ومن ذكرهم له وعدم فتواهم بما يوافقه أخرى ، وأما لو احتمل عدم تنبههم له أو عدم عثورهم عليه ، فلا يتحقق الاعراض. ثم إنه ربما قيل أو يقال إن النعت بالصحة

٥٣

وغيرها لا أثر له لأن المدار على العمل والاعراض حسب ما مر. وبناء عليه يسقط علم الدراية وتسقط تقسيمات الخبر ، لأن المناط في الحجية وعدمها عمل المشهور واعراضهم وهذا شيء مخالف لما عليه علماؤنا منذ عهد المحقق أو قبله حتى الساعة ، ومن البعيد أن تكون اصطلاحاتهم اصطلاحات خالية من الثمرة.

قلت : تظهر الثمرة فيما لو تكافأ العمل والاعراض ، كما لو عمل به جمع واعرض عنه جمع ، وفيما لو شك في العمل والاعراض بعد الفحص ، وفيما لو لم يتعرض الفقهاء للخبر اصلا ، واحتملنا أن يكون ذلك غفلة ، أو لعدم عثورهم عليه أو لعدم الحاجة إلى تدوين مضمونه ، أو لمانع آخر ، ويجمع ذلك كله الشك في العمل والاعراض ، ولكن السبب حينئذ مختلف بالضرورة.

ثم إنه نسب إلى شيخنا المعظم الآغا رضا ، في مبحث طهارة اهل الكتاب ، أنه فرق بين ما إذا كان الاخذ بالظاهر من باب اصالة الظهور ، أو من باب اصالة عدم القرينة ، فاستشكل بناء على الأول ، لأن حصول الاعراض لا يمنع من بقاء الظن النوعي.

قلت : وكأنه رحمه‌الله لم يجعل الاعراض موجبا لخلل في اصل الصدور ولا في جهته ، وأنما جعله موجبا لخلل في اصل الظهور ، وهو كما ترى. مضافا إلى أن اصالة عدم الظهور معتبرة عند العقلاء بحسب ما نستفيده من مرتكزاتنا ، من حيث إفادتها الظن النوعي المعتد به ، ولا اقل من كونه هو القدر المتيقن ، وهم لا يعرفون اصالة الظهور ولا اصالة عدم القرينة. وعلى كل حال ، فما أعرض عنه المشهور لا يفيد الظن بالحكم الواقعي ، فضلا عن كونه مفيدا للظن المعتد به. ولكن ذلك لعله من جهة القصور في جهة الصدور لا في نفس الظهور والحمد لله رب العالمين ـ (١).

__________________

(١) انتهى صبح الجمعة ٢٥ رجب سنة ١٣٧٥ ه‍ في قلعة سكر ـ العراق.

٥٤

٢٠ ـ قاعدة

في حكم الخبر المشتمل على ما لا يمكن الالتزام به

قاعدة في بيان حكم الخبر المشتمل على ما لا يمكن الالتزام به ، وفي أنه هل يسقط عن الحجية بتمامه أو في خصوص ما لا يمكن الالتزام به ، احتمالان والمعروف الثاني.

ووجه الأول : إن الأخذ به بتمامه غير ممكن حسب الفرض ، والتبعيض في السند الواحد تدافع واضح ، لأنه يلزم أن يكون السند الواحد حجة بالنسبة لفقرة ، وليس حجة بالنسبة لأخرى ، مع أنه على تقدير صدوره يجب الاخذ بالجميع ، وعلى تقدير العدم ينبغي طرح الجميع.

والتحقيق : إن الرواية الواحدة المتضمنة لاحكام متعددة بمنزلة روايات متعددة وحينئذ يمكن الاخذ ببعضها وترك البعض الآخر ، وصدور البعض تعبدا لا يستلزم صدور الجميع تعبدا ، ولا مانع عقلا ولا شرعا من كون الرواية الواحدة حجة بالنسبة إلى بعض فقراتها دون الأخرى.

أما بناء على أن الاعراض موهن لجهة الصدور فواضح لامكان احرازها في بعض الفقرات دون بعض ، فقد يكون بعضها صادرا لبيان الواقع وبعضها صادرا على جهة التقية فإن العاقل قد يتكلم بكلام واحد ويقصد بكل فقرة أمرا من الأمور. وحينئذ لا يلزم محذور التدافع الآنف لأن لكل فقرة أصل جهة يخصها كما أنها لها ظهور يخصها وإذا فرض أن فقرة منها واردة لبيان الواقع ، لا يلزم أن تكون الأخرى كذلك.

وأما بناء على أن الاعراض يوهن اصل الصدور فكذلك ، لأن الظن ليس حجة بالذات بالضرورة. ومن ثم أمكن فيه جعل الحجية نفيا واثباتا ، وحينئذ فلا مانع عقلا من التفكيك في الحجية بين انواع الظن ، من حيث السبب والمتعلق أو غيرهما فيكون حجة في حال دون حال ، وبلحاظ دون لحاظ. ألا ترى أن البينة العادلة المؤلفة من رجلين حجة في جميع ابواب الفقه ، وأنها بنفسها ليست حجة في القذف بالزنا إلا بعد ضم شاهدين آخرين لهما. وإن شهادة

٥٥

أربع من النسوة او شهادة رجل وامرأتين تكفي لاثبات الحق المالي وأن ذلك لا يكفي في ثبوت الهلال ولا في ثبوت الوصية. فالتفكيك في الامارة الواحدة ممكن وواقع في الشريعة ، وليكن ما نحن فيه منه إذا ساعد الدليل.

وقد تحصل أن السند يكون حجة إذا عمل المشهور بمروياته ، وأنه بنفسه لا يكون حجة إذا اعرض عنه المشهور ، وأن الفقرة التي اعرض عنها المشهور يكون الظن بصدورها ليس حجة ، والتي عمل بها المشهور يكون الظن بصدورها حجة ، وإن كان السند واحدا. فإن السبب وإن اتحد إلا ان المتعلق متعدد. بل ربما نقول بجواز ذلك مع اتحاد السبب والمتعلق لاحتمال تعدد المناط ، من جهة لا يعرفها العبد ويعرفها المولى الحكيم ، ويكفي هذا المقدار في اثبات الامكان.

ثم إن هذا بالنسبة للاحكام المتعددة المستفادة من فقرات متعددة ، وأما بالنسبة لما عداها فله حكم آخر (١).

٢١ ـ قاعدة

في حكم الرواية الواحدة

من حيث الزيادة والنقيصة

قاعدة إذا وردت رواية واحدة ، وزاد بعض الرواة فيها لفظا أو الفاظا توجب اختلاف المعنى ، فهل أصالة عدم الزيادة معارضة باصالة عدم النقيصة ، فيرجع حينئذ لاصالة عدم الحجية بالنسبة للزائد. أو أن اصالة عدم الزيادة حجة دون اصالة عدم النقيصة ، لأن الغالب في الكتب نقص المكتوب دون زيادته ، فالزيادة السهوية اقل وقوعا من النقيصة السهوية. فتكون طريقة العقلاء بالنسبة لها ثابتة دون اصالة عدم النقيصة. احتمالان.

وليعلم أن هذين الاصلين ، ان رجعا إلى اصالة عدم الغفلة التي هي

__________________

(١) صبح السبت ٢٦ رجب ١٣٧٥ ه‍.

٥٦

حجة في نفسها في باب حجية الظهور لاستقرار طريقة العقلاء ولتقرير الشارع لهم ، كان كل منهما حجة ووقع التعارض بينهما ، ورجعنا لاصالة عدم الحجية. نعم إذا كان المأخذ استقرار طريقة العقلاء ، وتقرير الشارع لهم تعين الأخذ باصالة عدم الزيادة لندرة وقوعها بالنسبة إلى النقيصة كما هو المشاهد المحسوس ، ولكن كلا من الصغرى والكبرى ممنوع ، فانا نسلم أن وقوع الزيادة اقل من وقوع النقيصة ولكن لا نسلم أن العقلاء يرتبون آثار عدم الزيادة ، ولا نسلم تقرير الشارع لهم ، وينبغي التنبيه إلى أنهما ليستا من صغريات الاستصحاب الشرعي ، بل هما من الاصول المثبتة لأن لازم اصالة عدم الزيادة أن يكون الناقص هو الصادر وأن يكون ظاهره هو المقصود فيكون حجة ، ولازم أصالة عدم النقيصة ، أن يكون الزائد هو الصادر ، وأن يكون ظاهره هو المقصود فيكون حجة فالاستصحاب ليس جاريا في حكم شرعي ولا في موضوع لحكم شرعي.

ثم اعلم أن مورد هذه القاعدة الواقعة الواحدة كقضية (غدير خم). وأما إذا احتمل كونها أكثر من واقعة كما في حديث (لا ضرر ولا ضرار) فلا تجيء فيها هذه القاعدة بل كل منهما يكون حجة ويقع التعارض ، فإن لا ضرر قد زيد فيها (على المؤمن) تارة و (في الإسلام) أخرى ، ونحتمل أن تكون الوقائع متعددة.

مضافا إلى أن هذا الحديث له خصوصية زائدة تظهر مما حكاه أستاذنا الخراساني الكاظمي في مجلس الدرس وهو أن أستاذه شيخ مشايخنا النائيني رحمه‌الله قال : إنه أحصى أكثر من ثلاثين موردا على نهج (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) نحو (لا طيرة في الإسلام). و (لا عدوى في الإسلام). و (لا نجش في الإسلام). وقال إنه لما كثر ورود مثل هذا التعبير مقرونا بقوله في الإسلام ، اوجب ذلك حصول الظن يتوهم الراوي ، فالحق قوله (في الإسلام) في حديث (لا ضرر ولا ضرار). ومن اجل ذلك ، لم يبق ظن عقلائي بعدم الزيادة لتكون مشمولة لتقرير الشارع على تقدير وجوده. قلت وهو تنبه حسن.

٥٧

٢٢ ـ قاعدة

في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمها (١)

قاعدة : في وجوب الموافقة الالتزامية وعدم الوجوب ، أو في حرمة المخالفة الالتزامية وعدمها. وتوضيحها يتوقف على أمور ، كل أمر منها يصلح لأن يكون قاعدة مستقلة.

أولها : معنى وجوب الموافقة الالتزامية هو عقد القلب على ما للشيء من الحكم فإذا علم بوجوب الصلاة توجه عليه خطابان ، أحدهما لزوم عقد القلب على وجوبها في قبال الأحكام الأخرى : وثانيهما لزوم تحصيلها خارجا. فإذا عقد قلبه وأداها كان ممتثلا لهما ، وكان له طاعتان ، وإذا لم يعقد قلبه ولم يأت بها كان عاصيا لهما وكان مستحقا لعقوبتين ، وإذا فعل أحدهما وترك الآخر ، كان مطيعا وعاصيا.

ثانيها : الأمر يدعو إلى متعلقه ، ولا يعقل أن يدعو إلى الالتزام بنفسه ، لأن ذلك يستلزم تقدمه على نفسه باعتبار صيرورته موضوعا لنفسه ، وهو محال.

ثالثها : الأوامر والنواهي الشرعية هي موضوعات لأوامر الالتزام على تقدير ثبوتها ، فهي دائما في رتبة سابقة عليها ، وأوامر الالتزام متأخرة عنها رتبة نظير أوامر الطاعة.

رابعها : لا يخفى إن الأحكام قسمان واقعية وظاهرية ، وإن موضوع وجوب الالتزام لو تم هو الأحكام الواقعية. فالحكم الواقعي ، إن علم تفصيلا ، وجب الالتزام به كذلك ، وإن علم إجمالا ، وجب الالتزام به كذلك ، لتحقق موضوع الحكم بوجوب الالتزام. وهل يجب الالتزام بالحكم الظاهري لو تم الدليل على وجوب الالتزام بالحكم الواقعي ، احتمالان. والمرجع نفس ذلك الدليل ، فإن كان يشمله أخذ به ، وإلا اقتصر على القدر المتيقن.

__________________

(١) كانت هذه القاعدة رسالة مستقلة ، ثم أدرجناها في هذا الكتاب

٥٨

خامسها : إن معنى تعارض الامارتين هو تكاذبهما لكون كل منهما حجة في مدلوله المطابقي والالتزامي ، المستلزم للتناقض في نفس دليل الامارة ، ومعنى تعارض الأصلين هو لزوم المخالفة لدليل الحكم الواقعي. ففي باب الامارتين يعلم بالتكاذب ، وفي باب الأصلين لا يعلم بالكذب ولا بالتكاذب.

والسر في ذلك أن الأصل ليس حجة في مدلوله الالتزامي العقلي والعادي ، لكونه حينئذ مثبتا فلا يعارض الآخر ، وليس فيه طريقية ، فلا يتصف بالكذب ولا بالتكاذب بخلاف الامارتين فإن كلا منهما حجة في مدلوله المطابقي والالتزامي.

وينبغي أن يعلم إن المخالفة العملية موجودة في موارد تنجز العلم الاجمالي ، حتى التي تنحصر بعد التنجز في فرد ، وتوضيح ذلك في محله (١).

سادسها : لا يخفى أن العلم يكون دائما جزء الموضوع في الأحكام العقلية ، لأن العقل لا يحكم إلا بعد إحراز مناطاته ، وإدراك موضوعات أحكامه إدراكا كاملا ومن ثم كان الشك في الموضوع يستدعي ارتفاع حكم العقل جزما لانتفاء الموضوع المركب بانتفاء جزئه. وحينئذ ففي ظرف الشك لا حاجة للرجوع إلى الأصول من الاستصحاب أو البراءة أو الاشتغال.

وأما الأحكام الشرعية فإن أخذ العلم فيها جزء الموضوع ، كان حالها حال الأحكام العقلية .. وأما إذا كان موضوعها الواقعة المرسلة الشاملة بنتيجة الاطلاق لصورتي إحراز الموضوع والشك فيه ، فإن مقتضى القاعدة الأولية فيها هو الاحتياط ، لأن المقتضي له موجود والمانع مفقود ، ولأن العقل هو المحكم في شئون الامتثال وبعد اطلاعه على حرمة الخمر تفصيلا ، لا يرى الجهل بخمرية هذا المائع عذرا ، ولكنه لا يحيل جعل الأحكام الظاهرية في باب الشبهات البدوية الموضوعية. وأما الشبهات الحكمية فربما يكون الأمر فيها أوضح ، لأن الحكم غير محرز بنظر العقل ليحرك العبد على امتثاله ، وقد عرفت إن العلم جزء الموضوع عنده ، فوجوب الاطاعة موقوف على إحراز حكم ليتحقق الحكم

٥٩

بالاطاعة. وإلى هذا يرجع ما ذكره شيخنا المرتضى رحمه‌الله في الرسائل في عدة مباحث.

منها : ما ذكره عند الشك في الحجية في أول مبحث الظنون.

ومنها : ما ذكره عند التعرض لوجوب الموافقة الالتزامية في أواخر مبحث القطع ، وفي مبحث الدوران بين المحذورين في مباحث البراءة وفي الاستصحاب والاشتغال عند الشك في الاشتغال ، كما لو أتى بأحد الفردين اللذين علم بوجوب أحدهما إجمالا وشك في وجوب الباقي (١).

سابعها : كل حكم ، عقليا كان أو شرعيا ، فهو بمنزلة كبرى تنطبق على جزئياتها انطباقا قهريا ، فتكون بمنزلة شكل ، فيقال هذا خمر وكل خمر حرام ، فهذا حرام. ويقال أيضا هذا أمر مولوي ، وكل أمر مولوي تجب إطاعته ويجب الالتزام به مثلا ، فهذا تجب إطاعته ويجب الالتزام به.

وإنما كان بمنزلة شكل ، ولم يكن شكلا ، لأن المتكرر هو نفس الموضوع في الصغرى حقيقة. فإن المشار إليه بقولنا (هذا) هو عين الخمر لا غيره ، لبا وواقعا ، فالمشار به والمشار إليه لا تغاير بينهما واقعا ، فكأنه قال الخمر خمر ، وكل خمر حرام.

ومن الواضح إن الصغرى برمتها هي موضوع الكبرى ، فالشكل إذن ليس مؤلفا من قضيتين ، وهذا هو الحق في سبب خروجه عن كونه شكلا ، مضافا إلى أن الوسط يكون علة في ثبوت الأكبر للأصغر على وجه يصلح للاقتران بلام التعليل فيقال العالم حادث لأنه متغير ، وهذا الضابط هنا غير مستقيم ، فلا يقال (الخمر حرام لأنه خمر) ، لأنه يرجع إلى تعليل ثبوت الحكم لموضوعه بنفس موضوعه وهو محال.

ثامنها : في وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية. وقد جمع بينها شيخنا المرتضى رحمه‌الله في رسائله في هذا البحث ، بحكومة أدلة الشبهات

__________________

(١) لاحظ القاعدة الرابعة من هذا الكتاب ص ٢١.

٦٠