قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

فيه مسامحات كثيرة ، فإنه فيه مسامحة من جهة أنه لا تعارض إلا مع لزوم المخالفة العملية ، وفيه مسامحة أخرى من جهة أنهما لا يتصفان بالكذب ولا بالتكاذب ، وفيه مسامحة ثالثة لأن إطلاق التعارض في غير محله ، وذلك لأنهما معارضان لدليل الواقع ، فإنه يدعو إلى متعلقه ، والأصول النافية ترخص في تركه ، فيكون ذلك معارضا له ، لا إن كل واحد من الأصلين معارض للآخر ليسمى تعارضا ، فهما إذن معارضان لا متعارضان وهذا واضح إذا كان مؤدى الأصول مخالفا للواقع .. وإما إذا كان موافقا فله بحث آخر.

وينبغي أن يعلم أن المخالفة العملية موجودة في موارد تنجز العلم الإجمالي كلها ، حتى التي تنحصر بعد التنجز في فرد ، وتوضيح حالها في محلها (١).

٤ ـ قاعدة

في بيان الفرق بين موضوعات الأحكام

العقلية والشرعية وبيان حال الشك فيها

اعلم : أن العلم دائما يكون جزء الموضوع (٢) في الأحكام العقلية ، لأن العقل لا يحكم إلا بعد إحراز مناطاته ، وإدراك موضوعات أحكامه إدراكا كاملا ، ومن ثم كان الشك في الموضوع يستدعي ارتفاع حكم العقل جزما لانتفاء الموضوع المركب بانتفاء جزئه ، وحينئذ ففي ظرف الشك لا حاجة للرجوع للأصول من الاستصحاب أو البراءة ، أو الاشتغال ، لأن موردها الشك ، ولا شك في الفرض وسيتضح ذلك : جليا في أواخر هذه القاعدة ، نعم ، لو كان المطلوب الحكم بالعدم كان استصحاب عدم الموضوع له فائدة. أما مجرد عدم الحكم بالثبوت ، فلا يحتاج إلى ذلك ، وأما الأحكام الشرعية ،

__________________

(١) حررت هذه القاعدة موضحة في القاعدة رقم ٥١ ص ١٨١.

(٢) في كون العلم جزء منه ، أو قيدا له ، تردد. والمتعين الثاني ، لأنه من اللحاظات الطارئة ، ويحتمل كونه جزءا لأن الموضوعات الاعتبارية خاضعة لنظر المعتبر ، وعلى أي حال فلا تختلف الثمرة لأن الشروط بنظر العقل شطور ، والشطور شروط ، والكل ينتفي بانتفاء جزئه ، والمشروط عدم عند عدم شرطه.

٢١

فإن أخذ العلم فيها جزء الموضوع كان حالها حال الأحكام العقلية. وأما إذا كان موضوعها هو الواقعة المرسلة الشاملة بنتيجة الإطلاق لصورتي إحراز الموضوع والشك فيه ، فإن أحرز الموضوع فلا إشكال في تنجز الحكم ، وأما إذا شك فيه ـ كما في الشبهات الموضوعية البدوية ، أعني غير المقرونة بالعلم الإجمالي المنجز ـ فإن مقتضى القاعدة الأولية فيها هو وجوب الاحتياط بنظر العقل ، فإن المقتضى لذلك موجود ، والمانع مفقود ، وذلك لأن المحكم في شئون الامتثال هو العقل ، وبعد إحراز الحكم ـ أعني الكبرى ـ لا يكون الشك في الموضوع ـ أعني الصغرى ـ معذرا بنظره.

وغاية الأمر أنه لا يحيل جعل الأحكام الظاهرية في الشبهات البدوية لما حررناه في منجزية العلم الإجمالي ، ولو لا جعل الأحكام الظاهرية لالتزمنا بالاحتياط فإذا علمنا بحرمة الخمر وحلية الخل ، وشككنا في مائع أنه خمر أو خل ، وجب الاحتياط بحكم العقل لو لا قاعدة الحل وأصالة البراءة.

وليس معنى وجوب الاحتياط أن العقل يحكم بذلك مستقلا ليلزم من ترخيص الشارع المناقضة أو احتمال المناقضة ، بل معناه أنه لا يرى طريقا للأمن إلا بالاحتياط ، فهو يستقل بمطالبة العبد بتحصيل الأمان لنفسه ، ولا يدرك أكثر من ذلك. وقد أوضحنا ذلك عند بيان الوجه في منجزية العلم الإجمالي وعليته التامة (١)

وإذا عرفت هذا ، عرفت أننا إذا شككنا في موضوع الحكم العقلي أو الشرعي الذي أخذ العلم فيه جزءا فإنّا نجزم بانتفاء الحكم لانتفاء موضوعه قطعا ، لأن المركب ينتفي بانتفاء جزئه ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ، وقد فرض أن العلم جزء وهو غير حاصل بالوجدان لفرض كوننا شاكين ، وإذا فرض حصول العلم بانتفاء الحكم بسبب عدم إحراز الموضوع ، فلا معنى للأصول لأن موردها الشك.

__________________

(١) لاحظ ق ٥٢ من هذا الكتاب ص ٢١٣.

٢٢

نعم إذا كان للعلم بالعدم أثر شرعي جرى استصحاب عدمه ، وعلى ما ذكرناه يبتني ما ذكره شيخنا الأنصاري رحمه‌الله في (رسائله) في الشك في الحجية في باب الظن ، وفي الشك في وجوب الالتزام ظاهرا بما يحتمل موافقته للواقع بمعنى الحكم في الظاهر بما يحتمل الموافقة للواقع كما ذكره في أوائل مبحث الظن ، وفي أوائل مبحث الدوران بين المحذورين في البراءة ، وما ذكره في باب استصحاب وجوب الفرد الباقي ، لأجل إحراز نية الوجه في فردي المعلوم بالإجمال اللذين فعل أحدهما أو تعذر كما ذكره مكررا في باب الاشتغال والاستصحاب حسبما أتخطره (١).

٥ ـ قاعدة

في مقابلة الجمع بالجمع تقتضي التوزيع

إذا قوبل الجمع بالجمع ، كما إذا قيل : خذوا أمتعتكم واركبوا خيولكم ، وسلوا سيوفكم ، اقتضى التوزيع ، بمعنى أن كل واحد يأخذ متاعه ويركب فرسه ويسل سيفه ، لا أن الجميع يأخذون متاعا واحدا ويركبون فرسا واحدا ، ويسلون سيفا واحدا ولا أن كل واحد منهم يركب خيل الجميع ويأخذ أمتعة الجميع ، ويسل سيوف الجميع.

ومأخذ هذه القاعدة هو ظهور الكلام في التوزيع بنظر أهل المحاورة ، وبعد حجية الظواهر يكون المقام من صغرياتها ، فإن تم ذلك فهو المطلوب ، وإلا فلا دليل على حجيتها ، فإنها لم ترد في لسان آية ولا رواية ولا معقد إجماع.

ثم إن كثيرا من الأمثلة التي يظن أنها من موارد هذه القاعدة يكون مشتملا على قرائن ، بعضها يدل على التوزيع ، وبعضها يدل على عدمه.

فمن الأول ، قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ.) وقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ.) وقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ... فإنه لا يريد أمر كل نملة بدخول جميع المساكن ، ولا أمر جميع النمل

__________________

(١) حررت ليلة الخميس وصبيحته ٧ رمضان سنة ١٣٨٠ ه‍ في قلعة سكر ـ العراق.

٢٣

بدخول مسكن واحد ، بل يريد أمر كل نملة بدخول مسكنها ، أو أمر كل صنف بدخول مسكنه ، ولا يريد تحريم زوجة كل من كان أبا حتى لو كان المتزوج بها ابنا لغيره من غيرها ، ولا يريد تحريم كل من كانت أما حتى لو كان المتزوج بها غير ابنه منه أو منها ، بل المراد تحريم زوجة الأب على ولده خاصة ، ونكاح الولد أمه خاصة ، لا أم الآخرين.

ومن الثاني قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) لأنها لو أفادت التوزيع للزم نهي كل عن أكل مال نفسه ، وهو خلاف ضروري الإسلام ، بل المراد نهي كل إنسان عن أكل مال الآخرين ، وقوله تعالى (بَيْنَكُمْ) قد يكون قرينة لفظية على هذا التصرف ، ولكننا لسنا في حاجة إليها.

وأما قوله تعالى (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ..) الآية. فإنه لا يرتبط بالمقام بوجه من الوجوه ، لأن المضارع المبدوء بالنون ليس جمعا ، وإنما هو للمتكلم المعظم نفسه نعم لو قصد فيه الجمع كان منه وتكون هذه الآية حينئذ دالة على أن تكون الولد من الشخص ـ ولو بواسطة ابنته ـ كاف في صحة نسبة بنوته له كالحسن والحسين (ع) بالنسبة للنبي (ص)

٦ ـ قاعدة

في بيان ما يحمل عليه اللفظ من المعاني

إذا علم المراد من اللفظ أخذ به ، ولا فائدة في معرفة كيفية الاستفادة ، وانها كانت من ذات اللفظ أو من قرينة شخصية أو نوعية ، لفظية أو عقلية أو مقامية ، كما أنه لا فرق في كونه من ذات اللفظ بين كونه من جهة وضعه له أو ظهوره فيه أو نقله إليه.

والذي عقدت له هذه القاعدة هو أنه اذا كان للفظ معنى شرعي ومعنى عرفي ومعنى لغوي ، وورد في كلام الشارع المقدس ولم ينصب قرينة على إرادة أحد المعاني فالمعروف أنه يحمل على المعنى الشرعي ، وكأن الوجه في ذلك إن

٢٤

ترك القرينة قرينة على ذلك ، أو أنه ظاهر فيه بطبعه ، إما لانصرافه إليه ، وإما لاقتضاء طبع الواضع ، استعمال الألفاظ فيما وضعها له دون سائر المعاني.

وقد يدعى أن طريقة العقلاء وديدن الواضعين على ذلك ، ويكفي في إثبات هذا أدنى ملاحظة ، والبرهان على ذلك هو الوجدان ، فإذا تعذر الحمل على المعنى الشرعي حمل على المعنى العرفي ، والوجه في ذلك : أن الشارع واحد من أهل العرف ، وبعد فرض كونه حكيما في مقام البيان ولم يرد المعنى الشرعي ، يكون أحالنا عليهم لأنه يكلمهم بما أنه واحد منهم ، وإلا لزم الإجمال ، وهو خلف وإذا امتنع حمل الكلام على كلا المعنيين ، كما لو علمنا بذلك من قرينة أو غيرها ، تعين حمله على المعنى اللغوي لما مر ، وإذا لم نحرز كونه في مقام البيان ، ولم يقم لدينا برهان على ما مر ، ولم يبق لنا طريق لإحراز المراد ، تعين الرجوع إلى الأصول العملية بعد تعذر اللفظية ، والله العالم (١).

٧ ـ قاعدة

في ضابط مورد ترك الاستفصال

قاعدة : إذا وردت القضية الخارجية في لسان المعصوم (ع) مثلا ، لم يكن لها إطلاق ، لأن الإطلاق إنما هو في المفاهيم السارية والقضية الخارجية أمر متشخص له حدود واقعية لا يتعداها ، فتكون القضية حينئذ مجملة ، فيما إذا لم يكن موضوعها معلوم الحدود.

نعم ، لو وردت في لسان السائل ، وأجابه الحكيم ، ولم يطلب منه التفصيل عن حدود الفرد الخارجي ، دل ذلك على عدم مدخلية شيء من الحدود في الحكم. مثلا : لو قال السائل فأرة وقعت في الدهن وماتت فيه فقال المعصوم مثلا أرقه. كان دالا على أن موضوع هذا الحكم كل فأرة صغيرة أو كبيرة ، بيضاء أو سوداء ، واقعة في ليل أو نهار ، إلى غير ذلك من الانقسامات

__________________

(١) نقل عن مباني الفقيه للمؤلف من مبحث صيغة الأمر ، وكان قد حرر ليلة الثلاثاء ٢٤ ربيع الأول سنة ١٣٧٠ ه‍.

٢٥

اللاحقة وكذا الحال في الدهن من حيث ذاته وآنيته وأحواله.

فإن قلت : يمكن أن يكون المعصوم استفاد قرينة ما من كلام السائل على واحدة من هذه الجهات ، والقرينة خفيت علينا ، فيكون مجملا.

قلت : نعم ، هذا الاحتمال موجود ، ولكن أهل العرف في مثل المقام يجرون أصالة عدم القرينة ، والشارع واحد منهم وقد أقرهم ، فيكون حجة لبناء العقلاء وتقرير الشارع.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا ينبغي الإشكال في جريان القاعدة في المثال الآنف ونظائره سواء أكان الفرد المسئول عنه قضية خارجية قد وقعت وتحققت ، أم كان مجرد فرض ، ولا ينبغي توهم اختصاصها بما إذا كانت مجرد فرض ، وينبغي التنبه لجهات لا تزال محل نظر ، والمرجع فيها سليقة الفقيه ، لأن المقام مقام استظهار والمدار فيه على الفهم.

وعلى كل حال ، فإنه ينبغي أن تكون جهة السؤال معلومة كما في المثال المتقدم ، أما إذا كانت غير معلومة فجريان القاعدة ممنوع ، ولا أقل من الشك ، فإن مبناها على جريان أصالة عدم القرينة ، ومتى شككنا في استقرار طريقة العقلاء أو في تقرير الشارع لهم امتنع جريان الأصل المذكور ، وبقي الاحتمال قائما ، فإنه لا رافع له. ومتى حصل الاحتمال تحقق الإجمال وبطل الاستدلال.

وأما الاحتمال المنفي شرعا ، فإنه وإن كان موجودا تكوينا ، إلا أنه لا يضر لأنه مسلوب الأثر شرعا ، مثال ذلك ما ورد في باب الجبائر من السؤال عن الجرح وقوله عليه‌السلام : اغسل ما حوله .. فإننا لو ترددنا في جهة السؤال ، بين كون المانع من غسله هو تعذر كشفه لتضرره برفع الجبيرة أو تعذر غسله لتضرره بالغسل وإن أمكن كشفه. وبين كون المانع من غسله كونه مشتملا على نجاسة يتعذر زوالها سواء كان مغطى وأمكن كشفه ، أو كان مكشوفا من أول الأمر. ويدور الأمر حينئذ بين كون الحكم واردا على الجرح المكشوف أو المغطى. فإن القاعدة لا تجرى في هذا المثال ، لأنا لم نحرز جهة السؤال ، ولأنا نعلم أن الجرح ليس هو العلة المقتضية لغسل ما حوله بل العلة المقتضية مرددة

٢٦

بين كونه نجسا تتعذر إزالة النجاسة عنه ، وبين كونه مغطى تتعذر إزالة الغطاء عنه ، وبين كونه يتضرر بوصول الماء إليه ، وهذا بخلاف ما لو أحرزنا جهة السؤال وكونه ـ مثلا ـ مغطى يتعذر كشفه ، فإننا لو ترددنا في كونه في اليد ، أو في غيرها في البدن ، وكونه في موضع خاص من اليد أو في غيره. وكونه كبيرا أو صغيرا ، وكونه بمدية أو زجاجة إلى غير ذلك ، فإن القاعدة حينئذ تجري لاستمرار طريقة العقلاء على الحكم بالعموم ، ولتقرير الشارع لهم لعدم ردعه ، وحينئذ تكون إرادة فرد معين ممتنعة لأن إهماله مع إرادته تأخير للبيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح في حق الحكيم.

ومما يرشدك في المثال إلى كون الجهة المقتضية لغسل ما حوله جهة خارجة عن الماهية ، وعن عنوان كونه جرحا ، إنه لو كان مكشوفا وكان طاهرا ، وكان لا يتضرر بغسله ، وجب غسله قطعا (١).

هذا وقد تبين مما ذكرنا ، أنه ينبغي أن تكون جهة السؤال أو جهة الحكم معلومة ، وأنه ينبغي أن يكون الموضوع غير مردد من حيث الماهية ، كما لو ترددنا في كون ما في اليد جرحا أو أمرا آخر وأنه ينبغي أن لا يكون له منصرف معهود ، ولا أفراد غالبية ، وهذا الشرط مبني على أن المعهودية والغلبة تمنع من الإطلاق ، وإن حال ترك الاستفصال حال الإطلاق ، وكل ذلك محل نظر فعلا ، والله العالم.

٨ ـ قاعدة الالحاق

هذه القاعدة كان يكررها استاذنا الحكيم مد ظله في مبحث الطهارة والصلاة ، والصيام ، وكنا نتردد في مأخذها ، وكان يشير إليه احيانا ، وقد

__________________

(١) فليس لنا الأخذ بترك الاستفصال ، والقول بوجوب غسل ما حوله فقط ، حتى إذا كان لا يتضرر بكشفه وتطهيره وغسله.

٢٧

وجدناها محررة في كتاب (الجواهر) بصورة مختصرة في مبحث القراءة في النافلة ، وعلى كل حال فمأخذ هذه القاعدة إما الاجماع ، وفيه أنه مفتقر إلى الاحراز وأنه لبي ، وإما اطلاق الدليل على وجه يشمل موضع الشك وهو حسن ، ولكن التسمية حينئذ في غير محلها.

وإما دعوى ورود الدليل في مقام بيان ما يعتبر في الماهية ، فالحاق فرد منها بها إنما هو من اجل ذلك بعد احراز فرديته لها.

وفيه أنه عبارة ثانية عن الاطلاق وقد مر ما فيه.

وإما الاطلاق المقامي كما لو ورد الدليل في بيان ما يعتبر في الصلاة الواجبة ، ثم ورد امر في نافلة ما ، من غير أن يتعرض للكيفية ، فإنا نقول إن الاحالة على العرف لا وجه لها ، لأنهم لا خبرة لهم بمواد الماهيات المخترعة ، والاجمال نقض لغرض الحكيم ، فلا بد من أن يكون احالنا على بياناته الواردة في اصل الصلاة ، ومن ثم نستكشف ورودها لبيان الماهية.

وهذه القاعدة سيالة نحتاجها في موارد كثيرة.

منها : احكام الصوم المندوب والمنذور ، وصوم الكفارة.

ومنها باب الوضوءات والاغسال ، فإن الظاهر أنه لم يرد بيان لكيفيتها إلا في باب غسل الجنابة ، ومع ذلك فحكم الجميع واحد.

ومنها الصلاة المندوبة.

ومنها الاجزاء المنسية ، وصلاة الاحتياط إلى غير ذلك ، والحمد لله رب العالمين.

٩ ـ قاعدة

في الفرق بين الحق والملك

الفرق بين الحق والملك هو أن كل واحد منهما يختص في مورد ، وليس الفرق بينهما من حيثية الإضافة بدعوى قوتها في الملك دون الحق كما قيل (١) عند

__________________

(١) القائل هو شيخنا المرتضى ذكره في تعريف البيع.

٢٨

التعرض لشرح مفهوم البيع ولا من حيثية أخرى كما ربما يتوهم ، بل كلاهما من مقولة الجدة ، وهي غير مقولة بالنسبة إليهما بالتشكيك ، فالجدة بالنسبة لهما واحدة والتبعية متساوية ، وليست اضافة الملك اقوى من اضافة الحق ، وإنما يختلفان باختصاص كل في مورد ، ويتضح ذلك ببيان امرين.

الأول : إن الاضافات كثيرة ولا ضابط لها ، وهي أنما تحصل بين الشيئين لادنى ملابسة ، ولا اختلاف بينها إلا من جهة اختلاف الملابسات. فإذا قلت ضربت زيدا بالعصا يوم الجمعة في المسجد للتأديب ، وجدت كل واحد من هذه القيود فيه نوع اضافة ، ووجدتها تشترك في الإضافة ، وتختلف في جهة الملابسة فقط.

الثاني : إن ما يضاف اضافة الملك على ستة انحاء ، فإنه تارة يكون عينا واخرى يكون عرضا ومعنى ، وكل منهما قد يكون خارجيا ، وقد يكون ذميا ، وقد يكون على نحو ثالث لا ذمي ولا خارجي.

فالعين الخارجية كالدار والفرس.

والعين الذمية ، كالاعيان المملوكة بالسلم والنسيئة.

والعين التي ليست خارجية ولا ذمية ، كالشاة في الابل الخمس في نصاب الزكاة.

والعرض الخارجي كمنفعة الدار.

والذمي ، كعمل الحر المملوك بالاجارة ونحوها.

وما ليس بذمي ولا خارجي ، كحق الجناية في العبد ، وكحق الخمس والزكاة على بعض الاحتمالات.

ومحصل الفرق بين هذه الستة أن الأول منها قائم بنفسه والخمسة الباقية قائمة بالغير ، كما أن الخارجيين لا يتوقف اعتبار المالية فيهما على اضافتهما إلى مالك بخلاف الاربعة الباقية ، لأن المالية فيها نظير الذاتية ، كما أن الأربعة

٢٩

الباقية تشترك في قبولها للاسقاط ، إلا أنها لا تسمى حقا ، بل الأخيران منها هما الحق (١).

فظهر من هذا أنه ليس كل ما يسقط بالاسقاط حق ، ولا ينافيه كون كل حق يسقط بالاسقاط ، اللهم إلا أن نقول إن الابراء غير الاسقاط ، وإن الاسقاط إنما يكون في الحقوق ، وإن الابراء إنما يكون في الذميات كما هو غير بعيد ، وحينئذ يكون كل ما يسقط بالاسقاط فهو حق وفي (المسالك) ، في كتاب الهبة أشار إلى أن الابراء يحصل بهبة ما في الذمة وبالعفو وبالتصدق كما يظهر لنا من مجموع الأدلة ، واحتمل هو حصوله بلفظ الاسقاط أو قال أنه أولى.

ثم إنه لا ريب أن الخارجي من العيني والعرضي متمول بنفسه وأن ماليته لا تتوقف على اضافته ، ألا ترى أن المباحات الاصلية لم تخرج بإباحتها عن كونها مالا يقبل الاضافة. لكنها فعلا قبل الحيازة غير مضافة. وأما الأربعة الباقية فهي بنظر العرف غير متمولة ، وإنما هي اعتبارات صرفة وإنما تصير متمولة بعد حصول الاعتبار ، والاعتبار يتوقف على معتبر ويتوقف أيضا على منشأ للاعتبار ويسمى ذلك بمصحح الجعل ، فعمل الحر مثلا بناء على عدم تموله وصاع الحنطة في النسيئة والسلم لا يكونان مالا قبل السبب الذي يشغل بهما الذمة وبعده يكون صاحبهما مالكا ويكونان مالا يقبل الاضافة على غرار قبول المباحات لها ، وإلا ، فهما قبل العقد لا وجود لهما لا عينا ولا عرضا ، لا حقيقة ولا اعتبارا ، ومن ثم نجد أن برىء الذمة ليس في ذمته شيء وهو من افقر الناس ، ولو عقد على شيء في ذمته لآخر ، نجد في ذمته مالا مملوكا ونجد المالك له بنظر العرف يسمى ذا مال ، وإذا اشكل فهم هذا لما فيه من المناقشات الناشئة عن قصور العبارة ، فعليك بملاحظة الشاة في قولهم في كل خمسة من الابل شاة ، والدية في العبد تجدها نظير الصاع من الحنطة في النسيئة والسلم ، فإنها كلها تتوقف على حصول اسباب خاصة كالنصاب والجناية والعقد.

إذا عرفت هذا فاعلم أننا نجد من انفسنا بالبداهة أن هذه الأمور تضاف

__________________

(١) أعني بالاخيرين الأخير من العيني والاخير من العرضي وهما الثالث والسادس.

٣٠

إلى مستحقيها اضافة واحدة لا اختلاف فيها من حيث الإضافة نعم نجدان العيني الخارجي والعيني الذمي والعرضي الخارجي والعرضي الذمي يختص باسم الملك كما أن العيني والعوضي اللذين ليسا في الخارج ولا في الذمة يختصان باسم الحق. وهذا الاختلاف لا ينافي وحدة الاضافة كما لا ينافي وحدتها اختلاف بجهاتها في قولنا زيد مضروب بالعصا في المسجد للتأديب في المثال المتقدم والله العالم (١).

١٠ ـ قاعدة

في الفرق بين الحق والحكم

الكلام في بيان الفرق بين الحق والحكم يقع في مواضع.

الأول : في الفرق بينهما في مرحلة الثبوت ، وملخصه : إن الحق يضاف إلى مستحقه إضافة الملك ، وأنه يسقط بالاسقاط بخلاف الحكم.

ولما كان في الحق نوع سلطنة كان رفعها بيد صاحبها ، ومن ثم علل شيخنا المرتضى رحمه‌الله في المكاسب سقوط خيار المجلس بالإسقاط بالقاعدة المقررة بين العقلاء ، وهي أن لكل ذي حق إسقاط حقه. وأما الحكم فهو على العكس منه بالضرورة لأن الأحكام عبارة عن منشئات الحاكم لاغراض عائدة لصلاح البشر ، فسقوطها باسقاطهم نقض للغرض.

وبالجملة لا ريب أن ما مر هو من لوازم مفهومي الحق والحكم.

الثاني : في تأسيس الأصل اللفظي ، وهو مشكل لكثرة استعمال لفظ الحق في الحكم في لسان الشارع وكلمات الفقهاء ، ولا سيما في الأحكام الاخلاقية. ومن ثم قسم الحق بعض الفقهاء (كالسيدين في البلغة والوسيلة) إلى ما يسقط بالاسقاط وما لا يسقط به. وكيفما كان ، فلا ريب أن ما يكون مضافا إضافة الملك ومقترنا بلامه يكون حقا بمقتضى ظاهر اللام ، والإضافة ، وهما وإن استعملتا بغيره ، بل ولو قلنا إنهما مشتركتان بينه وبين غيره إلا أنهما

__________________

(١) نقلناها موضحة عن مسودة كتابنا (مكاسب الفقيه).

٣١

ظاهرتان في الملك ، نعم قد تقترن اللام بما يصرفها عن افادة الملك كما لو اقترنت بلفظ (يحل) أو (يجوز) ونحوهما ومثلها الاضافة ، كما أنه قد يعرف الحق بدليل (الإن) كما لو كان مما يقبل الاسقاط أو النقل.

الثالث : في الأصل العملي عند الشك في كون الشيء حقا أو حكما ، ونتيجته نتيجة الحكم لاصالة الفساد.

الرابع : في أنه هل هناك ملازمة بين سقوط الحق بالاسقاط ، وبين جواز المعاوضة عليه ، وبين نقله مجانا ، وبين انتقاله بالإرث احتمالات. ولا ريب أن ثبوت أي واحد منها يكشف ب (الإن) أن متعلقها من الحقوق ، ومتى ثبت ذلك ، ثبت سقوطه بالاسقاط لكونه من لوازمه التي لا تنفك عنه ، ولا ينبغي أن يقال : إنه من ذاتياته ، لما بينها من الطولية ، فإن السقوط بالاسقاط بمنزلة حكم من احكام الحق وأثر من آثاره. كما أنه ربما يقال : إنه كلما ثبت كون الشيء حقا ثبت انتقاله بالإرث لقوله (ص) ما ترك الميت من حق فهو لوارثه.

فدعوى عدم انتقال بعض الحقوق بالإرث مفتقرة إلى الدليل ، كما أن نقلها مفتقر إلى احراز قابلية المحل حتى يمكن أن تؤثر فيه النواقل ، إلا أن المرجع في احراز القابلية إلى العقلاء ، بمقتضى الاطلاقات المقامية ، فإن كان مما يتمول بنظرهم ويتنافس عليه العقلاء كان مما يقبله (١).

١١ ـ قاعدة

في بيان الفرق بين الأمر المولوي والارشادي

الفرق بين الأمر والنهي المولويين والارشاديين ، أن المولويين يقصد منهما البعث والزجر عن متعلقهما ، وهما يقتضيان وجود المصلحة والمفسدة في المتعلق بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وأما الارشاديان فإنه يقصد منهما الحكاية عن المصلحة والمفسدة لا غير ، وقد يترتب على ذلك البعث والزجر.

__________________

(١) هذا مجمل ما بسطناه في كتابنا (مكاسب الفقيه).

٣٢

غاية الأمر أن الانبعاث والانزجار في المولويين يكونان معلولين لنفس الأمر والنهي ، فإنه يجب على العبد أن ينبعث أو ينزجر بحكم العقل ، وأن لم يعتقد بوجود المصلحة والمفسدة فيهما ، وذلك لاستقلال العقل بوجوب اطاعة المولى ، فرارا من العقوبة على تقدير المخالفة.

وأما في الارشاديين فإنهما يكونان معلولين للعلم بالمصلحة والمفسدة ، فأمر المولى عبده ونهيه يكون مولويا ، لأنه بنفسه يصلح للبعث والزجر ، لكن أمر الطبيب للملك ونهيه ، وهو أحد رعاياه ، بتناول شيء وترك آخر ، لا يصلح للبعث والزجر لأنه محكوم للملك ، والمحكوم لا يعاقب الحاكم ، مضافا إلى أن الأمر والنهي المولويين يكونان موضوعين للارشاديين كما في اوامر الاطاعة ، ولا عكس وبذلك يتضح أن الأمر الارشادي لا يستوجب الثواب والعقاب ، بخلاف الأمر المولوي.

ثم أن الأمر بطبعه ظاهر في المولوية إلى أن تقوم قرينة على أنه ارشادي ، فإنه حينئذ يحمل عليه ، والقرينة قد تكون مقامية ، كما هو الحال بالنسبة للطبيب والملك ، وقد تكون عقلية كما في أوامر الإطاعة ، وقد تكون بنحو آخر ، وسيتضح هذا في القاعدة الآتية.

١٢ ـ قاعدة

في بيان موارد الأمر الارشادي وانواعه

الأوامر الارشادية على انحاء اربعة حسبما نستحضره فعلا

الأول : أوامر الإطاعة ، ولا يعقل كونها مولوية للزوم التسلسل ، ولا يمكن أخذها في المأمور به الشرعي للزوم الدور ، ومن هذا القسم الأوامر الواردة بالايمان باصول الدين الأولية كالإيمان بالله تعالى ورسوله (ص).

الثاني : الأوامر الواردة في بيان أجزاء الماهيات المخترعة ، كالأوامر والنواهي المتعلقة في الصلاة ، فإنها إرشاد إلى الشرطية والجزئية والمانعية ، ولها ظهور ثانوي في ذلك ، ولا مانع عقلا من إرادة غيره.

٣٣

الثالث : الأوامر المتعلقة في باب النجاسات وأسباب الحدث ، كقوله : مثلا اغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه ، وإذا احدثت فتوضأ ، فإنها إرشاد إلى الحكم الوضعي في الأول (اعني النجاسة) ، وإلى السببية في الثاني (اعني سببية الحدث والوضوء).

الرابع : أوامر المسارعة والمسابقة إلى المغفرة والخيرات ، كقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ..) وكقوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) ... فإن استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق قرينة على حمل الامر فيهما على الارشاد إلى حكم العقل.

١٣ ـ قاعدة

في بيان الفرق بين الامارات والاصول

قاعدة في الفرق بين الامارات والاصول وفي تأسيس الاصل عند الشك في كون الشيء امارة أو اصلا ، ويتضح ذلك برسم أمور.

الأمر الأول : في بيان حقيقة القطع وملاحظة علقة كل منهما به.

اعلم أن طريقية القطع ذاتية ، وأن ترتيب أثره عليه فطري ، وأنه يمتنع فيه الجعل نفيا واثباتا للزوم التناقض أو تحصيل الحاصل أو الدور أو التسلسل ، لأن ما بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات ، وإلا دار أو تسلسل. والقطع بعد حصوله تجتمع فيه اربع جهات.

اولها : الصورة التي يتعلق بها ، فإن العلم يتعلق بالصور الذهنية وفي سرايته إلى الخارج احتمالان ، والتحقيق أنه لا يسري إلى الخارج.

ثانيها : حالة الاراءة والكشف وهي المرادة من الطريقية ، وهي اضافة الصورة لذيها الخارجي الادعائي لا الحقيقي. فإنها قد تطابقه في الجملة ، أو في جميع الجهات ، وقد لا تطابقه اصلا ، فتكون جهلا مركبا ، فتأمل.

ثالثها : حالة الجزم التي هي ضد التردد ، وهي التي يتعقبها الانبعاث والانزجار.

٣٤

رابعها : حالة الجري العملي وترتيب آثاره عليه ، وهذه الأمور من لوازم القطع وذاتياته ، فإنه لا ينفك عنها. وربما امتنع انفكاك احدها عن الآخر من طرف دون آخر.

الأمر الثاني : الفرق بينهما ثبوتا وهو أن المجعول في باب الطرق والامارات هو الجهة الثانية ، لأن الصورة حاصلة ولكن الاراءة غير تامة ، ولذا لم يحصل الجزم فالشارع بمتمم الجعل يعطيها ضوءا بحيث ترى الواقع لكن تعبدا لا تكوينا ، ولذا نراها لا تزيد عما هي عليه ، وبعد ذلك يجب ترتيب الآثار.

وأما المجعول في باب الأصول فهو الجهة الرابعة ، اعني نفس الجري العملي على طبق المؤدى ، ولا يمكن أن يكون المجعول في الامارات هذه الجهة ، إذ بعد فرض ثبوت الاحكام الواقعية لموضوعاتها المرسلة يستحيل جعل حكم آخر ، على طبق مؤدي الطريق ، مغاير للحكم الواقعي ، للزوم المحذور الملاكي والخطابي (١) ولا مدفع له ، لأن لسان الامارة حينئذ ينطق بثبوت الواقع واحرازه ، فكيف يمكن جعل الحكم الثاني معه ، سواء أكان مغايرا أم موافقا.

الثالث : في الفرق بينهما اثباتا وهو من وجوه.

احدها : إن مثبتاتها حجة دون مثبتات الأصول ، وفيه تأمل. فإن مثبتات الأصول العقلانية حجة ، مثل اصالة الظهور أو عدم القرينة ، ومثل أصالة العموم والاطلاق ، أو عدم المخصص والمقيد ، ومثل اصالة عدم الغفلة ومثل اصالة كونه في مقام بيان الواقع .. كما أن بعض مثبتات الامارات ليس بحجة ، فإن اليد من اعظمها ، وربما يكون بعض لوازمها ليس بحجة ، كما افاده استاذنا الحكيم دام ظله اثناء الدرس مكررا ، قال لو كان للملك جوهرة لا يبيعها ، وعلمنا بأنها لا تنتقل عنه إلا بموته ، فلو رأيناها في يد شخص ، حكمنا له بملكيتها بمقتضى اليد. ولكننا لا نرتب آثار موت الملك من انتقال تركته وبينونة زوجته.

__________________

(١) المراد بالملاكي تفويته مصلحة الواقع ، والوقوع في المفسدة الواقعية ، والمراد بالخطابي لزوم اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين.

٣٥

قلت : إن وجودها في يد شخص ، في المثال المذكور ، اما أن يستلزم العلم بموت الملك اولا ، فإن استلزمه كان موته معلوما ، والعلم حجة بنفسه ، فيجب ترتيب آثار الموت حينئذ ، لكنه من حيث العلم به لا من حيث كونه لازما لوجودها في يد الشخص ، مضافا إلى أنه مع العلم بالموت ، يمتنع جعل اليد امارة عليه ، لأن الامارات أنما يمكن جعلها في مورد الجهل. كما أنه بعد العلم بوجودها في يد الشخص والعلم بملازمة وجودها ، في يده لموت الملك ، يمتنع احتمال عدم موته ، لأن العلم يمنع من احتمال النقيض ، والعلم بالملازمة لا يجتمع مع احتمال عدم العلم بالموت.

وإن لم يستلزم وجودها في يد الشخص ، العلم بموت الملك ، كما لو كان الموت حينئذ محتملا أو مظنونا أو معلوم العدم ، فإن الموت حينئذ لا يكون من لوازم وجودها في يد الشخص وتكون دعوى العلم بموته على تقدير وجودها في يد الشخص حينئذ دعوى بلا مستند.

والمطلوب في الاصول المثبتة ، هو وجود لازم معلوم اللزوم ، غير معلوم الوقوع ، كنبات اللحية ، في استصحاب حياة الولد الغائب ، فإنه معلوم اللزوم عادة غير معلوم الوقوع وبالجملة ، تقريب الاستدلال بهذا المثال كما تراه.

وحاصل هذه المناقشة أنه إن حصل العلم بالموت وجب ترتيب آثار الموت ، لأن القطع حجة بالذات ، وإن لم يحصل كشف عن انتفاء الملازمة بين كونها في يد غيره وبين موته.

ثانيها : إن الامارات لا بد وأن يكون فيها طريقية ذاتية ، ولا بد من لحاظ تلك الطريقية في مقام التشريع ، بخلاف الاصول فإنه لا يلزم فيها ذلك ، فقد تكون لا طريقية فيها أصلا ، كالبراءة ، وقد يكون فيها طريقية إلا إن الشارع لم يلحظها في مقام التشريع كما هو المختار في الاستصحاب.

ثالثها : ما بيناه آنفا من أن المجعول في باب الاصول نفس الجري ، والمجعول في باب الامارات تتميم الكشف.

رابعها : إن الشك يكون موردا للامارات ، بخلاف الاصول ، فإنه

٣٦

يكون موضوعا لها ، أو جزء الموضوع بمعنى من المعاني. وإلا فالتحقيق إن كلا منهما معتبر في مورد الجهل بالواقع.

خامسها : إن الامارات بأسرها تقوم مقام القطع الطريقي ، والاصول غير المحرزة لا تقوم مقامه.

سادسها : إن الاصل يتضمن حكما شرعيا ، على المشهور ، والامارات طريق إليه فإن صادفته فذاك وإلا فلا شيء. هذا بناء على ما اخترناه فيها من طريقيتها الصرفة وأما بناء على السببية فللكلام سبيل آخر ، كما أن مؤدى الاصول ، عند بعض المحققين ، اعذار لا احكام ، وفيه بحث.

سابعها : إن معنى التعارض في الامارات هو التكاذب ، ومعناه في الاصول هو لزوم المخالفة العملية ، كما مر في القاعدة (٣) ص ٢٠.

الأمر الرابع : إذا شك في كون المجعول اصلا أو امارة ، فالمرجع بعد فقد الاستظهار من الادلة ، هو الاصول العملية ، ونتيجتها نتيجة الاصل ، اعني الاقتصار على نفس المؤدى. وليس لدينا اصل يثبت كون المشكوك امارة أو اصلا.

وبعبارة أوضح : إن استظهرنا من الأدلة أحد الأمرين فهو المتبع ، وبعد وقوف الاستظهار تكون المسألة من باب الدوران بين المتباينين ، لأن المجعول في أحدهما يباين المجعول في الآخر. وحينئذ فلا بد من الرجوع للأصول في الموارد الجزئية المشخصة للوظيفة العملية ونتيجتها الاقتصار على نفس المؤدى ونفي اللوازم بالأصول ، إلا أن تكون لها حالة سابقة فتستصحب ، ولكن ثبوت الأثر حينئذ مستند إلى الأصل الجاري فيه ، لا إلى كونه لازما للمؤدى.

وأما بناء على ما عن شيخنا المرتضى رحمه‌الله ، في رسائله ، من أن المجعول في الإمارات هو الوظيفة العملية مع لحاظ الطريقية بدعوى أن الأمور التكوينية لا يمكن التصرف فيها لا رفعا ولا وضعا لأن يد التشريع لا تنالها فتتميم الكشف

٣٧

غير معقول. والذي تناله إنما هو الاكتفاء بمؤداها في مقام العمل وهذا معنى تنزيل المؤدى منزلة الواقع والعمل عليه ، وهذا يستلزم جعل جعلين أحدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام أو كلاهما بالمطابقة. لا محذور فيه فإنه يمكن أن يكون كذى الجزءين أو كالتوأمين ، نظير لزوم القضية المعقولة للقضية الملفوظة.

فربما يقال بكون المسألة حينئذ من باب الأقل والأكثر ، لأن بين الأصول والإمارات قدر مشترك وهو الالتزام بالعمل والجري على طبق المجعول ، وتزيد الإمارة عنه بلحاظ الطريقية. وعند الشك في اللحاظ وعدمه تجري أصالة عدم اللحاظ ، وأثره نفي الحجية بالنسبة إلى اللوازم. وفيه أنه مثبت وأنه عند الشك في الحجية بالنسبة لها يستقل العقل بعدم الحجية ، ومع حكمه لا شك فلا موضوع للأصل. وقد حرر هذا عند الشك في الحجية في مبحث الظنون.

الأمر الخامس : الفرق بين تعارض الأصول والإمارات ، وقد مر في القاعدة ٣ ص ٢٠.

١٤ ـ قاعدة

في بيان وهن الخبر الصحيح

الصريح بإعراض المشهور عنه

لا ينبغي الريب في وهن الخبر الصحيح الصريح ، إذا كان مهجورا عند جمهور الأصحاب ، وهو المعروف عند عظماء المحققين. والمراد بالأصحاب ما يقابل الواحد والاثنين والثلاثة مثلا ، من القدماء والمتأخرين. وأما متأخروا المتأخرين فلا عبرة بموافقتهم ولا بمخالفتهم.

ولا أعرف مترددا في ذلك كله ، إلا صاحب المدارك وشيخه الأردبيلي وتلميذه السبزواري حشرهم الله وإيانا مع أوليائهم. وأتخطر أنه كان يظهر لي ذلك من الشهيد في المسالك ، وجزم المعاصر السيد الخوئي حفظه الله تعالى بحجيته ، وأفتى بمضمونه جازما بذلك ، ثم أصبح في طبعات رسائله يعدل إلى

٣٨

الاحتياط تارة ويحاول موافقة المشهور أخرى.

أما الأردبيلي وتابعيه ، فالذي يظهر لي من تواتر المحكي عنهم في المسائل الكثيرة ، أنهم عند ابتلائهم به يتورعون عن مخالفته ، لا أنهم يجزمون بالعمل به ، لأنهم يقولون في تلك الموارد بعد ذكر مضمونه (وهو الأقوى ، أو الأوجه أو المتعين ، لو لا إعراض الأصحاب عنه ، أو إن لم ينعقد إجماع على خلافه).

ولا ريب أن مثل هذا التعبير يصح حتى ممن يجزم بعدم حجيته ، غاية الأمر أن المشهور يجزمون بمخالفته وهؤلاء يتوقفون ويحتاطون كما هو الظاهر من تتبع فتاواهم.

ومن أجل هذا ، ينبغي للفقيه أن ينسب إليهم التوقف لا الخلاف ، لأن التردد والتوقف ليس فتوى بالخلاف ، كما هو واضح ، فكيف تصح نسبة الخلاف إليهم في تلك المسائل وهل هذا إلا من التسامح في التعبير .. أو من سوء فهم كلمات العلماء الأثبات الذين يلاحظون في تعابيرهم دقائق الأمور.

إذا عرفت هذا فاعلم أن ما ذهب إليه المشهور ، هو مقتضى الأصول والقواعد لأن أخبار الآحاد كلها ظنية ، والظن ليس عندنا حجة بالضرورة ، خرج منها ما عمل به معظم الأصحاب ، لقيام الدليل القطعي على حجيته ، وبقي ما عداه من الأخبار ، ومنها الأخبار الصحيحة السند الظاهرة الدلالة المهجورة عندهم ، لعدم قيام دليل على حجيتها بالخصوص ، ولقصور الأدلة الدالة على حجية الأخبار المعمول بها عن شمول هذا الصنف ، كما اعترف بذلك الشيخ الأنصاري في الرسائل (١) والشيخ الوالد في (الشذرات

__________________

(١) قال في الرسائل في أواخر مبحث حجية الظواهر بعد تعرضه لكلام صاحب المعالم ما لفظه (وما ربما يظهر من العلماء من التوقف في العمل بالخبر الصحيح ، المخالف لفتوى المشهور أو طرحه ، مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة ، فليس من جهة مزاحمة الشهرة ، لدلالة الخبر من عموم أو إطلاق ، بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور ، بناء على أن ما دل من الدليل على حجية خبر الواحد من حيث السند ، لا يشمل المخالف للمشهور) انتهى.

٣٩

العاملية) (١) والأستاذ الحكيم مذاكرة (٢) جمعنا الله وإياهم مع محمد وآله الطاهرين (ع).

ويتضح ذلك جليا ، بإعادة النظر في الأدلة التي أقاموها على حجية خبر الواحد وهي أمور :

أولها : الإجماع القولي والعملي ، وهو عمدتها ، ولا ريب في خروج خبر الواحد الصحيح الصريح الذي لم يعمل به مشهور الأصحاب عن هذا الإجماع ، بل ربما يمكن دعوى انعقاد الإجماع على عدم حجيته إلى زمن الشهيد الثاني ، لأن المشهور عند علمائنا قولا وعملا ، عدم حجية هذا الصنف من الأخبار ، بل لم يعرف التردد فيه قبل الأردبيلي وموافقيه.

ثم إن من لاحظ كلمات نقلة الإجماع على حجية خبر الواحد وكلمات المحقق والبهائي ووالده وغيرهم ممن عقّبها ، وجد دعوى الإجماع منصبة على

__________________

(١) وقال في (الشذرات العاملية) مخطوط للشيخ الوالد ، ما لفظه (مسألة هل يجوز التعويل على الخبر الصحيح ، قبل الفحص عن أقوال العلماء ، والوقوف على رأيهم بالنسبة إلى مؤداه ، قلت في الجواب لا يجوز لعدم نهوض الدليل على اعتبار ما أعرضوا عنه من الأخبار كما حقق في محله.

بل العلم بتورعهم في الدين ، ومبالغتهم في البحث للوصول إلى الحكم ، وتثبتهم من حيث الأخبار ، مع ما هم عليه من غزارة العلم ، يمنع من الاعتبار ، وحينئذ إن وجدهم متفقين كلهم أو جلهم ، أو الكثير منهم على العمل به ، عمل به ، وإن وجدهم معرضين عنه ، تركه ، وأعرض عنه ، إلا إذا علم مستندهم في الإعراض ، أو كان في الخبر إيهام من حيث السند أو الدلالة ، فالواجب على الفقيه حينئذ أن يعول على نظره ، ولا يلتفت إلى مقالهم.

وليحذر أن تقعده هيبة جلالتهم ، أو حسن الظن بهم ، عن زيادة البحث والتدقيق أو تحمله على الوفاق ، وإن كان ما ذهبوا إليه خلاف التحقيق) انتهى بلفظه.

قلت نقلناه بطوله ، لأنه أحاط بهذه القاعدة ، وبقاعدة الأعراض مع العلم بمستنده من حيث ضعف السند أو عدم ظهور الدلالة ، ثم حرض على البحث والتدقيق وشجع على المخالفة بعد وضوح ضعف مستندهم في الأعراض.

(٢) طالبت الأستاذ الحكيم (ره) بالدليل على عدم حجية الخبر الصحيح المهجور في سنوات كثيرة ، ومواطن لا تحصى ، وكان يجيب بأجوبة غير مقنعة ، كان آخرها وأنا خارج معه من باب الصحن الغربي المعروف بباب الفرج فقال لي شيخنا هل لاحظتم أدلة حجية خبر الواحد أو ارجعوا إلى أدلة حجية خبر الواحد ، عندئذ فتح الله علي ، واتضح لي ما اعتمده المشهور ، وكانت مؤلفاتي المخطوطة مشحونة بما يشبه مذهب الأردبيلي ، ثم صرت أصحح كتبي السابقة بقدر الإمكان.

٤٠