قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

أمرين ، ففعل أحدهما ، ولم يفعل الآخر ، فإن ما فعله يسقط بالامتثال ويجب الإتيان بالفرد الآخر. لما قرر في محله. ومنه ـ وهو العمدة ـ قاعدة الاشتغال ، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والذي أتخطره أن المحقق صاحب الكفاية رحمه‌الله ، في أوائل الجزء الثاني منها اعترف بأن العلم الإجمالي بأصل التكليف لا ينجز إلا وجوب الفحص.

تنبيه مهم : اعلم أن هذه الشبهة ذكرت في قبال من استدل على وجوب الفحص بالعلم الإجمالي بأصل التكليف ، ثم تمسك بالأصول بعد الفحص ، وذكرت في قبال من تمسك لوجوب الفحص عن المخصص والمقيد بالعلم الإجمالي بوجودهما في الأدلة ، ثم تمسك بأصالة العموم والإطلاق بعد الفحص عن المخصص والمقيد. وذكرها الشيخ الأنصاري في الرسائل ، وتبعه غيره في قبال من استدل لعدم حجية الظواهر أو خصوص ظواهر الكتاب بالعلم الإجمالي بوجود ما يخالف ظواهره في الأدلة ، ثم تمسك بظواهره بعد الفحص.

ثم حاولوا دفعها بطرق لا تنفع في دفعها ، والسبب في ذلك عدم التنبه إلى الفرق بين العلم الإجمالي الذي ينجز وجوب الفحص ، وبين العلم الإجمالي الذي ينجز وجوب الاحتياط عملا. فإنهم بعد ما أدخلوا الأولى في الثانية وقعوا في الشبهة ، ولم يستطيعوا الخروج منها .. والحمد لله رب العالمين.

٥٥ ـ قاعدة

في الفرق بين التعارض والتزاحم والتوارد

وفيه بعض فروع الحج والنذور والإجارة (١)

قال في العروة الوثقى (ج ٢ م ٣١) في فصل الاستطاعة إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين (ع) في كل عرفة ، ثم حصلت ، لم يجب عليه الحج. الخ ...

أقول هذه المسألة ليست محررة بعينها. ويمكن استفادة مذهب المشهور فيها مما ذكروه في مسألة (من نذر الحج) ، فإنهم ذكروا لها ثلاث صور.

__________________

(١) آثرنا تقديمها للطبع لأنها لا تقل في أهميتها عن بعض القواعد.

٢٤١

الأولى : أن ينذر حجة الإسلام.

الثانية ؛ أن يطلق النذر بأن لا يقصد حجة الإسلام ولا غيرها.

الثانية : أن ينذر حجا غير حجة الإسلام ، ولها صور ، منها أن ينذره وهو غير مستطيع ، ويعين الزمان فيستطيع فيه. وهي نظير محل الفرض.

قال في المدارك في هذا الفرض كما يظهر قدم النذر لعدم تحقق الاستطاعة في تلك السنة ، لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي ، انتهى.

وحكى الاستاذ مد ظله ذلك عن الشهيدين والمحقق وغيرهم.

ثم لا يخفى أن مفاد النذر بمقتضى ظاهر اللام في قول الناذر لله علي كذا ، هو تمليك المتعلق ولازمه محبوبية المتعلق ، لأن المبغوض لا يصلح لإضافة الملكية في هذا الباب بنظر العقلاء. كما إن لازم ذلك محبوبية لوازم متعلقها ، فإن لوازمه لو كانت مبغوضة لم يكن راجحا ولا محبوبا ، سواء أكان ذلك من جهة كونه لازما أو ملزوما أو مقدمة.

ولا يخفى أيضا أن السيد في العروة الوثقى ، والمحقق النائيني رحمه‌الله ، بل وغيرهما ، يرون الحج المستلزم لفعل محرم أو ترك واجب ليس واجبا. وظاهر عبارة العروة التي أمضاها النائيني رحمه‌الله في المسائل ٦٣ و٦٤ و٦٥ إن هذا الشرط داخل في أصل الاستطاعة كالزاد والراحلة ، وأ من السرب ، وصحة البدن ، فيكون استلزامه لفعل محرم أو ترك واجب رافعا لملاك الوجوب.

إذا عرفت هذا كله ، عرفت أن النذر لا ينعقد إذا كان متعلقه مرجوحا بالذات أو بالعرض. وعرفت أيضا أن الحج المستلزم لفعل محرم أو ترك واجب ليس واجبا ، لانتفاء الاستطاعة.

ولا يخفى أن الوفاء بالمنذور المستلزم لتفويت الحج المنجز مرجوح بالعرض بالضرورة ، فلا ينعقد النذر المتعلق به ، وحينئذ فلا موضوع لوجوب الوفاء. كما أن حج الإسلام المستلزم لتفويت واجب ، نذرا كان أو غيره ، لا يكون واجبا لأن استلزامه لذلك مانع من تحقق الاستطاعة كما مر آنفا.

٢٤٢

ودعوى إثبات رجحان المنذور بسبب وجوب الوفاء بالنذر ممنوعة ، لأن المراد من رجحان متعلق النذر ، رجحانه مع قطع النظر عن تعلق النذر به ، بل هي مستحيلة عقلا للدور الواضح ، هذا مضافا إلى مجيء الشبهة بعينها بالنسبة للاستطاعة فإنه قد يدعي أنه يمكن إحراز الاستطاعة بواسطة وجوب الحج ، لأن الحج إذا كان واجبا استلزم مرجوحية متعلق النذر ، فينحل النذر ويبقى وجوب الحج بلا مزاحم ، فتكون الاستطاعة متحققة لانتفاء المانع الشرعي. والتحقيق إن هذا أيضا مغالطة ، لأن المراد من حصول الاستطاعة ، حصولها مع قطع النظر عن وجوب الحج. بل دعوى إحرازها بواسطة وجوب الحج مستحيلة عقلا ، وذلك لأن الاستطاعة بجميع شئونها شرط في وجوب الحج. وهي في رتبة علة الوجوب. فلا يعقل إحرازها به للدور الواضح.

وقد تبين مما مر ، إن وجوب الوفاء بالنذر موقوف على اختلال الاستطاعة ، لينتفي بذلك وجوب الحج المانع من رجحان متعلق النذر ، وحينئذ يكون متعلقه راجحا ، فيجب الوفاء به.

وتبين أيضا إن وجوب الحج موقوف على مرجوحية متعلق النذر لينتفي بذلك وجوب الوفاء بالنذر المانع من تحقق الاستطاعة ، وحينئذ تكون الاستطاعة حاصلة.

والمتحصل في هذا الحال هو توقف كل من الوجوبين على انتفاء الآخر ، وهو واضح.

وهل المقام حينئذ من باب التزاحم أو التعارض أو التوارد؟. احتمالات. والتحقيق إنه من الأخير.

أما كونه ليس من باب التزاحم (١) فلأن مورد التزاحم ، الملاكان المحرزان الثابتان في حق مكلف واحد ، لا تتسع قدرته إلا لأحدهما ، كإنقاذ الغريقين ، اللذين يعلم المكلف بوجوب إنقاذهما عليه ، ولذا ، لو قدر على إنقاذهما معا وجب والمقام ليس منه بالضرورة ، لأنه في فرض تمامية ملاك أحدهما

__________________

(١) لاحظ قاعدة ق ٥٠ ضابط التزاحم وما يتعلق به ص ١٨٠ من هذه المسودات.

٢٤٣

لا ملاك للآخر بوجه من الوجوه ، لأنه إذا كان المنجز في حقه ، هو وجوب الوفاء بالنذر ، كشف ذلك عن كونه عاجزا عن الحج ، والعاجز غير مستطيع ، ولا يجب الحج على غير المستطيع. وأما كونه ليس من باب التعارض بين الدليلين ، فلأن مورد أدلة ترجيح الخبرين المتعارضين هو الخبران اللذان يتعذر الجمع العرفي بينهما ويتعين الرجوع فيهما إلى التساقط أو التخيير بعد تكافئهما. وما نحن فيه ليس منه ، ولو كان منه كانت النسبة بينهما نسبة العموم من وجه ، والأخبار العلاجية لا تشمل هذا النوع من الأخبار ، كما حقق في محله.

وقد اتضح مما مر أن ما نحن فيه ليس من باب التزاحم ولا من باب التعارض بل هو باب آخر ، ولنسمه باب التوارد ، أو باب الشك في تأثير أحد السببين ، لأن وجود كل منهما يكون رافعا لموضوع الآخر وواردا عليه. فلو فرض أن الاستطاعة محققة ، وإن الحج واجب ، فلا محالة يكون النذر منحلا. وبالعكس فإذا فرض إن النذر منعقد ، وإن الوفاء به واجب ، فلا استطاعة قطعا.

إذا عرفت هذا عرفت إن النسبة بين الدليلين العموم من وجه ، وإن الجمع بينهما في مورد التعارض ممتنع ، وإنه لا مجال إلا لأحدهما ، وإن حالهما ليس حال العامين من وجه ، في مثل أكرم العلماء ولا تكرم الشعراء ، بل وليس نظير الدليلين اللذين يعلم بعدم حجية أحدهما ، وإنما هو من قبيل تزاحم السببين في التأثير. وبعد الشك في كون أيهما المؤثر ، وبعد إطلاق الدليلين لفظا وامتناع الاطلاق فيهما لبا ، يعلم إما بتقييد أحدهما باطلاق الآخر بمعنى رفع اليد عن إطلاقه ، وإبقاء الآخر على إطلاقه ، وأما برفع اليد عن كلا الاطلاقين ، وهو نتيجة التساقط.

ولتوضيح الحال نقول لا ريب إن الأسباب العقلية التي تتنافى مسبباتها إذا كانت مترتبة في الوجود بمعنى تعذر وجودهما معا ، تكون متواردة ، بمعنى أنه إذا وجد أحدهما قبل الآخر أثر أثره ولم يبق مجال للآخر.

ولا ريب أن الاسبق وجودا هو المؤثر لوجود المقتضي وفقد المانع.

٢٤٤

ولا ريب أنه إذا اتحد مسببهما كان السابق هو المؤثر ، ولا ريب في امتناع تأثير اللاحق للزوم تحصيل الحاصل وعدم قابلية المحل.

ولا ريب ، إن سببية النذر لوجوب الوفاء به ، وسببية الاستطاعة لوجوب الحج سببية شرعية لا عقلية. لأنه لو لا الجعل الشرعي لما ثبت شيء من ذلك.

ولا ريب إنه لا يمتنع عقلا تصرف الشارع في مجعولاته. فله أن يجعل سببية اللاحق ، وأن يلغي سببية السابق.

ولا ريب حينئذ أن المرجع في استفادة هذا الأمر هو الأدلة الواردة عنه. وبعد خلوها عن التصريح بشيء من ذلك يكون الاطلاق المقامي محققا. فإنه بعد عدم البيان وامتناع الاهمال الواقعي يستقل العقل بإحالتنا على العرف. والمرتكزات العرفية تساعد على تأثير السابق وإهمال اللاحق ، لعدم قابلية المحل. فالعرف كأنه تابع العقل في حكمه ، فكل منهما يحكم بسببية السابق دون اللاحق. والسر في امتناع إطلاق الدليلين هو تنافي مقتضاهما لأن الزمان لا يتسع إلا لأحدهما. والسبب في امتناع الاهمال الواقعي هو كونه عليه البيان ، وتركه قبيح مع وجود المقتضي له ، وعدم المانع منه. فمخاطبته لأهل العرف بعد ذلك كله قرينة على أنه أحالنا عليهم ، وهو المراد من الاطلاق المقامي هنا.

تنبيهات يتضح بها ما تقدم ، وتتضح بها فروع أخرى

التنبيه الأول : ظهر مما تقدم إن كلّا من النذر والحج مشروط ، وإن المقام من باب الدوران بين تكليفين مشروطين ، يعلم بارتفاع شرط أحدهما ، ووجود شرط الآخر ، وأنه لا طريق لنا لإحراز ذلك من نفس الدليل.

التنبيه الثاني : ظهر مما قدمناه أيضا أن باب التوارد غير باب التزاحم والتعارض ، وأنه نظير عقد الوكيلين على أمر واحد ، فإن السابق منهما يؤثر ، ومع التقارن يبطلان.

التنبيه الثالث : إذا تقارن النذر والاستطاعة ، كما لو مات مورث الناذر فاستطاع مقارنا لانتهاء صيغة النذر ، فمقتضى القواعد تساقطهما ، لكونه من

٢٤٥

تقارن السببين المتنافيين وهو نظير ما لو زوج الوكيلان امرأة من شخصين في وقت واحد ، والمسألة محررة في أواخر كتاب النكاح في العروة الوثقى. وينبغي التنبه إلى الفرق بين ما نحن فيه ، وبين مثال التزويج ، فإن النذر إذا سقط بالمقارنة انتهى أثره ، بخلاف الاستطاعة ، لأن تحققها علة في وجوب الحج حدوثا وبقاء ، فإذا امتنع تأثيرها حال المقارنة أثرت بعد ذلك. نعم إذا كان التقارن في آخر وقت التمكن من الحج سقطا معا ولم يجب الحج أيضا بسبب العجز عنه من جهة أخرى.

التنبيه الرابع : هذه المسألة سيالة لها فروع كثيرة مغفول عن تطبيقها فيها منها ما لو نذر المملوك أو حلف أن يصوم يوما معينا ، أو يعمل عملا معينا وكان ذلك كله بإذن مولاه ، ثم باعه مولاه قبل ذلك اليوم. فهل لمولاه الثاني حق حل يمينه ، أو منعه من الوفاء به؟. احتمالان ، وثانيهما هو المتعين لوجود المقتضي وفقد المانع. أما المقتضي ، فلأن وجوب الوفاء بالنذر واليمين مشروط بسبقه بإذن المولى ، وقد حصل ، وأما فقد المانع ، فلأن المتصور منه منع المالك الثاني ، وبعد التنبه إلى أن منعه إنما يؤثر إذا لم يكن منعا عن واجب ، كما هو معروف من أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق يثبت أنه ليس له حق المنع. ثم إن المولى الثاني إن كان عالما بذلك قبل الشراء ، لزم البيع ، ولم يكن له حق المنع ، وإلا كان له الخيار بعد انكشاف الحال.

ومنها : ما لو نذرت المرأة أو حلفت أن تعمل عملا في وقت معين ، كصلاة أسبوع بكامله أو تلاوة القرآن كذلك ، ثم تزوجت قبل ذلك الوقت ، وكان ذلك مزاحما لحقه.

ومنها : ما لو أجرت المرأة نفسها قبل الزواج لعمل في وقت معين ، ثم تزوجت قبله ، وكان مزاحما لحق الزوج.

فإن وجوب الوفاء بالنذر وأخويه مشروط بأن لا يكون في محرم. ومتى كان مزاحما لحق الزوج ، ولم يأذن به كان محرما. ووجوب إطاعته مشروطة بأن لا تكون في ترك واجب. وعند ما تكون إطاعته مستلزمة لترك الوفاء بالنذر ، وبالاجارة ، يكون شرطها غير حاصل.

٢٤٦

ومنها : ما لو أجر نفسه لعمل في أشهر الحج ، ثم استطاع بميراث أو حيازة أو بذل أو غيرها.

ومنها : ما لو نذر أن يعطي مبلغا من المال لشخص أو جهة ، نذرا معلقا أو مطلقا ، ثم حصل له من المال ما يستطيع به لو لم يف بنذره.

وهنا فوائد

الأولى : لا يخفى أنه يشترط في متعلق النذر ... لا يخفى أنه يشترط في متعلق النذر أن يكون راجحا ذاتا وعرضا ، وإنه لا يجوز أن يكون مرجوحا ذاتا وعرضا ، لأن مفاد النذر ، بمقتضى ظاهر اللام في قول الناذر لله على كذا .. هو تمليك متعلقها لله سبحانه ، ولازم التمليك المذكور هو التقرب به لله سبحانه ، ولازم المتقرب به إليه كونه محبوبا له ، لامتناع التقرب إليه بما هو مبغوض له ، ولا ريب أن المرجوح بجميع معانيه مبغوض إليه. وبهذا يتضح إن اعتبار الرجحان في متعلق النذر هو من لوازم طبيعته.

والفرق بين الرجحان الذاتي والعرضي أن الذاتي يشمل الرجحان النفسي والغيري. فلو كان محرما ، أو مقدمة لمحرم ، كان مرجوحا ذاتيا. وأما العرضي فليس فيه مرجوحية ، ولكنه ملازم للمرجوح ، وبواسطة هذه الملازمة نسميه مرجوحا بالعرض والمجاز. ولكن لو استفيد من أدلة النذر اعتبار الرجحان بهذا المعنى كانت ملازمته له تستدعي عدم انعقاد النذر حينئذ. فلو بنينا على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، من باب الملازمة لا المقدمية ولا العينية. ثم نذر أمرا يستلزم فعله ترك أمر آخر يكون تركه مرجوحا ، لم ينعقد النذر.

الفائدة الثانية

الوجه في اختلال الاستطاعة فيما إذا ... الوجه في اختلال الاستطاعة فيما إذا استلزم الحج ترك واجب أو فعل محرم .. أمران

أولهما : ظهور كلمات الأصحاب في ذلك ، كما ادعي في مسألة من نذر

٢٤٧

الحج المستحب في عام معين ، ثم استطاع في ذلك العام.

ثانيهما : تعليلهم إياه بأن المانع الشرعي كالمانع العقلي. ولو فرض إن تقديم النذر على الحج من حيث أهمية النذر ، لا من حيث اختلال الاستطاعة ، للزم التنبيه على ذلك ، ولوقع القيل والقال في تشخيص الأهم من المهم في الموارد الجزئية التي هي من هذا القبيل. وللزم الجزم بقضاء الحج بعد ذلك الفرض كونه ليس دخيلا في الاستطاعة الشرعية ، فلا يكون موجبا لارتفاع الملاك. وكل واجب يكون تام الملاك لا قصور فيه ، ويكون تركه بعد تنجزه لمانع ليس له دخل في اصل وجوبه ، ويجب الاتيان به وإن خرج وقته. هذا إذا كان موقتا فضلا عما لم يحرز كونه موقتا.

وما يتوهم من كون القضاء بأمر جديد فاسد. لأن الأمر ليس هو الباعث ، والمحرك ، بل الباعث هو الملاكات ، والأمر مظهر لها وكاشف عنها. ومن ثم لو علم العبد بثبوت الملاك ولم ينبعث في ظرف عجز المولى عن البيان حسن عقابه ، وللزم أيضا أجزاؤه عن حجة الإسلام لو عصى الأهم ، أعني النذر بناء على تقديمه على الحج لأهميته ، وأتى بالحج بناء على الترتب ، أو على تصحيح العبادة بالملاك.

هذا مضافا إلى أنه لم يعلم كون النذر أهم من الحج ، لأن النذر وإن كان يتضمن حكما تكليفيا وحكما وضعيا ، وهو تمليك مؤداه لله تعالى ، إلا أن الحج قد يكون مثله في ذلك بقرينة اللام في آيته ، وبقرينة ختامها بإثبات الغنى عن العالمين له سبحانه ، وبقرينة اشتراكه معه في الخروج من أصل التركة ، ويزيد عنه بنعت التارك للحج بالكفر في آيته.

ثم إنه يمكن الاستدلال على اختلال الاستطاعة به ما رواه الصدوق رحمه‌الله ، بإسناده عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (ع) إنه قال : من قدر على ما يحج به وجعل يدفع ذلك ، وليس له عنه شغل يعذره الله فيه حتى جاء الموت ، فقد ضيع شريعة من شرائع الإسلام. ومثله ما رواه علي بن ابراهيم صحيحا إلى الامام (ع). وجه الدلالة إن النذر شغل يعذره الله به ، وفيه

٢٤٨

تأمل كما إن قوله (ع) وجعل يدفع ذلك ، يعني بالاعذار المتعارفة للناس اليوم ، أما المتحيل بالنذر قبل الاستطاعة ، فالظاهر إنه ليس داخلا في قوله وجعل يدفع ذلك.

٥٦ ـ قاعدة

تخصيص العام بمخصص مبين هل يقتضي

تعنونه بعنوان يخالف عنوان العام أو لا؟

يمكن أن يقال بأن دعوى معنونية الخاص للعام تشبه دعوى ثبوت مفهوم اللقب ، فإنهما من باب واحد ، مضافا إلى أن العرف لا يدرك الأنواع ، ولا الأجناس والفصول. والمدار في الأحكام على ما يستظهره العرف ، لا على ما لا يدركه العرف ، وهل يحسن من عاقل أن يتوهم أن الشارع خاطب أهل العرف بما لا يعرفونه ، أو بما لا يعرفه في عصره أحد .. فإن هذه الأمور من مختصات فلاسفة اليونان ، ثم نقلت إلينا بعد حين.

والتحقيق الذي لا مزيد عليه ، إننا لو سلمنا تنويع المخصص ، فإنما نسلمه في باب الماهيات الحقيقية المتقومة بجنس وفصل حقيقيين ، بناء على إدراك الفصول. وأما بناء على كون ما ندركه من خاصيات الفصول ولوازمها ، فلا مانع من ارتفاعها وبقاء الفصل إلا إذا كانت لازما غير مفارق ، وآنى لنا بإحراز ذلك.

وأما الماهيات الاعتبارية ، التي يكون أمرها بيد معتبرها ، ويكون فصلها وجنسها من سنخها ، فإن اللوازم الباطلة المتقدمة لا تتأتى فيها. ومن البديهي أن القضايا الشرعية أمور تابعة لاعتبار الشارع ، وأن العرف هو المرجع في تحديد متعلقاتها بعد فقد الحقيقة الشرعية ، وأنه لا طريق لإحراز مرادات الشارع من خطاباته إلا العرف. فإذا استظهرنا أن الخاص المعنون يكسب العام عنوانا ، لزم الأخذ به وإلا فلا .. ومن البديهي أيضا أن الفصل لا بد أن يكون وجوديا وإلا لزم تقوم الوجودي بالعدمي ، وهو محال للزوم اجتماع النقيضين ، وللزوم اتصاف العدمي بالوجود والوجودي بالعدم.

٢٤٩

وأما الماهيات الاعتبارية ، فلا يجب تقومها بشيء ، ويصح تقومها بأمور عدمية ، بمعنى تعنونها بالعدم ، أو جعل موضوع الحكم مركبا من أمر عدمي وأمر وجودي ، كما في تحيض غير القرشية إلى الخمسين. وقد ظهر أن في تسمية الأمور الاعتبارية والعرفية (ماهيات) ، ضربا من التجوز تشبيها لها بالماهيات الحقيقية.

٥٧ ـ قاعدة

المقتضي والمانع

وقد تعرضنا لها في عدة مسائل في الفقه.

منها : مسألة الماء المتمم كرا بماء متنجس.

ومنها : مسألة الماء الذي اقترن تتميمه كرا بملاقاته للنجاسة.

ومنها : مسألة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

ومنها : أدلة نفي الشك عن كثير الشك بالنسبة إلى الشكوك الصحيحة.

وقد قيل في المسألة الأولى والثانية أن ملاقاة النجس أو المتنجس مقتضية للانفعال ، وأن الكرية مانعة منه ، فمع الشك في انفعال الماء المتمم (بالفتح) يكون المقتضي هو المؤثر. وعليه فيكون الماء المذكور محكوما بالنجاسة.

والتحقيق أنه إذا كان المورد من موارد هذه القاعدة هو الحكم بالطهارة ، لأن المقتضي في الفرض قد اقترن بالمانع ، ويمتنع عقلا تأثيره في هذا الحال ، وقد قيل أو توهم أن العام فيه اقتضاء لحكمه المتعلق به والخاص مانع ، فإذا قال المولى أكرم العلماء ، علمنا أن العلم هو المقتضي لإكرامهم ، فلو وجد شخص عالم ، وشككنا في فسقه ، نقول المقتضي لإكرامه موجود ، والمانع مشكوك ، ومقتضى القاعدة هو تأثير المقتضي عند الشك في وجود المانع ، أو مانعية الموجود هذا مضافا إلى أصالة عدم المخصص وعدم القرينة.

وفيه : أنه إن ثبت استقرار طريقة العقلاء على كونهما في مثل المقام ، كأصالتي عدم المخصص وعدم القرينة ، عند الشك في أصل وجودهما ، وثبت تقرير الشارع لهما ، كانتا حجة ، وإلا فلا.

٢٥٠

وقد يتوهم كونها من موارد الاستصحاب الشرعي ، ولكنه توهم فاسد ، لأنه من أوضح الأصول المثبتة.

ويمكن أن يقال في المسألة الرابعة أن الشك مقتضى للبناء على الأكثر والاتيان بصلاة الاحتياط ، وأن كثرته مانعة ، فيكون تقديم أدلة حكم كثير الشك على أدلة الشكوك الصحيحة من باب قاعدة المقتضي والمانع ، لأن المقتضي لا يؤثر عند اقترانه بالمانع ، وهذا واضح بالنسبة للشكوك في عدد الركعات ، بل وبالنسبة للشك في المحل ، فإن مقتضى قاعدة الاشتغال هو عدم الاجتزاء بالمشكوك ، فيكون الشك مقتضيا للفساد ، ويكون مقتضاه هو الاتيان بالمشكوك في المحل ، وتكون كثرة الشك مانعة من تأثير ذلك المقتضي.

والتحقيق : أنه لا طريق لنا لإحراز عمل العرف بقاعدة المقتضي والمانع في باب الظهورات ، لأنها أمور عقلية لا يتنبه إليها إلا الخاصة ، فكيف يمكن أن يقال أن طريقة العقلاء مستمرة على العمل بها.

إذا عرفت هذا فاعلم أن العرف يفهم من قوله (ع) إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء عدم الانفعال في ظرف تحقق الكرية ، وذلك منتف في الفرض ، وحينئذ يجب التمسك بعموم أو إطلاق أدلة الانفعال ، والاقتصار في تخصيصها على الملاقاة بعد تحقق الكرية.

إن قلت : قاعدة الانفعال متصيدة من مجموع النصوص الكثيرة الواردة في الموارد الجزئية ، وهي لا عموم فيها ولا إطلاق لها ، قلت هذا مسلم في الجملة ، ولكن المستفاد من مجموع تلك الأدلة أقوى من الإطلاق والعموم ، مضافا إلى أن إطلاق مفاهيم أدلة الكر كافية في إثبات هذا الإطلاق ، وحينئذ يكون المستفاد منها أنه إذا لم يبلغ الماء قدر كر ، ولاقاه المنجس انفعل ، وهذا ماء لاقاه النجس في حال عدم بلوغه كرا ، والانصاف أن منطوق أدلة الكر ظاهر في عدم الانفعال بعد تحقق الكرية ، وحيث أن القضية قضية استظهار ، والاستظهار ذوقي لا برهاني ، لا يحسن فيه إطالة الكلام بل يكفي فيه ما ذكرناه.

٢٥١

٥٨ ـ قاعدة

في بيان أنواع المتزاحمات وبيان اختلافها بالآثار

اعلم أن التزاحم على أنواع :

منها : ما يكون تزاحمه عقليا من جميع الجهات ، وهذا لا مرجح له إلا الأهمية أو احتمالها ، ومع انتفائها يتخير ، لأن ترجيح أحدهما مع انتفاء أهميته أو انتفاء احتمالها يكون ترجيحا بلا مرجح ، ومع عدم المرجح لا ترجح ، والترجيح بلا ترجح محال ، لأنه بلا مقتضى له ، فلا مقتضى للبعث إليه بخصوصه بالضرورة

ومنها : ما هو شرعي ناشئ من إطلاق الأدلة ، كما في الحج والنذر ، فلو نذر زيارة قبر الحسين (ع) في يوم عرفة في سنة معينة ، ثم اتفق أنه استطاع الحج في تلك السنة ، فإنه لا يتمكن من الجمع بينهما ، وحينئذ ، يدور الأمر بين تقييد اطلاق دليل وجوب الحج بدليل وجوب الوفاء بالنذر وبين العكس ، ويكون الدليل المقيد هو المقدم.

وفي مثله ، يلاحظ منشأ التزاحم ، وبما أن المنشأ هو ظهور دلالة الأدلة ، في السببية ، لأن الاستطاعة عند حصولها سبب شرعي لوجوب الحج ، بمقتضى إطلاق الدليل ، وإن زاحمها النذر ، ووجوب الوفاء بالنذر سبب في وجوب المنذور ، وإن زاحمه الحج ، ولذا يكون المرجح في ترجيح أحد الظهورين على الآخر هو أهل العرف ، وأهل العرف يرون السبب الأسبق حدوثا هو المؤثر دون غيره وإن كان غيره أهم منه أو محتمل الأهمية.

فالتزاحم في النوع الأول ناشئ عن السببية الواقعية ، أعني عن ملاكات الأحكام ، فيكون الأقوى ملاكا ومصلحة هو المؤثر ، وفي الثاني ناشئ عن السببية الظاهرية المستفادة من دلالة الدليل ، والدلالة وشئونها أمر يرجع فيه إلى العرف.

ألا ترى ، أن العرف لو أحرزوا تقديم إطلاق أحد الدليلين لم يتوقفوا في

٢٥٢

تقديمه ، وبذلك يرتفع التزاحم بالضرورة ، لفرض قصور الدليل الثاني عن شمول المورد.

وينبغي أن يعلم أن هذا الباب غير باب تعارض العامين من وجه ، لأنه لا سببية فيهما ولا مسببية ، فقول المولى أكرم العلماء ، ولا تكرم الشعراء ليس فيه إشارة إلى سببية العلم للإكرام ولا إلى سببية الشعر لعدمه ، ولو كان ثمة سببية لكان من النوع الثاني من أنواع التزاحم.

هذا مضافا إلى أن المقتضي غير محرز في كلا العامين ، فالتوقف في مورد التعارض لا بد منه ، بخلاف النوع الثاني من أنواع التزاحم ، فإن المقتضي فيه معلوم ولكنه ابتلى بمزاحم لسبب خارجي نشأ عن فعل المكلف ، فشككنا في تأثيره ، وهذا هو الفرق الفارق بين هذا النوع وبين العامين من وجه ، لأن الإرادة الجدية في نفس المولى في باب العامين من وجه ، تكون متعلقة بأحدهما لا غير ، والإرادة الجدية في باب النذر والحج متعلقة بهما ، ولكن عجز المكلف عن الجمع بينهما أوجب التزاحم ، وهو أمر خارج عن عالم الملاكات ، وهذا الأمر حصل بواسطة فعل المكلف ، لأنه هو الذي أوقع نفسه في النذر وهو لا يرتبط بإرادة المولى.

ومنها : تزاحم المستحبات ، ويجيء فيه النوعان الآنفان تماما ، ولكن تزاحم الواجبات يختلف كثيرا عن تزاحم المستحبات ، فإن تقديم أحد المستحبين لأهميته أو لاحتمال أهميته لا يرفع فعلية استحباب الآخر ، ولا تنجزه لكونه مقدورا له ، بخلاف الواجبين ، فإن أهمية أحدهما أو احتمالها يمنع من فعلية المهم وتنجزه بلا ريب ، لأنه بعد استقلال العقل بتعين الأهم ، يكون المهم غير مقدور بسبب منع العقل عن الإتيان به وترك الأهم. وبالجملة ، تنجزهما معا مستحيل بالضرورة ، وتنجز المهم خلاف حكم العقل. وقد أشار لهذا شيخنا المرتضى الانصاري (ره) في رسالة له في الواسعة والمضايقة ، وهو حسن. إذا عرفت هذا عرفت أن البحث في استحالة الترتيب وإمكانه يبتدئ من هنا.

٢٥٣

فائدتان

الأولى : اعلم أن العموم والخصوص والمطلق والمقيد في باب المستحبات والاخلاقيات ، وفائدتان يجمع بينها بالتخصيص والتقييد ، كما هو المعروف في باب الخاص والعام والمطلق والمقيد في باب الأحكام التكليفية والوضعية الاقتضائية ، بل يجمع بينها بالحمل على المراتب ومأخذ هذا هو العرف ، وقد صرح بهذا غير واحد من المحققين ، منهم صاحب الفصول ، والآغا رضا الهمداني في مصابيحه.

الثانية هل استحباب الشيء يقتضي كراهة ضده وبالعكس؟ احتمالان ، وربما يقال بتفرع هذه المسألة على مسألة الضد المعروفة في الأصول. والحق في باب الضد هو عدم الاقتضاء ، لكونه ليس عينه ، ولا جزؤه ، ولا مقدمة له ، ولا يدل عليه بالدلالة الالتزامية ولا التضمنية.

٥٩ ـ قاعدة

الطهارة موردها ومدركها

اعلم : أن الشك في الطهارة والنجاسة يتصور على نحوين.

الأول : من حيث الحكم ، ويسمى (الشبهة الحكمية) ، كالشك في طهارة المسوخ ، وعرق الجنب من حرام ، وعرق الإبل الجلالة ، والدم المخلوق لمعجزة أو في البيضة ، وذرق الدجاج الأصفر ، وما أشبه ذلك مما يشك في كونه طاهرا أو نجس العين ، وجريان أصالة الطهارة في هذه الأمور مبني على شمول قاعدة الطهارة الآتية للشبهة الحكمية.

الثاني : من حيث الموضوع ، ويسمى (الشبهة الموضوعية) ، وأمثلته كثيرة وهو نوعان.

الأول : اشتباه عين النجس بغيره ، كما لو شككنا في أن هذا الروث من المأكول أو من غير المأكول من ذي النفس ، وكما لو شككنا في هذا المائع أنه خل أو خمر أو شككنا في أن هذا السائل الأحمر ، دم من ذي النفس أو صبغ (١) حرر في ١٤ صفر ١٣٩٠ ه‍ الموافق في ٢٠ / ٣ / ١٩٧٠ م.

٢٥٤

أحمر ، أو شككنا في هذا الدم أنه من الدم المسفوح من ذي النفس أو من دم غير ذي النفس ، وكذلك لو علمنا بكونه من ذي النفس ، وشككنا في كونه من المسفوح أو المتخلف ، وكذلك لو شككنا في كون هذا الصوف أو الشعر من الكلب أو الخنزير ، أو من الشاة ونحوها.

الثاني : أن نعلم بطهارة عينه. ونشك في عروض النجاسة عليه ، واعلم أن كل ما بين أيدي الناس من هذا النوع من المطاعم والمشارب والأدوية والألبسة ، المركب منها والبسيط ، فإننا بعد علمنا بتصرفات الناس وعدم مبالاة أكثرهم بالطهارة والنجاسة نشك في طهارتها ، ولنا طريقان للحكم بطهارة هذه الأمور ، الأول الاستصحاب لفرض طهارة أصلها والثاني قاعدة الطهارة ، إذا احتملنا أن يكون جزء من أجزائها من الأعيان النجسة كما هو الحال بالنسبة للأدوية التي يحتمل دخول الخمر وأجزاء الميتة فيها هذا بالنسبة لما عدا اللحم والشحم والجلد.

إذا عرفت هذا فاعلم أن جميع ما قدمناه يتضح بتوضيح قاعدة الطهارة ، وبيان مقدار دلالتها فنقول أن مدرك قاعدة الطهارة قول أبي عبد الله (ع) في موثقة عمار ، والمنجبرة بالعمل على تقدير ضعفها ، وهو (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم أنه قذر فليس عليك شيء) (١) وأما ما اشتهر من قوله كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ، فلم نجد له أثرا.

ولا ينبغي الريب في أنها شاملة بإطلاقها للشبهة الحكمية والموضوعية ، وتصور الجامع ممكن ، ودعوى اختصاصها بالشبهة الموضوعية كما في الحدائق ، وعن السبزواري والاسترابادي غير ظاهر ، والظاهر من هذا أن الشبهة الموضوعية هي القدر المتيقن منها عند الفقهاء.

ولا ينبغي الريب أيضا في أن مفادها حكم ظاهري ، كما هو الحال في سائر الأصول والقواعد المغياة بالعلم ، لأن العلم لا يصلح غاية للحكم الواقعي ، ولا الظاهري ، لأن العلم بما يضاد الحكم ليس غاية له بالضرورة ،

__________________

(١) الوسائل م ٢ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ص ١٠٥٣ ح ٤.

٢٥٥

ولأن الحكم الواقعي لا نهاية له من حيث الدوام والاستمرار إلا النسخ (١) ، ولأن الحكم الظاهري لا نهاية له من حيث الاستمرار إلا العلم بالواقع ومن أجل هذا يتعين كونه غاية لموضوع الحكم الظاهري ، ألا ترى أننا إذا علمنا بالقذارة ، ارتفع الشك ، وبزواله يزول الحكم بالطهارة ، وهذا هو معنى كونه غاية لموضوع الحكم الظاهري ، ثم إنه حكي عن صاحب الحدائق أنها دالة على أن موضوع النجاسة الواقعية هو النجاسة المعلومة ، فالخمر المعلوم النجاسة نجس ، والخمر إذا لم يعلم المكلف بنجاسته طاهر ، ومثله سائر الأعيان النجسة ، ويشهد له ظاهر قوله (ع) فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم أنه قذر فليس عليك شيء.

وفيه : أن العلم ظاهر في الطريقية ، وأن العلم بالخلاف لا يصلح غاية للحكم الواقعي كما أسلفناه ، وأن ما حكي عنه لم يذهب إليه أحد من العلماء ، منذ عصرنا هذا إلى عصر أهل العصمة عليهم‌السلام مع أنهم كانوا يتلقون الأحاديث طبقة عن طبقة ، ويتدارسونها فيما بينهم ، ولو كان هذا المعنى مقصودا لما خفي عليهم.

ولا ريب أن المنساق من أدلة النجاسات بأجمعها خلاف ذلك ، وأن النجاسات في مرتكز العوام فضلا عن العلماء عند جميع المسلمين قذارات واقعية أو معنوية قائمة في نفس الأعيان التي دل الدليل على نجاستها.

ثم أن هذه القاعدة كسائر الأصول تكون محكومة للأصول المحرزة كالاستصحاب. فلو تصادقا موردا ، جرى الأصل المحرز ، ولم تجر هذه القاعدة ، سواء اتحدا نتيجة أو اختلفا ، لأن الأصول المحرزة تقوم مقام العلم ، فيكون موردها حينئذ داخلا في الغاية ، فإذا كان مشكوك الطهارة طاهرا سابقا ، كان الاستصحاب هو المرجع دونها ، وإذا كان نجسا سابقا ، استصحبت النجاسة ، وعمل عليها.

__________________

(١) وحقيقة النسخ في الأحكام هو بيان مدة اقتضائها ، ونتيجته التخصيص في الزمان ، وبهذا المعنى لا يستلزم البداء ولا الجهل ولا الاغراء.

٢٥٦

ثم إنه ربما يتوهم متوهم إمكان الاستدلال بها على الاستصحاب في باب الطهارة وفيه أن الاستصحاب غني عنها ، وأنها بعيدة عنه كل البعد ، لخلوها من الإشارة إلى أركان الاستصحاب ، أعني اليقين السابق والشك اللاحق ، والتقدير خلاف الأصل ، والعمل على ظاهر المقدر ليس عملا بظاهر الكلام ، بل هو عمل بأمر آخر ، لا دليل على حجيته.

وبالجملة : القضية قضية استظهار ، وهو وجداني لا برهاني.

٦٠ ـ قاعدة إمارية اليد على الملكية

اعلم أن البحث في قاعدة إمارية اليد على الملكية يقع في مواضع.

الموضع الأول : في اخبارها ، وهي ست روايات.

اولها : رواية حفص بن غياث المروية في الكتب الثلاثة ، عن ابي عبد الله (ع).

قال : قال له رجل إذا رأيت شيئا في يدي رجل ، أيجوز لي أن أشهد أنه له.

قال نعم : فقال الرجل اشهد أنه في يده ولا اشهد أنه له فلعله لغيره.

فقال أبو عبد الله (ع) فيحل الشراء منه قال نعم. فقال أبو عبد الله (ع) فلعله لغيره. فمن أين جاز لك أن تشتريه وتصيره ملكا لك؟ ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ، ثم قال أبو عبد الله (ع) لو لم يجز هذا ، لم يقم للمسلمين سوق.

ثانيها : صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن أبي عبد الله (ع) في حديث فدك : أن مولانا امير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين قال : لا قال (ع) فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة. قال اياك كنت اسأل البينة على ما تدعيه ، قال (ع) فإذا كان في يدي شيء ، فأدعى فيه المسلمون ، تسألني البينة على ما في يدي ، وقد ملكته في حياة رسول الله (ص) وبعده ، ولم تسأل

٢٥٧

المؤمنين البينة على ما أدعوا علي كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم .. الحديث (١).

ثالثها : رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) قال سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه ، أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة (٢).

رابعها : رواية حمزة بن حمران ادخل السوق ، فأريد أن اشتري جارية تقول أني حرة ، فقال اشترها إلا أن تكون لها بينة (٣).

خامسها : صحيحة العيص عن ابي عبد الله (ع) قال سألته عن مملوك ادعى أنه حر ، ولم يأت ببينة على ذلك ، أشتريه. قال نعم (٤).

سادسها : موثقة يونس بن يعقوب في امرأة تموت قبل الرجل ، أو رجل قبل المرأة. قال ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شيء منه فهو له (٥).

الموضع الثاني : في معنى اليد في ما نحن فيه ، والظاهر أن اليد في اللغة حقيقة في العضو المعروف للتبادر وعدم صحة السلب ، وأما ما ذكره لها اللغويون من أنها هي القوة ، والسلطنة ، والقدرة ، والنعمة ، والاستيلاء والملك ، والسلطان ، والطاعة ، والجماعة ، ففيه.

أولا : إن قولهم ليس حجة لعدم الدليل على حجيته ، وما نقله المحقق

__________________

(١) الوسائل م ١٨ ب ٢٥ من ابواب كيفية الحكم في احكام الدعاوي ص ٢١٤ ح ٢ و٣.

(٢) الوسائل م ١٢ ب ٤ من ابواب ما يكتسب به ص ٥٨ ح ٤.

(٣)

(٤) الوسائل م ١٦ ب ٢٩ من ابواب العتق ج ٤ ص ٢٩.

(٥) الوسائل م ١٧ ب ٨ من ابواب ميراث الأزواج ص ٥٢٣ ج ٣.

٢٥٨

الآشتياني في تعليقه على الرسائل من الاجماعات على حجيته فيه ما فيه.

وثانيا : إن ديدنهم على ذكر موارد الاستعمال ، وهي اعم من الحقيقة والمجاز ، ولم يصرحوا بكونها حقيقة في أحدهما أو في الجميع ، ولم ينصبوا قرينة على ذلك. وكيف كان ، لا ريب أنه ليس المراد باليد هنا العضو المخصوص المعروف ، ولا جميع المعاني المذكورة بل المراد منها الاستيلاء لجملة من القرائن. وأما السلطنة والقدرة ، والملك فهي من قبيل لوازم الاستيلاء ، وآثاره ، وكلها من لوازم الملك أيضا ، ولكنها بالنسبة له من قبيل اللازم الأعم ، ولا يبعد أن يكون استعمالها في هذه المعاني مجازا بعلاقة الملازمة أو بعلاقة السبب والمسبب لكون اليد بمعنى العضو سببا لهذه الأمور غالبا نظير قوله (ص) على اليد ما أخذت حتى تؤدي. فإن الأخذ قد يكون بغيرها وكذلك الاستيلاء والسلطنة ، فإنها قد تتحقق بدون مباشرة المالك والمستولي والمتسلط ، نعم لا يبعد أن تكون اليد حقيقة في الاستيلاء والسلطنة بالوضع التعييني لا التعيني.

إذا عرفت هذا فاعلم أن اليد قد أخذت في لسان رواية حفص وحماد ، ولا ريب أن منصرفها العرفي هو الاستيلاء ، فإن كون البيت والأرض في يده ليس معناه إلا الاستيلاء بالضرورة. وأما بقية النصوص فلم يؤخذ فيها لفظ اليد ، ولكنها تضمنت لفظ الاستيلاء صراحة ولزوما كقوله (ع) في رواية يونس من استولى على شيء .. وكقوله (ع) في رواية مسعدة عليك وعندك وتحتك. فإنها كلها ظاهرة في الاستيلاء. ثم إن اليد أخذت في معقد الاجماعات والسيرة والضرورة ولا ينبغي الريب في أن المقصود واحد.

تنبيهان.

التنبيه الأول : الاستيلاء والسلطنة يختلفان باختلاف الناس ، فيد كل بحسبه فيد الملك على بستانه غير يد الفلاح إذا كان هو الذي يديرها بنفسه ، ويجمعهما جامع واحد ، وهو الاستيلاء.

التنبيه الثاني : لا ريب أن اليد معتبرة من حيث افادتها الظن النوعي لا الشخصي ، ويتفرع على هذا أن يد غير الورع كيد الورع امارة على الملك ،

٢٥٩

ومنه المرابي وبائع المحرمات ونحوهما.

الموضع الثالث : في الاستدلال على حجية اليد ، ولا ريب في حجيتها ، ولا ريب أن حجيتها ليست ذاتية ، لأنها لا تفيد اكثر من الظن النوعي بالملكية ، والظن ليس حجة ، ومن الواضح أن الظن بالملكية لا يمنع من كون ذي اليد غاصبا أو امينا ، بالمعنى الأخص كالودعي ، أو الأعم كالمستأجر والمستعير ، والمرتهن والوصي والقيم وما اشبه ذلك.

ويمكن الاستدلال لحجيتها بأمور.

اولها : استقرار طريقة العقلاء وتقرير الشارع لهم. أما استقرار طريقتهم ، فإنها ضرورية ، لأن الناس بأجمعهم يرتبون آثار الملك على ايدي ذوي الأيدي ، فلا يزاحمونهم ، ولا يسألونهم عن تصرفاتهم الاعتبارية ولا الخارجية.

وأما تقرير الشارع لهم ، فالنصوص به كافية وافية ومع ذلك يمكن الاستدلال عليه بأمور ، أولها : أن النبي (ص) واوصياءه كانوا يعاملون الناس كما يعامل بعضهم بعضا ، فكانوا عليهم‌السلام يقبلون الهدية والحق ، ويشترون ما يحتاجونه ، ولا يسألون ولا يفحصون ولا يتوقفون ولا ريب أن سيرة المسلمين على ذلك ، وأن هذه السيرة متصلة ، ومن المعلوم أن تقرير الشارع العملي حجة كتقريره القولي ، وأن السيرة اجماع عملي ، ولعله اقوى من الإجماع القولي أو أوضح ، هذا مضافا إلى عدم الردع ، فإن عمل العقلاء لو كان غير مشروع لنهاهم الشارع عنه ، ونبههم عليه ، ولا سيما مع عموم الابتلاء به ، لأن ذلك جزء من تكليفه.

ثانيها : الاجماع ، فقد حكي الاجماع والاتفاق والضرورة ، وعدم الخلاف في حجيتها.

ثالثها : النصوص المتقدمة ، وبالجملة اعتبار اليد مما لا إشكال فيه.

الموضع الرابع : في انها امارة أو اصل. احتمالان ، فإن اعتبارها إن كان من باب التعبد الصرف كانت أصلا ، وإن كان من حيث طريقيتها وكشفها عن

٢٦٠