قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

فرض أنه من باب التعارض تعين التساقط لاختصاص أدلة المرجحات ، بالخبرين كما هو موردها. مضافا إلى انصرافها عن مثل الفرض للخبرين على تقدير إطلاقها ومضافا إلى منع صدق التعارض بالنسبة لصدق الدليل الواحد على أحد مورديه ، حتى بناء على السببية. وهل معنى هذا إلا معارضة الدليل الواحد لنفسه ، والرواية الواحدة لنفسها وهو كما ترى. ومضافا إلى أن التخيير في الرواية من موارد التخيير في المسألة الأصولية. وهو هنا في القضية الخارجية. ومضافا إلى أن الخصومة لا ترتفع بالتخيير ، لأنه إن جعل لهما اختار كل منهما دفع الضرر عن نفسه ، إلا أن نقول بنفوذ اختيار السابق وهو كما ترى ، أو نقول بجعله للحاكم ، وقد مر ما فيه. فالمتعين التساقط والرجوع لقاعدة السلطنة ولحرمة تصرف صاحب الزرع في أرض غيره بإبقاء زرعه فيها :

وأما كون المورد ليس من باب التوارد ، فلأن التوارد يكون عند الشك في انطباق الدليل الواحد على أحد مورديه أو مصداقيه. وفي مثله يكون انطباقه على الأسبق حدوثا موجبا لتعين تقديمه عرفا.

وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن انطباقه على المصداق الأول ممنوع ، لأنه خلاف المنة ، فلا يشمله حديث نفي الضرر لاختصاصه بما فيه منة ، ولو فرض جدلا انطباقه عليه ، ولم يتولد منه مصداق آخر محكوم لحديث نفي الضرر ، لأن لا ضرر تحكم على الأدلة الأولية ، ولا يتولد من حكومتها على سلطنة صاحب الأرض سلطنة لصاحب الزرع ، ليقال أنها محكومة لحديث نفي الضرر ، ثم يقال : إن هذه السلطنة مرفوعة بلا ضرر ، ثم يقال : إذا لزم من انطباق حديث نفي الضرر على مصداقه حدوث مصداق آخر له ضرري ، امتنع انطباقه عليه ، لأنه يلزم من انطباقه عليه عدم انطباقه على الأول ، فيلزم من وجود الشيء عدمه ، أو يكون نظير قول القائل : كل خبري كاذب.

التنبيه الخامس : في استعراض بعض الموارد التي يتوهم أنها من القاعدة ، أو من باب تزاحم الضررين ، وهي كثيرة.

منها : ما لو اجبره الظالم على هدم جدار بيته او لهم بئره ، او اجبره على

٢٢١

تقديم نفسه للجزار ، ليقطع يده أو أذنه ، ولا ينبغي الريب في أنه يتخير في الأموال ، لإطلاق قاعدة السلطنة ، ويجب اختيار الأخف في الجوارح ، بناء على حرمة الاضرار بالنفس والبدن كما هو الظاهر.

ومنها : ما إذا كان دفع الضرر عن نفسه أو عرضه أو ماله ، يستوجب الاضرار بغيره ، وله أمثلة كثيرة ، ربما تختلف أحكامها باختلافها ، وأصول هذه الأمثلة ثلاثة :

أولها : أن يكون الضرر واردا من قبل فاعل مختار ، كاللصوص والغزاة والعدو الذي يقصده أو يقصد أهل بلده أو ملّته أو عائلته.

ثانيها : أن يكون واردا من قبل الحيوانات ، كالسباع المفترسة والأفاعي السامة ، والحشرات الضارة كالجراد والفئران.

ثالثها : أن يكون من قبيل النار والسيل ، وأن يكون دفعه عما يتعلق به موجبا لتوجهه إلى غيره أو إلى أملاك غيره.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن الأمر في جميع هذه الموارد يدور بين وجوب تحمله الضرر ليدفعه عن غيره ، وبين جواز دفعه عن نفسه وإن تضرر غيره به ..

ومقتضى الأصل عند الشك في ذلك هو البراءة ، ونتيجته إباحة الدفع ، سواء احتمل تضرر غيره به أو ظنه أو اعتقده ، وهو أيضا مقتضى إطلاق ما ورد من الحث على دفع اللص ومحاربته ، وعلى حفظ المال والدفاع عنه ، حتى اشتهر على ألسنة الناس قوله (ص) : من مات دون عقال بعير من ماله مات شهيدا. وفي معناه ما ورد عن أحد الباقرين (ع) : قال : رسول الله (ص) : من قتل دون ماله مات شهيدا. وقال : لو كنت أنا لتركت ولم أقاتل ونحوها غيرها (١).

__________________

(١) الوسائل م ١٨ ب ١ من أبواب الدفاع ص ٥٨٧ وب ٤ منها والوسائل ايضا م ١٩ ب ٦ من أبواب الضمان ص ١٧٧ وب ٢٣ ـ ٢٥ ـ ٢٧ من أبواب القصاص في النفس ، ومن هذه النصوص ، والنصوص الواردة في جناية الدابة المرسلة. يمكن استفادة شيء ، يتعلق فيما نحن فيه ولو بالأولوية.

٢٢٢

ويمكن الاستدلال لجواز الدفع مطلقا وفي جميع الأحوال ، بالسيرة القطعية المتصلة ، فإن سيرة العقلاء والمسلمين على دفع اللصوص والسباع والحشرات والهوام على أنفسهم وعيالهم ومواشيهم وممتلكاتهم ، من غير أن يفكروا فيما يفعله المدفوع بعد دفعه ، بل يفعلون ذلك ، وهم يعلمون بحسب العادة ، أن اللص إذا طرد لا يعود إلى منزله ، بل يذهب في مهمته إلى أماكن أخرى ، ومثله الذئب والجراد وغيرهما ، فإن الذئب يطلب رزقه من المواشي والجراد من المزارع ، ويؤيد هذا : أن الناس لا ينكرون طرد اللصوص والسباع والحشرات ، وإن عاثت في أملاك غيرهم ، ولا نعرف في الشريعة دليلا يردعهم ، وفي عدم الردع تقرير لهم ، مضافا إلى إمكان دعوى ثبوت التقرير ، بالاطلاقات التي أشرنا إليها آنفا.

ويمكن أن يقال : أن السيرة بقسميها لبية ، والقدر المتيقن منها ما عدا صورة العلم بأضرار الغير ، ولا سيما إذا كان معينا ، كما لو طرد الذئب عن ماشيته ، أو الجراد عن زرعه ، عالما بأنه سيذهب إلى ماشية أو زرع جاره. وفيه : أن سيرة الزراع والرعاة على طرد ابن أوى والذئب وغيرهما من الحيوانات الضارة بالزرع والماشية ، وهم يعلمون بذلك ، بل قد يكون ذلك بمرأى ومسمع من المجاورين ، وهم يرون أن كل واحد منهم مسئول عن حماية ما يتعلق به.

وهل يجب على الدافع عن ماله ، أن يعين جاره على دفع الضرر عن نفسه ، مقتضى الأصل العدم ، ومقتضى ملاحظة ظاهر النصوص الآمرة بالتعاون على البر ، والناهية عن التعاون على الإثم والعدوان هو وجوب التعاون على البر ، وحرمة التعاون على الإثم ، ومقتضى ملاحظتها أجمع هو استحباب التعاون على البر وكراهة التعاون على الإثم إلا إذا كانت المعاونة عليه تعد تسبيبا أو مباشرة على نحو تصحح نسبة فعل المحرم للمعين. فيكون من التسبيب المحرم (١).

نعم ، ربما يجب ذلك في بعض الموارد من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لاشتراك التكليف بينهم ، إذا كان هذا الواجب الكفائي لا يتحقق

__________________

(١) وهذا هو الضابط الفارق بين التسبيب المحرم والتسبيب غير المحرم.

٢٢٣

بفعل الواحد ، فدفن المسلم إذا عجز عنه الواحد أو الاثنان ، يبقى واجبا على الجميع ، إلى أن يقوم به عدد يقدر عليه.

هذا كله بالنسبة للحكم التكليفي ، وأما بالنسبة للضمان ، فلا ينبغي الريب في العدم.

اما بالنسبة للضرر الحاصل من فاعل مختار كاللص والعدو ، فواضح ، لأن السرقة والقتل والاتلاف فعل اختياري لفاعله ، وادلة الضمان ـ اعني اليد والاتلاف تنطبق عليه ، ولا تنطبق على الدافع.

والتسبب انما يوجب الضمان ، إذا لم يتخلله ارادة فاعل مختار لصحة نسبة الأثر اليه حقيقة ، وعدم صحة نسبتها للسبب إلا بنحو من انحاء المجاز ، ويشير إلى هذا تعليلهم الضمان في بعض موارده بقولهم رضوان الله عليهم : لأن المباشر اقوى من السبب.

واما بالنسبة للضرر الحاصل من دفع السباع والهوام والحشرات من حيث الحكم الوضعي ، اعني الضمان ، فإن من يدفعها عنه لا يضمن إذا أضرت بغيره للأصل ، ولعدم صحة نسبة الاتلاف اليه ، وبعبارة ثانية : لقصور ادلة اسباب الضمان عن شموله ، مضافا إلى فحوى صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن رجل غشيه رجل على دابة ، فاراد أن يطأه ، فزجر الدابة ، فنفرت بصاحبها ، فطرحته وكان جراحة أو غيرها ، فقال : ليس عليه ضمان ، انما زجر عن نفسه وهي الجبار (١) هذا مضافا إلى امكان استفادة شيء بالنسبة لما نحن فيه ، ولو بالاولوية من النصوص الواردة في البعير المغتلم ، والدابة المرسلة ، إذا اتلفت نهارا.

واما بالنسبة للنار والسيل ، إذا كان دفعها عنه موجبا لاشتعال النار في ملك غيره ، كما في البيدر والزرع المجاور ومثلها السيل ، فإن كان يمكن دفعها بدون اضرار الغير ، فالظاهر كونه ضامنا لقاعدة الاتلاف. واما إذا لم يكن

__________________

(١) الوسائل م ٩ ب ٣٧ من ابواب موجبات الضمان ص ٢٠٦ ح ١ وب ٣٥ منها وب ٤٠ منها.

٢٢٤

بدون اضرار ، فإن كان المتضرر حاضرا ، فعليه أن يحافظ على ماله ويدافع عنه ، ويكون كل مالك مسئولا عن ماله ، ويكون حالهما حال رعاة القطعان من المواشي إذا هجم اللص ، أو الذئب الكاسر ، فإنه إذا دفعه احدهم عن قطيعه اتجه للقطيع الآخر.

واما لو لم يكن حاضرا ، فإن كان من باب الذئب واللص ، فلا يضمن لعدم صحة نسبة الاتلاف اليه ، ونظيره ما لو كان السيل متجها نحوه ، وكان غيره في منحدر عنه نعم لو كان ملكه متصلا بملكه ، ففيه مجال للشك.

وعلى كل حال ، فمقتضى الاصل وظاهر صحيح ابي بصير ، والمستفاد من فحوى النصوص التي اشرنا إلى مضانها ، العدم ، والله المسدد.

ومنها : ما لو اجبره الظالم على ضرب غيره ، وتوعده إن لم يفعل بأن يضره وقد جزم شيخنا المرتضى رحمه‌الله في رسالة لا ضرر بجواز ضرب الغير ، وعلله بأن الضرر متوجه ابتداء على الغير ، ولا يجب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير ، قلت : الكبرى حسنة ، ولكن ضرب انسان محترم العرض والدم بغير حق ظلم ، والظلم محرم بالضرورة والكلام ليس في تحمل الضرر عن الغير ، بل الكلام في حرمة الظلم حتى لو كان مكرها عليه اولا. ومقتضى اطلاق دليل حرمة الظلم اللفظي هو ذلك ، وقد عرفت في الجهة الثامنة ، إن الاحكام العدمية ، اعني المحرمات ، ليست محكومة للقاعدة فراجع. نعم ، قد يقال هنا : إن حديث رفع الاكراه حاكم على الادلة الاولية فيكون هو الدليل على الجواز لا ما ذكره. اللهم إلا أن يقال : «إن حديث رفع الإكراه امتناني ، ولا منة في رفع الاكراه الذي يستلزم ايذاء الناس ، وهو المتعين. ويؤيده ما نحفظه من أنه لا تقية في الدماء ، والله العالم.

تنبيه مهم جدا

بعد الفراغ مما ذكرناه أجمع ، توفقنا لملاحظة الجواهر / م ٣٧ ـ في كتاب الغصب الطبعة الجديدة فوجدنا المحقق (ره) تعرض لفروع كثيرة. تشبه ما نحن

٢٢٥

فيه ، وتستحق التعرض لها ، ووجدنا كلمات العلماء فيها مختلفة جدا ، وربما نشير اليها في قاعدة ـ من أتلف مال غيره ـ والتي عزمنا على اعادة تحريرها.

منها : ما لو اشعل النار في ملكه ، لغرض عقلائي ، فانتقلت إلى ملك غيره.

ومنها : ما لو فتح الباب فهرب الغريم أو الطائر أو شردت الدابة أو أبق العبد أو دخل اللص أو الوحش المفترس.

ومنها : ما لو أمسك شخص بآخر ، فشردت دابته ، وأبق عبده ، أو هرب غريمه ، أو افترس الذئب ولده ، أو ماشيته أو ما أشبه ذلك.

ومنها : ومنها .. وقد اختلفت كلمات العلماء فيها.

لذلك لا يجوز للفقيه الافتاء في هذه الموارد ونظائرها ، قبل ملاحظة كلمات الاصحاب وان اتقن قواعد اسباب الضمان (١).

التنبيه السادس : في تزاحم قاعدة الضرر والحرج.

وهو خارج عن هذه القاعدة : كما لو لزم من تصرف المالك في ملكه حرج على جاره ، وله ثلاث صور : فإنه قد يلزم من عدم تصرفه فيه ضرر عليه أو حرج ، وقد لا يلزم شيء منهما. وفي جميع هذه الصور تكون قاعدة السلطنة محكمة ، لأن قاعدة نفي الحرج تختص بالمكلف نفسه ، فمن كان تكليفه حرجيا ارتفع عنه كما في الوضوء الحرجي والجهاد الحرجي والقيام الحرجي في الصلاة وغير ذلك. فالحكم الحرجي ، تكليفا ووضعا ، مرفوع عن المكلف به لظهور دليله في ذلك .. ألا ترى أن لفظ (عليكم) في قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يشير إلى ذلك. ويؤيده ملاحظة مواردها في النصوص ،

__________________

(١) حرر ليلة الاربعاء ليلة ٢٧ من شهر رمضان المبارك في السنة الرابعة بعد الألف والأربعمائة للهجرة ٢٧ / ٦٦ / ١٩٨٤ م.

٢٢٦

ومنها صحيحة عبد الاعلى الواردة في الاظفر ، والحمد لله رب العالمين.

التنبيه السابع : في ثمرة ثبوت خيار الغبن بلا ضرر وحدها.

لا ينبغي الريب في ارتفاع لزوم البيع الغبني بلا ضرر ، لحكومتها على جميع الادلة الاولية ، ومنها : اللزوم في المعاملات اللازمة ، سواء كان دليل اللزوم الآيات والروايات أو الاستصحاب ، نعم ، حكومتها على العمومات اوضح بدوا من حكومتها على الاستصحاب لأنه من الادلة الثانوية.

ولا ريب أن المعاملة تصبح جائزة ، وأن المغبون يتسلط على الفسخ ، وهل هو حق كحق الخيار ، فتثبت له حينئذ آثار الخيار من التوارث والمصالحة عليه ، وغير ذلك ، أو هو حكم بجواز المعاملة. التحقيق هو الثاني ، لأن حديث نفي الضرر يرفع اللزوم الضرري ، وهو معنى الجواز بنظر العرف ، ولا يرفع اصل الصحة لما اسلفناه في هذه التنبيهات ، ولا يثبت الحق الخياري لأن لا ضرر ترفع ما شرع ضرريا ، ولا تشرع امرا زائدا على ذلك ، نعم يكون للوارث الفسخ ، لأنه ورثه كذلك ، أو من جهة استصحاب الجواز ، وموت المغبون ليس مقوما للموضوع ، وينبغي التنبه إلى الفرق بين هذا النوع من العقود الجائزة ، وبين العقود الجائزة المسماة بالعقود الاذنية ، التي تبطل بموت أحد المتعاقدين ، كالعارية ، ثم أن مقتضى القاعدة جريان لا ضرر في البيع الغبني وفي سائر المعاملات الغبنية أيضا ، إلا إذا شرعت ضررية : كالنكاح ، فإن حصر الفسخ فيه بعيوب مخصوصة يمنع من ثبوت الجواز فيه بغيرها ، فتكون اخص من حديث نفي الضرر ، وبعبارة اوضح العقود اللازمة على ضربين ، احدهما لزومه حقي ، بمعنى تمكن المتعاقدين من تسلطهما عليه ، بعد إبرامه ، فيدخله التقايل والخيار ، ويتمكن المتعاقدان من اشتراط ما يريدان اشتراطه فيه ما لم يكن مخالفا لطبيعة العقد أو للكتاب والسنة ، ثانيهما : لزومه حكمي كالنكاح ، ولذا لا يدخله التقايل ولا الخيار في غير مورد النص مع وجود موجبه.

٢٢٧

التنبيه الثامن : في ذكر بعض الادلة المحكومة إلى قاعدة لا ضرر الوضعية والتكليفية.

اما الوضعية ، فاصالة اللزوم وقاعدة السلطنة ، وقد تقدم الكلام فيهما في الجهة السادسة ص ١٩٩.

واما التكليفية ، فالطهارات ، وافعال الصلاة على تأمل ، فإن المرجع فيها النص الخاص ، واما الجهاد والحج والصوم فإنها إذا كان الضرر زائدا عن طبيعة هذه الثلاثة ، تكون موردا لقاعدة نفي الضرر ، لأنها شرعت ضررية ، واما الأحكام المالية كالخمس والزكاة والكفارات والديات فتجب ، وإن استوجبت ضررا ماليا ، لأنها شرعت كذلك ، فهو ضرر بحق ، نعم ورد في زكاة الفطرة وفي الكفارات أو في بعضها في حال العجز عنها الانتقال إلى شيء منها أو إلى الاستغفار.

ثم أن اصالة اللزوم جارية في اصل العقد وفي الشروط ، فلو كان الوفاء بالشروط ضرريا ، فهل يستوجب جواز الشرط أو جواز العقد. احتمالان ، وربما يقال بوجوب تحمله ، وربما يقال بجوازه ، ثم بواسطة عدم الوفاء به يتسلط على فسخ العقد.

٥٢ ـ قاعدة

في منجزية العلم الاجمالي

والكلام في هذه القاعدة يقع في ثلاثة مقامات :

المقام الاول : في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمها. والتحقيق فيها أنها لا تجب.

المقام الثاني : في حرمة المخالفة العملية القطعية ، ولا خلاف في ذلك إلا من بعض ، كما في رسائل شيخنا المرتضى رحمه‌الله. وحكى الاستاذ الكاظمي الخراساني رحمه‌الله في التقريرات عن بعض من اعترف بأن العلم الاجمالي

٢٢٨

كالتفصيلي في المنجزية ، أنه لم يقل بحرمة المخالفة القطعية ، في خصوص الشبهة الموضوعية التحريمية ، اعتمادا على اخبار الحل ، وقال بحرمة المخالفة العملية القطعية في الشبهة الوجوبية ، ولعله لعدم شمول اخبار الحل لها بنظره. وحكى فيها ايضا عن بعض من لا يعتد به تجويز المخالفة القطعية حتى بالنسبة للشبهة الوجوبية.

ولا ينبغي الريب في حرمة المخالفة العملية القطعية للزوم المناقضة لحكم العقل بوجوب الاطاعة ، وللزوم مناقضة الشارع نفسه بعد عدم تنزله عن احكامه الواقعية الثابتة للموضوعات المرسلة ، فيكون قد ناقض نفسه لفرض عدم النسخ ، ولأنا لا نجد فرقا بين الترخيص في مخالفة متعلق التكليف التفصيلي والاجمالي.

فالعلم بالتكليف علة تامة بذاته في كلا الحالين ، والمحاذير من الدور والتسلسل وتحصيل الحاصل والمناقضة كلها واحدة.

وأوضح من هذا أن يقال : لا ريب أن حجية العلم التفصيلي ذاتية ، وأنه يمتنع فيه الجعل نفيا واثباتا ، لأن ما بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات وللزوم الدور. لأن معرفة الشارع الذي يجعل حجيته إن كانت به دار ، وإن كانت بغيره لم تنفع ، لأنه غير ثابت الحجية ، فهو مفتقر له أو لغيره ، لأنه اخفى منه ، وللزوم الدور والتسلسل فإنه إن رجع إلى بعض السلسلة دار ، وإلا تسلسل ، وللزوم تحصيل الحاصل ، أو المناقضة ، اعني مناقضة الشارع لنفسه ، ومناقضة العقل لنفسه بعد متابعته له.

ولا ريب أن هذه المحاذير حاصلة إذا اباح الشارع كلا الطرفين اللذين علم المكلف بحرمة احدهما.

مثلا : إذا عرفنا الخمر تفصيلا ، وعلمنا حرمته كذلك ، ثم رخصنا الشارع بشربه وعلمنا بأنه لم ينسخ حكمه السابق ، كان ذلك مناقضة منه لنفسه بالضرورة ، ومناقضة العاقل نفسه قبيحة ، والشارع منزه عن القبيح. وإذا

٢٢٩

تابعة العقل ، ولا محيص من متابعته له (١) لزم مناقضة العقل لنفسه ايضا ، لأن العقل عند ما يحرز الحكم الشرعي يلزم العبد باطاعته ، ثم إذا رخص المولى بتركه رخص العقل بذلك تبعا له ، فيكون العقل حينئذ مرخصا بالترك ، وغير مرخص به ، وهو التناقض.

ومثل هذا يقال في المعلوم بالاجمال.

مثلا : إذا علمنا بوجود الخمر في احد اناءين ، وعلمنا بحرمة الخمر ، ثم رخصنا الشارع بشرب ما فيهما كان مرخصا في المخالفة العملية القطعية ، والعقل يتابعه وحينئذ تجيء مناقضة الشارع لنفسه ، ويلزم من ذلك مناقضة العقل لنفسه كما مر حرفا بحرف.

وبهذا يتضح أن العلم الاجمالي علة تامة بالنسبة لحرمة المخالفة العملية القطعية لأن الترخيص في جميع المحتملات ترخيص في المعصية القطعية ، والمناقضة حينئذ وجدانية بعد عدم تنزل الشارع عن حكمه.

المقام الثالث : في وجوب الموافقة العملية القطعية وعدمها ، وفيه قولان ، كما مر. وهل هو علة ، على تقدير منجزيته ، فيمتنع جعل الاحكام الظاهرية في مورده ، أو لا بل هو مقتض لها ، ولا مانع من الجعل إلا تعارض الاصول ، قولان :

إذا عرفت هذا فاعلم أن القائلين بحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية اختلفوا في موجبها ، فقيل : إن العلم الاجمالي علة تامة في التنجز بالنسبة لكل منهما ، وقيل : إنه مقتض للتنجز بالنسبة لكل منهما ، وقيل : إنه

__________________

(١) لأن العقل يستقل بالارشاد إلى اطاعة المولى والقبول منه ، والمتابعة له من باب الارشاد إلى وجوب الشكر وإلى دفع الضرر ، المحتمل في كل مورد يتحقق فيه احتمال الضرر. والاطاعة من اجلى مظاهر الشكر ، والعقل كما يحكم بوجوب الاطاعة يحكم بوجوب احرازها لأن الاطاعة لا تجب إلا بعد الاشتغال اليقيني والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وهذا معنى ما قلناه من أن بعثه إلى الاطاعة عين بعثه وإلى احرازها ، لأنه لا أمان له بغير ذلك وهذا كله لا اشكال فيه في الجملة وانما الاشكال في أنه هل يحكم الشرع بكل ما حكم به العقل أو لا كما في باب الملازمات : كالضد ومقدمة الواجب واجتماع الامر والنهي وما يستقل العقل بقبحه وغير ذلك مما يستقل به العقل ، ولا يلزم من متابعة الشارع له فيه محذور عقلي كالدور.

٢٣٠

علة تامة بالنسبة لحرمة المخالفة ، ومقتض بالنسبة لوجوب الموافقة ، وهو الحق. وهو الذي يستظهر من مجموع كلمات شيخنا المرتضى رحمه‌الله في رسائله في مبحث الاشتغال وغيره. وكان استاذنا الخراساني رحمه‌الله يدعي الملازمة بين حرمة المخالفة ووجوب الموافقة ، بمعنى أنه إذا كان علة لحرمة المخالفة وجب كونه علة لوجوب الموافقة ، ويمكن تقريب الاقتضاء بأن يقال : أن المقتضي للمنجزية موجود والمانع مفقود.

اما المقتضي فهو ادلة التكاليف ، فإنها تدعو لتحقيق متعلقاتها في جميع المراتب ، سواء كانت معلومة أو مشكوكة ، لأن الحكم يتعلق بالواقعة المرسلة ، والعلم ليس جزء الموضوع بالضرورة ، والالفاظ ليست موضوعة للمعاني المعلومة ، كما برهنا عليه في مباني الفقيه (١).

واما انتفاء المانع ، فالمتصور منه اما عقلي واما شرعي.

اما انتفاء المانع العقلي فواضح ، لأن العقل يقبح مخالفة المولى في مثل الفرض وإن كانت احتمالية ، ويحسن مؤاخذة العبد إذا صادف المحرم الواقعي لفرض احراز التكليف تفصيلا. والاجمال انما هو في المتعلق لا في التكليف ، والتفصيل والاجمال في المتعلق لا يمنع من تنجز التكليف المعلوم بالتفصيل بنظر العقل ، ولا يوجب فرقا بينهما بالضرورة ، لأن المولى عليه البيان وقد فعل. واشتباه متعلق التكليف ليس لتقصير منه ، بل لأمور اخرى لا ترتبط بالمولى. ودعوى كون هذا البيان بهذا المقدار يوجب كونه علة تامة في التنجز ، هو موضوع الكلام.

وأما انتقاء المانع الشرعي فلأن المتوهم منه ليس إلا أدلة الأصول وهي قسمان : قسم أخذ فيه العلم غاية ، كقاعدة الحل والطهارة وبعض روايات الاستصحاب وقسم ليس كذلك ، ويشترك القسمان في بعض المحاذير ، وينفرد المغيّا بالعلم في بعض آخر.

اما ما يشتركان فيه فهو دعوى قصور الادلة عن شمول المقام ، لأن

__________________

(١) مخطوط قررنا اعدام معظم مسوداته.

٢٣١

شمولها لهما معا محال لما عرفته في آخر المقام الثاني ، من عليته التامة بالنسبة لحرمة المخالفة العملية القطعية ، وشمولها لواحد بعينه ترجيح بلا مرجح ولا ترجح ، وهو قبيح عقلا. وإرادة واحد لا بعينه غير ممكنة ، لتسالم على أدلتها أعمالها في المعين ، لكونه خلاف ظاهرها ، ولأنه لا يمكن تحققه خارجا ، فإن المفهوم المردود يمتنع وجوده خارجا ، لأنه بعد وجوده يكون معينا ، والمعين ليس مصداقا للمفهوم المردد بالضرورة ، بل هو يعانده ويضاده ، وإرادته مع المعين تستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى بلا جامع (١).

وأما ما تختص به الأدلة المغياة بالعلم فأمران :

أولهما : أن العلم حاصل ، ودعوى اختصاصه بالتفصيلي ، أو انصرافه إليه ، ممنوعة.

ثانيهما : تناقض صدرها وذيلها ، فيكون المقام خارجا عنها ، لكونه من الشبهات المصداقية لها ، فإن ملاحظة كل واحد من أطراف الشبهة على انفراده تجعله مصداقا للصدر ، لكونه مشكوكا فيه ، وملاحظته مع الآخر تجعله معلوما ، فيكون مصداقا للذيل ، ويكون من نقض اليقين بيقين مثله ، والتحقيق أن المراد باليقين السابق ، الذي لا ينتقض إلا بيقين لا حق مماثل له ، هو اليقين الذي يكون اليقين نقيضا له ، وذلك يستدعي وحدة متعلقهما في جميع الجهات المشترطة في باب التناقض.

مثلا : إذا كان زيد حيا ، وشككنا في بقائه حيا بعد سنة ، استصحبنا حياته لعدم العلم بموته ، وهذا واضح ، ولكن لو علمنا بموته ، كان احتمال الحياة منتفيا بيقين الموت ، ولا يبقى حينئذ مجال لاستصحاب الحياة بوجه من الوجوه.

__________________

(١) لا يخفى أن وعاء المفهوم المردد ، هو الذهن لا غير ، فإن الاناء النجس المردد بين اناءين له صورة في الذهن ، ولا يعقل أن يكون له مصداق في الخارج لأن الخارجيات متعينة دائما بالضرورة ، وهي متقومة بحدودها الخارجية وما يكون كذلك لا يكون مرددا أبدا.

٢٣٢

وأما إذا علمنا بكون الميت هو أو أخوه ، فإن احتمال الحياة بالنسبة له لا يرتفع بهذا العلم الإجمالي بالضرورة ، لأنا نحتمل أن يكون أخوه هو الميت ، وأنه هو الحي ومن أجل ذلك ، لا يكون نقض اليقين الإجمالي نقضا له بيقين مثله ـ في كونه مانعا من احتمال النقيض بل نقض له بيقين ليس مثله ، لأنه لا يمنع من احتمال الحياة ، للقطع باحتمال الحياة ، وهذا أمر دقيق واضح ، فاغتنمه.

ويمكن تقريب مناقضة الذيل والصدر بتقريبات أخرى.

ودعوى تقديم أحدهما ممنوعة ، لأن الكلام الواحد المشتمل على حكمين ، وإن كان يمكن فيه دعوى لزوم الأخذ بالأسبق لاستحكامه ، ويمكن فيه دعوى لزوم الأخذ بالمتأخر ، لأنه كالقرينة الشارحة ، إلا أن ذلك إنما هو فيما يجعل ضابطا حاصرا ، لا في سائر الموارد (١). والأحكام الظاهرية واردة لبيان الحكم الظاهري وليست ضابطا حاصرا لمورد من الموارد.

وقد تلخص مما مر ، أن العلم الإجمالي علة بالنسبة لوجوب الموافقة العملية القطعية وإن عليته تتمم بعدم المانع ، وينحصر انتفاء المانع الشرعي بقصور الأدلة ذاتا أو من حيث حصول الغاية أو من حيث تنافي صدرها وذيلها.

أما إذا كان المانع من جريان الأصول استحالة الجعل من جهة احتمال المناقضة فإن العلم الإجمالي يكون علة تامة في وجوب الموافقة.

ويمكن تقريب ذلك بأن يقال : لا ريب أن الإطاعة وشئونها من وظائف العقل وليست من وظائف الشارع المقدس ، فإنه ليس له التعرض لها نفيا ولا إثباتا. بنحو المولوية ، وإلا لزم الدور أو التسلسل (٢).

ولا ريب أيضا أن أصل التكليف في مثل الفرض محرز بالوجدان ، وإن الإجمال في متعلقه لا فيه نفسه. ولا ريب أنه إذا حصل موضوع حكم العقل ، حكم بدون تردد (٣).

__________________

(١) هذا مما أوضحناه في قاعدة التجاوز.

(٢) لاحظ القاعدة ١١ و١٢ ص ٣٢.

(٣) لاحظ القاعدة ٤ ص ٢١.

٢٣٣

ولا ريب أن العقل ، كما يحكم بوجوب الإطاعة ، يحكم بوجوب إحرازها ، لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وبعبارة ثانية : أن بعث العقل إلى الإطاعة هو عين بعثه إلى إحرازها ، لا أنه له حكمان ، وأنه يحكم بوجوب الإطاعة أولا ، ثم يحكم بإحرازها ثانيا.

وإذا عرفت هذا علمت أننا إذا علمنا إجمالا بخمرية أحد الإنائين ، لم يجز لنا ارتكاب شيء منهما ، لأن الكبرى ، وهي حرمة الخمر ، معلومة بالضرورة والصغرى أعني خمرية الإناء الموجود في هذين أيضا محرزة ، والعقل لا يفرق بين الخمرة المتميزة والخمرة المشتبهة كما في المثال : ألا ترى أن العقلاء إذا علموا بوجود السم في إناء مردد بين إناءين يمتنعون عنهما ، كما يمتنعون عنه لو كان في إناء معلوم بالتفصيل.

مضافا إلى أن الترخيص في الفرض الآنف بواحد منهما لا غير ، واجتناب الآخر ، فيه مخالفة احتمالية وموافقة احتمالية. ولازم ذلك احتمال مناقضة الشارع لنفسه ، واحتمال مناقضة العقل لنفسه. وفي كون احتمال مناقضة كل منهما لنفسه كالمناقضة في الاستحالة ، أو كون خصوص احتمال مناقضة العقل لنفسه مستحيلة ، كلام ستعرفه في قاعدة آتية إن شاء الله تعالى.

٥٣ ـ قاعدة

في أن احتمال المناقضة كالمناقضة

في الاستحالة ، أو لا؟

والكلام فيها تارة في احتمال مناقضة العقل لنفسه ، وأخرى في احتمال مناقضة الشارع لنفسه.

أما احتمال مناقضة العقل لنفسه في مثل ما نحن فيه ، فلا ينبغي الريب في استحالتها. لأن ترخيص الشارع في بعض المحتملات على تقديره! ترخيص في محتمل المعصية ، والترخيص في محتمل المعصية ترخيص في المخالفة

٢٣٤

العملية الاحتمالية. وهذا الترخيص يستتبع ترخيصا عقليا ، لأن كل ما حكم به الشرع حكم به العقل (١) ومتابعة العقل للشارع في ذلك تناقض حكمه بوجوب الإطاعة وبوجوب إحرازها ، لأن إلزامه بتحصيل الجزم بها ، وترخيصه بعدم تحصيله ، تناقض واضح ، لأنه ينتهي إلى أنه أمر بها ولم يأمر بها (٢).

فإن أريد بكون احتمال المناقضة كالمناقضة في الاستحالة ما ذكرناه ، فهو حق ، وإن أريد به غيره طالبناهم بالدليل.

ودعوى بداهة استحالة احتمال المناقضة كبداهة استحالة المناقضة ممنوعة ، وعهدتها على مدعيها ، ولو كانت بديهية ، لما احتاج المحققون إلى مثل ما نحن فيه من الإطاعة والإسهاب.

ودعوى أن العلم باستحالة اجتماع النقيضين يلازم العلم باستحالة احتمال اجتماعهما ، لأن العلم يمنع من احتمال الخلاف ، فإذا علمنا باستحالة الاجتماع ، الاجتماع ، مسلمة ، ولكن دعوى كون ما نحن فيه منه ، ممنوعة للفرق بين هذا وبين ما نحن فيه. فإن هذا إنما هو بعد جزمنا بعدم احتمال فرض احراز كونهما نقيضين ، والصغرى فيما نحن فيه (أعني كونهما نقيضين) غير محرزة.

وأما احتمال مناقضة الشارع لنفسه فكذلك ودعوى وجود احتمال المناقضة في مورد جعل الاحكام الظاهرية لملازمتها لاحتمال مخالفتها للاحكام الأولية ممنوعة ولا سيما بعد الجمع بين الأدلة الأولية وأدلة الأصول بطريق تكون نتيجته نتيجة تقييد الأحكام بالعالمين في حال الشك ، أعني المرحلة الفعلية (٣) وبالجملة ، مناقضة الشارع لنفسه مستحيلة لما فيها من تعجيز العبد ، ومن نسبة

__________________

(١) لاحظ التعليقة الثانية في قاعدة منجزية العلم الإجمالي. ص ٢٣٠.

(٢) وقد ذكر المحقق الآشتياني في حاشيته على الرسائل ص ١٣٥ من المراد بالمناقضة المناقضة لحكم العقل لا الشرع ، وادعى أنه يمكن جعل البدل الشرعي.

(٣) راجع القاعدة ٤٣ ص. وينبغي التنبه إلى أن هذا متين إذا سلم من شبهة التصويب. ومن لوازمها التي يصعب الالتزام بها ، وأهمها القول بالاجزاء ، وعدم وجوب الإعادة في الوقت ، والقضاء في خارجه ، مع انكشاف الخلاف. وتمام الكلام في القاعدة المتضمنة للجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية.

٢٣٥

النقض للحكيم ، ومن استحالة صدور الإرادتين المتنافيتين. وأما احتمال مناقضته لنفسه ، فإذا استلزم شيئا من ذلك كان مستحيلا ، وإلا فلا. والظاهر الثاني ولا سيما إذا التزمنا بثبوت الأحكام الظاهرية.

والتحقيق أننا إذا فرضنا ارتفاع احتمال مناقضة الشارع لنفسه بالتقريب الآنف ، فلا بد أن ترتفع مناقضة العقل لنفسه تبعا له ، لأن نتيجة ذلك كله تنزل الشارع عن الحكم الواقعي في مرحلة الشك ، وبعد فرض متابعة العقل له في ذلك ، لا يكون العقل مطالبا للعبد بتحصيل العلم بامتثال الأحكام الواقعية ، لأن متابعته له وأمره بوجوب تحصيل إطاعة الأحكام الواقعية في صورة العلم بها ، لا ينافي اكتفاءه بالإطاعة الاحتمالية في مورد الشك ، لأن شروط التناقض تسعة ، وهي الثمانية المشهورة ، مع اتحاد الرتبة. ومتعلق حكميه هنا متعدد لتعدد القيود ، ولاختلاف الرتبة أيضا. وهذا لا ينبغي أن يكون محلا للريب.

٥٤ ـ قاعدة

في بيان وجه انحلال العلم الإجمالي

بأصل التكليف بعد الفحص

وهذه القاعدة تتضمن دفع شبهتين من أهم الشبهات :

الأولى : أنه إذا ثبت كون احتمال المناقضة كالمناقضة في الاستحالة ، أشكل الأمر في جريان الأصول المرخصة في الشبهات البدوية بأسرها ، ومنها الشبهة غير المحصورة ، والشبهة المحصورة التي يكون العلم الإجمالي منحلا فيها لبعض أسباب الانحلال المسطورة في تنبيهات الاشتغال ، فإن جريان الأصول المرخصة فيها لا ينفك عن احتمال المناقضة شرعا وعقلا. ولو لا احتمال مخالفة الواقع لما احتجنا للأصول المؤمنة ، فإذا استحال جريانها في بعض أطراف العلم الإجمالي المنجز ، من جهة احتمال المناقضة ، لزم امتناع جريانها هنا ، لاشتراكهما في احتمال المناقضة للواقع! لأن العلم الإجمالي موجود في المقامين ،

٢٣٦

واحتمال المناقضة للمعلوم أيضا موجود فيهما. فإن اعتذر بعذر في أحدهما أطرد العذر في الآخر. وضعف الاحتمال وقوته لا مدخل له ، وكثرة الأطراف وقلتها أيضا لا مدخل له ـ.

ودعوى الفرق بينهما بأن هذا الاحتمال مقرون بعلم إجمالي منجز ، بخلاف الاحتمال في باب الشبهات البدوية الآنفة بأسرها! فإنه مقرون بعلم إجمالي غير منجز ممنوعة. فإنها دعوى بلا برهان ، وهي مصادرة جلية. فإن هذا المتوهم يدعي وجود الفرق ، وكان عليه إقامة البرهان ، وخصمه ينكر ذلك ويقيم عليه الدليل ، مدعيا وجود العلم الإجمالي ، ووجود احتمال المناقضة فيهما على السواء وذلك واضح.

والثانية : لا ريب أنه لا يجوز الرجوع للأصول إلا بعد الفحص عن الدليل ، وحد الفحص اليأس من الدليل ، ونتيجة اليأس الظن بعدمه.

فإذا فحص المجتهد عن حكم واقعة فيما بين أيدينا من الأدلة ، ولم يجد فيها نصا ، رجع في حكمها إلى الأصول.

وقد أوردوا على من استند في وجوب الفحص إلى العلم الإجمالي بأصل التكليف أو بوجوده فيما نبتلي به من الوقائع ، أو بوجوده فيما بين أيدينا من الأدلة إيرادا لا مفر منه.

وهو أن العلم الإجمالي ، إن كان منحلا بعد الفحص عن حكم الواقعة التي ابتلينا بها ، وفحصنا عنها ، فلا مقتضي لوجوب الفحص في بقية الوقائع ، مع أن وجوبه ضروري عند الفقهاء والعقلاء. وإن لم يكن منحلا ، لم يجز أعمال الأصول في تلك الواقعة المفحوص عنها ، لأن العلم الإجمالي يمنع من جريانها ، إما لأنه علة تامة ، وإما للمعارضة.

ودعوى انحلال العلم الإجمالي بالنسبة للواقعة المفحوص عنها خاصة ، ممنوعة

٢٣٧

فإن الفحص إذا استوجب العلم بحكمها ، أو العلم بأنه لا حكم لها فيما بين أيدينا من الأدلة على الأقل ، خرجت عن دائرة هذا العلم الإجمالي ، ولم تكن من الأطراف المشتبهة ، وكان العلم الإجمالي بالنسبة لها منحلا حقيقة ، ولم تكن حينئذ موردا للأصول. ولكن الفحص الموجب للعلم بذلك متعذر بالضرورة ، والمقدور منه الفحص الموجب لليأس من العثور على دليل يتعلق بها فيما بين أيدينا وحينئذ تجري الأصول بلا معارض ، والسبب في ذلك ، أن العلم الإجمالي المذكور ينجز وجوب الفحص المقدور لا غير ، وبعد اليأس يكون قد قام بما وجب عليه ، وحينئذ يرى الفقيه نفسه عاجزا عما زاد عن ذلك ، ومع اعتقاده بعجز نفسه عنه ، يكون تكليفه به تكليفا بغير المقدر.

فائدة يتضح بها ما حاولناه.

اعلم أن اليأس ضرب من ضروب العجز بنظر العقلاء ، ولذا لا يجد اليائس في نفسه بمقتضى طبيعته البشرية ، باعثا على طلب كل أمر ميئوس منه عادة ، وإن كان محبوبا له ، ويعده العقلاء إذا طلبه سفيها ومضيعا للوقت.

وتوهم انحلال العلم الإجمالي بعد الفحص عن جملة من الوقائع ، وبعد العلم بحكمها وجودا وعدما ، من جهة أنا نحتمل انطباق المقدار المعلوم تفصيلا بالنحو الآنف بعد الفحص على ما كان معلوما بالعلم الإجمالي قبله ، توهم فاسد. فإنه وإن كان له وجه في نفسه ، إلا أنه خارج عن مورد التوهم ، لأن هذا لا يتصور عند الشروع في الفحص عن أول واقعة ، ثم عن أخرى ، ثم عن ثالثة ، وهكذا .. وإنما يتصور بعد الفحص عن جملة كثيرة من الوقائع ، وحصول العلم بحكمها ، أو العلم بعدم وجود حكم لها فيما بين أيدينا من النصوص ، وبعد حصول احتمال الانطباق المذكور. وكل ذلك غير حاصل عند الشروع في الفحص.

ومع ذلك ، فإن دعوى انحلال العلم الإجمالي المذكور بعد الفحص عن جملة من الوقائع ، التي تحتمل أن تكون هي المعلومة بالإجمال ممنوعة ، بل يكون حاله حال الشبهة المحصورة إذا تنجز العلم الإجمالي فيها ، وعلمنا بحكم بعض

٢٣٨

أطرافها ، واحتملنا انطباقه على المعلوم بالإجمال ، فإن الظاهر أنه لا ينحل بذلك بعد تنجزه ، نعم ، هذا ينفع إذا اقترن حدوث العلم الإجمالي بالاحتمال المذكور. كما لو اقترن علمنا بنجاسة عدد من الأواني في ضمن عدد أكثر مع علمنا نجاسة عدد معين واحتملنا انطباقه على المعلوم بالإجمال ، لعدم حصول اليقين بوجود النجاسة في الباقي حينئذ ، ولعدم تنجز هذا العلم قبل ذلك.

ودعوى انحلاله حينئذ ، لكون خروج الوقائع المعلومة ، بمنزلة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ممنوعة. لأن الخروج عن محل الابتلاء ، إذا كان قبل حصول العلم الإجمالي ، كان منحلا. وأما إذا كان بعده فلا ، ولا فرق في ذلك بين كون الخارج عن محل الابتلاء بقدر معلوم النجاسة ، وبين احتمال كونه بقدره.

والتحقيق في دفع هذه الشبهة أن يقال : أما دفعها بالنسبة لاحتمال المناقضة فإنه يتضح بملاحظة ما مر في قاعدة احتمال المناقضة. وأما دفعها بالنسبة لجواز الرجوع للأصول بعد الفحص ، بالنسبة للواقعة المفحوص عنها ، فبأن العلم الإجمالي المذكور ، كان يقتضي وجوب الفحص والتعلم فقط ، ولازم ذلك وجوب التوقف حتى يحصل الفحص ، والمفروض أنه قد حصل ، وحينئذ فإن علم بالحكم عمل به ، وإلا جرت الأصول ، ولا يبقى وجه للتوقف بالنسبة للواقعة المفحوص عنها بالضرورة.

ويمكن الاستدلال لكون العلم الإجمالي المذكور يقتضي وجوب الفحص لا غير ، بأنه هو الذي فهمه العلماء ، ولذا أجروا الأصول في الطرف المفحوص عنه بعد اكتمال الفحص. ولو فهموا منه إيجاب الاحتياط من حيث العمل ، لامتنع جريان الأصول فيه ، لعدم انحلال العلم الإجمالي من هذه الحيثية بإتمام الفحص عنه ، كما قدمنا ذلك كله.

وباستحالة اقتضائه الامتثال العملي ، لأن الامتثال التفصيلي من الجاهل بحكم الشيء مستحيل بالضرورة ، والامتثال الإجمالي بالجمع بين محتملات أطراف العلم الإجمالي المذكور يستدعي الإحاطة بها أولا ، ثم الإتيان بجميع المحتملات.

٢٣٩

ولا ريب أن الإحاطة بأطراف المحتملات بالنسبة لجميع الأحكام المشتبهة متعذر لعدم تناهي تلك المحتملات بسبب اشتباه جميع الأحكام حسب الفرض ، ولو فرض أنه أحاط بها ، فلا ريب أن وقت المكلف لا يتسع للإتيان بكل ما يحتمل وجوب الإتيان به.

وبأن المحكم في شئون الامتثال هو العقل ، وهو لا يلزم المكلف بالمكلف به ، إلا بعد وصول التكليف لمرتبتي الفعلية والتنجز ، والتكليف لا يكون فعليا إلا بعد العلم به ، ولا يكون منجزا إلا بعد كونه مقدورا ، والعلم الإجمالي المذكور ليس فيه قليل ولا كثير من البيان الموجب للفعلية ، لفرض الجهل بحكم جميع الأطراف ، فكيف يكون فعليا ، والاحتياط متعذر ، فكيف يكون منجزا.

إذا عرفت هذا كله ، عرفت الفرق بين العلمين ، أعني العلم الإجمالي المنجز ، كما في الشبهة المحصورة الجامعة لشرائط التنجز ، وبين العلم الإجمالي غير المنجز كما في غيرها. وعرفت أن الأول يدعو للامتثال كالعلم التفصيلي ، وأن الثاني لا داعوية فيه لذلك ، وعرفت أيضا أن جريان الأصول في طرف من أطراف الأول ، يستدعي احتمال المناقضة لحكم العقل المنتهى إلى المناقضة المستحيلة بخلاف الثاني.

وعرفت الفرق بين الاحتمالين ، أعني احتمال مناقضة العقل لنفسه ، وأنه غير معقول ، واحتمال مناقضة الشارع لما حكم به ، كما هو الحال بالنسبة للأصول الجارية في الشبهات البدوية ، وأنه معقول وواقع بوجه من الوجوه.

وعرفت بأن المقصود بالاحتمال المنجز هو الاحتمال المقرون بعلم إجمالي جامع لشروط التنجيز ، وان المقصود بالاحتمال غير المنجز هو الاحتمال المقرون بعلم إجمالي غير جامع لشروط التنجيز.

وعرفت أن العلم الإجمالي بأصل التكليف ، ينجز وجوب الفحص وطلب العلم لا غير ، وينحل بالنسبة للواقعة المفحوص عنها بعد حصول الفحص ، وأنه يبقى بحاله بالنسبة لما عداها ، وأنه يجب الفحص عنه.

ويكون حال هذا العلم الإجمالي ، حال من علم بوجوب أمر مردد بين

٢٤٠