قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

يلزم من عدم تشريعها ضرر. فهو مخصص لعموم ما شرع لا مرخص في تشريع ما لم يشرع ، لأن لسان الحديث لسان نفي ، فهو ينفي ما شرع ، وليس لسانه لسان إثبات ليكون صالحا لتشريع ما لم يشرع ، ولأن النفي إنما يحسن بالنسبة لأمر ثابت ، أو في مقام الثبوت ، أو في مقام توهم الثبوت ، لأنه إما رفع وإما دفع ، وإما كاشف عن عدم ثبوت المقتضي من رأس ، وذلك كله يدل على ما ذكرناه ، ثم أن ذلك يستلزم تأسيس فقه جديد يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فيكون لنا ، في كل عصر وفي كل مصر ، شريعة تباين شريعة العصر السابق ، وتخالف المصر الآخر ، وربما يخالف المجتهد بقية المجتهدين في عصره ومصره ، لاختلاف الملاحظات باختلاف الزمان والمكان والعقول.

ومن الموارد التي تتفرع على هذا ما أفتى به المشهور من عدم ضمان منافع الحر المفوتة دون المستوفاة ، كما لو حبسه الظالم. فإن الحكم بعدم ضمان منافعه ضرر عليه فيجب الحكم بالضمان مثلا ، لحديث نفي الضرر.

ومنها : لو كان الزوج يديث على زوجته أو يجبرها على معاشرة المقامرين والسكارى أو يسكنها مع من لا تطيق السكنى معه ، فطلبت الطلاق وامتنع الزوج منه مصرا على المنكرات الآنفة ، فإنه يلزم من عدم طلاقها ضرر عليها في دينها ودنياها ، فيجب على الحاكم حينئذ طلاقها بغير رضى الزوج لحديث نفي الضرر مثلا.

ومنها : ما لو غرس إنسان غرسا ، أو زرع زرعا ، أو أنشأ بناء ، أو أجرى نهرا في أرض غيره ، بحق إلى أجل وانتهى الأجل ، أو بغير حق ثم لم يرض صاحب الأرض ببقاء ذلك ، وكان تحويله ضررا عليه ، فإنه يجب الحكم بإبقائه ، لحديث نفي الضرر.

ومنها : ما لو أراد شخص أن يبيع أو يشتري ، أو يؤجر أو يستأجر ، أو يوصي أو يوصى إليه ، وامتنع الطرف المقابل من ذلك ، وكان في امتناعه ضرر عليه ..

ومنها : ما لو أراد رجل زواج امرأة ، أو أرادت هي الزواج منه ، وكان

٢٠١

الامتناع ضررا على الآخر.

ومنها : ما لو طلب العبد من سيده عتقه أو تدبيره ، أو مكاتبته فامتنع المولى ، وكان في امتناعه ضرر على المملوك.

ومنها : ما لو وجد شخص مالا لغيره ، في عمران أو قفر ، وكان ترك حفظه يوجب ضررا على مالكه ، ومنها ، ومنها ، ...

وفي هذه الموارد لا يسوغ الاستدلال بحديث نفي الضرر لما مر من أن الحديث يرفع ما شرع ضرريا ، ولا يشرع ما يتدارك بتشريعه الضرر ، ومن أن لسانه لسان نفى لا إثبات ومن أن عدم الحكم ليس حكما ليكون محكوما له ، مضافا إلى أن فتح هذا الباب يستلزم تأسيس فقه جديد ـ والمسائل التي استدل لها غير الناضجين بلا ضرر ، هي الأولى والثانية والثالثة.

ولكن التحقيق فيها : أن منافع الحر لا تضمن ، لأن الحر لا يملك منافع نفسه (١) ولأنه أسمى من أن يدخل تحت الاستيلاء المالكي ، ولأن ما لا يضاف لا يضمن ولو كان مالا. فالإسلام دين كريم رفع مستوى الحر عن مستوى العبد ، وهو يعزر من حبس الحر ظلما ، ويجبر الزوج على المعاشرة بالمعروف.

وأما في مثل زماننا هذا الذي غلّت فيه أيدي أهل العدل وتنكست أعلام الحق ، فإن الشارع يبيح لها النشوز ، لأن المساكنة ، إنما تجب إذا كانت غير ضررية وإذا كانت غير مستلزمة لمحرم أهم. ولو ثبت ولاية للحاكم الشرعي على حفظ النظام الخاص والعام جاز له الطلاق عملا بهذه الولاية ، لا عملا بقاعدة نفي الضرر ، والله المسدد للصواب.

الجهة الثامنة : في بيان أنها لا تشمل الأحكام العدمية إذا كان تركها مضرا بالمكلف.

الأحكام العدمية إذا كان تركها ضرريا لا تكون مشمولة للحديث ، مثلا إذا لزم من ترك المحرم ضرر ، لا ينقلب المحرم مباحا. فلو لزم من ترك الزنا أو ترك وطء الحيوان أو ترك شرب الخمر ، أو ترك السرقة ، أو ترك القتل ، أو ترك

__________________

(١) وقد أوضحنا هذا في مكاسب الفقيه. المخطوط.

٢٠٢

الغيبة ، أو ترك النميمة ، أو ترك الظلم ، ضرر ، لا يكون الفعل حينئذ مباحا.

نعم ، اذا لزم من ترك المحرم ضرر بمعنى الوقوع في محرم أعظم ، أو ترك واجب أعظم كما لو لزم من ترك غصب السفينة هلاك غريق مؤمن كان المورد من باب تزاحم الحكمين ، لا من مورد (لا ضرر) ، وجاز أو تعين ارتكاب المهم مثلا ولو اجتمع رجل بأجنبية في صحراء أو جبل ، ولزم من ترك مضاجعتها اصطلام الحيوانات لهما ، أو الهلكة من البرد ، أو غير ذلك مما هو أهم من حرمة المضاجعة ، جازت المضاجعة. فإن كان الخوف عليهما بنسبة واحدة جاز لهما معا ، وإن كان من جانب واحد جاز له ، وأما الآخر فله حكم آخر ، إلّا أن يدخل في وجوب حفظ النفوس.

وفي المثال : لو دار الأمر بين الوقوع في الزنا وبين الوقوع في الهلكة ، فربما يقال بأن وجوب حفظ النفس أهم.

فلو ساغ فعل المحرم حينئذ ، لم يكن ذلك من جهة أن (لا ضرر) ترفع حرمة الحرام الذي يكون امتثاله ضرريا ، بل كان من جهة المزاحمة بين محرمين أو بين محرم وواجب.

ثم إنه إذا ثبت وجوب حفظ الأنفس والأعراض والأموال ، وكان ضرريا أو حرجيا بالنسبة لبعض المكلفين ، ارتفع عنه الوجوب بلا ضرر ولا حرج ، إذا كان الحرج زائدا عن طبيعة الحكم ، فإن وجوب الحفظ حكم أولي ، فيكون محكوما للقاعدة.

ومن هذا تعرف أن وجوب الحفظ ليس من جهة ثبوت وجوب دفع الضرر عن الغير بلا ضرر ، بل من جهة ثبوته بدليل آخر. ومثله صيانة الأعراض وحفظ الأموال ، لو ثبت وجوب حفظ مال الغير ، إذا كان في معرض التلف ، أما إذا كان أمانة شرعية أو مالكية فإنه يجب حفظه على الأمين بلا ريب ، واما فيما عدا ذلك فهو مفتقر إلى الدليل ، ولعل ادلة كراهة الالتقاط تقتضي العدم ، والحمد لله رب العالمين.

٢٠٣

الجهة التاسعة : في تنبيهات قاعدة لا ضرر.

التنبيه الأول : في أن الضرر المنفي هل هو الضرر الواقعي أو الاعتقادي احتمالان.

ومقتضى تعليق الحكم على عنوان ، هو أخذ ذلك العنوان موضوعا له بلا قيد ولا شرط ، وما نحن فيه كذلك.

نعم : لو قلنا بأن الألفاظ موضوعة لمعانيها المعلومة لا الواقعية ، كان مفاد الحديث نفي الضرر المعلوم. ولكن الصغرى ممنوعة إثباتا بل ثبوتا ، كما حرر في أوائل الأصول اللفظية. والتحقيق هناك أن اللفظ موضوع لطبيعة المعنى.

وتمهيدا للمقصود ينبغي أن يعلم أن تعنون الشيء بعنوان ثانوي يكون على ثلاثة أنحاء :

أولها : أن يكون بين العنوان والمعنون هو هوية تصحح حمله عليه بالحمل الشائع الصناعي ، كالقيام للتعظيم ، فإنه يصح أن يقال : القيام لزيد تعظيم له. ومن هذا النوع اللزوم في العقود ، والوجوب في الأحكام التكليفية. فإنه يصح أن يقال : لزوم البيع الغبني ضرر ، ووجوب الوضوء على المريض ضرر.

ثانيها : أن يكون مسببا توليديا ، كالضرر الحاصل للمريض من غسل العضو ، فإنه بملاحظة تسببه عن وجوبه يكون تسببا تشريعيا ، وبملاحظة تسببه عن فعل المكلف يكون تسببا تكوينيا.

ثالثها : أن يكون أثرا من آثاره التي لا تصح معها النسبة ولا الحمل ولا التعنون كالسنبل بالنسبة لحرث الأرض ، فإنه لا يصح أن يقال : الحرث صير الزرع سنبلا ، ولا يصح أن يقال : بذر الحب صير الزرع سنبلا ، مع أن السنبل أثر من آثارهما.

أما الأول فيصح تعلق التكليف به نفيا وإثباتا بلا عناية ، فيصح أن يقال : عظم زيدا أو لا تعظمه. ويقصد به الأمر بالقيام أو النهي عنه.

وأما الثاني : فيمكن تعلقه به بعلاقة السبب والمسبب بكلا نوعيه! مثلا

٢٠٤

إذا اعتقد عدم الضرر فتوضأ فتضرر ، يصح ان يقال : وجوب الوضوء في هذا الحال ضرري ، كما يصح ان يقال غسل العضو ضرري. فإن كان الضرر محمولا على الوجوب كان مرفوعا ، لأن (لا ضرر) ترفع الحكم الضرري ، فيكون وضوءه باطلا ، أو غير واجب. وإن كان الضرر محمولا على فعله لم يكن مشمولا إلى (لا ضرر) لأن أفعال المكلفين الخارجية لا تنالها يد التشريع بالرفع والوضع.

وربما يقال : بترجيح الحمل في مثل الفرض على اسبق العلل ، والحكم الشرعي اسبقها كما قد يقال بترجيح الحمل على اقربها للمسبب ، وفعل المكلف اقرب.

والتحقيق أن المدار على ما يستظهره العرف ويستذوقه. وهم لا يلتفتون للاسبق والاقرب ، بل المدار في الظهور على انس اللفظ بالمعنى ، وهو لا يرتبط بهذه الامور.

واما الثالث : فيمتنع تعلقه به ولو بالعناية لانتفاء العلاقة المصححة للاستعمال ، ولاستنكار الطبع لمثله ، حتى مع وجود العلاقة. فإن صحة الاستعمال مشروطة بامرين : وجود العلاقة واستحسان العرف :

إذا عرفت هذا فاعلم : أن المسائل الضررية في الفقه كثيرة ، وأن احكامها متنافية بالنظر البدوي. وسيرتفع هذا التنافي ، بحول الله وقوته ، بملاحظة التنبه إلى أن قسما منها فيه نصوص خاصة : كالصوم الضرري وكافعال الصلاة الضررية ، والطهارات الضررية ايضا ، فإن فيها نصوصا ، كما في طهارة ذوي الجبائر ، وكما في التيمم ، مع خوف الضرر من الماء للكسير وربما يبتني قسم منها على حرمة الاضرار بالنفس والبدن ولكن الفقهاء يذكرون (لا ضرر) في ضمن الادلة بنحو الاستطراد لا الاعتماد. ثم جاء متأخرو المتأخرين منهم فجعلوها العمدة ، وكثر الاشتباه.

قالوا : لو اعتقد الضرر أو ظنه وتوضأ بطل وضوؤه وإن لم يتضرر ـ (١) ـ.

__________________

(١) لاحظ مبحث التيمم.

٢٠٥

وقالوا : لو اعتقد عدم الضرر فتوضأ فتضرر صح وضوؤه ، ومثله الغسل في جميع ما مر بحسب الظاهر. وقال في العروة في الحج في مسألة ٦٤ من بقية شرائط الاستطاعة باجزاء حجه لو اعتقد عدم الضرر أو الحرج فحج فبان الخلاف ، ووافقه النائيني رحمه‌الله. وظاهر هذه الفروع أن الضرر انما يؤثر في رفع المشروعية بوجوده الاعتقادي لا الواقعي ، فإذا علم بالضرر كان الحكم مرفوعا ، ويكون الظن بوجوده ملحقا بالعلم بوجوده ، والحاقه به مفتقر إلى الدليل.

واما في صورة النسيان والجهل ، فإنه يصح لعدم تناول حديث لا ضرر له ، لأنه يرفع الضرر المعلوم حسب الفرض.

وهذه الفروع تصح جميعا كما ذكروه بناء على حرمة الاضرار بالنفس والبدن تكليفا ، لأن حرمته حينئذ كحرمة الغصب بالاضافة إلى الصلاة ، فإن الغصبية ليست من موانع الصحة تعبدا ، فإذا اعتقد بالضرر ، وعلم بحرمته فسدت الصلاة وانما تفسد من جهة عدم تمكنه من قصد القربة ، لامتناع التقرب بالمبغوض ، واما إذا اعتقد بعدم الضرر ، أو بعدم حرمته ، جهلا أو نسيانا فلا حرمة ، لأنه عاجز والعاجز غير مكلف فعلا ، وحينئذ لا يكون فعله مبغوضا ، ولذلك يكون متمكنا من التقرب وتصح الصلاة منه. وربما يقال أن المانعية منتزعة عن الحكم التكليفي ، ومن المعلوم أن الحكم التكليفي إنما يتنجز في حق الملتفت اليه دون الغافل عنه.

والتحقيق أن أمر هذه الفروع ينتظم حتى على هذا المبنى ، ولكنه ليس هو السبب في الفساد والصحة ، بل السبب فيهما أنه في صورة العلم أو الظن أو الشك مع عدم المعذر لا يتمكن من التقرب لعدم احراز المقربية ، مضافا إلى استقلال العقل بامتناع التقرب للمولى بما يحتمل كونه مبغوضا له ، بخلاف صورة الغفلة.

وقالوا : في خيار الغبن ، إن مدركه قاعدة نفي الضرر ، وإنه إن اقدم عليه عالما بالغبن فلا خيار ، وإن كان جاهلا به فله الخيار.

٢٠٦

وهذا بظاهره يخالف باب الوضوء ، لأنه يدل على أن الضرر لا يؤثر بوجوده الاعتقادي وإنما يؤثر بوجوده الواقعي ، ويخالف كلا المبنيين في المنفي بلا ضرر ، لأن المنفي فيها إن كان الضرر الواقعي لزم ثبوت الخيار مطلقا ، سواء علم بالغبن أو لم يعلم ، وإن كان المنفي فيها الضرر الاعتقادي لزم ثبوت الخيار إذا علم بالغبن ، وعدم ثبوته إذا لم يعلم به ، فالتمسك بحديث نفي الضرر في باب خيار الغبن لا ينتظم مع التمسك به في الطهارات ، ولا ينتظم في نفسه مع ما افتوا به في خيار الغبن.

ويمكن أن يقال أن المنفي بلا ضرر الضرر الواقعي ، ولكن إقدام البائع على البيع في حال علمه بالغبن يرجح لحمل ضرر على إقدامه فيقال : إقدامه على البيع الغبني ضرري ، والإقدام ليس حكما شرعيا فلا يشمله حديث نفي الضرر ، وحمله على اللزوم في هذا الحال ممكن ، ولكن حمله على الإقدام بنظر العرف أولى من حمله على اللزوم ، لأنهم يرونه هو أضر نفسه لا أن الشارع أضره. وأما في حال الجهل بالغبن فإن الضرر إنما ينشأ من لزوم المعاملة فيقال : لزوم البيع الغبني مع الجهل به ضرري. فالضرر حينئذ عنوان محمول على اللزوم متحد معه كالقيام للتعظيم. واللزوم حكم شرعي وضعي يرتفع بالحديث لفرض أنه ينفي الحكم المسبب للضرر واقعا لا اعتقادا.

إن قلت : لم كان الاقدام على البيع الغبني مخرجا لمورده عن القاعدة ، ولم يكن الاقدام على الوضوء الضرري كذلك؟ قلت : أولا أن رفع الضرر في باب البيع تدارك لحق المغبون ، وباقدامه يكون قد اسقط حقه ، وأما رفعه في باب الطهارة فهو حكم تعبدي ارفاقي. والحكم لا يسقط باسقاط المكلف به له ، بخلاف الحق. وثانيا أن الضرر في كل من البيع والطهارة ناشئ عن فعل المكلف بالنظر البدوي ، ولكنه في البيع يكون عنوانا للاقدام ، ومحمولا عليه وأما في الطهارة فإن الضرر يكون عنوانا للحكم الشرعي اعني الوجوب ، فإنه لو لم يجب الوضوء لم يغسل العضو ، ولو لم يغسل لم يتضرر ، فالضرر تصح نسبته للوجوب وتصح نسبته للغسل. ولكن العرف يرى أن احمل المعلول على أسبق علله في مثل الفرض أولى من حمله على أقربها ، ويكون حينئذ ظاهرا فيه.

٢٠٧

وثالثا : أن لا ضرر حكم امتناني ارفاقي. فرفع اللزوم في حال الجهل بالغبن فيه منة. واما رفع صحة الوضوء الضرري ، في حال الجهل بالضرر ، فلا منة فيه ، لأن نتيجة رفعه بطلانه ووجوب اعادته ، واعادة كل ما فعله به مما هو مشروط فيه.

واما في حال العلم بالغبن فلا موجب للامتنان في رفع اللزوم ، ويشكل بانه في حال العلم بالتضرر بالوضوء ايضا لا موجب للامتنان في رفع صحة الطهارة ، فينبغي أن لا يشمله الحديث ، وينبغي أن يصح ، وهذا اشكال لا مدفع له.

ودعوى بطلانه لعدم تمكنه من نية القربة صحيحة ، ولكنها خروج عن قاعدة ضرار ، إلى قاعدة حرمة الاضرار بالنفس والبدن. والمقصود ابطال الوضوء الضرري في حال العلم بتضرره به بقاعدة لا ضرر ، لا بحرمة الاضرار بالنفس ، فانه أمر آخر.

ثم أن في جريان لا ضرر في الاحكام التكليفية شبهات اخرى غير ما مر :

اولها : إن حديث نفي الضرر حديث امتناني ، وأنه نظير آية نفي الحرج ، وانه ينبغي أن يكون مفادهما رخصة لا عزيمة ، فيكون مفادهما رفع الالزام دون اصل المشروعية فإنه لا منة في رفعها. وينبغي حينئذ أن يصح الوضوء إذا كان حرجيا أو ضرريا ما لم يبلغ الضرر الحد المحرم لامتناع التقرب بالمحرم ، كما اوضحنا ذلك كله آنفا.

وستعرف في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى أن الشهيد في الدروس التزم بهذه النتيجة في بعض المسائل ، ومثله السيد في العروة في المسألة ٦٤ من مسائل بقية شرائط الاستطاعة.

ثانيها : إنه ينبغي أن يصح الوضوء بالملاك ، لأن حكومة الحديث على الادلة الاولية لا تستوجب رفع الملاك ، لأنها ليست كالتخصيص. والجواب أنه

٢٠٨

لا فرق بين الحكومة والتخصيص نتيجة ، كما هو الحق. ومن ثم استفاد المشهور من : لا شك لكثير الشك ، وجوب المضي ، وأنه عزيمة ، خلافا للمحقق الثاني حسب ما اتخطره فعلا.

ثالثها : إنه ينبغي أن يقال بصحته من باب الترتب بناء عليه كما هو الحق. وفيه أنه مغالطة ، لأن مورد الترتب الضدان المتزاحمان ، وما نحن فيه ليس منه بالضرورة (١).

والمتحصل : إن ابتناء احكام الطهارات الضررية على حرمة الاضرار بالنفس والبدن اولى من ابتنائها على قاعدة نفي الضرر. اللهم إلا أن يستفاد من الحديث الحرمة التكليفية. ومثل هذه التمحلات ، وإن امكن دفع الشبهة بها ، وتوحيد انطباق القاعدة على مواردها المختلفة ، إلا أن مثلها لا يعتمد عليه في استنباط الاحكام لأن الاجتهاد الصحيح هو استنباط الاحكام ، من الادلة ، بطرق تنتهي إلى مرحلة الوضوح عند العلماء.

واما الصوم الضرري ففيه نصوص خاصة. والمتبع فيه ما يستفاد منها ، لا من حديث نفي الضرر. فابتناؤه ايضا على نصوصه اولى من ابتنائه على القاعدة (٢).

التنبيه الثاني : في أن مفاد حديث (لا ضرر) ، هل هو رخصة أو عزيمة.

وبعبارة ثانية : مفاده ، هل هو رفع المشروعية أو رفع الالزام فقط.

فإذا كان مفاده رفع المشروعية بطل الوضوء الضرري ، وإذا كان مفاده رفع الالزام صح وضوؤه لو تحمل الضرر وتوضأ. وظاهر القوم أنه عزيمة كما

__________________

(١) الملاكان محرزان في باب الضدين وليس هنا إلّا تكليف واحد محرز نشك في بقائه وزواله.

(٢) ففي رواية الزهري عن علي بن الحسين (ع) قال : فإن صام في السفر أو حال المرض ، فعليه القضاء ، وفي رواية عقبة بن خالد عن ابي عبد الله (ع) ما ينافيه وجمع بينهما بحمل الاولى على من يضره الصوم في المرض ويحمل الثانية على من لا يضره [١].

٢٠٩

يلاحظ من فروع التنبيه الأول.

ولا يخفى أن حديث نفي الضرر يشبه أية نفي الحرج ، والمعروف فيها أنها رخصة لا عزيمة ، خلافا لما عن شيخ مشايخنا النائيني رحمه‌الله.

ولا ريب أن ظاهر الحديث والآية بدوا نفي اصل المشروعية. ولكن التحقيق الذي قربنا به مذهب المشهور في دليل نفي الحرج ، انه إذا كان مسببا عن الالزام كان هو المرفوع وحده. وإذا كان مسببا عن اصل المشروعية كانت هي المرفوعة. وينبغي أن يطرد هذا في حديث نفي الضرر ، ولا سيما وإن كلا منهما وارد مورد المنة والتوسعة ورفع المشروعية ينافيها ، لما فيه من الحرمان من اسباب الخير ، فتأمل ، ولما فيه من ايجاب اعادة الطهارة لو اقدم وتضرر بها ، واعادة ما صلاه بها كما مر في التنبيه الأول.

ويؤيد ما اخترناه ما صرح به في العروة الوثقى في الحج ، في آخر المسألة الرابعة والستين من بقية شرائط الاستطاعة ، قال ما لفظه : بل لأن الضرر والحرج إذا لم يصلا إلى حد الحرمة إنما يرفعان الوجوب والالزام لا أصل الطلب. فإذا تحملهما وأتى بالمأمور به كفى ، انتهى ... وخالفه النائيني رحمه‌الله فصرح برفعها لأصل المشروعية وقال في اول كلامه : لم يعرف أن هذا الطلب ، المدعى ثبوته بعد رفع الوجوب استحبابي أو نوع آخر ، وكيف تولد من رفع الوجوب ما لم يكن له عين ولا أثر سابق الخ .... وحكى المصنف رحمه‌الله في هذه المسألة عن المشهور : إنه لو تحمل الحرج ، أو لم يبال بأمن السرب ، لم يجزه حجه. وحكى عن الدروس أنه يجزيه ما لم يبلغ الضرر حد الحرمة ، وقارن بعض المناسك .. هذا ولو أن شيخ مشايخنا النائيني رحمه‌الله استند إلى ظهور الادلة البدوي لكان اولى له. وتوضيحا لما اورده ايرادا ودفعا ننقل هنا ما حررناه قديما بحرفه.

إن قلت : إن رفع الالزام في التكليفيات بلا حرج ، وابقاء اصل المشروعية فيه محذور وارد على المشهور لا مفر منه ، فإن المشهور قائلون بأن لا حرج رخصة لا عزيمة ، ويلزمهم أحد لازمين لا يمكنهم الالتزام بشيء منهما ،

٢١٠

لأنهم إن قالوا ببساطة الوجوب يرد عليهم إنه إذا ارتفع الوجوب بلا حرج ارتفع بتمامه ، لامتناع تبعض البسيط ، وحينئذ لا يبقى دليل على اصل المشروعية. وإن قالوا : إنه مركب من الطلب مع المنع من الترك يرد عليهم أما لزوم ارتفاع الجنس تبعا لارتفاع الفصل الذي تقوم به ، وحينئذ لا يبقى دليل على اصل المشروعية ، وأما بقاؤه بلا فصل وهو محال ، وأما بقاؤه في فصل جديد ، وهي دعوى بلا دليل ، لأن الآية المباركة تتكفل بالرفع ولا تتكفل بالوضع ، بل يمتنع تأدية كلا المضمونين بمثل قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ) ... ولا اقل من أنه لا ظهور لها في وضع شيء جديد.

قلت : هذا ايراد متين وجيه بحسب الصناعة ، والتحقيق في الجواب عنه أن الوجوب أمر بسيط ، وأنه أمر اعتباري منتزع عن البعث المؤكد الذي لا يرضى المولى بتركه. وهو معنى قولهم : إنه طلب الفعل مع المنع من الترك. وكذلك الاستحباب فإنه أمر بسيط منتزع عن الطلب غير المؤكد ، وهو معنى الرخصة في الترك. ودليل نفي الحرج يرفع مرتبة التأكد ، لأن الحرج يأتي من قبلها لا من قبل اصل الطلب بالضرورة ، وحينئذ لا يبقى إلّا الطلب ، وعنه تنتزع صفة الاستحباب ، أو اصل المشروعية التي لا تنفك في العبادات عن الاستحباب. والدليل على بساطة الاستحباب أن الاستحباب بعث ، ولا يعقل أن تكون الرخصة في الترك مقومة للبعث. لأن الترك أمر ينافي الطلب والبعث ، فكيف يكون مقوما لهما. ومنه يعلم أن عدم الرضا بالترك ايضا خارج عن حقيقة الوجوب لأنهما من سنخ واحد (١).

فرفع الوجوب معناه رفع صفة الالزام التي ينتزع عنها المنع من الترك ، وقضية تركيب الوجوب من جنس وفصل ، وتقوم الجنس بفصل جديد ، بعد ارتفاع فصله الذي وجد به ، قضية شعرية ، فإنه لا جنس ولا فصل ولا تقوم ، حتى بناء على التركيب لأن ذلك على تقدير تسليمه والاحاطة به ، انما هو في الماهيات التكوينية. ومتابعتنا للمنطقيين في ذلك متابعة وتقليد لمن قوله ليس

__________________

(١) وقد اوضحنا هذا في مباني الفقيه ، في الاوامر. وهو الكتاب الذي شرعنا في اعدام شطر من مسوداته.

٢١١

حجة فيما بيننا وبين الله. وانما هم قوم اجهدوا انفسهم ، وظنوا امورا فبنوا عليها ، وجعلوها أسسا وقواعد. ومما ذكرناه يتضح حال لا ضرر؟؟؟ على أن مفادها رخصة لا عزيمة.

ومن هنا يتضح أن لا ضرر ودليل نفي الحرج لا يجريان في المستحبات لعدم المنة ، ولأنه لا الزام فيها ، فلا يلزم منها ضرر أو حرج ، لبقاء اختيار العبد شرعا. والقاعدتان ترفعان الاحكام التي يلزم منها الضرر والحرج.

فالضرر والحرج ، المترتبان على فعل المستحبات ، يكونان عنوانا لفعل المكلف لا للتكليف ، ومحمولين على اقدامه لا عليه ... فلاحظ ما اسلفناه من التمهيد في التنبيه الأول والله المسدد للصواب.

التنبيه الثالث : في أن (لا ضرر) قاعدة مهملة.

حكي عن شيخنا المرتضى أن لا ضرر قاعدة مجملة من جهة كثرة التخصص الوارد عليها وأنه لا يمكن الأخذ بها في مورد من مواردها ، إلا بعد عمل الاصحاب بها فيه وأنها كقاعدة الميسور والقرعة.

والتحقيق : إن القواعد الثلاث ليست على نسق واحد ، وأنه لا يلزم من العمل بقاعدة لا ضرر مثل ما يلزم من العمل بقاعدة القرعة وقاعدة الميسور من اللوازم الفاسدة. وتوضيح حال قاعدة القرعة والميسور ، في المبحث المتعلق بهما من هذا الكتاب (١).

واما قاعدة لا ضرر فأهم ما يوجب دعوى اجمالها هو دعوى كثرة التخصيص ، ودعوى كون ذلك موجبا للاجمال ، والتحقيق أن كلا الدعويين ممنوعة.

اما منع الصغرى : اعني كثرة التخصيص ، فلا مكان دعوى كون الموارد الخارجة عن القاعدة خارجة تخصصا لا تخصيصا ، أو دعوى خروجها بجامع واحد مثلا ، أو دعوى كونها لم تبلغ من الكثرة مبلغا يوجب استهجان استعمال العام في الباقي عرفا.

__________________

(١) لاحظ قاعدة القرعة ٤٥ ص ١٥٩ (٣٩) أما قاعدة الميسور ففي الجزء الثاني المعد للطبع.

٢١٢

واما منع الكبرى : اعني لزوم الاجمال من كثرة التخصيص ، فلأن العمومات المخصصة على نحويين.

اولهما : أن يكون العام قضية خارجية ، مثل : اكلت كل رمانة في البستان وقتل كل من في المعسكر. فإن كثرة التخصيص في مثل هذا الفرض ، إذا أدّت إلى استهجان استعمال العام في الباقي لقلته عرفا ، كشف ذلك عن عدم إرادة مدلول العام كما لو تبين أنه أكل رمانتين ، أو قتل جنديان فإنه مستهجن قطعا ، سواء أكان الاستثناء بجامع واحد أو بدونه.

ثانيهما : أن يكون العام قضية حقيقية. ولا ريب أن كثرة التخصيص لا توجب الاستهجان فيه ، لأن الحكم فيها متعلق بالطبيعة الحاكية عن الافراد الفرضية الممكنة التحقق ، التي لا حد لها ولا حصر.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه يمكن أن يقال بدوا : إن مفاد قاعدة لا ضرر حكم شرعي والأحكام الشرعية كلها على نهج القضايا الحقيقية. وحينئذ فلا يضرها كثرة التخصيص. ويمكن أن يقال : إنها من قبيل القضايا الخارجية ، لأنها بعد فرض حكومتها على الادلة الاولية ، تكون ناظرة لها بعد الفراغ عن وجودها. ولكن مع ذلك لا يكون حالها حال القضايا الخارجية من حيث وهنها بكثرة التخصيص ، فإنه يمكن أن تكون ناظرة للادلة الاولية على تقدير تشريعها ، فتكون قضية حقيقية وهو غير بعيد. ولذا لا يلاحظ تاريخ صدورها وتاريخ صدور الادلة الاولية. وهذا كلام يطرد بالنسبة لجميع الادلة الحاكمة ، ويحسن التنبه له.

هذا كله مضافا إلى أمر مهم. وهو أن شمول القاعدة لجميع الادلة الاولية بالاطلاق ، لأن النكرة في سياق النفي ليست من ادوات العموم. ولو سلم كونها منها فهي تفيده من حيث افراد الضرر ، لا من حيث الادلة التي يكون الحكم المستفاد منها مسببا للضرر في بعض الاحوال. ولا يخفى أن وجود القيد يرفع الاطلاق من رأس ، لا أنه يزاحمه ويعارضه. فالمقام ليس من باب العام

٢١٣

والخاص اصلا. والاستهجان المذكور ثابت في باب العام والخاص ، وليس ثابتا في باب المطلق والمقيد. فكثرة التقييد لا توجب وقوف اطلاق المطلق ، إلا أن تكون هي قرينة على ذلك أو صالحة للقرينة ، وبهذا يتضح الفرق بين كثرة التخصيص وكثرة التقييد (١).

إذا عرفت هذا فلنذكر الموارد التي هي خارجة عن قاعدة لا ضرر تخصيصا أو تخصصا ، وهي امور.

منها : الخمس والزكاة والكفارات وانفاق المال في الحج.

ومنها : افعال الحج والصوم. وفيه : إن الحج والصوم إذا حصل منهما الضرر فإن وصل إلى حد الحرمة حرم وبطل ، مع العلم والالتفات ، وإلا صح كما اسلفناه في التنبيهين الاول والثاني. ويزيد الصوم بأنه يجوز الافطار بمجرد الخوف ، للنص ، كما هو المختار.

ومنها : وجوب غسل الجنابة على متعمدها ، وهو يعلم بأنه يتضرر به. فإنه منصوص ، وقد عمل بهذه النصوص غير واحد من القدماء. وفيه : إن المشهور بنوا على عدم وجوب الغسل ، وهو الذي اخترناه في ذلك المبحث ، وانها معارضة على كثرتها ببعض النصوص.

ومنها : ما لو تعمد في الليل أكل ما يوجب الضرر بالصوم في النهار. وقد حكى أستاذنا الكاظمي الخراساني في الدرس أنهم أفتوا بجواز افطاره. وذكر هذا الفرض ، إنما يحسن في المقام إذا كان ثمة من يقول بعدم جواز افطاره. وهذا الفرع مع سابقه من واد واحد ، غاية الأمر أن الأول منصوص والثاني لا نعرف فيه نصا.

ومنها : ما لو وقعت نجاسة في أحد مائعين ثمينين كالسمن والعسل ، فإن اراقتهما ضرر على صاحبهما. ولا نظن أحدا يرخص بتناول أحدهما عملا بلا ضرر. أو أنه يستخرجه بالقرعة من أجل تدارك الضرر.

ويمكن أن يقال بأن النجاسات ، إن كانت أمورا واقعية كشف عنها

__________________

(١) هذا وما قبله يصلح قاعدة في بيان الفرق بين كثرة التقييد وكثرة التخصيص.

٢١٤

الشارع ، كان ذهاب مالية المتنجس أمرا واقعيا : كالاحتراق. وهو ليس من المجعولات الشرعية ، فلا يشمله حديث لا ضرر.

وأما إذا كانت أمورا مجعولة سواء أكانت منتزعة عن الحكم التكليفي أو كانت موضوعا له ، كان خروجها عن القاعدة تخصيصا للقاعدة بالاجماع والضرورة مثلا.

ومنها : ما قالوه كما قيل : في أنه لو غصب لوحا ووضعه في السفينة ، أو غصب أرضا وغرس فيها غرسا ، أو بنى فيها بناء ، أنه يجب عليه ارجاع اللوح واخلاء الأرض وإن تضرر ، إذا طلب المالك منه ذلك. وفيه : أن الضرر هنا لم يحصل من قبل الحكم الشرعي ، بل من قبل إقدام الغاصب. ويمكن أن يكون خروجه تخصيصا بقوله (ص) : ليس لعرق ظالم حق. وقوله (ص) : الحجر المغصوب في الدار رهن على خرابها. ويمكن أن تكون أدلة الغصب حاكمة على حديث لا ضرر لأن حرمة المغصوب أيضا عنوان ثانوي. ويمكن أن يقال : أن وجوب رد المغصوب شرع ضرريا نظير الخمس والزكاة.

التنبيه الرابع : في تعارض الضررين :

وفيه صور كثيرة :

منها : تعارضهما الناشئ من تعارض السلطنتين كما لو كانت سلطنة كل من الجارين على ماله تستدعي ضررا على الآخر منهما. كما لو حفر كل منهما بئرا في ملكه دفعة واحدة ، وتبين أن كلا منهما مضرة بالأخرى ، ولا ينبغي الاشكال في كون كل منهما ممنوعا من التصرف في ملكه ، إذا كان تصرفه مضرا بالآخر ، لفرض حكومة لا ضرر على قاعدة السلطنة ، وحينئذ فلا تعارض بين السلطنتين ولا بين الضررين لانتفائهما بانتفاء موضوعهما. وفيه : أن مقتضى منعهما من التصرف هو تغوير البئرين وطمهما ، لأن إبقاءهما موجب لاستمرار الضرر ، وهو كما ترى ، ويمكن أن يقال أن المعارضة حينئذ بين السلطنتين ، لأن مقتضى إطلاق قاعدة السلطنة هو مشروعية سلطنة المالك على ملكه ، أضرت بالجار أم لا ، فيتعارض الاطلاقان ويدور الأمر بين أن لا ينطبق على شيء منهما بدعوى

٢١٥

قصوره عن شموله لمثل الفرض ، وبين صدقه على أحدهما لمرجح من أهمية أو غيرها ، وهو غير بعيد عن مذاق العرف البدوي. فإن قصر ـ الدليل عن شمولهما ، أو تساقط للتعارض ، حرم التصرف على كل منهما في ملكه ، لأنه إنما كان يحل له التصرف في ملكه لقاعدة السلطنة ، والمفروض أنها لا تشمل مثل هذا المورد. وحينئذ لا يبقى مورد لقاعدة نفي الضرر ، لأنها إنما تحكم على السلطنة الضررية. والمفروض أنه بعد قصور الدليل عن شموله ، أو بعد التساقط بالمعارضة لا سلطنة. فتنتفي قاعدة الضرر بانتفاء موضوعها.

وأما إذا قلنا بأن المورد من باب المزاحمة ، تعين جريانها لنفي سلطنة الأكثر إضرارا فتكون السلطنة الأشد ضررا منفية ، وتبقى السلطنة التى هي أقل ضررا بحالها.

ومنها : تعارض الضررين الناشئ من السلطنة واللاسلطنة. كما لو استأجر شخص أرضا ليزرعها ، واشترط إبقاءه مدة يبلغ الزرع في مثلها عادة ، ثم احتاج إلى إبقاءه بعد انتهاء المدة ، وله صور أربع :

الأولى : أن لا يلزم على صاحب الأرض ضرر بالإبقاء ولا على صاحب الزرع ضرر بالقلع ولا ريب في وجوب القلع إذا طلبه صاحب الأرض لقاعدة السلطنة ، وهذه الصورة خارجة عن تعارض الضررين ، كما هو واضح.

الصورة الثانية : أن يلزم الضرر على صاحب الأرض بالإبقاء ، ولا يلزم الضرر على صاحب الزرع بالقلع ، وهي أوضح من سابقتها ، لأن المفروض أن صاحب الزرع لا حق له ، ولا يتضرر بالقلع فالمقتضى للقلع موجود والمانع مفقود.

الصورة الثالثة : أن يلزم على صاحب الزرع ضرر بالقلع ، ولا يلزم على صاحب الأرض ضرر بالإبقاء ، وحكم هذه الصورة يستفاد من رواية الغنوي ، فإن اعمال سلطنة صاحب الأرض حينئذ ضرار ، لأنه اضرار بالغير بلا نفع له ، وينبغي التنبّه إلى أن نفي سلطنة صاحب الأرض لا يستلزم نفي الأجرة لأنها من آثار الملك لا من آثار السلطنة وهي ، حينئذ ، كالأكل في

٢١٦

المخمصة بناء على ثبوت الضمان فيه ، وليس هذا من موارد قاعدة : الإذن في الشيء إذن في لوازمه.

الصورة الرابعة : أن يكون في إبقاء الزرع ضرر على صاحب الأرض ، وفي قلعه ضرر على صاحب الزرع. وحينئذ ففي تطبيق (لا ضرر) على سلطنة صاحب الأرض خاصة مطلقا ، حتى لو كان تضرره بالإبقاء ، أكثر من تضرر صاحب الزرع بالقلع ونتيجة ذلك إبقاء الزرع مثلا ، أو تطبيقها في حق صاحب الزرع خاصة مطلقا حتى لو كان تضرره بالقلع أكثر من تضرر صاحب الأرض. ونتيجة ذلك ، وجوب قلع الزرع أو ملاحظة أقوى الضررين. فمن كان اضراره بالآخر أكثر ، طبقت في حقه لا ضرر ، ورفعت سلطنته بها ، وبقي الآخر على سلطنته. احتمالات أربعة ، أقواها الأخير ، لأن لا ضرر حكم امتناني ، فإذا لزم من جريانها في مورد من مواردها ضرر على الآخر أكثر من ضرره ، كان جريانها فيه خلاف المنة ، فلا يكون ذلك المورد موردا لها عرفا لانصرافها عنه بمقتضى قرينة المنة. فإذا فرض أنه لزم من تطبيقها في حق صاحب الأرض ضرر عليه أكثر من صاحب الزرع ، كان رفع سلطنة صاحب الأرض بلا ضرر خلاف المنة ، وتعين رفع سلطنة صاحب الزرع. ولو فرض أن صاحب الزرع يتضرر بالقلع أكثر من صاحب الأرض ، يكون رفع سلطنة صاحب الزرع بلا ضرر خلاف المنة ، ويتعين رفع سلطنة صاحب الأرض بلا ضرر.

قلت : الظاهر أن هذا متين جدا ، ومع ذلك يمكن أن يقال : لا ريب أن صاحب الأرض مسلط على أرضه ، وأنه عند ما يطالب بإخلائها من الزرع إنما يطالب بالسلطنة على أرضه ، ويريد الانتفاع بها ، ولا يريد الانتفاع بنفس الزرع بوجه من الوجوه ولا ريب أن مطالبته حق ثابت له شرعا ، بمقتضى قاعدة السلطنة ، وأما صاحب الزرع فإنه مسلط على زرعه ، ولا يجوز لغيره مزاحمته في سلطنته عليه ، لأن ذلك ثابت له بمقتضى قاعدة السلطنة ، ولكنه في حاجة إلى إبقائه في أرض غيره ، ليدفع الضرر بذلك عن نفسه ، ومن أجل ذلك يتضح أن صاحب الزرع يطالب بالسلطنة على زرعه وعلى أرض غيره.

٢١٧

لأجل أن ينتفع بها وحينئذ نقول : إن مطالبة صاحب الأرض بإخلاء أرضه مطالبة بما هو له ، وأما مطالبة صاحب الزرع بإبقاء زرعه ، فإنها مطالبة بما ليس له ، وتضرره بالقلع لا يجعل له حقا في أرض غيره ، وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) في رجل اكترى دارا وفيها بستان ـ إلى أن قال (ع) : عليه الكراء ويقوم صاحب الزرع والغرس قيمة عدل ، فيعطيه الغارس إن كان استأمره في ذلك ، وإن لم يكن استأمره في ذلك فعليه الكراء. وله الغرس والزرع ، يقلعه ويذهب به حيث شاء (١). وينبغي التنبه إلى أن حرمة التصرف في ملك الغير من الأحكام العدمية التي لا يشملها حديث نفي الضرر ، نظير حرمة الغصب وشرب الخمر والزنا وقتل النفس المحترمة ، فإن من كان يتضرر بترك هذه الأمور ، لا يستبيحها بحديث نفي الضرر.

نعم ، ربما يستباح بعض هذه الأمور إذا زوحم بما هو أهم منه ، كاستباحة غصب السفينة ، لجعلها وسيلة لإنقاذ الغريق.

ثم إن إبقاء صاحب الزرع زرعه ، وإن كان بدوا تصرفا في ملكه ، إلا أنه لبا تصرف في أرض غيره. والتصرف في ملك الغير ممنوع منه بمقتضى دلالة قاعدة السلطنة الالتزامية.

إذا عرفت هذا ، فالتحقيق أن المقام ليس من باب التزاحم ، ولا التعارض ولا التوارد.

أما كونه ليس من باب التزاحم ، فلأن مورد التزاحم الملاكان المحرزان الثابتان في حق فاعل واحد مختار ، لا تتسع قدرته إلا لأحدهما كإنقاذ الغريقين اللذين يعلم بوجود الملاك المقتضي لإيجاب إنقاذهما. ولذا لو قدر المكلف على إنقاذهما معا وجب ، ولا تزاحم ، نعم لو لم يقدر إلا على أحدهما تعين محتمل الأهمية ، وإن تساويا تخير ، ولو عصى الأهم وامتثل المهم ، أمكن التقرب به بالملاك ، أو بالأمر بناء على الترتب ، وهو لا ينتهي إلى اللامقتضي ، لأن

__________________

(١) الوسائل م ١٣ ب ٢٢ من أحكام الاجارة ص ٢٨٢ ح ١.

٢١٨

المراحمة ترفع فعلية التكليف بالمهم لا أصل التكليف به. وأنت ترى أن شيئا من ذلك لا ينطبق في ما نحن فيه ، لأن الضررين واردان على شخصين لا على شخص واحد ، ولأن القضية ليست قضية قدرة وعجز ، بل قضية تردد في انطباق الدليل وعدم انطباقه ، فإنا نعلم في الفرض إما أنه لا ملاك لشيء منهما لقصور الدليل عن شمول شيء منهما وإما أنه ينطبق على أحد الموردين دون الآخر ، فيكون من باب اشتباه ذي الملاك بما لا ملاك له ، ولأنه لا معنى للتخيير هنا ، لأن كلا منهما يختار رفع الضرر عن نفسه. وتخيير الحاكم حسن ، ولكنه مفتقر إلى الدليل ، بل الدليل على خلافه لأن مقتضى الأصل عدمه ، مع أن فيه القاء للحاكم في ضرر التهمة ، ودفع التهمة بالقرعة حسن ، ولكن لا دليل على مشروعيتها هنا.

مضافا إلى أن التزاحم من شأن الوجوديات لا العدميات ، لأن عالم العدم يتسع لجميع الاعدام بالضرورة ولأن العدميات لا اقتضاء لها ولا تشكيك فيها فإنه لا ميز في الاعدام من حيث العدم ، والتزاحم يكون بين المقتضيات. وأما التزاحم بين وجودي وعدمي فإنه غير معقول أيضا ، لعدم التنافي بينهما بالضرورة ، وما نحن فيه من هذا الباب ، فما عن شيخنا المرتضى ، والمحقق صاحب الكفاية ، وشيخ مشايخنا النائيني رحمه‌الله (من كون المقام من باب التزاحم ، فالأكثر اضرارا بالآخر تجري في حقه قاعدة نفي الضرر ، ويثبت الحق للآخر الأقل ضررا) غير واضح.

وقد تحصل أن الذي ينبغي أن يقال أن صاحب الأرض مسلط على أرضه ، ولكن سلطنته ، لما كانت مضرة بصاحب الزرع ، ارتفعت بحديث نفي الضرر ، ثم يقال أن رفعها به وإن كان فيه منة على صاحب الزرع ، إلا أنه يستلزم تضرر صاحب الأرض حسب الفرض ، ورفع الضرر الذي يتولد منه الضرر لا منة فيه ، ولا إرفاق ، وحينئذ تبقى قاعدة السلطنة في حق صاحب الأرض بلا معارض ، لأن صاحب الزرع مسلط على زرعه ، وليس له سلطنة على أرض الناس ، ولو سلمنا أن سلطنة صاحب الأرض على أرضه ،

٢١٩

ارتفعت بلا ضرر ، فلا نسلم أن ذلك يستلزم جعل سلطنة لصاحب الزرع عليها ، لأنه مسلط على زرعه ، وليس مسلطا على أرض الناس ، ولأن لا ضرر ترفع ولا تضع ، ودعوى ثبوت الملازمة بين ارتفاع سلطنة صاحب الأرض ، وبين ثبوت السلطنة عليها لصاحب الزرع مفتقرة إلى الدليل ، ودعوى إمكان استفادة ذلك من حديث نفي الضرر في غاية البعد لأن لسانه لسان رفع وليس لسان وضع.

وعلى هذا تكون النتيجة أنه لا طريق لنا لاستباحة إبقاء الزرع في الأرض ، بل المرجع أصالة حرمة التصرف في هذه الأرض بدون إذن المالك أو إذن الشارع ، ولا شيء من ذلك هنا كما أوضحناه آنفا ثم : إنه لو فرض أن سلطنة صاحب الزرع على زرعه تستوجب سلطنة على أرض غيره إذا كان ذلك الزرع فيها تكون هذه السلطنة مضرة بصاحب الأرض وتكون مرفوعة بلا ضرر ، وبعد فرض رفع سلطنة كل من صاحب الزرع ، وصاحب الأرض ، يصبح المرجع في المقام أصالة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه ، ولا ريب أن إبقاء الزرع في الأرض ، في هذا الحال تصرف فيها بدون إذن مالكها ، ويتفرع على هذا وجوب إخلائها من الزرع ، ومتى أخليت أصبح صاحب الأرض مسلطا على أرضه ، لوجود المقتضى ، وفقد المانع ، ومع امتناع صاحب الأرض من إخلائها يتولاه الحاكم الشرعي.

هذا : وقد عرفت أنا في غنى عن هذا كله لأن لا ضرر لا ترفع السلطنة الضررية التي يتولد من رفعها ضرر على صاحب السلطنة لأن ذلك خلاف المنة كما هو الحال بالنسبة لصاحب الأرض ، أن صاحب الزرع لا سلطنة له على الأرض بوجه من الوجوه وأنه إنما هو مسلط على زرعه لا غير ، وأن سلطنته على زرعه لا تستلزم سلطنة على أرض غيره.

وأما كون المورد ليس من باب التعارض ، فلأن مورد التعارض الدليلان ، وهنا ليس إلا دليل واحد يمتنع انطباقه على كلا الموردين معا. ولو

٢٢٠