قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الأولى من المطلب ، من اصل البراءة ، ولا سيما قوله فيها : (وأما دعوى الخ ..) وقوله بعد ذلك (توضيح الاندفاع الخ ..) فإن فيه بلغة كافية وشاهدا على المقصود. وقد ظهر مما مر أنه لا منافاة بين الالتزام بكون وطء الزوجة اما واجب واما حرام واقعا ، وبين كونه في الظاهر مباحا. وهذا هو وجه دفع الشبهة التي وعدنا بها سابقا ـ (١) ـ

وقد ظهر أيضا أنه لا استحالة في جعل الحكم الظاهري ، المخالف للحكم الواقعي ، لعدم اجتماعهما في مرحلة الفعلية ، لأن امتثال الواقع متعذر ، حسب الفرض ، لأن المقام دائر بين محذورين ، فهو غير منجز ، فالحكم الظاهري هو الفعلي حينئذ لا غير.

وبهذا تندفع شبهة لزوم اجتماع الحكمين بالنسبة للمحذور الخطابي ، ويبقى المحذور الملاكي ، والحمد لله رب العلمين.

٥٠ ـ قاعدة

في بيان ضابط التزاحم وما يتعلق به

الكلام في التزاحم : يقع في ضابطه ، وشروطه ، ومرجحاته ، ومداركها.

ضابط التزاحم : التكليفان ، الفعليان المضيقان اللذان لا بدل لهما ، ولا لاحدهما ، الموجهان إلى مخاطب واحد ، لا تتسع قدرته إلا لاحدهما.

ولا فرق في ذلك ، بين التكليفين والتكاليف ، إذا كان المكلف لا يتمكن من الجميع ، ولا بين وجود الأمر وعلمه به ، بعد علمه بوجود المقتضي ، فإن ذلك كله مندرج في باب التزاحم.

فلو قدر : على إنقاذ الغريقين وجب ، ولا تزاحم. وكذلك لو قدر على انقاذ جميع الغرقى. ولو لم يقدر على انقاذ الجميع ، وقدر على إنقاذ بعضهم ، وجب إنقاذ العدد الذي يقدر عليه ، ويسقط العدد الذي يعجز عنه ، وحينئذ يقع التزاحم. كما لو قدر على إنقاذ واحد من اثنين ، أو اثنين من اكثر.

__________________

(١) في القاعدة ٢٢ ص ٥٨.

١٨١

وبعد وقوع التزاحم بين المتزاحمين ، فإن تساويا من جميع الجهات تخير ، وإلا وجب الرجوع للمرجحات ، ويجمعها الأهمية أو احتمالها بالذات أو بالعرض.

ويتضح ذلك كله بالتفريعات الآتية ، وبها تتضح شروط التزاحم.

لو اعتقد أن أحدهما المعين ، أهم أو محتمل الأهمية ، تعين ، كما لو كان الغريقان نبي ومؤمن ، أو مؤمنان أحدهما عالم مجتهد ورع والآخر من سائر المؤمنين ، أو مؤمنان ، يحتمل كون احدهما المعين انفع للمؤمنين في دينهم أو دنياهم ..

ولو اعتقد أن احدهما أهم ، أو محتمل الأهمية ، وعجز عن تمييزه تخير ، وهذا في الأحكام لا ريب فيه ، وأما في الموضوعات ، فالظاهر أنه كذلك ولكن لو كانت القرعة ممكنة ، فالاحوط العمل بمقتضاها.

ولو لم يصل أحد التكليفين أو كلاهما إلى المرتبة الفعلية ، فلا تزاحم ، لعدم تنجز التكليف بغير الفعلي.

ولو كانا موسعين فلا تزاحم ، لإمكان امتثالهما معا ، بالاتيان بأحدهما عقيب الآخر ، لوجود المقتضي وفقد المانع.

ولو كان احدهما مضيقا ، والآخر موسع ، فلا تزاحم ، لإمكان الجمع بينهما ، بالمبادرة للمضيق ، ثم الاتيان بالموسع ، وهو المتعين بنظر العقل ، لان فيه جمعا بين غرضي المولى ، مضافا إلى وجود المقتضي ، وفقد المانع ، كما لو ابتلي بالازالة عند دخول وقت الصلاة.

ولو كان لاحدهما بدل دون الآخر ، تعين ما لا بدل له ، وإن كان مهما ، وانتقل إلى البدل الآخر ، وإن كان أهم لما تقدم آنفا ، كالمزاحمة بين الطهارة الحديثة والخبيثة ، فلو لم يكن عنده من الماء إلا ما يكفي لاحدهما تعين صرفه في إزالة الخبث ، وانتقل إلى التيمم.

ولو اعتقد قدرته على تخليص احد الغريقين المعين تعين ، ولم يجز تركه

١٨٢

إلى من يشك في قدرته على تخليصه.

ولو ظن قدرته على احدهما المعين ، واحتمل قدرته بالنسبة للآخر ، تعين ما ظنه.

ولو كان احدهما المعين أهم ، ولكنه لا يجزم بقدرته على إنقاذه ، وكان الآخر مهما ، وكان يقطع بقدرته على إنقاذه ، فهل يتعين الأول لأهميته أو الثاني لتيقنه ، وجهان.

ونظيره ما لو كان احدهما المعين محتمل الأهمية ، ولا يجزم بقدرته على تخليصه ، وكان الآخر غير محتمل الأهمية ، ولكنه يجزم بقدرته على إنقاذه.

والتحقيق في هذا الباب ، أن المدار ليس على الاحتمال واليقين ، بل على المحتمل والمتيقن. فلو كان متعلق احتمال الانقاذ نبيا وكان متعلق متيقن الانقاذ من سائر المؤمنين تعين المحتمل.

ألا ترى أننا لو احتملنا وجود السم القاتل في اناء ، وقطعنا بوجود ما يضر بإحدى الجوارح في آخر ، وكان لا بد لنا من تناول احدهما ، أننا نقدم على تناول متيقن الضرر إذا كان مهما ، ولا نقدم على تناول محتمل الضرر إذا كان أهم.

إذا عرفت هذا كله فاعلم : إن المرجع في ترجيح أحد المتزاحمين هو العقل ، وهو يستقل بترجيح الأهم ، أو محتمل الأهمية ، لأن ذلك شأن من شئون الطاعة. والمحكم في باب الطاعة وشئونها هو العقل ، والعقل يرى لزوم كمال العبودية بالمحافظة على رغبات المولى. ولا ريب أن مراعاة الأهم محصلة لذلك لأن تركه والاتيان بالمهم فيه احتمال سخط المولى ، والعقل يستقل بوجوب دفع الضرر المحتمل في هذا الباب. وأما الشارع ، فإنه لا يكون مرجعا في باب التزاحم ، لأن وظيفته البيان اتماما للحجة ، والمفروض أنه قد بين ، أن العبد قد علم بما يريده منه مولاه ، فهو ليس محتاجا للبيان ، وهذا هو المقصود بإحراز الملاكين. ولا فرق في التزاحم بين حصوله بسوء اختيار العبد ، أو من باب الصدفة كما في مثال الغريقين ، ومثال الازالة.

١٨٣

نعم ، ربما يكون الشارع مرجعا في معرفة الأهم في بعض الموارد ، كالازالة والصلاة مع تضيق وقتها ، لأن ذلك لا يعرف إلا بملاحظة الأدلة المتضمنة لتعظيم عقوبة المتهاون في الصلاة ، وعدم وجود مثله بالنسبة للإزالة.

٥١ ـ قاعدة : لا ضرر ولا ضرار

والبحث فيها يقع في جهات :

أولها : في مدركها : وهو الحديث النبوي المتواتر : لا ضرر. أو لا ضرر ولا ضرار. أو لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. أو لا ضرر ولا ضرار على المؤمن.

ثانيها : في الجمع بين متون هذا الحديث.

ثالثها : في معنى الضرر والضرار.

رابعها : في بيان محتملات «لا»، وبيان محتملاتها مع مدخولها.

خامسها : في فقه الحديث. والمقصود منه ملاحظة انطباق الكبرى على مواردها المذكورة في النصوص.

سادسها : في بيان الوجه في تقديم لا ضرر على الادلة الأولية.

سابعها : في أن لا ضرر ترفع اطلاق ما شرع ، إذا كان يشمل باطلاقه حالي الضرر وعدمه ، ولا تشرع أحكاما يتدارك بتشريعها الضرر.

ثامنها : في بيان أنها لا تشمل الاحكام العدمية ، إذا كان تركها مضرا بالمكلف ، فلا يباح الزنا ولا قتل النفس المحترمة ولا غيرهما بحديث نفي الضرر إذا كان ترك ذلك مضرا بالمكلف.

تاسعها : في تنبيهات قاعدة لا ضرر ، وكل تنبيه منها يكاد يكون قاعدة مستقلة ، لها أهميتها في عالم الاستنباط والتطبيق ، بمعنى ارجاع الصغريات إلى

١٨٤

كبرياتها. وبعض هذه التنبيهات لا يرتبط بحديث نفي الضرر. ولكن إنما تعرضنا له بسبب توهم بعض العظماء كونه منها ، مضافا إلى كونه مفيدا في نفسه.

التنبيه الأول : في أن الضرر المنفي هل هو الضرر الواقعي أو الاعتقادي؟.

التنبيه الثاني : في أن مفاد «لا ضرر»رخصة أو عزيمة؟

التنبيه الثالث : في دعوى شيخنا المرتضى رحمه‌الله أن (لا ضرر) قاعدة مهملة مجملة من جهة كثرة تخصيصها ، وفيه تعداد الموارد الخارجة عنها تخصيصا أو تخصّصا.

التنبيه الرابع : في تعارض الضررين ، وفيه يتضح الفرق بين التزاحم والتعارض والتوارد. ومن ذلك أيضا يتضح الفرق بين تعارض الضررين ، وبين تزاحمهما وتواردهما.

التنبيه الخامس : في استعراض الموارد التي يتوهم أنها من القاعدة ، أو من باب تزاحم الضررين.

التنبيه السادس : في تعارض قاعدة السلطنة وقاعدة نفي الحرج.

التنبيه السابع : في ثبوت خيار الغبن بلا ضرر وعدمه.

التنبيه الثامن : في استعراض الادلة المحكومة لها : التكليفية والوضعية.

الجهة الأولى : في مدركها.

ولننقل هنا ما عثرنا عليه. فإن الاجمال في المدرك يوجب جعل المشكل ضروريا عند المبتدئين ، وجعل الضروري مشكلا عند المتأملين. وهو عدة روايات :

١ ـ منها : موثقة زرارة عن أبي جعفر (ع) إن سمرة بن جندب كان له

١٨٥

عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الانصاري بباب البستان ، وكان يمر إلى نخلته ولا يستأذن. فكلمه الانصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة. فجاء الانصاري إلى رسول الله (ص) فشكا إليه. فأرسل إليه رسول الله (ص) وخبّره بقول الانصاري وما شكاه ، وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبى سمرة. فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله. فأبى أن يبيعه. فقال : لك عذق في الجنة ، فأبى أن يقبل فقال رسول الله (ص) للانصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار وهي موثقة بابن بكير. ورواها الوافي عن الكليني ورواها عن الصدوق باسناده عن ابن بكير. ورواها الشيخ عن أحمد بن محمد.

٢ ـ ومنها : حسنة أبي عبيدة الحذاء بالحسن بن زياد الصيقل قال : قال : أبو جعفر (ع) ـ وذكر نحو ما مر ـ إلا أنه قال لسمرة بعد الامتناع : ما أراك يا سمرة إلا مضارا. اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها في وجهه.

٣ ـ ومنها : المرسل عن ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر (ع): ـ وذكر نحو ما مر ـ إلا إنه قال : فقال رسول الله (ص) : إنك رجل مضار ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن .. ثم أمر بها فقلعت ، ورمى بها إليه ، فقال له : انطلق فاغرسها حيث شئت (١).

٤ ـ ومنها : ما رواه في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عبد الله بن هلال عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قضى رسول الله بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار (٢).

٥ ـ ومنها : رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (ع) : رجل

__________________

(١) الوسائل م ١٧ ب ١٢ من أبواب إحياء الموات ص ٣٤٠ ح ٣ و١ و٤.

(٢) الوسائل م ١٧ ب ٥ من أبواب الشفعة ص ٣١٩ ح ١ قلت : روى في الوسائل في خيار الغبن روايتين احداهما عن ابن بكير عن زرارة ، والثانية عن ابن مسكان عن زرارة. والظاهر إنهما الآنفتان وإنه حذف المورد اختصارا. ويظهر ذلك من قوله : (في حديث ...).

١٨٦

شهد بعيرا مريضا يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم واشترك معه رجل بدرهمين بالرأس والجلد. فقضي إن البعير برىء فبلغ ثمنه دنانير ، فقال : لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ ، فإن قال أريد الرأس والجلد ، فليس له ذلك ، هذا الضرار. قد أعطي حقه إذا أعطي الخمس.

٦ ـ ومنها : رواية أخرى لعقبة بن خالد ، عن أبي عبد الله (ع) ، قال : قضى رسول الله (ص) بين أهل المدينة في مشارب النخل : إنه لا يمنع نفع الشيء. وقضى بين أهل البادية إنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال : لا ضرر ولا ضرار (١).

٧ ـ ومنها : ما عن التذكرة ، ونهاية ابن الاثير مرسلا عن النبي (ص) : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.

٨ ـ ومنها : ما عن شيخ الشريعة رحمه‌الله في رسالة ألفها في هذه القاعدة ، وهو من أئمة الاستقراء ، إن (لا ضرر ولا ضرار) رواية مستقلة ، وإنها من أقضية النبي (ص) : التي رواها أحمد بن حنبل في مسنده عن عبادة بن الصامت ، وعمل بها المسلمون. ومن جملتها : قضى رسول الله (ص) إنه لا ضرر ولا ضرار ، وإن أصحابنا ذيّلوا بها الأخبار الآنفة.

(٩) ـ ومنها : ما عن شيخ مشايخنا النائيني رحمه‌الله : أنها رويت عن دعائم الإسلام في موضعين عن الصادق (ع).

(١٠) ـ ومنها : روايات رواها في الوسائل في كتاب إحياء الموات في الباب ١٣ و١٤ و١٥ و١٦ يظهر منها المفروغية عن ثبوت مضمون قاعدة (لا ضرر) في الشريعة والمفروغية أيضا عن حكومتها على قاعدة السلطنة ، أو على جواز إحياء الموات وحرمته إذا كان ضرريا. كقوله (ع) في أحدها : على حسب أن لا تضر إحداهما الأخرى وكقوله (ع) في الثانية : يتقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن. وكقوله (ع) في ثالثة : في رجل احتفر قناة

__________________

(١) الوسائل م ١٧ ب ٧ من أبواب إحياء الموات ص ٣٣٣ ح ٢ ـ ولا يخفى أن محمد بن عبيد وعقبة قريبان من الحسن.

١٨٧

واتى لذلك سنة ، ثم إن رجلا احتفر إلى جانبها قناة. فقضى أن يقاس الماء بحقائب البئر ليلة هذه وليلة هذه ، فإن كانت الأخيرة أخذت ماء الأولى غورت الأخيرة ، وإن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأولى شيء.

هذا ما عثرنا عليه من النصوص .. وعن الايضاح في كتاب الرهن إنه ادعى تواتر الأخبار في نفي الضرر والضرار. وفي الرسائل أن أصحها رواية ابن مسكان.

قلت : أصحها موثقة زرارة. ورواية ابن مسكان مرسلة. ودعوى التواتر ، بمعنى حصول القطع بصدورها ، غير بعيدة.

والخلاصة : إن قوله (ص) : لا ضرر ولا ضرار ، لا شك في حجيته في الجملة أما لتواتره ، وأما للقطع بصدوره ، وأما لروايته في طريق معتبر كموثق زرارة ، وأما لجبره بالعمل.

وربما يستدل عليها بالاجماع على العمل بها في المعاملات والعبادات.

وفيه : أنه لبي ومدركي ، وأنه من الاجماع على تطبيق القاعدة لا عليها نفسها. وإذا كان عليها نفسها ، فإن كان من حيث كونها رواية كان جابرا لها ، وإن كان من حيث كونها قاعدة مستنبطة من الأدلة لم يكن حجة. لأن الحجة من الاجماع ما يكشف عن رأي المعصوم (ع) ، عن دليل معتبر. والقاعدة المستنبطة ليست من ذلك كله ونظير هذا ما لو قام الاجماع على الحكم العقلي أو القاعدة العقلية ، فإنه ليس بحجة وهذا أمر مهم ينبغي الاشارة إليه والتنبيه عليه ، والله العالم.

الجهة الثانية : في الجمع بين متون الرواية.

وربما يقال : إن قوله في مرسلة ابن مسكان : لا ضرر ولا ضرار على المؤمن ، ظاهر في اختصاصها بالمؤمن بالنسبة لنفسه دون غيره وقد يستفاد ذلك من لفظ على. وتختص حينئذ بالعبادات ، كما استظهر ذلك شيخنا الانصاري في رسالة : لا ضرر.

١٨٨

وربما يقال : باختصاصها بالمؤمن في مقابل الكافر والمسلم ـ على تقدير أن يراد بالمؤمن ما يقابل المسلم ـ وحينئذ نحتاج إلى الجمع بينها وبين المطلقات بتقييدها بها.

وفيه : إنها مرسلة ، وإنها لا مفهوم لها إلا بناء على ثبوت مفهوم اللقب وهو غير ثابت ، وإنه يمكن استفادة ثبوت الحكم في غير المؤمن من بقية الروايات.

وأما قوله (ص) : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، كما في مرسلة التذكرة والنهاية الاثيرية ، فإنه لا ينافي الروايات التي لم يذكر فيها لفظ : (في الإسلام) ، لأن الظاهر إن المراد بالإسلام الشريعة الإسلامية ، فيكون المعنى إن هذا الحكم من أحكام الشريعة الإسلامية الاساسية ، وملاحظة هذه الجهة تنفع في استيضاح حكومتها على الأدلة الأولية.

وفيه : إنه مرسل وإن العمل به بالخصوص غير معلوم ليكون مجبورا ، ومجرد الموافقة ليست جابرة. وبالجملة : العمل لبي ، كالسيرة والاجماع ، يقتصر منه على القدر المتيقن فإذا شك في أن العمل في خصوص (لا ضرر ولا ضرار) أو فيها مع قيد (على المؤمن) أو (في الإسلام) اقتصر على الأول لأصالة عدم الحجية في ما عداه إذا رجع ذلك إلى باب الأقل والأكثر. أما إذا كان مفادهما متباينا فله وجهة أخرى.

وإن قلت : إن القدر المتيقن هو ارتفاع الضرر عن المؤمن في الإسلام ، لأنه إما مرفوع عن جميع الناس فهم في ضمنهم ، واما مرفوع عنهم بالخصوص؟

قلت : هذه مغالطة صعبة الدفع بدوا. وحلها : إن ما ذكر إنما هو بملاحظة جميع متون الحديث مجتمعة. وما نحن فيه إنما هو بملاحظة كل متن وحده من حيث الدوران بين حجية المطلق وحده وبين حجيته مع المقيد ، والمفروض إن المطلق معلوم الحجية للعلم بصدوره ، أو للعلم بجبره وأما المقيد فإنه مشكوك الصدور أو مشكوك الانجبار. فأصالة عدم الحجية فيه جارية بلا

١٨٩

معارض ، فتنبه له ولأمثاله.

الجهة الثالثة : في معنى الضرر والضرار :

وفي رسالة (لا ضرر) لشيخنا المرتضى رحمه‌الله عن المصباح : ضره يضره : فعل به مكروها ، والاسم الضرر. وقد يطلق على نقص في الأعيان .. وضرار : من ضاره بمعنى ضره ، انتهى ملخصا. وفيها أيضا عن نهاية ابن الأثير : لا ضرر : أي لا ينقصه شيئا من حقه. والضرار : أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه. فالضرر فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين. وقيل : الضرر : أن تضر صاحبك وتنتفع. والضرار أن تضره من غير أن تنتفع. وقيل : هما بمعنى واحد ، والضرار للتأكيد ، انتهى ملخصا.

إذا عرفت هذا فاعلم : إن الظاهر إن الضرر عرفا ، هو الأذى في النفس ، والنقص في المال ، والشين في العرض ، وفي كون فوت النفع ضررا ، عرفا ، تردد. وأما الضرار فهو ، عرفا ، فعل الاثنين. وظاهر رواية هارون الغنوي إن الضرار هو أن تضر بدون أن تنتفع. وهو الذي حكاه ابن الاثير بلفظ (وقيل) ، ويؤيده قول المصباح : وضرار من ضاره ، بمعنى ضره ، لأنه لم يجعله من باب المفاعلة.

الجهة الرابعة : في المراد من ـ لا ـ ومدخولها :

فنقول :

أما ـ لا ـ فمحتملاتها بطبعها خمسة :

أولها : أن تكون لنفي الماهية تكوينا ، نحو : لا رجل في الدار. وهو الأصل بمقتضى وضعها. وبعد تعذر ذلك هنا للزوم الكذب لفرض وجود الضرر خارجا ، يتعيّن ، بمقتضى دلالة الاقتضاء ، حملها على ما يناسبه ، والذي يناسبه هو حملها على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، لأنه هو الذي بيد الشارع رفعه ووضعه ، وهذا هو الظاهر.

ثانيها : نفي الماهية تشريعا ، نفيا ادعائيا ، وليسم هنا بالنفي التشريعي ، نحو : لا شك لكثير الشك ، ولا ربا بين الوالد وولده ولا بين

١٩٠

المراءة وزوجها ولا بين المسلم والحربي. فإنها هنا لنفي الموضوع ادعاء بلحاظ نفي الآثار.

ثالثها : نفي الحكم ، نحو : زيد عالم لا شاعر ، في قبال من يزعم أنه شاعر ، والصلاة واجبة لا محرمة.

رابعها : نفي الكمال ، نحو : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

خامسها : أن تكون ناهية.

وهي في الأول بمفاد ـ ليس ـ التامة. وفي الثالث بمفاد ـ ليس ـ الناقصة وفي الثاني والرابع لنفي الماهية ادعاء.

وأما محتملات ـ لا ـ مع مدخولها ، فهي أربعة :

الاحتمال الأول : أن يكون مفاد ـ لا ضرر ـ حكما تكليفيا ، فيكون نهيا عن إحداث الضرر. وهو المحكي عن المير فتاح في قواعده ، وعن شيخ الشريعة في رسالة له في قاعدة لا ضرر. ويمكن تقريبه :

أولا : بأنها جملة خبرية مستعملة في مقام الطلب ، نظير قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) .. فتكون جملة خبرية مستعملة في الطلب تأكيدا ، لأنه أخبر عن وقوع مطلوبه في مقام طلبه ، حتى كأنه نهى فامتثل نهيه.

وثانيا : بأن ـ لا ـ ناهية كما في : لا رفث ولا فسوق ...

وثالثا : بإبقاء كل من ـ لا ـ ومادة الضرر على معناها ، ولكن يقدر فعل محذوف تقديره : لا ترتكبوا الضرر والضرار ، أو لا يقع ضرر ولا ضرار ، أو لا يحدث ضرر ولا ضرار.

وفيه :

أما الأول : فبان الجملة الخبرية ظاهرة في الحكاية. فإذا قصد بها الإنشاء

١٩١

افتقرت إلى قرينة. ومجرد تعذر نفي الماهية لا يستلزم حملها على الانشاء ، لإمكان تصحيح كلام الحكيم بحمله على محامل أخرى أقرب منه بنظر العرف ، بحيث يصح أن يقال أنها ظاهرة فيه.

وأما الثاني : فبأن ـ لا ـ الناهية مختصة بالفعل المضارع ، كما صرح بذلك ابن هشام في المغني. وحينئذ فحملها عليه في الآية حمل لها على خلاف القواعد وخلاف الظاهر. فلو ثبت أن مفادها حكم تكليفي ، لم يكن ذلك من حيث كونها ناهية ، بل من حيث كونها جملة خبرية مستعملة في معناها بداعي الطلب لا بداعي الحكاية.

وأما الثالث : فبأن تقدير فعل محذوف خلاف الظاهر ، لأن الأصل عدم التقدير ، مضافا : إلى أننا لو سلمنا صحة التقدير ، وسلمنا كون المقدر لا يقع ضرر لزم من ذلك ظهور هذا الكلام في إحداث تكليفين : تكليف بالنهي عن صدوره من فاعله وتكليف بمنع الآخرين من الفعل ، كما لو قال : الملك : لا يقتل ولدي ، فإن معناه لا تقتلوه ، ولا تدعوا أحدا يقتله. وهو مما لا يلتزمون به بحسب الظاهر. مضافا إلى ذلك كله : إن المورد يأبى على حملها على الحكم التكليفي كما في الشفعة. بل وفي قضية (سمرة) ، فإن التصرف إنما حرم عليه لأنه لا سلطان له ، لأن سلطنته سلبت لكونها ضررية.

الاحتمال الثاني : أن يكون المنفي ب (لا) الحكم الضرري. وهو الذي اختاره شيخنا المرتضى رحمه‌الله ، ونسبه للمشهور ، وحكي عن شيخ مشايخنا النائيني رحمه‌الله ويكون لفظ الضرر حينئذ صفة لموصوف محذوف ، أو مضافا إلى مضاف إليه محذوف. ويكون المعنى حينئذ عدم جعل الحكم الضرري ، والتقدير : لا حكم ضرري ، أو : لا حكم ضرريا مجعول ، ولا حكم للضرار ، أو لا حكم ذا ضرار مجعول. ولا ريب إن إرادة نفي الحكم أولى من غيره ، بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي ، لأن رفع الحكم بيد الشارع ، وكذلك وضعه ، ولأنه قريب من المعنى الحقيقي. فدعوى ظهور النفي فيه قريبة بخلاف ما عداه (١).

__________________

(١) إن قلت : إن نفي الحكم ليس حكما ولا موضوعا لحكم شرعي ، فلا يكون من المجعولات

١٩٢

الاحتمال الثالث : أن يكون مفادها جعل حكم يتدارك به الضرر.

وبواسطة هذا الجعل يكون كأنه لم يبق ضرر. وبهذا اللحاظ يصح أن يقال : لا ضرر ولا ضرار فالضرر المحكوم بالتدارك ، ممن يكون حكمه نافذا منزل منزلة عدم الضرر ، وإن لم يسلب عنه مفهوم الضرر حقيقة.

ـ وفيه : أولا : إن مجرد الحكم بالتدارك لا يرفع الضرر. ولكن يصحح سلبه مجازا ، والمجاز خلاف الظاهر.

وثانيا : أن مفادها حينئذ جعل الضمان ، فيكون مفادها حينئذ مفاد حديث : (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وأشباهه. ولم يفهم القوم منها ذلك ، فإنهم لم يعدوها من أدلته ولا من أسبابه. نعم يذكرونها دليلا على الضمان في بعض موارده الخفية. وممن ذكرها صاحب الجواهر والشيخ الوالد قدس‌سرهما ، عند البحث في قاعدة الاتلاف. مضافا إلى إنهم طبقوها في العبادات ، ولا جامع بين الضمان ونفي المشروعية.

وثالثا : إن مفادها حينئذ جعل حكم يتدارك به الضرر ، ولسانها لسان نفي حكم لا لسان إثبات حكم يتدارك به الضرر.

ورابعا : إنه منقوض بوجود أحكام ضررية كثيرة في الشريعة غير متدارك كالخمس والزكاة والحج والجهاد ، ويمكن الجواب ، بأن الثواب على هذه الأمور فيه تدارك لما فيها من الضرر.

الاحتمال الرابع : رفع الحكم بلسان رفع الموضوع ، كما في قولهم : (لا شك لكثير الشك) ، ولا ربا بين الوالد وولده ، ولا بين المرأة وزوجها ، ولا

__________________

ــ الشرعية .. قلت : أولا : أنه منقوض بصحة استصحاب عدم التكليف ، مع أنه ليس حكما شرعيا وإلا لزم كون الاحكام التكليفية عشرة ، واللازم باطل للضرورة ، وليس موضوعا لحكم شرعي بل هو موضوع لحكم عقلي ، وهو عدم العقاب. وثانيا : إن أمر الأحكام ، نفيا وإثباتا بيد الشارع ، فما يكون إيجاده مقدورا يكون عدمه مقدورا ، فهو بهذا اللحاظ يكون من المجعولات الشرعية كنفس الحكم.

١٩٣

بين العبد وسيده ، ولا بين المسلم والحربي. وهو الذي اختاره المحقق صاحب الكفاية ، كما صرح به في المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد.

ـ وفيه : إنه حسن في نفسه ، إلا إنه موقوف على ثبوت حكم للضرر مفروغ عنه ليصح مجيء دليل رافع لذلك الحكم الثابت ، فإن حكم الشك في المحل وجوب الاتيان بالمشكوك فيه ، وحكم الشك بين الثلاث والأربع البناء على الأربع والاتيان بصلاة الاحتياط ، إلى غير ذلك من أحكام الشك ، فإذا كثر هذا الشك ارتفعت أحكامه الثابتة له ، بقوله (ع) : لا شك لكثير الشك ، فيكون من باب رفع حكم الشك بلسان رفع الموضوع. ومثله حكم الربا ، فإن مرتكبه فاسق ، ويحرم عليه أخذ الزائد. فإذا ورد مثلا : لا ربا بين الوالد وولده ، كان من باب رفع الحرمة برفع موضوعها (١).

وتظهر الثمرة : بين هذا الاحتمال والاحتمال الثاني في المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد ، كما يظهر من الكفاية. فإن المقدمة الرابعة تتضمن عدم وجوب الاحتياط ، والمحقق صاحب الكفاية يستدل لعدم وجوبه باختلال النظام فقط ، وغيره يستدل لعدم وجوبه باختلال النظام ، وبلزوم العسر والحرج والضرر.

وتوضيح ذلك : إن العلم الاجمالي بوجوب الواجبات والمحرمات في أفعالنا الاختيارية هو موضوع لحكم العقل بوجوب الطاعة. وطريق الاطاعة منحصر بالاحتياط ، أعني بالجمع بين المحتملات ، بمعنى ترك كل ما يحتمل حرمته ، وفعل كل ما يحتمل وجوبه والجمع بين المحتملات يستلزم اختلال النظام والعسر والحرج والضرر.

ولا ريب إن الضرر في الفرض يصح حمله على وجوب الاطاعة ، فيقال : وجوب الاطاعة ضرري. ويصح حمله على الاحتياط ، فيقال : الاحتياط بالجمع بين المحتملات ضرري. ويصح حمله على الحكم الشرعي ، فيقال :

__________________

(١) تعرضنا لقولهم : لا شك لكثير الشك ، ولقولهم : لا ربا بين الوالد وولده وقلنا أنه ليس رواية ، وإنما هو من أقوال الفقهاء.

١٩٤

الايجاب والتحريم في الفرض ضرري.

ولا ريب أيضا أن حمله على الحكم الشرعي ، بنظر العرف ، أولى من حمله على غيره ، لأنه أسبق العلل ، فإن الحكم الشرعي بمنزلة الموضوع لحكم العقل بوجوب الاطاعة ، وحكم العقل ، بمنزلة العلة. فالحكم الشرعي في الفرض أسبق العلل.

ولا ريب أن (لا ضرر) ترفع الواجبات والمحرمات في الفرض ، بناء على أنها ترفع الحكم الذي يكون سببا للضرر. وإذا انتفى الحكم الشرعي انتفى وجوب الاطاعة ووجوب الاحتياط ، لارتفاعهما بارتفاع سببهما.

وأما بناء على أن (لا ضرر) ترفع نفس الضرر الذي ليس له حكم شرعي ، فلا معنى له ، لأنه ليس له حكم شرعي.

والمحقق صاحب الكفاية ، لما بنى على الثاني ، اقتصر في الاستدلال على عدم وجوب الاحتياط بلزوم اختلال النظام ، بخلاف غيره.

هذا ما فهمته من كلامه رحمه‌الله بعد تكرر التأمل فيه.

وقد ظهر أن الاحتياط إنما يجب من جهة حكم العقل بوجوب الإطاعة. فإذا فرضنا أن التكليف به يستلزم اختلال النظام ، وجب الجزم بانتفائه لاستحالة التكليف بالقبيح عقلا وشرعا. كما إنه إذا بنينا على أن (لا ضرر) تنفي التكليف الضرري يكون سبب وجوب الاحتياط أيضا منفيا فإذا عرفت هذا كله فاعلم : إننا للآن لم نستوضح الثمرة التي فرعها صاحب الكفاية رحمه‌الله واعلم أيضا أن (لا ضرر ولا ضرار) بطبعها ، بعد تعذر حمل النفي على معناه الحقيقي ، أعني نفي الماهية تكوينا ، تكون ظاهرة في نفي الحكم ، أو نفي الموضوع ادعاء وتشريعا.

ولا ينبغي الريب أن الفقرة المقترنة بقوله (ص) : في الإسلام ، تصلح للأمرين كما أنها تصلح قرينة على إرادة نفي الحكم ، فيكون كأنه (ص) قال :

١٩٥

طبيعة الأفعال إذا كان لها حكم شرعي ، وكان ذلك الحكم ضرريا تارة ، وغير ضرري أخرى ، لا حكم لها في حال كونها ضررية. وبهذا تتضح حكومة الحديث على الأدلة الأولية ، لأنه بمنزلة الشارح والمفسر لها ..

الجهة الخامسة : في فقه الروايات من حيث انطباقها على مواردها وعدمه.

نقول : أما تطبيق الكبرى على الصغرى في قضية (سمرة) ، أعني تطبيق المورد على قاعدة (لا ضرر) فتوضيحه أن يقال : لا ريب أن الأنصاري مسلط على بيته وما يتعلق به مما هو مملوك له. ولا ريب أنه يحرم على (سمرة) وغيره مزاحمته في سلطنته .. وأما (سمرة) فإنه مسلط على عذقه وما يتعلق فيه مما هو مملوك له ، ويحرم على الأنصاري وغيره مزاحمته في سلطنته. وحينئذ فربما يقال بدوا : إن أمر النبي (ص) بقلع العذق يخالف قاعدة السلطنة ، لأن (سمرة) مسلط على عذقه ، ويخالف قاعدة (لا ضرر) نفسها ، لأن رفع الضرر عن الأنصاري بإضرار (سمرة) بقلع عذقه خلاف المنة ، لأن رفع الضرر الذي يتولد منه ضرر خلاف المنة ، وحديث نفي الضرر حديث امتناني.

وأيضا : فإنه يمكن رفع ضرر الأنصاري بمنع سمرة من الدخول بغير إذن ، ولا يتوقف رفع الضرر عنه على قلع العذق الذي هو أعظم ضررا ، وأعظم مزاحمة لسمرة في سلطنته.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنه يحتمل أن يكون ل (سمرة) حق المرور ، وحق إبقاء العذق في ملك الأنصاري. فيكون مسلطا على ذلك ، وتحرم مزاحمته في حقوقه ، ويكون دخوله على الأنصاري من مصاديق سلطنته حينئذ. ولكن دخوله بدون استئذان فيه ضرر على الأنصاري ، فتكون سلطنته حينئذ سلطنة ضررية منفية بحديث نفي الضرر ، بناء على حكومته على قاعدة السلطنة كما هو الحق. ونتيجة ذلك أنه لا سلطنة له على الدخول بدون الاستئذان.

وقد قال له النبي (ص) : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى

١٩٦

(سمرة). وإلى هنا تكون القاعدة منطبقة على موردها أتم الانطباق. ثم لما أصر (سمرة) على الدخول بغير إذن كان معاندا ومخالفا لحكم النبي (ص) ، والنبي (ص) له ولاية الحد والتعزير. فقد يكون النبي (ص) رأى تأديبه بقلع عذقه بدون عوض ولا ضمان.

إن قلت : إن قلعة ضرر على (سمرة) ، وإذا لزم من الأعمال (لا ضرر) ضرر لم تجر ، لأن جريانها حينئذ خلاف المنة؟.

قلت فيه أولا : أنه اجتهاد في مقابل النص. وثانيا : إن هذا الضرر ضرر بحق ، وإذا كان بحق لا يكون مشمولا للحديث (١).

ويحتمل أن يكون السبب في تعزيزه بالقلع ظهور نفاقه ، لأن النبي (ص) أعطاه بها ما شاء الله. فلما أبى أعطاه بها عذقا في الجنة ، فأبى.

ويحتمل أن يكون السبب في قلع العذق بعد ظهور نفاقه عدم احترام مال

__________________

(١) وبعد هذا يظهر أنه لا معنى لأن يقال : إن قلع العذق ضرر على سمرة ، وهو أعظم من ضرر الأنصاري بالمرور بلا استئذان ، ومقتضى القاعدة جريان لا ضرر في الأهم دون المهم ، إرفاقا بالأكثر ضررا ، ولا لأن يجاب بأن ضرر (سمرة) مسبب عن ضرر الأنصاري. وما في طول الشيء لا يعارضه ولا يزاحمه ، بل يكون أسبقهما وجودا أسبقهما تأثيرا وإن كان أضعف ، لأن الدليل ينطبق على أسبق مصاديقه ولا يبقى موضوع للثاني بعد ذلك. بل لا يعقل ، لأنه يلزم من وجوده عدمه فالمقام إذا ليس من باب التزاحم ولا التعارض بل من باب التوارد. والمتواردان إذا وجد أحدهما ارتفع موضوع الآخر ، ومن ثم نقول بتأثير الأسبق زمانا ، هذا مضافا إلى أن ضرر (سمرة) مسبب عن مخالفته للنبي (ص) وعن تعنته ، وإصراره على الدخول بغير إذن ، فيكون هو الذي أوقع نفسه فى الضرر بإقدامه على الإضرار بالغير الذي سبب له وقوعه تحت هذه العقوبة.

ولا يبقى مجال أيضا لأن يقال : أن (لا ضرر) واردة مورد المنة. فإذا لزم من رفع الضرر عن الأنصاري ضرر على (سمرة) بقلع عذقه كان قلعه خلاف المنة لأن الضرر الذي يلزم من رفعه حدوث ضرر لا منة في رفعه ، ولا سيما إذا كان أعظم ولا لأن يجاب بأن القلع ليس من آثار رفع سلطنة الأنصاري على أرضه بل هو من آثار مخالفة سمرة للنبي (ص) ، أو ظهور نفاقه. فيكون هو الذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره كما أوضحناه في المتن.

١٩٧

المنافق ، ويكون الحديث دليلا على ذلك. ولكن هذا لو تم ، لوجب استباحة سائر أمواله واستباحة أموال جميع المنافقين ، وهو غير واضح.

ويحتمل أن يكون ليس ل (سمرة) حق المرور في الأرض ، وليس له الحق في إبقاء العذق فيها. وحينئذ يكون الحكم بالقلع أوضح ، لأن (سمرة) مسلط على عذقه ولا سلطنة له على دار الأنصاري بوجه ، فيكون المورد من مزاحمة السلطنة واللاسلطنة وبعد منع الانصاري له من الدخول بغير استئذان يدور الأمر بين إبقاء العذق فيها بغير حق ودخول سمرة بغير استئذان وهو ضرر على الأنصاري بغير حق ومزاحمة له في سلطنته بغير حق وبين قلع العذق ودفعه لسمرة ، أو منعه من الدخول مطلقا ، وكلاهما ضرر بحق والمتعين هو الثاني.

ثم ان الموارد التي عللت بلا ضرر أربعة : والظاهر أنها ليست علة في الجميع لعدم اطّرادها في الشفعة ، لأنهم لم يتعدوا إلى جميع الأعيان ولا إلى المنافع ، ولا من الشريكين للشركاء ، ولعدم كون الحكم إلزاميا في مشارب النخل والماء والكلاء. فإن هذه الأمور إن كانت مملوكة ، لم يجز لغير المالك مزاحمته فيها ، ولم يجب بذلها ، وإن تضرر غيره بامتناعه ، كما هو مقتضي القواعد ، مضافا إلى شهادة جملة من النصوص (١). وإن كانت مباحة فهي لمن حازها ، وإن كانت مشتركة جرت عليها أحكام الشركة.

ويمكن أن يقال : أنها لم تستعمل في الموارد الأربعة بجامع واحد. وأنها في قضية (سمرة) علة لاطرادها ، وفي المواضع الأخرى حكمة. وإن اتفاقها إنما هو من باب الاتفاق في اللفظ ، وإن كل واحدة منها تشير إلى معنى غير المعنى الذي تشير إليه الأخرى ، وقرينة المورد تكفي لإثبات ذلك ، فتكون كبريات متعددة لا كبرى واحدة.

ويحتمل أن يكون الجمع بينهما من باب الجمع بين الروايتين ، بمعنى المعصوم (ع) لم يتكلم بهما مجتمعتين ، بل الراوي قرن بينهما وجمعهما في كلام

__________________

(١) الوسائل م ١٧ ب من أبواب إحياء الموات.

١٩٨

واحد ، اجتهادا منه ، لتوهمه انطباق القاعدة على ما ظنه مصداقا لها ، فيكون من الخطأ في الاجتهاد.

ولعل هذا هو الذي يقصده شيخ الشريعة من قوله : وإن أصحابنا ذيلوا به الأخبار ويحتمل أن يكون جمعهما من غير قصد ارتباط إحداهما بالأخرى ، بل مجرد نقل لأخبار متعددة.

ويحتمل أيضا أن يكون المعصوم (ع) طبقها تقريبا للحكم ، فتكون حكمة لا علة. وفيه أنه خلاف الظاهر ، ولكن مثله يرتكب بعد عدم إمكان الالتزام بالظاهر ، فيكون تأويلا وحملا للكلام على أقرب محامله الممكنة.

ويحتمل أن يكون عدم انطباق الكبرى على موردها من قبيل اشتمال الرواية على ما لا يمكن الالتزام به.

وأيضا فإن الالتزام بكونها علة في مورد ، وحكمة في آخر ، ليس عديم النظير في الفقه. فقد حكى أستاذنا الكاظمي الخراساني رحمه‌الله في مجلس الدرس أنه ورد تعليل حرمة نكاح الرضيعة بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ، وهو علة مطردة في الرضاع. وورد التعليل به في باب ملك اليمين ، وهو حكمة هناك غير مطردة.

وأما رواية هارون بن حمزة فإنها اشتملت على حكمين ، أولهما : عدم إلزام الشريك بذبح البعير ، لأنه من باب الضرار ، فتكون قاعدة نفي الضرار حاكمة على قاعدة السلطنة بالنسبة لمالك الجلد والرأس وهذا مما لا ينبغي الريب فيه ، وثانيهما : إعطاء مالك الجلد والرأس خمس قيمة البعير ، ولا ريب أن هذا لا يستفاد من قاعدة نفي الضرار لأنها ترفع ولا تضع ، ويمكن الاستدلال له بقاعدة العدل والإنصاف. ولكن قاعدة العدل والإنصاف مفتقرة إلى الدليل ، وينبغي أن تكون هذه الرواية ورواية درهم الودعي من جملة أدلتها ، والله المسدد.

الجهة السادسة : في بيان حكومة لا ضرر على الأدلة الأولية :

لا ريب في حكومة لا ضرر على جميع الأدلة الأولية الشاملة بإطلاقها

١٩٩

الأحوالي لحالي الضرر وعدمه.

والسر في ذلك ـ أولا : الفهم العرفي ، وثانيا قوله في بعض متون الحديث : في الإسلام فإنه قرينة على كونه ناظرا لأدلة الأحكام الأولية. لأن الإسلام وإن كان اسما للشهادتين ، إلا أن المقصود به في الحديث الشريف ، أحكام الشريعة الإسلامية الأساسية للقطع بأن رفع الضرر والضرار لا دخل له في حقيقة الإسلام ، والنسبة لا تلاحظ بين الحاكم والمحكوم بنظر العرف ، بل الحاكم يقدم على كل حال. مضافا إلى أن الطولية الموجودة بين الحاكم والمحكوم تمنع من ملاحظة النسبة بينهما ، فتدبر ، ... ومضافا إلى ان الحديث اخص من الأدلة الأولية ، لأنه بعد نظره إليها أجمع يلاحظ معها أجمع فيكون أخص منها مطلقا.

نعم : إذا لوحظ الحديث مع كل منها مستقلا ، كانت النسبة بينه وبين كل واحد منها العموم من وجه :

ومن ذلك يتضح فساد ما حكاه شيخنا المرتضى رحمه‌الله عن بعضهم من إعمال المعارضة بينه وبين سائر الأدلة ، كاعمالها بين العامين من وجه ، ثم الترجيح بالإجماع وشبهه.

الجهة السابعة : في أن لا ضرر ترفع إطلاق ما شرع ، إذا كان يشمل بإطلاقه حالي الضرر وعدمه.

ولا ريب أن القاعدة ترفع إطلاق ما شرع إذا كان يشمل بإطلاقه حالي الضرر وعدمه ولا تشرع ما يتدارك بتشريعه الضرر. ويتضح هذا بملاحظة ما ذكرناه في آخر الجهة الرابعة ، فلاحظه.

أما الأول : فلما عرفته في الجهة السادسة من حكومة الحديث على إطلاق الأدلة الأولية الشاملة لحال الضرر وغيره.

وأما الثاني : فلأن الحديث لا يتضمن الرخصة في تشريع الأحكام التي

٢٠٠