قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

المشتبه في نفسه كمن قال : اول عبد املكه فهو حر ، فملك ثلاث بالميراث ، فقال يقرع بينهم ، مع أنه لا اول في الفرض ، وقسم من المشتبه عندنا المعين في الواقع ، كالصبيين اللذين سلما من الهدم ، وكان احدهما حرا والآخر مملوكا ، وكالشاة التي نزا عليها الراعي وارسلها في القطيع.

وعلى هذا يمكن أن يقال : إن ما اشتهر من أن القرعة لكل امر مشتبه بالفتح أو الكسر أو بهما. هي ضابط لموارد القرعة بقسميها ، وليست رواية.

الموضع الثاني : لا ريب أن القرعة على تقدير حجيتها والعمل بها ، انما تكون حجة ، في الشبهات الموضوعية لا الحكمية ، فإن الأحكام لا تستخرج بالقرعة ، وموارد الروايات اكبر شاهد على ذلك.

ويدل عليه أنها ان كانت حجة قبل الفحص في الكتاب والسنة ، لزم اهمالهما وهو خروج عن الإسلام ، وإن كانت حجة بعد الفحص فيهما ، وعدم وجود الدليل الخاص ، لزم طرح ادلة الاصول الشرعية والعقلية ، وهو يخالف عمل جميع علماء الإسلام بحسب الظاهر.

الموضع الثالث : المعروف أن قاعدة القرعة قاعدة مجملة مهملة. وهو غير بعيد لاعراض المشهور عن العمل بها ، ولأنه يلزم من العمل بظاهرها ، في كل مورد تنطبق عليه ، تأسيس فقه جديد. وربما يؤيد ذلك ما في مصحح حريز ، عمن ذكره عن احدهما. قال : القرعة لا تكون إلا للإمام .. وجه الاهمال أنه ان اريد بالمشتبه المشتبه الواقعي كانت معارضة لادلة الاصول الموضوعية بأسرها وكانت حاكمة عليها ، لأننا إذا أخذنا باطلاقها لم يبق للاصول مورد ، لأن موردها جعل الوظيفة العملية في مقام الاشتباه. والقرعة تكشف عن المشتبه وترفع الاشتباه ، فهي نظير الامارة فلا يبقى مورد للاستصحاب ولا للبراءة ولا للاشتغال ، ولا لقاعدة الحل ، ولا لقاعدة الطهارة ولا لغيرها ... وهو طرح للنصوص الواضحة الكثيرة المعمول بها التي كادت تكون من الضروريات الفقهية.

وإن اريد بالمشتبه الظاهري ، فإنه يلزم بقاء ادلة القرعة حينئذ بلا مورد.

١٦١

فإن كل مشتبه واقعا يكون غير مشتبه ظاهرا ، بعد اعمال الاصول ، وهو واضح. وحينئذ فليس لدينا ، بعد اعمال الاصول مشتبه ظاهري ، لتعمل قاعدة القرعة فيه ، فتكون الاصول واردة عليها ، وتبقى هي بلا مورد.

ومن هذا كله يتضح أن قاعدة القرعة غير مفهومة ، وأن عمل الفقهاء بها في مورد ما ، يكون دليلا مستقلا ، لا أنه عمل بها. نعم ربما يقال : إن المناسب لها هو المورد الذي يلزم من تطبيق الاصول فيه أمر لا يمكن الالتزام به ، كما في باب ميراث الصبي الحر المشتبه بالصبي المملوك بعد الهدم ، وكما في الشاة الموطوءة في القطيع ، وكما في درهم الودعي (لو لا رواية التنصيف) ، وكما في المال الذي يكون بين جماعة ولا يد لأحدهم عليه ، ولا بينة ، وينكلون كلهم عن اليمين مع العلم بأنه لأحدهم ، وكما في عتق عبد معين واشتباهه في غيره ، وكما في طلاق زوجة معينة واشتباهها في غيرها وما اشبه ذلك. لأن الاحتياط متعذر والتخيير مجلبة للنزاع ، وجعل الكيس لغير من هو بينهم اعطاء له لغير مالكه بلا ريب ، وتحريم الغنم بأجمعه ضرر عظيم ، والحكم بحليته اجمع تحليل للحرام بغير دليل و .. و ..

ولا أجد ضابطا فعلا اكثر من هذا ونظر الفقيه الممرن المتفوق الذي زاول الفقه مدة طويلة اقرب للإصابة.

الموضع الرابع : في الاشارة إلى جملة من الموارد التي طبقت عليها قاعدة القرعة في النصوص مع قطع النظر عن الفتوى بمضمونها وعدمه وهي موارد.

احدها : الجارية التي وطأها رجلان أو اكثر فولدت ، فاختصموا في الولد ، وقد تضمنت هذا الفرض وما يشبهه عدة روايات فيها الصحيح وغيره ، وقد اتفقت على استخراج والده بالقرعة (١).

ثانيها : ما ورد في من قال : اول مملوك املكه فهو حر ، فملك اكثر من واحد بالميراث ، فإنها تضمنت أنه يستخرج بالقرعة (٢).

__________________

(١) الوسائل م ١٨ ب ١٣ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ص ١٨٧ ج ١ ـ ٥ ـ ١٤. وفي الوسائل ايضا م ١٤ ب ٥٧ من ابواب نكاح العبيد والاماء ص ٥٦٦ ح ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥ ـ.

(٢) الوسائل م ١٨ ب ١٣ ص ١٨٧ ح ٢ ـ ١٥.

١٦٢

ثالثها : ما ورد في من اوصى بعتق ثلث عبيده من أنه يستخرج بالقرعة (١).

رابعها : ما ورد في بيت سقط على قوم ، فبقي صبيان احدهما حر والآخر مملوك له ، ولم يعرف الحر من المملوك ، فإنها تضمنت استخراج الحر بالقرعة (٢).

خامسها : ما ورد في من كان له عدة مماليك ، فقال : ايكم علمني آية من كتاب الله فهو حر ، فعلمه واحد منهم ثم مات المولى ، فقال (ع) يستخرج بالقرعة (٣).

سادسها : ما ورد في الشاة التي نزا عليها الراعي وارسلها في القطيع ، واشتبهت ، من أنها تستخرج بالقرعة (٤).

سابعها : ما ورد في البينتين المتعادلتين ، من أنه يقرع بينهما في بعض الحالات ، ويظهر من المحكي عن الشيخ العمل بها ، وهو الظاهر من صاحب الوسائل (٥).

الموضع الخامس : في كيفية القرعة ، وفي من يتولاها ، وفي دعائها ، وفي ذلك كله روايات.

منها : رواية اسماعيل بن مرار عن يونس المضمرة ، وفيها قوله ولا يستخرجه إلا الإمام ، لأن له على القرعة كلاما ودعاء لا يعلمه غيره (٦).

ومنه : ما رواه الصدوق بإسناده عن عاصم عن حماد عمن ذكره عن أحدهما (ع) قال : القرعة لا تكون إلا للإمام.

__________________

(١) الوسائل م ١٨ ب ١٣ ص ١٨٧ ح ٣ ـ ١٠ ـ ١٦.

(٢) الوسائل م ١٨ ب ١٣ ص ١٨٧ ح ٧ ـ ٨.

(٣) الوسائل م ١٦ ب ٣٤ من ابواب العتق ص ٤٤ ح ١.

(٤) الوسائل م ١٦ ب ٣٠ من ابواب الاطعمة المحرمة ص ٣٤٦ ح ١ ـ ٤.

(٥) الوسائل م ١٨ ب ١٢ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ص ١٨١ ح ٥ ـ ٦ ـ ٧ ـ ٨ ـ ١١ ـ ١٢ ـ ١٥.

(٦) الوسائل م ١٦ ب ٢٤ من ابواب العتق ص ٤٤ ح ١.

١٦٣

ومنها : رواية ابن طاوس عن كتاب عمرو بن ابي المقدام عن احدهما (ع) في المساهمة يكتب.

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اسألك بحق محمد وآل محمد ، ان تصلي على محمد وآل محمد ، وإن تخرج لي خير السهمين في ديني ودنياي ، وآخرتي وعاقبة امري في عاجل امري وآجلة ، إنك على كل شيء قدير. ما شاء الله لا قوة إلّا بالله صلى الله على محمد وآله. ثم تكتب ما تريد في الرقعتين ، وتكون الثالثة عقلا (١) ، ثم تجيل السهام ، فأيهما خرجت عملت عليه (٢).

ومنها : موثق سماعة وفيه فاقرع (ع) بينهما سهمين ، فعلم السهمين كل واحد منهما بعلامة. ثم قال : اللهم رب السموات السبع ورب الارضين السبع ، ورب العرش العظيم ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. أيهما كان صاحب الدابة وهو اولى بها ، فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه ، فخرج سهم احدهما ، فقضى له بها ..

ومنها : رواية عبد الله بن سنان ، وقد اشتملت على نفس الدعاء.

ومنها : رواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله ، وقد اشتملت على فقرتين من هذا الدعاء لا غير (٣).

وقد شهد زرارة باحقية القرعة عند ما خاصمه فيها الطيار فخصمه زرارة وكان فيما قاله له الطيار : أرأيت إن كانا جميعا مدعيين ادعيا ما ليس لهما ، من أين يخرج سهم احدهما؟ فقال زرارة : إذا كان كذلك ، جعل معه سهم مبيح ، فإن كانا ادعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح (٤).

__________________

(١) فائدة : المراد بالعقل ، هو السهم الذي ليس عليه اشارة لأحد المتخاصمين.

(٢) الوسائل م ١٨ ب ١٣ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ص ١٨٧ ح ٩ ـ ١٩. وفي خاتمة هذا الباب بعض الاستخارات التي يعتمدها بعض اهل العلم ، ويطلبها العوام من العلماء كثيرا ، اشرنا إليه ليطلبه من يحتاجه.

(٣) الوسائل م ١٨ ب ١٢ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ص ١٨١ ح ٥ ـ ١٢ ـ ١٥.

(٤) الوسائل م ١٨ ب ١٣ ص ١٨٧ ح ٤.

١٦٤

ومنها : الصحيح إلى اسحاق العرزمي ـ المرادي ن ل ـ قال : سئل وأنا عنده يعني أبا عبد الله (ع) عن مولود ولد وليس بذكر ولا انثى ، وليس له إلا دبر ، كيف يورث؟ قال : يجلس الإمام ، ويجلس معه ناس ، فيدعو الله ويجعل السهام على أي ميراث يورثه ، ميراث الذكر أو ميراث الانثى ، فأي ذلك خرج ورثه عليه ، ثم قال : وأي قضية اعدل من قضية يجال عليها بالسهام ، إن الله تبارك وتعالى يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(١).

إذا عرفت هذا فأعلم : إن مقتضى الاصول أن ولاية القرعة للإمام ، للروايات المتضمنة لذلك ، ولا مجال للاطلاق معها ، ورواية إسماعيل بن مرار عن يونس معتبرة ، وقد تعرضنا لذلك في مباحث الدماء حسبما اتخطره فعلا ، وما قاله صاحب الوسائل هنا لعله اجتهاد منه بعيد عن الصواب ، لشهادة اصحاب الاصول عملا بذلك ، فإنهم وضعوا كتبهم لتدوين احاديث اهل البيت (ع) ، لا لتدوين آراء من يروي عنهم ، مضافا إلى أن روايات القرعة لا إطلاق فيها من هذه الجهة ، لكون ولايتها من الانقسامات اللاحقة لها ، ونتيجة الاصول تقضي بعدم تميز الحق بها إذا لم يتولها الإمام أو نائبه. واعلم ايضا : إن الاحوط لنائبه إذا تولاها أن يحافظ على الكيفية التي ذكرها ابن طاوس ، لأنها هي القدر المتيقن ومقتضى حجية موثق سماعة الاكتفاء ، بما تضمنته ، ولا سيما بعد تأيده بغيره.

الموضع السادس : في الاشارة إلى الموارد التي افتى الفقهاء أو مشهورها فيها بقاعدة القرعة ، وهو يحتاج إلى تتبع مضن فعلا.

تنبيه مهم

من الموارد التي حكي فيها الاجماع على القرعة قسمة الاجبار ، واحتاط بعضهم بإتباعها بالصلح ، ولا يخفى أنه ليس لذلك أثر في نصوص القرعة على كثرتها ثم إنه على تقدير اعتبارها في القسمة فهي مختصة بقسمة الاجبار دون قسمة التراضي ثم إنه بعد البناء على كون المعاطاة على وفق القواعد وهو

__________________

(١) الوسائل م ١٧ ب ٤ من ابواب الفرائض والمواريث ص ٥٧٩ ح ١.

١٦٥

الاقوى ، تكون قسمة التراضي معاملة قائمة بنفسها ، وتكون لازمة بعد الرضا والقبض والتصرف ، ولا يخفى أن هذا ليس واضحا تدوينا في الرسائل العملية المتداولة ، والله المسدد.

٤٦ ـ قاعدة الجب

الكلام في قاعدة الجب في ثلاثة مواضع.

الموضع الأول : في مستندها. وهو النبوي المرسل في كتب الاستدلال ، أعني قوله (ص) : (الإسلام يجب ما قبله).

ورواه في مجمع البحرين هكذا (الاسلام يجب ما قبله ، والتوبة تجب ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب).

ونسب الاستاذ مد ظله هذا المتن في المستمسك ج ٥ ص ٣١ للمجمع وغيره ، ثم قال ما لفظه :

وفي أواخر شرح النهج لابن أبي الحديد ، عن أبي الفرج ذكر قصة إسلام المغيرة ، وأنه وفد مع جماعة من بني مالك على المقوقس ملك مصر ، فلما رجعوا قتلهم المغيرة في الطريق ، وفر إلى المدينة مسلما. وعرض خمس أمواله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يقبله ، وقال : لا خير في غدر. فخاف المغيرة على نفسه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصار يحتمل ما قرب وما بعد .. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (الإسلام يجب ما قبله). وفي تفسير القمي في تفسير قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ ..) الآية ، إن أم سلمة شفعت لأخيها عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول إسلامه ، وقالت له : ألم تقل أن الاسلام يجب ما قبله؟ قال (ص) نعم وقبل إسلامه. وفي السيرة الحلبية : أن عثمان شفع في أخيه ابن أبي سرح ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما بايعته وآمنته .. قال بلى ، ولكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح ويستحي. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإسلام يجب ما قبله.

١٦٦

وفي تاريخ الخميس ، والسيرة الحلبية ، والاصابة لابن حجر ، في إسلام هبار قال : يا هبار ، الإسلام يجب ما كان قبله .. ونحوه في الجامع الصغير للسيوطي في حرف الالف ، وفي كنوز الحقائق للمناوي ، عن الطبراني في حرف الالف الإسلام يجب ما قبله ، والهجرة تجب ما قبلها .. وعن مناقب ابن شهرآشوب في من طلق زوجته في الشرك تطليقه وفي الإسلام تطليقتين. قال (ع) هدم الإسلام ما كان قبله ، هي عندك على واحدة .. انتهى.

قلت : وهو في الجملة مقطوع الصدور فضلا عن كونه مجبورا بالعمل.

الموضع الثاني : في الموارد التي يحتمل تطبيقه فيها ، وهي كثيرة :

منها : قضاء عباداته من الصلاة والصيام والحج.

ومنها : قضاء الخمس والزكاة والكفارات بأنواعها.

ومنها : جميع الآثام.

ومنها : الحدود والتعزيرات التي فعل موجبها حال الكفر ثم أسلم.

ومنها : ديونه التي عليه بسبب الاقتراض والاتلاف والجنايات.

ومنها : الطهارة الحدثية والخبيثة ، فإنه يمكن رفع سببيتها به ، فلا تجب عليه بعد الإسلام ، إذا صدرت منه حال كفره ثم أسلم ، للحديث.

ومنها : القصاص. فإن هذه الأمور إذا استقرت عليه حال كفره ، وكلف بها ، ثم أسلم ، يمكن أن يقال : بسقوطها عنه حال الإسلام ، لحديث الجب إلى غير ذلك.

الموضع الثالث : في مقدار دلالته. وفي أنه هل هو مجمل؟ ، فيقتصر فيه على القدر المتيقن (ضرورة عدم التزام الفقهاء بظاهره في أكثر الموارد المذكورة آنفا). أو لا .. بل هو مطلق؟ فلا نرفع اليد عنه إلا بدليل. احتمالان.

وتوضيح الحال أن يقال : قد أورد على التمسك بالحديث إيرادات

١٦٧

الايراد الأول : أن القدر المتيقن من الحديث هو جب الكفر والمعاصي والذنوب وأما إطلاقه بمعنى عموم الجب الراجع إلى عموم المجبوب فهو غير ثابت ، لاقترانه بما هو قرينة على العدم أو صالح للقرينة ، فإن ذكر الكفر والمعاصي والذنوب في رواية المجمع إن لم يكن قرينة على اختصاصه بهذه الأمور ، فهو صالح لذلك. وبعد فرض اقتران المطلق بما يصلح كونه قرينة لتقييده ، لا ينعقد إطلاقه ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة.

بيان ذلك : هو أن قوله (ص) من الكفر والمعاصي والذنوب إن كان متعلقا ب (يجب) في قوله (ص) والتوبة تجب ما قبلها ، كما هو الظاهر بدوا ، كان قوله (ص) : الإسلام يجب ما قبله ، مقترنا بما يصلح للقرينة ، بسبب احتمال تقييده فيكون مهملا ، وإن كان متعلقا ب (يجب) في قوله (ص) : الإسلام يجب ما قبله ، كان اختصاصه بالثلاثة أوضح ، لأنه هو مقتضى ظاهر (من) البيانية.

ثم إنه لا ينبغي الريب في أن قوله (ص) من الكفر متعلق بقوله (الإسلام يجب ما قبله) ، لأن الكفر لا يجبه غير الإسلام ، ولأنه لا فائدة لتوبة الكافر من المعاصي والذنوب مع بقائه على كفره.

ثم إنه ربما يقال : أيضا أن قوله (ص) والهجرة تجب ما قبلها ، كما في رواية السيوطي والمناوي والطبراني صالح للقرينة ، لأن الهجرة لا تجب كل ما قبلها بالضرورة ، وقد تلخص من هذا : أن حديث الجب مختص بالثلاثة ، وإن جب ما عداها وسقوطه عن الكافر مفتقر إلى دليل خاص.

وأما تطبيق الحديث بالنسبة لاسلام ابن أبي سرح ـ الذي كان يؤذي النبي (ص) فهو كذلك ، فإنه يحتمل أن يكون قد قال له ذلك ليؤمنه من الاقتصاص ، ويحتمل أن يكون قد قاله له ليرفع عنه الاستحياء ، ولا ريب أنه هو الأظهر ، بل هو المتعين ، لكونه هو المصرح به في الحديث .. وعلى كلا الحالين ، يكون الحديث واردا لبيان رفع أثر الايذاء ، سواء كان لرفع العقوبة أو لرفع الاستحياء ، ومثله حديث إسلام أخ أم سلمة. وأما المغيرة ، فيمكن

١٦٨

أن يكون خوفه من جهة احتمال عدم قبول إسلامه ، فيكون دمه مباحا ، ويمكن أن يكون من جهة احتمال إن النبي (ص) يسلمه لأولياء المقتولين ، أو يسلب منه ما سلبه ، ويرده لأهله ، أو يصرفه في مصرفه. فهو أيضا قرينة على عدم الاطلاق أو صالح لها.

والجواب : إنها كلها مراسيل ، والمجبور منها هو ما ذكر في كلمات الفقهاء وهو الفقرة العارية عن المورد (١) وحينئذ يكون الاطلاق محكما ، ويكون المورد الذي يدعى كون الكافر مسئولا عنه بعد إسلامه ، محتاجا إلى الدليل.

ثم إنه يمكن أن يقال : أنه لا يمكن التمسك به في الزكاة ، والخمس ، والاتلافات والجنايات ، والضمانات ، والديون ، والكفارات المالية ، لوروده مورد المنة. والتمسك به فيها مستلزم لرفعها عنه ، وهو مناف للمنة على مستحقي هذه الأموال ، لأنه حرمان لهم منها.

وفيه : إنا نسلم بأنه وارد مورد الامتنان بالنسبة للكافر الذي أسلم. لا بالنسبة لجميع المسلمين فلو لزم من العمل به عدم المنة على غيره لم يكن ذلك منافيا لحكمة تشريعه. وهذا بخلاف مثل حديث الرفع ، ودليل نفي الضرر والحرج ، فإنها لما كانت واردة مورد المنة على جميع الأمة المرحومة ، لم تجر في مورد يلزم من جريانها عدم المنة على بعض الأمة.

ويمكن الفرق بين الزكاة ، والخمس ، والكفارات المالية ، وبين الديون الشخصية كالاستقراض والضمانات والديات ، بأنه يمكن الامتنان برفع الزكاة ونحوها لأنها بالحق الالهي أشبه ، بخلاف الحقوق الخاصة بالبشر ، فإن رفعها فيه نوع من الحيف ، فالمنة برفعها بعيدة.

الايراد الثالث : إنه لا يمكن الأخذ بظاهر الحديث. لأن مقتضى إطلاقه عدم ترتيب آثار جميع معاملاته من عقود وإيقاعات ، وإتلافات ، وجنايات ،

__________________

(١) تلاحظ قاعدة (لا ضرر) فقد أورد عليها مثل هذا الايراد ، واجبنا بهذا الجواب ، وتعرضنا لفائدة حسنة.

١٦٩

وما فاته من عبادات مالية كالخمس ، والزكاة ، والكفارات ، والفدية ، والنذور ، والحج ، والعمرة ، وعبادات بدنية كالصوم ، والصلاة ، والطهارات ، وغير ذلك .. ولا يلتزم بذلك أحد ، وحينئذ فإن التزمنا بتقييد إطلاقه بما علم عدم خروجه ، كان مهملا ، ولزم تخصيص الأكثر المستهجن. ولا يفيد الاعتذار بأن الأحكام الشرعية على نهج القضايا الحقيقية ، وبأن التخصيص أنواعي وحينئذ ، فلا كثرة في طرف الخارج لامكان جمعه في عنوان واحد ، ولا قلة في الباقي ، لأن أفراد القضايا الحقيقية فرضية ، والفرضيات لا تتناهى) ، لأن المدار على استهجان العرف ، وهو حاصل في مثل هذا التخصيص لمثل هذا العموم.

والجواب : إن الحديث ناظر إلى ما يتركه أو يفعله من حيث كونه كافرا ، لا مطلق ما يفعله وإن كان من لوازم بشريته. فالمعاملات والجنايات ليست من آثار كفره. نعم استحلال المحرمات ، وترك الواجبات من آثار الكفر ، فيكون المقصود رفعها فالاسلام يجب ما فعله في حال كفره من الأمور التي لا يفعلها لو كان مسلما ملتزما بالاسلام. فالنكاح وموجب الطهارات ، والدين بجميع أسبابه ، يفعله المسلم والكافر. بخلاف ترك الصوم والصلاة والخمس والزكاة ، والحج والكفارات. ويستفاد هذا من مناسبة الحكم والموضوع ، ومن مقابلة الإسلام بالكفر في بعض متون الحديث ، وبملاحظة وروده في حق من كان كافرا وأسلم ، وبملاحظة وروده مورد المنة. وهذا جيد جدا

الايراد الرابع : إن معنى الجب هو القطع ، والقطع إنما يحسن فيما إذا كان ما بعد الاسلام متصلا بما قبله ، ليحسن قطعه عما بعده. وهذا يطرد في أكثر الأمور المذكورة في الايراد الثالث من ذوات الأسباب ..

والجواب : إنا نسلم إن الجب هو القطع ولا نسلم أنه قطع ما قبله عما بعده. فإنه ليس له في الحديث عين ولا أثر. وحينئذ فلا فرق بين ما يكون بقاؤه مستندا إلى سبب حدوثه أو إلى استعداد ذاته ، ولا بين ما تكون علته المحدثة هي المبقية ولا بين ما تكون علته محدثة فقط ..

١٧٠

الايراد الخامس : إنه لا يجري في القضاء بأقسامه .. لأن الكفار إن كانوا مكلفين به ، لزم من وجوده عدمه وهو محال .. وإن لم يكونوا مكلفين به ، لم يبق موضوع للحديث .. مع أن سقوط القضاء عنهم ، في العبادات ، مسلم.

وتوضيحه : أنهم إذا كلفوا بالقضاء وحصلوا شرطه ، وهو الإسلام ، سقط عنهم. فيكون قبل تحصيل شرطه غير مقدور لفقدان شرطه ، وبعده غير ممكن لسقوط أمره (بالحديث). فيلزم من التكليف بالقضاء الصحيح عدم التكليف به ، وهو محال .. وحينئذ فلا بد إما من الالتزام بعدم تكليفهم به في حال كفرهم ، وإما بعدم سقوطه عنهم بالإسلام ، وكل ذلك لا يمكن الالتزام به.

والجواب : إن حقيقة الأمر ليست إلا إيجاد الداعي .. وحينئذ نقول : إن تكليفهم بالاداء واضح ، لأن التكليف يحرك إرادتهم إليه. وثمرته أنه لو لم يأتوا به لعاقبهم وإذا حصلوا شرطه ، وهو الإسلام ، وجب عليهم. هذا كله بعد فرض كون الإسلام شرط وجود لا شرط وجوب. ولذلك يجب عليهم تحصيله كما هو الحال في سائر شرائط الصحة والوجود ، وتحصيل الإسلام أمر مقدور لهم ، ومتى حصلوه تمكنوا من الاداء بالبداهة.

وأما القضاء ، فربما يقال : بأن الغرض من التكليف به ليس تحريك الارادة إليه وإنما الغرض منه بيان أصل الاقتضاء والغرض من حديث الجب رفع ذلك الاقتضاء ومنعه من التأثير .. فيكون الإسلام مانعا من تأثير ذلك المقتضي. فلو فقد المانع أثر أثره ، واستحق العقوبة على العصيان بترك تحصيل الشرط .. وقد يكون الغرض من التكليف بالقضاء هو المنة برفعه بالاسلام ، والحث على الإسلام.

وفيه : إن هذا مساوق للتكليف بالإسلام. والعقاب على تركه يكون عقابا على ترك الإسلام في الحقيقة.

ومن ذلك كله يظهر أن العقاب ليس هو ثمرة التكليف بالقضاء ، بل

١٧١

ثمرته المنة برفعه ، والمنة الأخرى بإيجاد الداعي إلى الاهتداء للاسلام والترغيب فيه.

وأجيب أيضا : بأن صحة القضاء الواجب مشروطة بالاسلام في الوقت ، فيكون قد وجب عليه في الوقت ثلاثة أمور : الاسلام والأداء ، والقضاء على تقدير ترك الاداء.

وينتج من هذا إن الكافر ليس مكلفا بالقضاء تكليفا فعليا ، أما في الوقت فلفقد شرطه ، وأما في خارجه فللاجماع ، ولحديث الجب ، وهو كما ترى.

وإذا عرفت هذا كله فاعلم : أنه لا ريب أن الحديث يجب الكفر والمعاصي والذنوب ، ولا ريب أيضا في سقوط قضاء الفرائض اليومية عن الكافر الأصلي إذا أسلم للاجماع والضرورة والسيرة القطعية وحديث الجب ، على تأمل تقدم في الايراد الخامس.

ولا ريب أيضا في سقوط قضاء الصوم عنه لما مر ، مضافا إلى النص الخاص. وأما الزكاة ، فالمشهور سقوطها بالاسلام (بل لم يحك التوقف فيه إلا عن صاحب المدارك). ويمكن الاستدلال للسقوط بظهور الاجماع وبالسيرة القطعية لأن التاريخ لم يحدثنا عن النبي (ص) ومن بعده ، إنهم كانوا يحاسبون الكفار على زكوات أموالهم المستحقة في أيام كفرهم.

وعلى الفقيه التثبت ومراجعة كل فرع يرتبط بحديث الجب في محله من كتب الفقه للاحاطة بشئونه ، وحينئذ ينتفع بما أسلفناه حول حديث الجب ، والحمد الله رب العالمين.

٤٧ ـ قاعدة

في إمكان تخصيص الأحكام بالعالمين وعدمه

لا ريب في إمكان أخذ العلم جزءا أو قيدا في الموضوع ، ولا ريب في وقوعه كما بيناه في القطع الموضوعي.

فيمكن تحريم الخمر التي يعتقد كونها خمرا. فلو رأى خمرا ، فاعتقد إنها خل مثلا ، أو شك فيها ، جاز له شربها ، لأن موضوع الحرمة الخمر الذي

١٧٢

يعتقد خمريته. ويمكن أيضا تحريم ما يعتقد كونه خمرا ، وإن لم يكن في الواقع خمرا.

وأما أخذه قيدا في الحكم ، على وجه تكون الحرمة مثلا ثابتة في حق العالم بها دون الجاهل ، ففيه إشكال. وثمرته أن من شرب الخمر جاهلا بحكمها ، لا يستحق العقاب ، ولا يقام عليه الحد ، ولا يحكم بفسقه. ولا يعاقب على ترك الفحص عن حكمه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه ربما يقال بامتناع ذلك ثبوتا ، وربما يقال بامتناعه إثباتا فقط ، وربما يقال بامتناعه إثباتا في نفس دليل التشريع ، وهو المختار. فلنا هنا ثلاث دعاوي :

دعوى : إمكانه ثبوتا.

ودعوى : امتناعه إثباتا بنفس دليل التشريع.

ودعوى : إمكانه إثباتا بدليل آخر غير دليل التشريع.

أما امتناع إثباته بنفس دليل التشريع ، فلأن العلم والجهل من الانقسامات اللاحقة لمتعلقاتها بعد فرض وجودها المترتبة عليها ، ترتب المعلول على علته. فلا يمكن ثبوت الاطلاق بالنسبة لها ، لاستلزامه تقدمها. فيمتنع استفادة اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين من أدلة التكليف. وإذا امتنع الاطلاق امتنع التقييد ، لكونهما من الأمور المتضايفة. وقد أوضحنا الفرق بين الانقسامات اللاحقة والمساوقة وأوضحنا إمكان الاطلاق والتقييد بالنسبة للثانية دون الأولى في مبحث التعبدي والتوصلي من كتاب (مباني الفقيه).

إن قلت : إذا امتنع الاطلاق ، فمن أين يثبت الاشتراك ..

قلت : ثبت اشتراك التكاليف بين العالم والجاهل بأمور

منها : استقلال العقل باستحالة الاهمال الواقعي من المولى لأنه عليه البيان ، وتركه قبيح مع وجود المقتضي له ، وعدم المانع منه. ولأنه حكيم محيط بموضوعات أحكامه ، ولأن الحكم بالنسبة لموضوعه

١٧٣

كالعرض بالنسبة لمعروضه. ولما كان وجود العرض لنفسه وبنفسه وفي نفسه ، عين وجوده لغيره وبغيره وفي غيره ، لاستحالة قيام العرض بذاته ، فإن تقرره إنما يكون بمحله ، ولذلك استحال الاهمال الواقعي. ولكن لحاظه ليس كوجوده فيمكن لحاظه بما هو هو ، مع قطع النظر عن عينية وجوده. فيكون عرضا مباينا غير محمول ، ويكون ملحوظا بشرط لا ، ويمكن لحاظه ، على ما هو عليه من قيامه بموضوعه ، واتحاده معه وجودا. فيكون عرضيا محمولا متحدا ، أو يكون ملحوظا لا بشرط أي لا بشرط التجرد (١).

ومنها الاجماع المستفيض الذي ينقله الاساتذة (٢).

إذا عرفت هذا كله ظهر لك استحالة استفادة الاطلاق من دليل التشريع للدور ، وظهر امتناع التقييد بالعالمين أيضا ، وظهر ثبوت نتيجة الاطلاق بالتقريب المتقدم ولو ثبت في مورد ما اختصاص الحكم بالعالمين به ، كان ذلك من باب ثبوت نتيجة التقييد. ومما ذكرنا يتضح إن نتيجة الاطلاق ونتيجة التقييد متلازمتان إمكانا وامتناعا كنفس التقييد والاطلاق ، فلا تغفل ..

وقد استقصينا في قاعدة (لا تعاد الصلاة إلا من خمس) ، جملة من الموارد التي يظهر من الفقهاء والروايات معذورية الجاهل فيها.

٤٨ ـ قاعدة

الأصل في القطع الطريقية

إذا أخذ لفظ القطع أو العلم أو المعرفة في لسان الدليل ، كان ظاهرا في الطريقي وبعد حجية الظهور يكون ذلك لازم الاتباع. وبهذه الملاحظة يصح أن يقال الأصل في القطع الطريقية ، بمعنى أنه إذا ورد في لسان الدليل وشك في كونه على نحو الطريقية ، أو الصفتية ، فالأصل فيه أن يكون طريقيا ، ولا

__________________

(١) ما ذكرناه في العرض مأخوذ من تقريرات استاذنا الكاظمي (ره) ح ٢ ص ٥٩.

(٢) لاحظ التعليق على القاعدة (٢٦) ص من هذا الكتاب ص ٧١.

١٧٤

يعدل عنه إلى الصفتية إلا بدليل ..

ومن ثم حملنا لفظ (العلم) المأخوذ في قاعدة الطهارة ، ولفظ (المعرفة) المأخوذ من قاعدة الحل ، ولفظ (اليقين) المأخوذ في أخبار الاستصحاب ، على الطريقي. ومن أجل كونه طريقيا تقوم الامارات مقامه ، وتحكم على القواعد المغياة به.

وبالجملة : إن مقتضى الجمود على ظاهر لفظ العلم البدوي ، إذا أخذ في لسان الدليل هو الصفتية دون الطريقية. لأن تعليق الحكم على شيء يقتضي أن يكون ذلك الشيء موضوعا له ، ومعنى الصفتية هو كون العلم عبارة عن صفة اليقين التي تمنع من احتمال الخلاف ، إلا ان الظاهر من لفظ العلم هو الطريقية.

وممن تعرض لهذا الآغا رضا الهمداني في باب الجماعة ، في مبحث عدالة الامام.

هذا بالنسبة إلى لفظ العلم ، وأما لفظ الوثوق والاطمئنان وغيرهما فالمتبع فيه هو الظهور الأولي ، أعني الموضوعية ، إلى أن يثبت له ظهور آخر.

٤٩ ـ قاعدة

في الفرق بين تعارض الامارات والأصول

وتتضمن هذه القاعدة تعارض الاصلين ، وحكمهما عند التعارض ، فهنا موضعان :

الموضع الأول : في معنى تعارض الامارتين ، والمعروف أنه هو العلم بكذب احداهما ، المؤدي لتكاذب كل منهما بمدلوله المطابقي والالتزامي ، المستلزم للتناقض في دليل الحجية نفسه ، بعد تناقض المؤدي لانتهائه إلى أن الامارة حجة ، وليست بحجة. ولكن الحق أنه عبارة عن التكاذب فقط ، بناء على الطريقية. وأما لو علم بكذب إحداهما ، فإنه يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة وهل يكون حكمهما حينئذ حكم التعارض ، أو حكم الدليل الواحد المجعول .. احتمالان ..

__________________

(١) تقدم مختصرها في القاعدة (٣) ص ٢٠.

١٧٥

كما أن المعروف أيضا ، أن مقتضى الأصل في تعارض الامارتين ، بناء على الطريقية ، هو التساقط. لأن المدلول الالتزامي ، في كل منهما ، يكذب المطابقي في الآخر. وبعد دلالة دليلها على حجيتها ، في كلا المدلولين ، تكون النتيجة أنه حجة وليس بحجة ، فيتناقض ويتساقط .. ومعنى التساقط ، على هذا هو قصور دليل الحجية عن شمول المتعارضين عقلا ، لأنه يلزم أن يكون داخلا فيه وخارجا عنه ، وهو محال. فالشمول إذن لولائي ، بمعنى أنه ثابت لو لا المعارضة.

ثم إنه لا ريب أن هذا مبني على أن الدليل يدل على حجية الامارة بالنسبة لمصاديقها بنحو العموم الشمولي. وأما إذا كان يدل عليها بنحو العموم البدلي فلا مانع من انطباقه على كل من المتعارضين ، بنحو البدلية ، لعدم التنافي حينئذ. فالمدار على استفادة احد الامرين من دليل الحجية ، ولا ريب في ظهوره في الشمولي.

وعلى هذا يكون دليل التخيير في باب الخبرين المتعارضين على خلاف القاعدة ، ولا يكشف هذا عن كون حجيتها من باب السببية ولا سيما بعد ملاحظة ادلة المرجحات ، لظهورها التام في الطريقية.

وأما بناء على البدلية ، فإنه يكون على وفقها. كل ذلك بناء على الطريقية فلا تغفل ..

وأما بناء على السببية ، فمقتضاه التخيير لواجدية كل منهما للملاك على حد واحد. ومن ثم يكون حالهما حال باب التزاحم .. فإن التخيير يتعين في باب التزاحم مع التساوي في الأهمية واحتمالها. وأما مع أهمية احدهما المعين ، أو احتمال أهمية أحدهما المعين ، فإن الأهم ، أو محتمل الأهمية حينئذ ، يقدم. وينبغي أن يطرد هذا في الامارتين بناء على السببية بجميع معانيها ، لأنها احدى صغريات باب التزاحم.

والسر في ذلك أن الدليل بطبعه يدعو إلى متعلقه ولا يمنع منه إلا الآخر. ولما كانت القدرة معتبرة عقلا ، وكان عاجزا عن الجمع بينهما وقادرا على احدهما

١٧٦

لا على التعيين ، وكان تعيين احدهما ترجيحا بلا مرجح تعين حفظ القدرة بمقدارها ، فيجب فعل احدهما ، وحيث لا مرجح ولا ترجح يتخير.

الموضع الثاني : في بيان معنى تعارض الاصلين. والمعروف على ألسنة المشتغلين أنه عبارة عن العلم بكذب احدهما ، مع أن المعروف عند المحققين أن من كان عنده إناءان احدهما بول والآخر ماء ثم توضأ بأحدهما غفلة ، واشتبه الحال أنه يستصحب بقاء حدثه وبقاء طهارة اعضائه مع أنه يعلم بكذب احدهما. ومثله ما لو نذر نذرا متعلقا بأمر ما ، في زمان معين ، ثم تردد بين كون نذره على فعل ذلك الأمر أو تركه ، فإنه يجري اصالة عدم تعلقه بكل منهما. ومثله حكم جملة من العلماء ، كما قيل ، بجريان اصالة الاباحة عند الدوران بين الوجوب والحرمة ، من جهة فقد النص أو اجماله أو اشتباه موضوعه الخارجي. وأن كان يظهر ، من المحكي عن آخرين ، عدم جواز احداث القول الثالث عملا بالاجماع المركب. ولكنه سيتضح لك إن شاء الله تعالى أن الاصول في هذه الموارد ليست متعارضة. وستعرف أيضا أن الاجماع المركب لا يمنع من الحكم الظاهري المخالف لكلا القولين. وستعرف ايضا امكان جعل الحكم الظاهري ، مع العلم بمخالفته للواقع اجمالا أو تفصيلا ، إذا لم يلزم منه مخالفة عملية ، كما فيما نحن فيه ..

إذا عرفت هذا فاعلم أن التحقيق في معنى تعارض الأصول هو لزوم المخالفة العملية للتكليف المنجز ، فإذا جرت الأصول ، ولم يلزم شيء من ذلك ، لم يكن في جريانها محذور اصلا ، حتى لو حصل العلم بعدم مطابقة احدها للواقع. ففي اطراف الشبهة المحصورة ، الجامعة لشرائط التنجز المذكورة في محلها ، نعلم بتكليف منجز بنظر العقل ، اما لأن العلم الاجمالي علة تامة ، وأما لأنه مقتض. فيقال حينئذ أن المقتضي موجود والمانع مفقود ، وحينئذ يحكم لعقل بوجوب الاطاعة لتحقق موضوعها. فإذا جرى الأصل في جميع الاطراف كان ذلك مناقضا لحكم العقل بوجوب الاطاعة. وإذا فرض جريانه في بعضها المردد لم يكن مصداقا للعمومات الواردة في حجية الأصول ، لأن الفرد المردد ليس له مصداق في الخارج. وإذا جرى في بعضها المعين كان

١٧٧

ترجيحا بلا مرجح ولا ترجح وهو محال ، لأن الترجح فرع الرجحان ، وكان أيضا مناقضا لحكمه بها ، لأن العلم جزء الموضوع في الأحكام العقلية (١). وهو لا يجتمع مع احتمال الخلاف ، فيكون فيه احتمال مناقضة. وهو يناقض إحراز الإطاعة ، وهذا معنى ما اشتهر من أن احتمال المناقضة كالمناقضة.

وقد ظهر مما ذكرنا امور مهمة يجب التنبيه عليها ، والتنبه إليها ، فقد كثر الاشتباه فيها.

منها : أن اطلاق التعارض ، في باب الامارات ، في محله ، بخلاف الأصول ، فإن تسمية ذلك تعارضا فيه مسامحة. فإن الأصول تنظر إلى نفس المؤدي فقط ، ولا تنظر إلى لوازمه. وجعل المؤدي في احدهما الذي هو مدلوله المطابقي ، لا ينافي جعله في الآخر أصلا ، نعم ينافيه بمدلوله الالتزامي لو ثبت. والمفروض أنه ليس ناظرا له ، وليس حجة فيه ، فكأنه ليس له مدلول التزامي أصلا.

نعم : الأصول تكون معارضة لحكم العقل بوجوب الاطاعة ، ومنافية له. وهذا هو الذي اوجب سقوطها ، لا أنها متعارضة ومتساقطة بمعنى أن بعضها يعارض بعضها الآخر ، ويسقط كما يتوهم. وهذا بخلاف الامارات ، فإن بعضها يسقط بعضا وينافيه ويعارضه كما عرفته آنفا.

ومنها : أن اطلاق التكاذب على الأصلين المتعارضين فيه مسامحة ، لأنه فرع الطريقية ، وفرع نظر كل منهما للآخر. وكذلك إطلاق الكذب ، فإنه من شأن الطرق والامارات.

نعم : يصح إطلاق الموافقة والمخالفة. فإن الحكم الظاهري قد يكون على طبق الواقعي ، وقد يكون على خلافه. ومن ثم جاء المحذور الملاكي والخطابي في جعل الأحكام الظاهرية. وهذا أيضا بخلاف الامارات ، فإن اطلاق التكاذب والكذب ، في بابها ، في محله.

١٧٨

ومنها : أن الامارتين قد تسقطان بالمعارضة ، وتبقى حجيتها بالنسبة لمدلولهما الالتزامي الذي لا يتعارضان فيه. كما في سقوط الخبرين المتعارضين ، فإنهما يبقيان حجة بالنسبة لنفي الاحتمال الثالث. وسقوطهما ، من حيث الحجية لا ينافي بقاء لازمهما ، لأنه لازم لوجودهما لا لحجيتهما ، ولا مانع من التعبد باللازم دون الملزوم. فلو ورد دليل مصرح بذلك ، قبلناه لوجود المقتضي حينئذ ، وفقد المانع ، وذلك لإمكانه مكانه.

نعم : لو كان من لوازم الحجية وكان اعتباره تبعا لها ، حدوثا وبقاء ، يسقط بسقوطها ، هذا كله بناء على تتميم الكشف ، وجعل الوسطية في الاثبات ، أما لو قلنا بجعل المؤدي الراجع إلى بعض صور التصويب ، فربما يكون الأمر على خلاف ما ذكرناه.

ومنها : أن المتحصل مما مر ، أن الفرق بين تعارض الامارات والأصول : إن التعرض في الامارات هو العلم بتكاذب الامارتين بمدلولهما المطابقي والالتزامي ، المستلزم للتناقض في دليل الحجية نفسه ، بعد تناقض المؤدى ، لا العلم بالكذب ، فإنه حينئذ يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة.

وأما في الأصول ، فإنما يحصل التعارض إذا استلزم اعمال الأصلين مخالفة عملية لتكليف منجز ، على وجه يستلزم مناقضة العقل لنفسه لانتهائه إلى أطع أو لا تطع .. ومنه اعمال الأصل في طرف واحد من اطراف العلم الاجمالي بعد تنجزه ، كما لو تنجز العلم الاجمالي ، ثم خرج بعض الاطراف عن محل الابتلاء ، فإنه وإن كان بدوا يرى أنه من احتمال المناقضة. لكنك عرفت أنه مناقضة حقيقة ، لأنه يرجع إلى حكم العقل بلزوم تحصيل الجزم بالاطاعة ، وعدم لزوم تحصيل الجزم بها

ومنها : أن الأصول إنما تسقط في الحقيقة لمعارضتها لحكم العقل بوجوب الإطاعة ، لا لمعارضتها لنفس التكليف ، كما مرت الاشارة إليه ..

ومنها : أن وجوب الموافقة الالتزامية لا ينافي جريان الأصلين اللذين نعلم

١٧٩

بعدم موافقة احدهما للواقع.

بيان ذلك : أن دليلها ـ لو كان ثم دليل عليها ـ إن اختص بالأحكام الواقعية التزمنا بها على ما هي عليه. فإذا علمنا بتكليف تفصيلي ، التزمنا به تفصيلا وإذا علمنا بتكليف إجمالي التزمنا به التزاما إجماليا ، لأن الالتزام به تفصيلا خلف وتشريع. ولا ينافى هذا الالتزام بثبوت حكم ظاهري على خلافه ، لأن معنى الالتزام ، إن كان هو عقد القلب على أنه هو الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنحن ملتزمون به كذلك. وإن كان معناه العمل على وفقه فنحن نعمل على وفقه إذا كان ممكنا. وأما إذا كان متعذرا ، فلا داعوية فيه حينئذ.

هذا إذا اختص بالأحكام الواقعية. أما إذا كان يشمل الأحكام الواقعية والظاهرية ، فإذا ثبت حكم ظاهري لوجود المقتضي له ، وفقد المانع منه ، كما في المقام ، فإنا نلتزم به ايضا ، لفرض قيام الدليل على وجوب الالتزام به مطلقا ، سواء علم بعدم مطابقته للواقع أم لا ... نعم إذا لزم منه مخالفة عملية ، لم يجر بوجه لما مر.

وقد ظهر أنه لا منافاة بين الالتزام بالواقع على ما هو عليه ، مع الالتزام بالظاهر على ما هو عليه بالضرورة. ودعوى عدم جريان الأحكام الظاهرية ، إذا لم تكن موافقة للواقع ، حتى مع عدم لزوم المخالفة العملية ، ممنوعة. لأن ذلك تخصيص لدليل الأصول بلا مخصص لفظي ولا عقلي ، فإن العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع ليس محذورا عقليا بنفسه ، بعد عدم منافاته لداعوية التكليف ، ولدليل وجوب الالتزام. فلم يبق إلا احتمال أن يكون الشارع الزمنا بأن لا نجري الأصول إلا مع احتمال مطابقتها للواقع. وهذا الاحتمال لا أثر له ، بعد نفيه بإطلاق دليل الأصول ، وبعد عدم قيام دليل عليه بالخصوص.

والذي اعتقده أن هذا هو الذي كان شيخنا المرتضى (رحمه‌الله) يحاول بيانه في مسألة الدوران بين الوجوب والحرمة .. فلاحظ كلماته في الصحيفة

١٨٠