قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

لكونها ضابطا لكثير من موارد الضمان مطردا منعكسا ، بعد ملاحظة شروطها الآتية. وبالجملة ، فمدرك الضمان هو قاعدة على اليد ، والاحترام ، والاتلاف.

وقاعدة الاستيفاء أخص من هذه القواعد ، بل هي جامعة لبعض مواردها ، ولا يحضرنا الآن مورد من الموارد تنفرد فيه هذه القاعدة عن هذه القواعد الثلاث. نعم لو لم يبن على قاعدة الاحترام لزمنا ، لا محالة ، الاستناد إليها في موارد الأمر المعاملي الذي ليس هو معاطاة لعدم مجيء اليد والاتلاف ، إلا بضرب من التأويل بدعوى أن استيفاء المنفعة اتلاف.

المقام الثاني : في شرائطها. والذي ذكره لها السيد الأستاذ مد ظله بعد أن احكمها في مجلس درسه شروط ثلاثة.

الأول : أن يقع الفعل من العامل عن أمر من المعمول له. والمراد بالأمر مضمونه ، وهو الرغبة المنكشفة أما ب (افعل) ، واما بالعقد ، وأما بتهيئة نفسه واما بالاشارة ، واما بغير ذلك. كأن يقول للحمال : احمل متاعي ، أو يعقد مع البناء عقدا على اقامة جدار فيقيمه ، ويتبين فساد العقد للتعليق مثلا ، أو يجلس على كرسي الحلاق ويكشف رأسه للحلاقة.

الثاني : أن يكون العمل أو المنفعة تعود إلى الآمر. والمراد بعودها إليه أن تكون على وفق رغبته ، فالأمر بكنس المسجد ، أو اصلاح الطريق العام ، به منفعة عائدة إلى الآمر ، باعتبار أن فيه اشباعا لشهوته ، وتحقيقا لمآربه.

الثالث : أن لا يقصد العامل المجانية بعمله. ويتفرع على هذه الشروط أن الخياط لو خاط ثوب زيد اشتباها لم يستحق الاجرة ، لأنه ليس بأمره. ولو سبقه في المسابقة الفاسدة لم يستحق الجعل ، لأنه لا رغبة له فيه. لأن رغبته في أن يسبق هو ، أهذا هو محط المسابقة (١). ولو قصد التبرع كان هاتكا لحرمة عمله متبرعا به متلفا له.

__________________

(١) يمكن أن يقال : إن الجعل ليس على السبق ، بل على عملية الاستباق ، وقد كانت برغبتهما وطلبهما ولعل الوجه في الاستحقاق قاعدة الغرور.

١٤١

ثم إن الأستاذ مد ظله استدل على هذه القاعدة في المسألة العاشرة من مسائل خاتمة الزكاة في العروة بظهور الاجماع وبارتكاز تضمين العقلاء للمستوفي مع عدم قصد العامل المجانية ، مع عدم ردع الشارع لهم. وحكى عن (مفتاح الكرامة) بعد مناقشته في اليد والاحترام والاتلاف أنه قال ما معناه : لو لا ظهور تطابق كلمات الأصحاب ، إلا ممن لا يعتنى بخلافه ، لأمكن القول بعدم الضمان وكأنه رحمه‌الله لم ينتبه لقاعدة الاستيفاء.

وبالجملة : من انكر قاعدة الاحترام وخصها بالحكم التكليفي ، يكفيه الاستدلال لقاعدة الاستيفاء بالسيرة والارتكاز المقررين من الشارع. وأما نحن فإنا في غنى عن ذلك.

٤٤ ـ قاعدة

من اتلف مال غيره فهو له ضامن

والكلام في هذه القاعدة يقع في مواضع.

الأول : في أن هذه الفقرة ، اعني (من اتلف مال غيره فهو له ضامن) ، هل هي قاعدة أو رواية ، وعلى تقدير كونها قاعدة ، فهل هي بلفظها معقد اجماع أو لا.

قال المحقق (ره) في الشرائع : لو ارسل في ملكه ماء ، فاغرق مال غيره ، أو أجج نارا فاحرق ، لم يضمن ما لم يتجاوز قدر الحاجة اختيارا ، انتهى.

وعقبه صاحب الجواهر بقوله : بلا خلاف اجده فيه ، بل في المسالك الاتفاق للأصل ، بعد عدم التفريط ، وعموم تسلط الناس على اموالهم ، ولأن سببيته في الاتلاف ضعيفة بالاذن له من قبل الشارع ، في فعل ذلك في ملكه ، فلا ضمان ، انتهى ملخصا.

ثم ذكر للمسألة صورا ، واختار عدم الضمان في بعضها ، وحكاه عن بعض العظماء ، ونزّل عليه كلمات آخرين.

١٤٢

وقال في اثناء ذلك ـ وهو موضع الحاجة ـ ما لفظه : اللهم إلا أن يمنع سببية الاتلاف للضمان على وجه يشمل الفرض ، لعدم ثبوت من اتلف مال غيره فهو له ضامن ـ رواية من طرقنا ، ولا قاعدة. وثبوت الضمان في المذكورين للاجماع انتهى «كذا ».

ثم قال : إلا أن الانصاف عدم خلو ذلك من النظر ، ضرورة المفروغية من قاعدة من اتلف ، التي لهجت بها السنة الفقهاء في كل مقام ، انتهى ما اردناه (١).

وقال في الجواهر في كتاب النكاح ما لفظه ثم قال ـ يعني صاحب المسالك ـ وفي الفرق نظر ، ضرورة وضوح الفرق بينهما ، فإن مبنى رجوع المدعي عليهما فيما يغرمه ، قاعدة السبب اقوى من المباشر ، فهنا اولى بالاندراج في قوله (ع) من اتلف ، انتهى (٢).

فإن هذا الكلام إن كان كله للشهيد الثاني ، يكون هو الذي جعل هذه الفقرة رواية ، وذلك يعطيها قوة ، اما لأنها رواية مرسلة عمل فيها الفقهاء ، واما لأنها قاعدة معروفة في عصره (٣).

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن متن هذه الفقرة يشبه جوامع الكلم المروية عن النبي (ص) واعلم أنها غير موجودة في كتب الحديث التي بين ايدينا ، ويشهد لذلك كلام صاحب الجواهر المتقدم ، وهو من اعظم فقهائنا تتبعا واستقراء لكلمات علمائنا واقوال اهل اللغة واحاديث اهل البيت عليهم‌السلام (٤)

__________________

(١) الجواهر ، الطبعة الجديدة م ٣٧ ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) الجواهر كتاب النكاح م ٣١ ص ٩١ ـ الطبعة الجديدة.

(٣) حال التهجير بيننا وبين مكتبتنا الموجودة في بيروت فلم نتمكن من الرجوع إلى كتاب المسالك ، نسأل الله سبحانه الراحة والمغفرة.

(٤) حدثني استاذي في اوائل الرسائل العلامة السيد امين الصافي (ره) حوالي سنة ١٣٥٠ ه‍ حسبما اتخطره ، أن صاحب الجواهر عند ما اصبح المدرس الاعظم طلب من تلامذته الاهتمام بالاحاطة في اقوال المسألة وروايتها متعهدا بما يتعلق فيها وأنه بعد سنة اجاز اربعين منهم بالاجتهاد وربما قال اكثر من ذلك ، وهذا يدل على تفرده بالاحاطة لأنه تيسر له الاستعانة بجمهور فضلاء عصره.

١٤٣

ويشهد لذلك ايضا ما تتبعناه من كتب الاستدلال والوسائل مدة حياتنا ، فإننا لم نجد فيه اكثر مما قدمناه.

ويشهد له أيضا شهادة شيخنا الكاظمي الخراساني في مجلس الدرس من التتبع وعدم وجود أثر لها.

ويشهد له ايضا ما ذكره الفاضل المعاصر الشيخ محمود القوجاني في تعليقته على الجواهر في م ٣١ ص ٩١ ـ الطبعة الجديدة ، فإنه صرح بعدم العثور عليها في كتب الحديث.

الموضع الثاني : إذا كانت قاعدة من اتلف رواية معمولا بها أو قاعدة متفق عليها ، كان مقتضاها دوران الضمان مدار صحة اسناد الاتلاف للمتلف اسنادا حقيقا ، ومقتضى ذلك ، أنه لا فرق بين كون المتلف مباشرا أو مسببا ، بواسطة أو وسائط ، على وجه لا تتوسط بين السبب والمسبب إرادة فاعل مختار.

وأما مع توسطها فلا ضمان ، لعدم صحة نسبة الاتلاف للسبب السابق عليها ، إلا بضرب من ضروب المجاز.

ولا فرق في المتلف بين كونه عالما بالحكم والموضوع ، وبين كونه جاهلا بهما ، فضلا عن كونه عالما باحدهما جاهلا بالآخر.

ويتفرع على ذلك ، ضمان الصبي والمجنون وإن كانا غير مدركين ، وضمان السكران والمغمى عليه والنائم والغافل.

والسبب في ذلك ، هو أن الفعل موضوع بهيئته ومادته للحدث المنتسب لا غير ، وأما الإرادة والاختيار والمباشرة وغيرها ، فإنها أمور خارجة عن مدلوله ، بل لا يعقل كونها داخلة فيه لأنها من الانقسامات اللاحقة له ، المترتبة عليه ، ترتب العلة على المعلول ، بنظر اهل العرف بل والواقع.

إن قلت : فما هو الوجه في اعتبار القصد والاختيار والمباشرة في صحة المعتقدات والعبادات البدنية ، بل والمشوبة بالمالية كالحج وما هو الوجه في

١٤٤

اعتبار القصد والاختيار في المعاملات. مع صحة نسبة ذلك كله لفاعله نسبة حقيقة.

قلت : اعتبار القصد والاختيار والمباشرة في الأمور المذكورة ليس من جهة دلالة الفعل بهيئته أو مادته على ذلك ، بل من جهة اخرى. فإن الدليل الدال على كون الشيء عبادة ، وعلى اشتراط صحتها بالاتيان بها قربة إلى الله سبحانه قاض بذلك.

وأما الدليل على اعتبار القصد والاختيار في العقود والايقاعات ، فهو الادلة الخاصة نحو قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ).

الموضع الثالث : ربما يتوهم أن هذه القاعدة من صغريات قاعدة على اليد ، وأن البحث في تلك يغني عن البحث في هذه.

وفيه : أن النسبة بين القاعدتين العموم من وجه ، لاجتماعهما في التالف تحت اليد ، ولانفراد قاعدة على اليد في ما هو تحتها ، وليس بتالف ، وفي التالف بسب سماوي ، ولانفراد قاعدة من اتلف في التلف السببي مع كون التالف ليس تحت اليد ، وبعد ذلك كيف يتوهم كونها من صغرياتها .. وكيف يمكن أن تكون قاعدة اليد موجبة للاستغناء عن البحث في قاعدة من اتلف.

الموضع الرابع : لا ريب في سببية الاتلاف للضمان في الجملة لأمور كثيرة.

منها : أنه ضروري فضلا عن كونه اجماعي.

ومنها : أدلة أسباب الضمان ، فإن معظم أنواع الاتلاف مندرج في قاعدة على اليد ، وقاعدة الاحترام ، وقاعدة الاستيفاء ، وقاعدة الغرور.

ومنها : النصوص الخاصة الناظرة إلى عنوان الاتلاف الواردة في الأعيان ، والمنافع في النفوس والأموال ، وسنذكر شيئا منها عند الحاجة إليه.

وينبغي التنبه إلى أن الاتلاف تارة يكون بالمباشرة وأخرى بالتسبيب ، أما

١٤٥

الإتلاف بالمباشرة فقد قال فيه في الجواهر (١) الأول ـ يعني من أسباب الضمان ـ مباشرة الاتلاف بلا خلاف فيه بين المسلمين فضلا عن المؤمنين بل الاجماع بقسميه عليه إن لم يكن ضروريا سواء أكان المتلف عينا ، كقتل الحيوان المملوك وتخريق الثوب ، أو منفعة ، كسكنى الدار الدار وركوب الدابة. انتهى.

وقال الشيخ الوالد قدس الله روحه في الشذرات العاملية (٢) السابع ـ يعني من أسباب الضمان ـ الاتلاف وإيجابه الضمان كاد أن يكون ضروريا ، ويدل عليه مع ذلك عموم ما دل على نفي الضرر ، مضافا إلى الأخبار الخاصة في الموارد المختلفة ، في الأعيان والمنافع ، في النفوس والأموال التي لا يسع المقام التعرض لها ، على أن القطع بالحكم يغني عن الاطالة ، بذكر ما يدل عليه زيادة عما ذكرناه ، انتهى.

وأما الاتلاف بالتسبيب ، فهو على انواع ، بعضها موجب للضمان ، وبعضها لا يوجبه ، وبعضها محل تردد.

النوع الأول : من انواع الاتلاف بالتسبب ما إذا حفر شخص بئرا أو حفيرة ، في طريق المسلمين أو رمى فيه شيئا فتضرر به بعض المارة ، ولا ريب في كون المسبب ضامنا ، ومثله ما لو فعل ذلك في ملك غيره ، ولا ينبغي الريب في ذلك للنص والفتوى وفي الجواهر (٣) بلا خلاف أجده في أصل الضمان بل يمكن تحصيل الاجماع عليه ، قلت والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين صحة نسبة الاتلاف إليه على نحو الحقيقة وعدمها فلو نفرت الدابة بصاحبها بسبب شيء من ذلك فضلا عما إذا عثرت به أو سقطت فيه ، فعقرت أو اتلفت أو عقرت كان ضامنا.

ويدل على ذلك النصوص الكثيرة.

__________________

(١) الجواهر كتاب الغصب م ٣٧ ص ٤٦.

(٢) مخطوط يحتوي معضلات المسائل العامة الابتلاء من غير العبادات كالخيارات ، والولايات ، واسباب الضمان وغيرها ..

(٣) الجواهر م ٣٧ ص ٤٦.

١٤٦

منها : صحيح زرارة ، عن ابي عبد الله (ع) قال قلت له رجل حفر بئرا في غير ملكه ، فمر عليه رجل فوقع فيها ، فقال (ع) عليه الضمان ، لأن كل من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان.

ومنها : رواية ابي الصباح الكناني قال : قال أبو عبد الله (ع) من اضر بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن.

ومنها : موثقة سماعة قال سألته عن الرجل يحفر البئر في داره ، أو في أرضه ، فقال أما ما حفر في ملكه فليس عليه ضمان ، وأما ما حفر في الطريق ، أو في غير ما يملك ، فهو ضامن لما يسقط فيه (١).

ومنها : صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن الشيء يوضع على الطريق فتمر الدابة ، فتنفر بصاحبها ، فتعقره. فقال (ع) كل شيء يضر بطريق المسلمين ، فصاحبه ضامن لما يصيبه (٢).

ومنها : رواية السكوني عن أبي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (ص) من أخرج ميزابا أو كنيفا أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابة ، أو حفر شيئا في طريق المسلمين ، فأصاب شيئا فعطب ، فهو له ضامن (٣) وقد رواه المشايخ الثلاثة.

وأنت ترى أن هذه النصوص دالة على ضمان كل ما يتلف بكل تصرف في طريق المسلمين ، وإن لم تصح نسبة الإتلاف للمتصرف على وجه الحقيقة ، فلو نفرت الدابة فاتلفت ، وكانت تنفر مما لا ينفر منه غيرها كان ضامنا للإطلاق.

وهل يلحق بطريق المسلمين سائر الممتلكات للعامة كالمراعي والمساحات العامة والأسواق العامة والبيادر العامة ، وحريم العيون والأنهار والآبار العامة بل والمساجد والحسينيات ، والمدارس والخانات والرباطات الظاهر ذلك ، للقطع بوحدة المناط ، ولعدم خصوصية الطريق ، ولعموم قوله (ع) في صحيح زرارة

__________________

(١) الوسائل م ١٩ ب ٨ من ابواب موجبات الضمان ص ١٧٩ ح ١ و٢ و٣.

(٢) الوسائل م ١٩ ب ٩ من ابواب موجبات الضمان ص ١٨١ ح ١.

(٣) الوسائل م ١٩ ب ١١ من ابواب موجبات الضمان ص ١٨٢ ح ١.

١٤٧

لأن كل من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان.

وهل يلحق الطريق الخاص المشترك بين جماعة بالطريق العام احتمالان ، وربما يقال بعدم الضمان للأصل ، ولانصراف طريق المسلمين للعام ، وربما يقال بالضمان لأنه يصدق عليه كونه طريقا للمسلمين في الجملة ، وإن لم يكن طريقا لكل فرد منهم. مضافا إلى كونه مما حفره في غير ملكه ، وحينئذ فلا إشكال في الضمان.

ولو تصرف في ملك غيره بمثل ذلك ، فتضرر المالك ، فلا ريب في الضمان للنص المتقدم.

ولو تضرر غير المالك به ، فهل يكون المتصرف ضامنا للإطلاق أو لا ، للأصل ، وجهان.

وربما يرجح الضمان ، بدعوى أنه أولى من الضمان به في الممتلكات العامة ، وفيه أن الأولوية ممنوعة ، لأن المتضرر في الممتلكات العامة له حق فيها ، لأنه من جملة المسلمين ، بخلاف ما نحن فيه ، فإن المتضرر بمروره أو دخوله في ملك غيره لا حق له في ملك غيره. هذا ولكن ظاهر صحيح زرارة هو الضمان لقوله فمر عليه رجل مضافا إلى ترك الاستفصال.

النوع الثاني : من أنواع الإتلاف بالتسبيب.

أن يتصرف المالك في ملكه ، فيحفر فيه بئرا أو حفيرة ، أو يربط دابة ، أو يضع متاعا أو آلة في ملكه ، فيدخله غيره ، فيتضرر ، ولا ينبغي الريب في كونه غير ضامن للأصل وللنص ، فلو وقع في البئر فمات ، أو عثر فكسر ، لم يكن على المالك شيء.

ويدل على ذلك الأصل والنص ومنه مفهوم صحيح زرارة ، وصريح موثق سماعة المتقدمين في النوع الأول ، وخصوص صحيح زرارة الآخر ، عن أبي عبد الله (ع) قال لو أن رجلا حفر بئرا في داره ثم دخل رجل «داخل»، فوقع

١٤٨

فيها! لم يكن عليه شيء ولا ضمان ، ولكن ليغطها (١). وأنت ترى أن التسبب في هذا النوع وسابقه على نحو واحد ، وإن نسبة الإتلاف للمتصرف في طريق المسلمين وفي منزله ليست على نحو الحقيقة ، وهذا يدل على أن الضمان في النوع للأول من جهة تصرفه تصرفا لا حق له فيه ، لأنه مزاحم لحق غيره ، فهو أشبه بالعقوبة ، وليس لأنه متلف بنحو التسبيب بخلاف تصرفه في ملكه الخاص.

وربما يتوهم متوهم أن الأمر بالتغطية يقتضي الضمان مع عدمها. وفيه أنه لا يقتضي ذلك لعدم الملازمة بين الأمر بالتغطية وبين الضمان كما أنه لا ملازمة بين وجوب إنقاذ الغريق ، وبين ضمانه لو تعمد عدم إنقاذه ، سواء كان هذا الأمر إرشاديا أو مولويا على نحو الاستحباب أو الوجوب ويدلك على ذلك ، إن إنقاذ الغريق وأجب بلا ريب ومع ذلك فلو ترك الإنقاذ أو تهاون فهلك كان آثما. ولم يكن ضامنا فأنا لا نعرف فقيها ذكر الضمان في هذا الحال.

هذا مضافا إلى أن ظاهر الأمر بالتغطية بعد الحكم بعدم الضمان هو الحث على التحفظ لئلا يقع ما وقع. ولو كان دخيلا في الضمان لوجب الإشارة إليه ، وتفريع الضمان على إهماله.

وهل يفرق بين من دخل بغير إذن المالك فلا يكون مضمونا ، للأصل ، ولأنه هو القدر المتيقن من النص وبين من استأذن فأذن له أو استدعاه فأجاب ، فيكون مضمونا عليه لكونه سببا من حيث الإذن وإهماله الإعلام بالحفر أو من حيث الاستدعاء لكونه حينئذ غارا له أو مفرطا به احتمالان.

أظهرهما عدم الضمان مطلقا للأصل ولاطلاق النص ولانتفاء الغرور والتفريط. أما انتفاء الغرور ، فلأنه عبارة عن الترغيب في الشيء والإغراء به. بقصد الوقوع فيه ، كما هو ظاهر النصوص التي يجمعها قولهم المغرور يرجع على من غرّه ، وهذا ليس منه بالضرورة نعم إذا كان قاصدا إيقاعه في الحفيرة كان منه.

__________________

(١) الوسائل م ١٩ ب ٨ من أبواب موجبات الضمان ص ١٧٦ ح ٤

١٤٩

وأما انتفاء التفريط ، فلأنه فرع وجوب الحفظ أعني حفظ مال الغير أو نفسه ، ووجوب الحفظ فيهما لا دليل عليه ومقتضى الأصل عدمه نعم دلّ الدليل على وجوب حفظ الأمانات بجميع أنواعها كما دل على ضمانه لها لو فرط في حفظها ، ثم أنه هل يفرق بين تغطية الحفيرة بما يمنع من الوقوع فيها عادة أو بما يشير إلى تجنبها والابتعاد عنها احتمالان.

ومقتضى الأصل واطلاق النصوص المتقدمة ، بل وإطلاق قاعدة السلطنة هو العدم.

النوع الثالث : من أنواع الإتلاف بالتسبيب ما لو تصرف المالك في ملكه ، تصرفا غير مضر بغيره عادة ، ثم يتضرر غيره به قضاء وقدرا ، وفي ضمانه حينئذ احتمالان ، والمشهور العدم.

قال في الشرائع : لو أرسل في ملكه ماء ، فأغرق مال غيره ، أو أجج نارا فيه فأحرق لم يضمن. ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا.

وعقبه في الجواهر بقوله : بلا خلاف أجده فيه بل في المسالك الاتفاق وقيد عدم الضمان في الجواهر بعدم ظن التعدي فضلا عما لو اعتقد أو ظن عدم التعدي (١). وقد استدلوا لذلك ، أو يمكن الاستدلال له بأمور :

أولها : الأصل ، بعد عدم التفريط ، وعموم تسلط الناس على أموالهم كما في الجواهر.

وفيه : أنه إنما يصح الاستدلال بالأصل ، إذا كانت قاعدة من أتلف غير ثابتة ، أو كانت ثابتة ، ولم يكن ما نحن فيه من مواردها ، لعدم صحة نسبة الإتلاف إليه نسبة حقيقية لأن هذا النوع من الضرر يعد في نظر العرف من القضاء والقدر لا من أفعال المتصرف في ملكه.

ويؤيده : استقرار طريقة العقلاء ، على عدم ضمان من أجج نارا في منزله أو بيته للاستدفاء أو للطبخ أو لغير ذلك ، ثم هبت ريح عاصفة ،

__________________

(١) الجواهر م ٣٧ ص ٥٩

١٥٠

فحملت جذوة منها وأحرقت زرعا أو حطبا أو غير ذلك للآخرين.

ثم أن قضية التفريط لا ربط لها فيما نحن فيه لأنها متفرعة على وجوب الحفظ وقد أوضحنا حاله في آخر النوع الثاني ، وبالجملة لا ريب أنه لا يجب على المسلم حفظ مال غيره ، ولو وجب لكان كل مسلم عاصيا لتركه هذا الواجب لكثرة أموال المسلمين المفتقرة إلى من يحفظها. نعم ثبت وجوب حفظ الأمانات ، وثبت وجوب ضمان الأمين مع التعدي أو التفريط ، ولا يسوغ التعدي منها إلى غيرها بدون دليل. ومن المعلوم أن الأصول تنفي الوجوب والضمان. ثم أنه لا ملازمة بين وجوب الحفظ والضمان. كما أوضحناه في النوع الثاني ومثلنا له بتعمد ترك إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق.

ثانيها : ما حكاه في الجواهر عن المسالك : من أن سببيته في الإتلاف ضعيفة بالإذن له من قبل الشارع في فعل ذلك في ملكه فلا يتعقبه ضمان.

وفيه أنه أن رجع إلى ما ذكره في الجواهر ففيه ما فيه ، وإلا فلا نعرف له محصلا آخر ، وبالجملة نحن نسلم أنه مسلط على ماله ونسلم أن تصرفه شرعي ، ونحن نسلم أنه لو لم يفعل ما فعله لم يتضرر من تضرر ونسلم أيضا أن مقتضى الأصل البراءة ، ولكن الكلام في أن مثل هذا النوع من التسبيب موجب للضمان أو لا ..

فالأولى الاستدلال لعدم الضمان بالأصل بعد عدم الدليل ، وبعد عدم ثبوت قاعدة التسبيب وقاعدة من أتلف ومضافا إلى عدم صحة نسبة الإتلاف إليه بنظر العرف.

ثالثها : إن مقتضى الأصول عدم الضمان مطلقا ، خرج منه موردان بالإجماع ، أحدهما مباشرة الإتلاف. وثانيهما : التسبب الذي هو في قوة المباشرة. وضابطه : أن لا يتوسط بين السبب والمسبب إرادة فاعل مختار ، ولا أمور كونية تمنع من صحة إسناد الإتلاف للمسبب إسنادا حقيقيا بنظر العقلاء ، وما نحن فيه ليس داخلا في شيء من ذلك ، ولم يرد فيه نص خاص.

إن قلت : قد ثبت الضمان شرعا في موضعين ، وهما نظير ما نحن فيه.

١٥١

أحدهما : كل عمل يعمله الإنسان في طريق المسلمين يضر بالمارة. وثانيهما : كل عمل يعمله في ملك غيره. فإنه يثبت ضمان السبب وإن لم يكن مباشرا ، ولا تسبيبه تسبيبا توليديا ، كما في نفور الدابة وقتلها راكبها أو سائقها أو غيرهما ، وقد تقدم ذلك في النوع الأول والثاني من أنواع التسبيب ، وما نحن فيه لا يقل عنه.

قلت : ما ذكرته مسلم وقد ثبت بالنص الخاص. ولكن إلحاق ما نحن فيه لا يتم إلا بناء على القياس الذي لا نقول به. هذا : مضافا إلى أنه منقوض بثبوت عدم الضمان في نظيره بالإجماع كما تقدم في النوع الثالث.

وقد قالوا هناك أن من أجج نارا في ملكه فأحرق مال غيره أو أجرى ماء فأغرق لم يكن ضامنا ...

النوع الرابع : من أنواع الإتلاف ، بالتسبيب التوليدي الذي هو في قوة المباشرة ، وضابطه أن لا يتوسط بين السبب والمسبب إرادة فاعل مختار ، ولا أمور كونية تمنع من صحة إسناد الإتلاف للسبب إسنادا حقيقيا بنظر العقلاء ، ولا ينبغي الريب في كون المسبب ضامنا في القرض ، وعدّه في الجواهر من الإتلاف بالمباشرة واستوضح الضمان فيه ولعله جعله من الضروري أو المتسالم عليه كما أتخطره فعلا.

قلت : ولا ينبغي الريب في كونه نوعا من أنواع مباشرة الإتلاف فإن سببية دفع إنسان آخر في بئر أو أتون في الموت أو الكسر أو الاحتراق أوضح من سببية ضربه بالعصا أو إطلاق النار عليه من البندقية.

ولا فرق في ذلك بين قصد ترتب الأثر الحاصل أو الأقل منه أو عدم القصد. فلو دفعه بقصد المداعبة أو أطلق عليه النار من بندقية يعتقد عدم وجود طلقة في جوفها أو معتقدا بأنها غير صالحة ، فقتله ، كان ضامنا ويدل على ذلك روايات كثيرة.

منها : صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) في رجل دفع رجلا على رجل فقتله .. فقال (ع) : الدية على الذي وقع على الرجل فقتله لأولياء المقتول.

١٥٢

قال : ويرجع المدفوع بالدية على الذي دفعه. قال : وإن أصاب المدفوع شيء فهو على الدافع أيضا.

ومنها : رواية رزين عن أمير المؤمنين (ع) في حديث قال : إياك أن تدفع فتكسر فتغرم (١).

ومنها : رواية الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن رجل ينفر برجل فيعقره. وتعقر دايته رجلا آخر ، قال (ع) : هو ضامن لما كان من شيء (٢) والسند كله جيد ولكننا لا نعرف أبي المعزاء أو المغراء فعلا.

ومنها الروايات الواردة في تحديد قتل الخطاء وإيجابه الدية (٣) فإن هذا الصنف يدل على الضمان. وإن لم يقصد القتل ودعوى الفرق بين النفوس والأموال ممكنة إلا أنها خلاف المرتكز.

النوع الخامس : من أنواع الإتلاف بالتسبيب ما يتلفه غير المكلف ، كالصغير والمجنون وهو مضمون عليه ، لصدق النسبة. فإن كان له مال ضمن عنه الولي ، لأنه دين شرعي كسائر الديون وإلا اشتغلت ذمته به ، وخوطب به بعد البلوغ والإفاقة.

النوع السادس : من أنواع الإتلاف بالتسبيب ما لو أذن المالك لشخص بالإتلاف فأتلف ، فهل يضمن المتلف أو لا ، احتمالان.

فإن هذا الإذن ، مرة يستفاد منه الهبة ، وحينئذ يكون خارجا عن موضوع المسألة لأن الإتلاف يكون مقارنا للقبض المملك ، وحينئذ يكون أتلف ما يملكه هو ، لا ما يملكه الآذن اللهم إلا أن يقال بلزوم تقدم القبض زمانا بنية التملك في باب الهبة. وأخرى لا يستفاد منه إلا إباحة الإتلاف ، وحينئذ فلو أتلفه المأذون فالظاهر أنه آثم لأنه مسرف ، وهل يكون ضامنا أو لا .. وجهان.

__________________

(١) الوسائل م ١٩ ب ٥ من أبواب موجبات الضمان ص ١٧٧ ح ٢ ـ ٣.

(٢) الوسائل م ١٩ ب ٢١ قصاص النفس ص ٤٨ ح ـ ٢ وروى في هذا الباب أيضا رواية ابن سنان ح ١.

(٣) الوسائل م ١٩ ب ١١ من أبواب القصاص في النفس ص ٣٣.

١٥٣

وجه الضمان ، صحة نسبة الإتلاف إليه. ووجه العدم أن الضمان إنما شرع لحرمة المال كما يدل عليه قوله : حرمة مال المسلم كحرمة دمه .. وإذا أذن المالك ، فقد هتك حرمة ماله ، وعليه فلا ضمان.

ويمكن أن يقال بأن الإذن المسقط للضمان ، هو الإذن الذي يقره الشارع وينفذه أما الأذن الذي لا يقره فلا ، ألا ترى أنه لو أذن له بأن يقتله فقتله ، أن ذلك لا يسقط عنه القود أو الدية أو الكفارة.

النوع السابع : من أنواع الإتلاف بالتسبيب ما لو أذن المالك للعامل بالعمل ، فأتلف بدون قصد أو تفريط ، كالحمال يعثر فيكسر ، والطبيب يعالج فيموت المريض بسبب العلاج ، والنجار يضرب المسمار فيكسر ، والبناء يهدم المستهدم فينهدم غيره ، والخياط يقص الثوب فيتجاوز المقص ، والقصار يعالج الثوب فينخرق ، والظاهر أنه لا فرق في ضمان الأجير بين الأجير الخاص والمشترك ، ولا بين كون العمل في ملك صاحب المال وغيره ، وربما يتوهم أن إذن رب المال للعامل إذن بالإتلاف ، إذا كان التلف من لوازم العمل ، لأنه بإذنه له ، يكون قد هتك حرمة ماله ، وحينئذ يكون هذا حاكما على قاعدة الإتلاف.

وفيه : إن هذا إنما يصح لو كان ثمة إذن بالإتلاف ولكنه ممنوع. ثم إنه ربما يتوهم سقوط الضمان لقاعدة الإذن بالشيء إذن في لوازمه. ولكنه توهم فاسد ، ويتضح ذلك بملاحظة تلك القاعدة في هذا الكتاب أعني قاعدة ٢٤ ص ٦٦.

قال في الجواهر (١) مدخلا عبارة الشرائع ، ما لفظه :

المسألة الخامسة : إذا أفسد الصانع ضمن ، ولو كان حاذقا. كالقصار يحرق أو يخرق ، والحجام يجني في حجامته ، والختان يختن فيسبق موساه إلى الحشفة أو يتجاوز حد الختان وكذا الكحال والبيطار مثل أن يحيف على الحافر أو يفسد فيقتل ، أو يجني ما يضر الدابة ولو احتاط واجتهد ، من غير فرق عندنا في جميع هؤلاء بين المشترك والأجير الخاص منهم ، وبين كون العمل في ملكه أو

__________________

(١) الجواهر م ٢٢ ص ٣٢٢ من كتاب الإجارة ـ وفي الطبعة الحجرية ٥٢٢.

١٥٤

ملك المستأجر ، وبين حضور رب المال وغيبته ، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بين المتقدمين والمتأخرين منا.

بل في محكي الانتصار الإجماع على ضمان الصناع ، كالخياط والقصار وما أشبههما لما جنته أيديهم على المتاع بتعد وغير تعد.

وفي (جامع المقاصد والمسالك والمفاتيح) و (التنقيح) الإجماع على ضمان الصانع ما يتلف بيده ، حاذقا كان أو غير حاذق ، مفرطا أو غير مفرط.

وفي محكي (السرائر) نفي الخلاف بين أصحابنا عن ضمان الملاحين والمكارين ما تجنيه أيديهم على السلع.

وفي (التنقيح) نفي الخلاف عن ضمان الصانع.

وفي (الكفاية) أنه لا يعرف فيه خلافا.

وفي محكي (الخلاف والغنية) الإجماع على ضمان الختان والحجام والبيطار كل ذلك مضافا إلى سببية الإتلاف للضمان ، وإلى صحيح الحلبي وحسنه ، عن أبي عبد الله (ع) في الرجل يعطي الثوب ليصبغه فقال كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن. وكذا خبر السكوني والكناني ، مضافا إلى المرسل عن أمير المؤمنين (ع) من تطبب وتبيطر ، فليأخذ البراءة من وليه ، وإلا فهو له ضامن. وأنه قد ضمن ختانا قطع حشفه غلام.

والذي عن (المقتصر) أن عليه عمل الأصحاب. وعن تعليق (النافع) أن عليه العمل ، وديات (النافع) أنه مناسب للمذهب ، بل عن (السرائر) أنه صحيح ومن ذلك يعلم الحال في ضمان الحجام والختان وإن لم يتجاوز محل القطع ، إذا اتفق حصول التلف بفعله. لكن في محكي (التحرير) لو لم يتجاوز محل القطع مع حذقه في الصنعة ، فاتفق التلف ، فإنه لا يضمن. وعن (الكفاية) أنه غير بعيد ، وفيه أنه مناف لقاعدة الإتلاف وغيرها. ومن هنا قال في (جامع المقاصد) بعد أن حكاه عنه هذا صحيح ، إن لم يكن التلف مستندا إلى فعلهم ولكن قد يناقش بعدم صدق الجناية على ذلك ونحوه ، مما بين مستأجر عليه ، ومأذون فيه ، بل لعل ذلك هو التحقيق في المسألة وبين ضمان

١٥٥

الصناع لما تجنيه أيديهم وإن كان من غير تقصير منهم. بل وكذا الطبيب والبيطار ، إذا حصل التلف بالطبابة والبيطرة ، ولعل ذلك مقتضى القاعدة فضلا عن النصوص التي سمعت جملة منها.

وفي خبر بكر بن حبيب عن أبي عبد الله (ع) لا تضمن القصار إلا ما جنت يداه وإن اتهمته أحلفته .. وحينئذ فلا ضمان مع عدم الفساد ، من حيث الصنعة والعمل ، وإن اتفق نقصان قيمة الثوب مثلا بحصول العمل منه. وكذا المأمور بالختن والحجامة ونحوهما ، ولم يكن منه فساد وخيانة من حيث العمل المأمور به ، وإن اتفق التلف به. نعم لو كان ذلك بعنوان الطبابة والبيطرة ترتب الضمان لحصول الفساد بما كان يراد منه الإصلاح ، وإن لم يكن عن تقصير ، والله العالم. انتهى كلام الجواهر بلفظه وقد بقي جملة أخرى ترتبط بما نحن فيه وفيها جملة فروع.

النوع الثامن : من أنواع الإتلاف بالتسبيب ما إذا اتجهت النار أو الماء أو السهم إلى شخص فحاد عنه فاضر بغيره ولا ينبغي الريب في أنه لا يكون ضامنا لذلك الضرر للأصل ، ولعدم شمول شيء من الأمور المتقدمة الدالة على الضمان لمثله. مضافا إلى فحوى رواية أبي بصير الآتية.

ولو دفعه عن نفسه ، فوقع في غيره بدون قصد فكذلك للأصل ، ولرواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل كان راكبا على دابة فغشي رجلا ماشيا ، حتى كاد أن يوطئه ، فزجر الماشي الدابة عنه ، فخر عنها ، فأصابه موت أو جرح ، قال : ليس الذي زجر بضامن ، إنما زجر عن نفسه (١).

النوع التاسع : ما إذا حفر المالك بئرا في ملكه أو غرس شجرة ، أو حفيرة ، فاضرت بجاره ، فلا ريب في وجوب كف ضرره ، لحديث نفي الضرر ، الحاكم على قاعدة السلطنة كما أوضحناه في قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

مضافا إلى إمكان استفادة ذلك من قاعدة السلطنة نفسها ، لأنها تدل بالمطابقة على كونه مسلطا على ماله ، وتدل بالالتزام على منع غيره من مزاحمته في

__________________

(١) الوسائل م ١٩ ب ٢١ من أبواب قصاص النفس ص ٤٢ ح ٣.

١٥٦

تلك السلطنة ، وإلا كان غيره شريكا له فيها ، ولا ريب أن الجار مسلط على ماله. فإباحة تصرف جاره تصرفا مضرا به ترجع إلى إباحة تصرف الجار في ملك غيره.

ثم أنه هل يضمن ما يتلف بتصرفه في المثال الآنف ، إذا كان معتقدا بأن تصرفه لا يضر أو كان غافلا احتمالان.

ومقتضى الأصل العدم ، بل ومقتضى ما قدمناه في النوع الثالث أيضا ، ولا سيما مع حصول الضرر بواسطة البئر والبالوعة.

وربما يفرق بينهما بما هو ليس فارقا ، ومقتضى إطلاق قاعدة الإتلاف وصحة نسبته إليه هو الضمان ، ولكنك قد عرفت المناقشة فيها ، وإن نفس القاعدة ليست رواية ، وأن مضمونها المطلق ليس معقد إجماع. ويتضح كونه ليس معقد إجماع بملاحظة اختلافهم في حكم الأنواع التي ما زلنا نستطردها.

وبالجملة : الإجماع لبي ، مضافا إلى أنه منقوض بالإجماع على عدم الضمان في النوع الثالث. فراجع.

ولنختم هذه القاعدة :

بما ذكره الشيخ الوالد في مخطوطه الشذرات العاملية لأنه يتضمن ما هو المرتكز في أذهان الفقهاء وما ذكروه من الموارد ، ولكنه مفتقر إلى ملاحظة ما حررناه ، فإن من اعتمد عليه مستقلا قد يفتي بخلاف مقتضى الأدلة القطعية. وهو ما يلي :

قال في «الشذرات العاملية»أعلى الله مقامه : وكيف كان فالظاهر من ابتناء الضمان في الأخبار على الإتلاف والإضرار ثبوته على من يتحقق منه ذلك ، ويصح نسبته إليه عرفا ، بل هو صريح قوله : من أضر بشيء من طريق المسلمين ونحوه .. ولا ريب في تحقق تلك النسبة مع العلم والجهل ، من غير فرق بين الحكم والموضوع ومع التكليف وعدمه.

فإذا حرك النائم يده أو رجله فأتلف شيئا ضمنه ، لأنه متلف ، ويقال عرفا أتلف. وكذا المجنون والصغير ، والمكلف بالأداء عنهما ، الولي إن كان لهما

١٥٧

مال ، كما في سائر الحقوق المالية ، وإن لم يكن لهما مال يتعلق الحق في الذمة ، ويكلفان بأدائه عند البلوغ والإفاقة. ومن هنا يعلم أنه لا عبرة بالتسبيب والمباشرة ، إذ لا أثر لهما في النصوص ، بل المدار على صدق النسبة عرفا ، كما ذكرناه ، ولعل السبب في اعتناء الأصحاب بهما والبحث عنهما هو ضبط المصاديق العرفية ، كما ينكشف ذلك بتتبع كلامهم في موارد الضمان ، في كتابي الغصب والديات.

من ذلك استدلالهم على تغريم من دفع غيره في بئر حفرها ثالث بأنه متلف ، وتغريم من أزال وكاء الظرف فسال ما فيه بصدق الإتلاف. والأشكال من بعضهم في تغريم من فتح رأس الزق فذاب ما فيه من الشمس فسال ، للشك في صدق الإتلاف.

وكذا لو فتحه ثم أطارته الريح فسقط ما فيه ، للشك أيضا في نسبة الإتلاف إلى الفاتح وحكمهم بالضمان ، فيما لو ألقي صبيا عاجزا أو حيوانا في مسبعة فقتله السبع ضمن ، لأن الإتلاف كان بسببه. وترددهم فيما لو اغتصب شاة فمات ولدها جوعا ، أو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتفق تلفها ، للشك في إسناد التلف إلى الغاصب إلى غير ذلك من الفروع التي ذكروها .. وأنت بعد المراجعة تجزم بأن المعيار ما قلناه وأن مدار كلامهم عليه. ومن ذلك يعلم أن تغريمهم المكره (بالكسر) ما أتلفه المكره (بالفتح) مع سلب الإرادة منه ، على وجه يكون كالآلة لقوة السبب وضعف المباشر ليس إلا لإسناد الفعل والإتلاف عرفا إلى المكره (بالكسر). وينبغي التنبه إلى أن السبب والمباشر ليس لهما أثر في النصوص ، ليكونا عنوانين ، ويناط بهما الحكم. فالحكم بالضمان على المكره (بالكسر) آت على مقتضى القاعدة ، فلا وجه للتشكيك فيه وهذا بخلاف المغرور ، فإن اغتراره لا يسلبه الاختيار ولا يمنع من إسناد الفعل إليه غايته أن له أن يرجع بما ضمنه على الغار ، لقاعدة المغرور يرجع على من غره.

ثم اعلم أن الإتلاف كما يتعلق بالعين يتعلق بالمنفعة ، ويتحقق في المنفعة بتفويتها على المالك ، لو أقفل دارا ومنع أهلها من سكناها ، أو حبس دابة ومنع

١٥٨

صاحبها من استعمالها ، فإنه يضمن الأجرة في المثالين لصدق الإتلاف. انتهى بلفظه.

٤٥ ـ قاعدة القرعة

والكلام فيها في مواضع.

الموضع الأول : في مدركها ، وهو آيات وروايات.

أما الآيات فقوله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) ٣٧ ـ ١٤١.

وقوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ٣ ـ ٤٤.

وأما الروايات.

فمنها : صحيح سيابة وإبراهيم بن عمر جميعا ، عن أبي عبد الله (ع) في رجل قال : أول مملوك املكه فهو حر ، فورث ثلاثة قال (ع) يقرع بينهم ، فمن اصابه القرعة اعتق قال ، والقرعة سنة (١).

ومنها : الصحيح إلى إسماعيل بن مرار عن يونس قال في رجل كان له عدة مماليك فقال : أيكم علمني آية من كتاب الله فهو حر ، فعلمه واحد منهم ، ثم مات المولى ، ولم يدر أيهم الذي علمه ، أنه يستخرج بالقرعة يستخرجه الإمام ، لأن له على القرعة كلاما ودعاء لا يعلمه غيره (٢).

ومنها : ما في عدة روايات : ليس من قوم تنازعوا ، ثم فوضوا امرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق. وفي اخرى : ليس من قوم تقارعوا .. الخ (٣).

ومنها : المرسل عن الصادق (ع) ما تنازع قوم ففوضوا امرهم إلى الله عزّ

__________________

(١) الوسائل م ١٨ ب ١٣ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ح ٢ و٤ و٥ و٦ وغيرها ص ١٨٧ وما بعدها.

(٢) الوسائل م ١٦ ب ٣٤ من ابواب العتق ح ١ ص ٤٤.

(٣) الوسائل م ١٤ ب ٥٧ من ابواب نكاح العبيد والاماء ح ٤ ص ٥٦٧ والرواية المذكورة طويلة وقد ورد في هذا الباب روايات كثيرة في القرعة ولكنها ليست ناظرة لكي القرعة.

١٥٩

وجل الا خرج سهم المحق. وقال أي قضية اعدل من القرعة ، إذا فوض الأمر إلى الله أليس الله يقول : فساهم فكان من المدحضين.

ومنها : رواية محمد بن حكيم (حكم) قال : سألت أبا الحسن الكاظم (ع) عن شيء فقال لي : كل مجهول ففيه القرعة. قلت له : إن القرعة تخطى وتصيب. قال : كل ما حكم الله به فليس بمخطئ.

ومنها : صحيح حماد عمن اخبره عن حريز عن أبي جعفر (ع) قال : أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ، وهو قول الله تعالى (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ.) والسهام سنة ثم استهموا في يونس لما ركب السفينة. الحديث.

ومنها : رواية منصور بن حازم ، قال : سأل بعض اصحابنا أبا عبد الله (ع) عن مسألة ، فقال : هذه تخرج في القرعة. ثم قال : فأي قضية اعدل من القرعة إذا فوضوا امرهم إلى الله عزوجل .. أليس الله يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).

ومنها : ما رواه الشيخ في النهاية ، قال : روى عن ابي الحسن موسى ابن جعفر (ع) وعن غيره من آبائه وابنائه من قولهم (ع) : كل مجهول ففيه القرعة ، فقلت إن القرعة تخطى وتصيب ، فقال : كل ما حكم الله به فليس بمخطئ (١).

اقول : اخبار القرعة كثيرة جدا ، تكاد تكون متواترة ، بل هي متواترة ، وهي معمول بها في الجملة ، ولكن ما يحفظ من أن القرعة لكل امر مشكل ، أو مشتبه بفتح الباء أو كسرها لم اجده بلفظه في اخبارنا ، ولكن ورد عن ابي الحسن الكاظم عنه أو عن آبائه (ع) قولهم : كل مجهول ففيه القرعة (٢).

نعم الموارد التي طبقت عليها القرعة في النصوص قسمان ، قسم من

__________________

(١) الوسائل م ١٨ ب ١٣ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ح ١٣ ـ ١١ ـ ١٢ ـ ١٧ ـ ١٨ ـ ص ١٨٧.

(٢) الوسائل م ١٨ ب ١٣ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ح ١١ ـ ١٨ ص ١٨٧.

١٦٠