قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

يكون من باب الشك في المانع لثبوت اقتضاء الدم للنجاسة ومانعية كونه من غير ذي النفس ومثله صورة الشك في كونه من المسفوح النجس أو من المتخلف الطاهر.

فإن قلنا بجريان أصالة عدم المانع ثبت تأثير المقتضي ، وإلا وجب الرجوع للأصول الأخرى.

ونظير قاعدة المقتضي والمانع ما قيل أو يقال : من أنه إذا علق الحكم على عنوان وجودي كان الشك في حصوله كافيا في عدم ترتب أثره من دون حاجة إلى الرجوع إلى أصالة العدم أو غيرها من الأصول ، وربما يظهر هذا من تعاليق شيخ مشايخنا النائيني على هامش العروة الوثقى. ويشهد لهذا ما قاله أهل المنطق : من أن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت ذلك الشيء.

٣٩ ـ قاعدة التنزيل

اعلم : أن المقصود بالتنزيل هو تنزيل الشارع موضوعا منزلة موضوع آخر بلحاظ حكمه.

والعبارات المؤدية لهذا المعنى كثيرة ، أوضحها ما اشتمل على مادة التنزيل كقوله (ص) يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وقوله (ص) علماء أمتي بمنزلة أنبياء بني إسرائيل. وقوله (ع) بالنسبة للمقيم عشرا بمكة هو بمنزلة أهل مكة ، فإنه بمنزلتهم بالنسبة لوجوب الإتمام إذا خرج منها إلى عرفات.

ونظير ذلك قوله (ص) الفقاع خمرة استصغرها الناس. وقوله (ص) الرضاع لحمة كلحمة النسب. وقوله (ص) التراب أحد الطهورين. وقوله (ص) عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة.

فإن قوله (ص) : الفقاع خمرة ظاهر في كونه منها حقيقة ، وبعد شهادة الوجدان بخلاف ذلك يتعين حمله بمقتضى دلالة الاقتضاء على كونه خمرا تشريعا من حيثية وحدتهما حكما ، فيكون حملها عليه حملا تشريعيا ادعائيا لأن حملها عليه

١٢١

إنما يصح بالنسبة لما تناله يد التشريع رفعا ، ووضعا ، ولا يكون ذلك إلا بالنسبة للأحكام الشرعية كما هو واضح فإذا نزل الشارع موضوعا منزلة آخر أو جعله منه أو مثله تعين حمله على إرادة حكمه أو ما هو نظير الحكم فقوله (ص) يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ظاهر في ثبوت كل ما كان له (ص) لعلي (ع) ويكون استثناء النبوة قرينة على عموم التنزيل.

وقوله (ص) : الرضاع لحمة كلحمة النسب ، يكون ظاهرا في كونه مثله في كل شيء حتى الميراث لو لا تصريح الأدلة باختصاص الميراث بالنسب والسبب والولاء بخلاف قوله (ص) يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ، فإن مادة الحرمة تمنع من شمول الميراث ويجري الكلام المذكور في جميع هذه الأمثلة.

وينبغي أن يعلم : أن التنزيل مختص بالأحكام الثابتة لذي المنزلة بعنوانه الأولي ، دون ما هو ثابت له بعنوانه الثانوي ، فالأحكام الثابتة للخمرة بعنوانها الأولي تثبت للفقاع بدليل التنزيل وأما الأحكام الثابتة له بعنوانه الثانوي فلا ، لظهور الدليل في ذلك.

مثلا إذا انقلبت الخمرة خلا ، حلّت وطهرت ، وطهر ما يتعلق بها ، ولكن لو انقلب الفقاع خلا ، لن نحكم بحليته ولا بطهارته وطهارة ما يتعلق به لعدم شمول التنزيل لمثله.

وإذا نذر شخص أن يتصدق بدرهم إذا رأى خمرا في منزله وكان يقصد بنذره هذا زجر نفسه ومن يتعلق به عن الخمر انعقد نذره ووجب عليه التصدق لو رآها في منزله ولكن لو رأى فقاعا في منزله لم يجب عليه التصدق عملا بدليل التنزيل لقصوره عن ذلك ويكون حاله في نذره حال من قصد الخمرة بخصوصها ، نعم ، إذا نذر الخمر وقصد بها مطلق المشروب المحرم ، وجب التصدق لذلك لا لقاعدة التنزيل.

ويمكن الاستدلال لعدم شمول دليل التنزيل للأحكام الثانوية بأن يقال أن إعطاء موضوع حكما لموضوع آخر ، ظاهر في إعطائه لذلك الموضوع بعينه دون ما عداه.

١٢٢

ولا ريب أن الأحكام الثانوية لا ترد على موضوعاتها إلا بعد تعنونها بعناوين ثانوية ، ومن المعلوم أن القيود والعناوين تعدد الموضوع الواحد ، والقيود المعنونة تكون دائما من الانقسامات اللاحقة لفرض وجود الموضوع المرسل العاري عن تلك القيود قبل تعنونه بها ، وتكون مترتبة عليه ترتب المعلول على علته ..

وحينئذ تكون الأحكام الأولية ثابتة لموضوع ، والأحكام الثانوية ثابتة لموضوع آخر مغاير له عقلا وعرفا ، ودعوى استعمال دليل التنزيل في موضوعين طوليين وجمعهما في عرض واحد دعوى بعيدة عن الظهور ، بل ربما يقال بامتناعه بعد كون الأول مع حكمه ملحوظا موضوعا للأحكام الثانوية ، لاستحالة اجتماع مثل هذه اللحاظات في حال واحدة.

٤٠ ـ قاعدة

في أصالة العموم وأصالة عدم المخصص

اعلم : أن أصالة العموم وأصالة عدم المخصص واحدة ، واعلم أنها مرة تكون معتبرة من حيث إفادتها الظن النوعي بالعموم ، سواء أفادت الظن الشخصي ، أو لم تفد ، واخرى تكون معتبرة إذا لم يقم على خلافها ظن نوعي أو شخصي سواء كانا معتبرين أو غير معتبرين ، وثالثة تكون معتبرة حتى إذا كان الظن بقسميه على خلافها.

وتظهر الثمرة فيما لو وجد مخصص يفيد الظن النوعي أو الظن الشخصي. ولكن لم يقم دليل على حجيته كالشهرة والقياس مثلا ، فإنه يؤخذ بأصالة العموم إذا لم نشترط في حجيتها عدم قيام ظن على خلافها ، وأما إذا اشترطنا ، فلا.

ثم إن أصالة العموم وأصالة عدم المخصص معتبرة من حيث استقرار طريقة العقلاء على ترتيب آثارها ، ومن حيث أن الشارع أقرهم على ذلك.

ثم ، إن المخصص مرة يكون قطعي السند والدلالة ، كالنص المتواتر

١٢٣

وكالمخصصات العقلية ، وأخرى يكون ظنيهما معا كخبر العدل الظاهر. وثالثة يكون ظني الدلالة قطعي الصدور ، ورابعة يكون قطعي الدلالة ظني الصدور.

إذا عرفت هذه الصور ثبوتا ، فاعلم : أنه إذا وجد المخصص القطعي سندا ودلالة لم يبق مجال لأصالة العموم ، لأن موردها الشك ، ومع العلم يرتفع الشك .. ومثله قيام المخصص الظني دلالة وسندا ، إذا كان شرط حجية أصالة العموم عدم قيام ظن على خلافهما ، وذلك لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

والتحقيق : أن العقلاء لا يعرفون شيئا من هذه الصور ، بل هم يأخذون بالعام بمقتضى مرتكزاتهم ، ويرون حجيته من باب الظهور النوعي. ومن المعلوم أنه ليس للشارع طريقة خاصة في فهم المحاورات وتفهمها ، بل هو واحد من أهل العرف ، سلك طريقتهم وأقرهم عليها.

ومما ذكرناه : تعرف أصالة الإطلاق وأصالة عدم المقيد ، وأصالة عدم القرينة وعدم الحذف.

ثم ان جميع ما ذكرناه في هذه القاعدة يطرد بالنسبة لحجية جميع الظواهر فإن المحتملات المذكورة في العام والخاص تجيء فيها ، والمدرك واحد سلبا وإيجابا.

ثم أنه ينبغي التنبه إلى اختلاف الحكم بالنسبة للعام الذي يتصل به ما يصلح للتخصيص ، وبين المطلق الذي يتصل به ما يصلح للتقيد ، فإن الأول لا يزعزع العام بخلاف الثاني ، فإنه يزعزع الإطلاق ، كما أن الظواهر المقترنة بما يصلح للقرينية تعتبر مجملة.

وقد برهنا على عدم تمامية الإطلاق المقترن بما يصلح للقرينية في مواطن كثيرة. ومنه يتضح الوجه في عدم انعقاد الظهور عند العقلاء إذا كان الكلام محتفا بما يصلح لان يكون قرينة على خلافه.

١٢٤

٤١ ـ قاعدة

في توضيح موارد أصالة العدم

اعلم : أن استعمال أصالة العدم كثير في الفقه ، وأن مواردها فوق حد الإحصاء ، وإن بعضها حجة بلا ريب ، وبعضها ليس حجة بلا ريب ، وبعضها الآخر محل خلاف ، واعلم أن الفرق بينهما يصعب على غير أهل الفضل.

أما : ما لا ريب في حجيته منها ، فهو الأصول العقلائية المشخصة للظهور الذي هو طريق لاحراز مراد المتكلم المسماة بالأصول اللفظية تارة ، وبالأصول العقلائية أخرى وهي أصالة عدم المخصص وعدم المقيد وعدم القرينة ، ويتبعها أصالة عدم الحذف وعدم التقدير ، وقد يعبر عن أصالة عدم المخصص بأصالة العموم ، وعن أصالة عدم المقيد بأصالة الاطلاق ، وعن الباقي بأصالة حجية الظهور ، وقد يعبر عنها الضعفاء بأصالة الحقيقة ، وهو غلط ، لأن الظهور لا علاقة له بالحقيقة كما ستعرفه ، والوجه في حجية هذه الأصول هو الدليل الدال على حجية ظواهر الكلام ، أعني استقرار طريقة العقلاء وتقرير الشارع لهم. فإن العقلاء يأخذون بظواهر الكلام بعد انتهاء المتكلم من بيان مراده ، ولا يعتنون باحتمال وجود ما يخالف ذلك الظاهر ، وقد انتزع العلماء عن ذلك عبارات تطابقه ، فقالوا : أصالة العموم أو عدم المخصص وأصالة الإطلاق أو عدم المقيد ، وأصالة عدم القرينة أو الظهور ، أو عدم الحذف أو عدم التقرير.

وينبغي التنبه : إلى أنه ان أريد بأصالة العدم الاستصحاب الشرعي ، كان من أوضح الأصول المثبتة ، وأن أريد به استصحاب عدم الحادث ، بمعنى العدم الأزلي أو النعتي ، فلا دليل على حجيته.

ومنها : أصالة عدم التكليف ، وهي قد تكون بمعنى استصحاب عدم التكليف بالنسبة لغير البالغ الذي يشك في بلوغه ، وقد يعبر عنها باستصحاب حال الصغر ، أو باستصحاب عدم البلوغ ، وحينئذ تكون من صغريات

١٢٥

الاستصحاب الشرعي ، وهو مما لا ريب في حجيته.

وقد تكون بمعنى عدم التكليف قبل إرسال المرسل ، ونتيجتها نتيجة أصالة البراءة سواء أريد بها البراءة العقلية أعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع وغيره فإنهما أصلان أصيلان والأدلة عليهما كافية وافية.

وقد أورد على استصحاب عدم الحكم أعني عدم الوجوب ، أو عدم الحرمة أو غيرهما من الأحكام الخمسة ، بأنه أن أريد بهما الاستصحاب الشرعي لم يكن حجة ، لأن عدم الحكم ليس حكما شرعيا ، وليس موضوعا لحكم شرعي. ولو كان عدم الحكم حكما ، لزم كون الأحكام عشرة ، وهو خلاف ما عليه أهل العلم. وإن أريد من عدم الحكم لازمه كان من الأصول المثبتة لأن لازمه وإن كان حكما ، إلا أنه ليس حكما للمستصحب ، فتنبه. والجواب : إن استصحاب عدم الحكم كاستصحاب نفس الحكم عند العلماء ، وبعد إطباقهم على ذلك ، لا يبقى معنى لهذه الشبهة.

ومنها : أصالة حجية ما يشك في حجيته ، وهذا أصل أصيل ، لاستقلال العقل بعدم حجية كل ما لم يقم دليل على حجيته.

ومنها : أصالة عدم براءة الذمة ، وقد يعبر عنها بأصالة الاشتغال وذلك إنما يكون عند امتثال بعض أطراف الشبهة المحصورة. وعند الإتيان بالتكليف مع الشك في انطباق ما كلف به على المأتي به. وهذا الأصل أيضا أصيل ، لاستقلال العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وبعد استقلال العقل بذلك ، لا يبقى مورد لأصالة عدم الامتثال ، أو أصالة عدم انطباق ما كلف فيه على المأتي به ، أو لاستصحاب بقاء التكليف ، أو عدم سقوطه ؛ أو لغير ذلك من الأصول الحاكية عن هذا المعنى ، لأن مورد الأصول الشك ، ولا شك في الفرض ، بعد استقلال العقل بوجوب الاحتياط.

ومنها : أصالة العدم بالنسبة لموضوعات الأحكام الشرعية ، المركبة من

١٢٦

أمرين ، أحدهما وجودي والآخر عدمي ، كوجوب التحيض للخمسين على المرأة غير القرشية.

فإذا شكت امرأة في أنها من قريش لتتحيض للستين ، أو من غيرهم لتتحيض للخمسين قلنا هذه امرأة بالوجدان ، والأصل عدم انتسابها لقريش ، وبذلك نكون أحرزنا موضوع وجوب التحيض للخمسين ، لأن الحكم المذكور علق في النصوص على المرأة التي لم تنتسب لقريش ؛ وهذه امرأة بالوجدان ، وغير منتسبة لقريش بمقتضى الأصل.

إن قلت : أصالة عدم انتسابها لقريش معارض بأصالة عدم انتسابها لغير قريش.

قلت : لا معارضة بين هذين الأصلين ، لأن الأول حجة والثاني ليس حجة ، وغير الحجة لا يعارض ما هو حجة.

بيان ذلك : هو أن موضوع التحيض للخمسين هو المرأة غير القرشية ، وهذه امرأة بالوجدان ، وغير قرشية بمقتضى الأصل كما قلنا ، ووجوب التحيض للخمسين مترتب عليه بلا واسطة ، فهو استصحاب شرعي جامع لجميع الشرائط المعتبرة فيه.

وأما : موضوع التحيض للستين فإنه مركب من أمرين وجوديين وهما المرأة المنتسبة لقريش ، وأصالة عدم انتسابها لغير قريش ، ليس هو جزء الموضوع في القضية الشرعية.

نعم : لازم عدم انتسابها لغير قريش عقلا هو انتسابها لقريش لأنه لا ثالث لهما وهذا اللازم ليس حكما شرعيا. نعم هو موضوع للحكم الشرعي ، أعني وجوب التحيض للستين ، ولكن إثباته باستصحاب موضوع آخر ملازم له ، من أوضح الأصول المثبتة ، التي بنى الفقهاء على عدم حجيتها ، لعدم شمول أدلة الاستصحاب لها ، لأن أدلته ناظرة لنفس الحكم الشرعي ولموضوعه الذي يترتب عليه بلا واسطة ، والتحيض للستين فيما نحن فيه مترتب على هذا

١٢٧

الأصل بواسطة لازم الموضوع الذي جرى فيه ، وهي من أوضح الوسائط وأجلاها.

والضابط الكلي في هذا الباب ، هو أن الموضوع في القضية الشرعية إن كان مركبا من أمرين أحدهما جودي والآخر عدمي ، أمكن إثبات العدمي بالأصل.

وإن كان مركبا من أمرين وجوديين امتنع إثبات أحدهما باستصحاب عدم نقضه لانه يكون حينئذ مثبتا.

وبملاحظة هذا الضابط ، يتضح لك الفرق بين الأصول العدمية الصحيحة التي يستعملها الفقهاء وبين غيرها ، ويتضح لك السبب في استنادهم إليها في مورد وعدمه في نظيره ، مع وحدتهما من حيث اليقين السابق والشك اللاحق ، وإن المدار على كون العدم جزءا من القضية الشرعية ، وليس جزءا فيها.

ولتوضيح ذلك نقول : إن جزء الموضوع في القضية إن كان نفس العدم أمكن إثباته بأصالة العدم عند الشك في وجوده ، وإن كان وجوديا امتنع اثباته باستصحاب عدم نقيضه ، لكونه من الأصول المثبتة. وقد يتوهم جريان أصالة العدم لإحراز عدم الحكم وهو وإن كان صحيحا ، إلا أننا لسنا في حاجة لإحراز عدمه بها ، لانتفائه عقلا بمجرد الشك في موضوعه لاستقلال العقل بذلك ، لأن إثبات شيء لشيء فرع ثبوت ذلك الشيء ومع الشك فيه ، فكيف يدعى ثبوته له.

نعم : لو كان المطلوب إحراز العدم تعين الرجوع لأصالة العدم ، إذ لا طريق لاحراز عدمه حينئذ بدونها.

ومنها : أصالة عدم شرطية ما يشك في شرطيته ، وهو تارة يكون في المعاملات وأخرى في العبادات ، أما أصالة عدم شرطية الشيء في البيع والنكاح مثلا ، فإن رجع إلى أصالة عدم تخصيص العمومات أو عدم تقييد الاطلاقات فلا ريب فيه ، وأما إن رجع إلى غيره فإنه لا أصل له ، فإذا فرض كون أوفوا بالعقود عاما وكون قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مطلقا ومثله : الصلح جائز بين المسلمين ، وصدق عنوان البيع أو الصلح أو العقد جرت أصالة عدم الشرط المشكوك بمعنى أصالة عدم المخصص والمقيد ، وهذا واضح

١٢٨

عند الفقهاء ، وإن أريد بها معنى آخر فلا أصل لها ولا دليل يدل عليها.

وينبغي التنبه إلى أن مقتضى الأصل الأولى في العقود هو الفساد لأن مقتضى الأصل عند الشك في شرطية شيء فيها عدم ترتب الاثر عليها ومرجع أصالة الفساد هذه إلى أصالة عدم ترتب الاثر أو إلى استصحاب بقاء كل شيء من طرفي متعلق العقد على ما كان عليه قبل العقد ، فإن الثمن مثلا كان ملكا للمشتري ، والمثمن كان ملكا للبائع ، فإذا شككنا في انتقاله عنه ، استصحبنا بقائه في ملكه.

وأما : أصالة العدم في العبادات كالصلاة والصوم ، فإنها بنفسها لا أصل لها ولكنها مرة ترجع لأصالتي العموم والاطلاق ، وأخرى لأصل البراءة ، أما رجوعها لأصالة عدم المقيد والمخصص ، فهو مبني على وضع الفاظ العبادات للاعم من الصحيح والفاسد ، لأنه على هذا التقدير يمكن إحراز المسمى عرفا بنظر المتشرعة ، وحينئذ يمكن نفي احتمال شرطية شيء فيها بأصالة عدم التقييد ، وهذا واضح ، ولكن التحقيق هو وضعها للصحيح ، ومعه لا يمكن إحراز المسمى ، لأن العبادات مخترعة ، وأدلتها ناقلة لا مقررة ، ومعه يرجع الشك إلى الشك في أصل المفهوم ، ولا يكون المسمى محرزا.

وأما : رجوعها لأصل البراءة ، فإن كان الشك فيه من باب الشك بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين ، فلا شك في جريانها ، بل ولا خلاف بحسب الظاهر.

وأما : إذا كان الشك فيه من باب الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإن جريانها حينئذ مبني على أن الوجوب انحلالي ، وعلى أن نفي المشكوك بالأصل لا يتكفل إلا بالنفي ، وعلى أن وجوب الباقي وجداني ، وإجزاء الاتيان به عقلي ، لأنه أتى بما وجب يقينا.

والمسألة : محررة في الأصول بإسهاب ، وهي مطرح أنظار الفحول ، ولعلّ ما ذكرناه هو الزبدة (١).

__________________

(١) فرغنا منها صباح الثلاثاء ٢٨ / ١١ / ١٩٨٣ م الموافق ٢٤ صفر ١٤٠٤ ، بعد ما كنا شرعنا فيها في حاريص في أوائل ذي الحجة ١٤٠٣ ه‍ ، والم بنا عارض ليلة الجمعة ليلة عرفة أقعدنا عن العمل نحو خمسين يوما.

١٢٩

٤٢ ـ قاعدة

في عمومات الحل وقاعدته

الكلام في هذه القاعدة يقع في مقامات.

المقام الأول : في مأخذها. وهو نوعان :

النوع الأول : مفاده العموم اللفظي ، وهو آيات وأخبار أوضحها :

١ ـ قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.) س ٦ ـ ١٤٥.

٢ ـ قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) س ٦ ـ ١١٩.

٣ ـ ما رواه في الوسائل ، في أول أبواب الأطعمة المباحة ـ عن الصدوق ـ قال وفي حديث محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : ليس الحرام إلّا ما حرم الله في كتابه. ثم قال : اقرأ هذه الآية : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) ...

٤ ـ قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ..) الآية.

والاقتصار فيها على بعض المحرمات لا ينافي العموم ، وكثرة التخصيص لا تضره والتخصيص بالمجمل المنفصل ، لو ثبت ، لا يوجب إجمال العام ، وإنما يوجب الاقتصار على القدر المتيقن منه ، والرجوع فيما عداه إلى العموم.

وقد أشار صاحب الوسائل رحمه‌الله لجملة من هذه المناقشات ، وضعفها ظاهر.

إذا عرفت هذا فاعلم : إن الاستدلال بالرواية على العموم واضح. وأما

١٣٠

الاستدلال عليه بالآية الأولى فوجهه : هو أن تعليم الله سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاحتجاج على اليهود الذين حرموا بعض ما لم يجده فيما أوحي إليه ، يدل على ثبوت ملازمة عدم الوجدان لعدم الوجود. فإن احتجاجه بها عليهم مبني على أحد أمرين :

أحدهما : أنه طريق عقلائي ، وهم يعترفون بدليليته ، فيحتج به عليهم إلزاما لهم بما التزموا به ، وإن كان هو لا يراه كذلك.

وثانيهما : إنه مسلم الدليلية عند الطرفين ، فيكون برهانا بنظر كل منهما.

والظاهر الثاني : لأنه الأصل في باب الاحتجاج. وأما الالزام والنقض فإنهما خلاف الأصل. مضافا إلى أن استدلال الشارع به ، وعدم ردعه عنه ، بعد كونه طريقا عقلائيا بذاته ، ظاهر في تقريره. فيكون حجة شرعا بحيث يسوغ لنا الاستدلال به ولو فرض أن الاستدلال كان مبنيا على النحو الأول ، فإن إلزامهم به ، مع عدم الردع يكون تقريرا له.

وإن قلت : إن ظهور حال المستدل في شيء ، لا يفيد أكثر من الظن بكونه يراه حجة ، والظن ليس حجة بنفسه. وهذا غير حجية الظهور التي هي طريق للمراد فإن الظن بالمراد المستفاد من ظهور الالفاظ مع قرائنها حجة دون غيره من الظنون .. هذا أولا.

وثانيا : إن التقرير (١) لا يكفي فيه الفعل لإجمال جهته ، ولا سيما إذا كان من نوع الاحتجاج على الخصم. ألا ترى إن الائمة عليهم‌السلام طالما نقضوا

__________________

(١) قاعدة التقرير على ثلاثة أنحاء. فقد يكون قوليا كما في قاعدة اليد ، فإن الروايات الواردة فيها مقررة لطريقة العقلاء ، وقد يكون بالمتابعة العملية ، كما هو الحال في حجية الظواهر ، وقد يكون بعدم الردع كما لو اطلع ولم يردع مع قدرته على الردع ، وأما الفعل في مورد جزئي فإنه ليس تقريرا لإجمال جهته.

١٣١

على القياس به ، وطالما أقنعوا شيعتهم به .. ومن راجع الأخبار وجد فيها كثيرا من هذا النوع.

قلت : نعم. ولكن تعليم الله تعالى لنبيه (ص) الاستدلال بهذا الدليل قرينة على أنه في مقام التقرير.

فإن قلت : إن هذا لا يزيد عن تعليم المعصومين (ع) شيعتهم الاستدلال بالقياس قبال خصوصهم كما أشرت إليه آنفا.

قلت : فرق بينهما. لوضوح بطلان القياس عندنا.

وبالجملة : إن عدم وجدان النبي (ص) يدل على عدم الوجود واقعا ، فيكون دليلا قطعيا بالنسبة له ولمن يعترف بنبوته ، بخلاف عدم وجداننا واليهود لا يقرون بذلك. فالاحتجاج به عليهم لا يتم إلّا إذا كانت الملازمة بين عدم الوجدان وعدم الوجود ثابتة عند العقلاء.

هذا وجه الاستدلال بالآية الأولى. وأما وجهه بالآية الثانية فهو أنه سبحانه استنكر عليهم عدم الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، مع أن تحريمه غير موجود في ما فصله لهم من المحرمات. وهذا يدل على أن عدم ذكره كاف في عدم حرمته. وبهذا تشترك هذه الآية مع سابقتها. فإن كلا منهما يشير إلى ملازمة عدم الوجدان لعدم الوجود ، ويدل على أن عدم وجدان الشيء في عداد المحرمات يوجب الحكم بحليته ، ويدل على تقرير الشارع لهذا الأمر العقلائي. وتفارقها في دعوى اختصاصها بالنبي (ص)

فإن الظاهر من هذه الآية الكريمة إن عدم وجدانهم ـ هم ـ يدل على عدم الوجود لقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ..) فإن توجيه الخطاب إليهم قاض بذلك.

وهناك أيضا فرق بينهما من جهة أخرى ، وهو أن الأولى أوجبت نفي

١٣٢

التحريم بمجرد عدم وجدان تحريمه. وهذه حرّمت الالتزام بترك ما لم يعلم تحريمه ، كما يظهر ذلك من ملاحظة الاستفهام الانكاري على عدم الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، مع أنه لم يذكر في عداد المحرمات. ومن الضروري أن من ترك الحلال بدون التزام الترك لا يلام.

وثمرة هذا الفرق هو أنه ، لو تمّت أدلة القائلين بلزوم الاحتياط في الشبهة التحريمية ، ربما يقال بحكومتها على الآية الأولى. ولكنها تكون معارضة لهذه الآية ، لأن مفاد أدلة الاحتياط لزوم الالتزام بما لم تعلم حرمته أو جوازه. ومفاد هذه الآية استنكار ذلك. وحينئذ إما أن يجمع بينهما جمعا عرفيا ، بدعوى كون الآية نصا في الحرمة ، وتلك ظاهرة فيها والنص يحكم على الظاهر ، وإما أن يرجح الكتاب بعد تساوي الدلالة كما هو المتعين .. وتمام الكلام في دلالة الآيتين يؤخذ بما بسطناه في مباني الفقيه في أصل البراءة.

النوع الثاني : من أدلة القاعدة : أخبار مفادها مفاد الأصل.

منها : صحيح عبد الله بن سنان. قال : قال أبو عبد الله (ع) : كل شيء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (١).

ومنها : موثقة مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله (ع) قال : سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال ، حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب الخ ... وهي طويلة ومشهورة ومعتمدة في عدة أمور (٢)

__________________

(١) الوسائل م ١٦ ب ٤٦ من أبواب الأطعمة والأشربة المحرمة ح ٢ ص ١٩٥. وروى فيه صحيح ضريس ، ورواية علي بن جعفر (ع) وهما مشتملان على مضمونه ، وروى صحيح بن سنان المذكور أيضا في الوسائل م ١٢ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ص ٥٩.

(٢) الوسائل م ١٢ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث ٤ ص ٦٠.

١٣٣

ومنها : قول أبي جعفر عليه‌السلام في الصحيح إلى عبد الله بن سليمان : سأخبرك عن الجبن وغيره : كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

ومنها : رواية عبد الله بن سليمان أيضا عن أبي عبد الله (ع) ، قال : كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة (١). قلت : وقد أشرنا لسندها في حجية البينة فى مباني العروة في ماء البئر.

ومنها : ما رواه البرقي ، في محاسنه عن العبيدي ـ المستثنى الذي لا يوهنه استثناؤه في نفسه. لكون الاستثناء من جهة اعتماد البرقي على من لا يعتمد عليه ـ عن صفوان عن معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر (ع) فسأله رجل عن الجبن. فقال أبو جعفر (ع) : إنه لطعام يعجبني. وقال : سأخبرك عن الجبن وغيره : كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه.

ومنها : رواية أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر (ع) وفيها قوله : من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرضين .. إذا علمت أنه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل. والله إني لأعترض السوق ، فاشتري اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون ، هذا البربر وهذا السودان (كذا) (٢).

وهذه الأخبار فيها الصحيح الاصطلاحي وغيره ، بل هي بملاحظة المنصوص الواردة في الموارد الجزئية قطعية بل متواترة ، ولا ريب في عمل الأصحاب بمضمونها في الجملة.

__________________

(١) الوسائل م ١٧ ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ص ٩٠ ج ١ و ٢.

(٢) الوسائل م ٧ ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ص ٩٠ ج ٥ و ٦.

١٣٤

المقام الثاني : في أن القاعدة هل هي مختصة بالشبهة الموضوعية أو شاملة لها وللحكمية؟. قولان.

حكي أولهما عن المحقق القمي ، وصاحب الفصول ، وشيخنا المرتضى وتلميذه المحقق الآشتياني ، وجل الاخباريين كما يظهر من محكي كلام الصدر.

وحكي ثانيهما عن السيد في شرح الوافية وبعض آخر ، كما يظهر.

والتحقيق أن قوله (ع) فيه الحلال والحرام .. إما في مقام بيان حكم ما ينقسم إليهما ، وإما في مقام بيان حكم ما يتردد حكمه بينهما. فإذا كانت في مقام بيان حكم ما ينقسم. إليهما اختصت ، لأن الموضوعات تقبل القسمة الفعلية والشأنية ، باعتبار تصنفها إلى صنفين ، واتصافها بوصفين ، فيقال : الغنم مثلا منه حلال ومنه حرام ، كالموطوء وغيره ، والمذكى وغيره ، والجلال وغيره. والمشروب مثلا فيه خل وفيه خمر. والكلام حينئذ يفتقر إلى موصوف محذوف تقديره كل شيء فيه قسم حلال وقسم حرام. بل لا يحتاج إلى هذا التقدير ، لأن (الالف واللام) تغني عنه ، فإنها كناية عن الشيء نظير قولهم الكلام منه المعرب ومنه المبني. فإنه بمنزلة قولهم منه الكلام المعرب ومنه الكلام المبني. ومثله قولهم : الكلام منه معرب ومنه مبني.

وأما إذا كانت في مقام بيان حكم ما يتردد حكمه بينهما ، فإنها لا تصلح للتقسيم ، وإنما تصلح للترديد لأن الواقعة الواحدة ، كالتتن مثلا إذا تردد حكمها بين الحلية والحرمة ، صدق عليها أنها مما تردد حكمه بينهما. ويمكن أن يقال : حينئذ بشمولها للشبهة الموضوعية والحكمية ، لوجود الترديد في كلا الموردين ، ألا ترى أنه يصدق على المائع المردد بين الخمر المعلوم الحرمة ، والخل المعلوم الحل أنه مردد بينهما. غاية الأمر أن التردد في المثال الأول بين الحكمين ابتداء. وفي الثاني بينهما بتوسط التردد بين انطباق المحكومين على المصداق الخارجي. وعلى هذا التقدير لا بد من تقدير مضاف محذوف ، ليستقيم الكلام. فيكون المعنى : كل شيء فيه احتمال الحرمة والحلية فهو حلال. ولا يحتاج إلى الجامع ، لأن مفهوم الترديد هو جامع ينطبق عليهما. ولا عبرة بالمورد فإنه لا

١٣٥

يخصص عموم الوارد و (دعوى) الانصراف مطلقا أو بقرينة المورد (حسنة) ، إلّا أن عهدتها على مدعيها.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن لفظ (فيه) صالح للانطباق على التقسيم والترديد ، وإن كان ظهورها في التقسيم أجلى ، لأن الترديد يفتقر إلى تقدير مضاف ، وهو لفظ ـ احتمال ـ فيكون المعنى كل شيء فيه احتمال الحلال والحرام فهو حلال. وهذا يشمل الشبهة الحكمية والموضوعية. ويجمعهما ، لاشتراكهما في احتمال الحلال والحرام ، غاية الأمر أنه في أحدهما من حيث جهل الحكم ، وفي الآخر من حيث جهل الموضوع بخلاف التقسيم ، فإنه لا يفتقر إلى تقدير ، بل يكون الكلام ظاهرا فيه بدونه. ألا ترى أنه وإن صح تقدير موصوف محذوف (فيقال : فيه قسم حلال وقسم حرام) ، إلّا أن المعنى ظاهر بدونه ، بخلاف تقدير المضاف ، أعني تقدير لفظ احتمال ، وحذف المضاف وإن كان أهون لشيوعه ، إلّا أن المصير إلى دعوى حذف الموصوف هنا أولى لوضوحه وذلك لشيوع حذف الموصوف في باب التقسيم ، فيكون من الظاهر الذي لا يحتاج إلى تقدير ، وهو مقدم على الظاهر الذي يحتاجه ، لأن الأصل العقلائي يقضي بعدمه.

إذا عرفت هذا كله ، عرفت ظهورها في الشبهات الموضوعية. ومع ذلك ، يمكن تقريب هذا الاستظهار بعدة قرائن

أولها : قوله (ع) : فيه .. كما مر.

ثانيها : قوله (ع) : منه .. بدعوى ظهورها في التقسيم دون الترديد ، وربما يقال : بعدم صلاحيتها للترديد ، ألا ترى أنه يصح أن يقال : الغنم منه حلال ومنه حرام ، وأن ذلك لا يصح بالنسبة للحكم المشكوك ، فإن حكم التتن المردد بين الحل والحرمة لا يصح فيه إلا الترديد.

ثالثها : قوله (ع) : حتى تعرف .. فإن المعرفة تتعلق بالجزئيات ، بخلاف العلم فإنه يتعلق بالكليات ، ولذا يقال : عرفت زيدا ، ولا يقال : علمته .. نص على ذلك التفتازاني في المطول على ما أتخطره. وفيه : أن المعرفة

١٣٦

تطلق على الحكم كما تطلق على متعلقه ، فيقال : عرفت الغنم الحلال من الغنم الحرام ... ويقال : عرفت حلية الغنم (١).

رابعها : قوله (ع) : بعينه .. فإنه ظاهر في ذلك ، لأن الموضوعات هي التي تقبل التأكيد بالعين ، فيقال : حتى تعرف القسم الحرام بعينه ، ولا يحسن أن يقال حتى تعرف الحرمة بعينها.

خامسها : قوله في بعضها : حتى يجيئك شاهدان .. فإن البينة إنما هي حجة في الموضوعات دون الأحكام ، لأنه يكتفي فيها بخبر الواحد. فالتخصيص بها قرينة وإن كانت حجة في الأحكام بالأولوية بعد ثبوت حجية خبر الواحد.

سادسها : قوله : بأن فيه الميتة .. فإنه قرينة واضحة.

سابعها : ورودها كلها في الجبن. فهي في مقام بيان الشبهة الموضوعية بقرينة المورد.

ثامنها : قوله : سأخبرك عن الجبن وغيره .. فإن (الغير) المضاف (لضمير) الجبن ظاهر في أنه من سنخه ، بمعنى كونه في الموضوعات.

تاسعها : قوله : فتدعه .. فإن الذي يترك هو الموضوع دون الحكم ، فإنه لا يترك إلّا بترك متعلقه. فهو مفتقر إلى التقدير.

عاشرها : قوله : كل شيء فيه الحلال والحرام ـ بالتعريف ـ. فإن (الالف واللام) كناية عن الشيء الموصوف بهما ، لأن معهود اللام مذكور ، بخلاف حمل اللام على الاحتمال ، فإنه ليس معهودا بوجه.

حادي عشرها : إنها لو كانت في مقام بيان الشبهة الحكمية ، لكان الأنسب أن يقول (ع) : كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام. وفيه : أنه منقوض بقاعدة الطهارة. بناء على اختصاصها بالشبهة الموضوعية.

__________________

(١) وفيه أنه ممنوع ، فإنه يقال عرفت الخمر ، وعلمت بحرمتها ، ولا يقال علمت الخمر ، واطلاق المعرفة في المثال المذكور تشبه باب الوصف بلحاظ المتعلق.

١٣٧

ثاني عشرها : إنه اخبر عن أمر فيه حلال وحرام مفروغا عنهما. والشبهة الحكمية ليست كذلك ، ومنع هذه القرائن ، وإن كان ممكنا ، إلا أن جملة منها تفيد القطع بالمطلوب (١).

بقي هنا أمور.

الأول : حكي عن شرح الوافية ، أنه ذكر لروايات قاعدة الحل ثلاث محتملات .. وحكي عن المناهج للنراقي ، أنه انهاها إلى الستة. وعن الشيخ في الرسائل أنه تابع المحقق القمي في تلخيص محتملات الوافية.

الثاني : إن الحرام في قوله (ع) : (حتى تعرف الحرام) ظاهر في المحرم ، فتكون الرواية ظاهرة في الشبهة الموضوعية. ويحتمل أن يراد من الحرام (الحرمة) فتكون الرواية ناظرة للشبهة الحكمية.

الثالث : قيل إن قوله (ع) : (فيه) و (منه) واردان لبيان عدة أمور.

منها : خروج معلوم الحكم.

ومنها : إنهما واردان لبيان محل الحكم ، وهو المشكوك.

ومنها : إنهما واردان لبيان منشأ الشك ، وهو وجود الوصفين أو القسمين اعني الحلال والحرام.

ويظهر خروج معلوم الحكم من قوله (حتى تعرف) لأن جعل المعرفة غاية يدل على أن ما قبله غير معروف. فالمعلوم غير مقصود ، ومنه يتضح أن محل الحكم هو المشكوك. وأما منشأ الشك ، فليس هو وجود الحلال والحرام ، بل هو اشتباه الأمور الخارجية في الشبهة الموضوعية ، وعدم وضوح الدليل في الشبهة الحكمية.

__________________

(١) المقام الثالث في أن المراد من الحل هل هو حلية الأكل كما هو مقتضى المورد أو أن المراد حلية كل شيء بحسب منفعته المقصودة منه فالحلية في المأكول أكله ، وفي الملبوس لبسه وهكذا ـ المقام الرابع ـ في تحقيق الموارد التي طبقت عليها رواية مسعدة.

١٣٨

الرابع : عرفت فيما مضى أن الروايات ظاهرة في الشبهة الموضوعية ، ويحتمل إرادة الشبهة الحكمية ، ويمكن تقريبها بدعوى الاستخدام : وتقريبه.

تارة بأن يقال : إن لفظ الشيء اطلق واريد منه كليه وجزئيه. ويكون الضمير في قوله : (فيه) راجعا إلى الجزئي المشتبه ، ويكون قوله : (فهو) راجعا إلى الكلي المشتبه. وينبغي أن يكون المعنى حينئذ كل كلي جزئيه مردد بين الحلال والحرام ، فالكلي حلال .. وحينئذ تكون الرواية ناظرة للشبهة الحكمية ، باعتبار جعل مورد الحل نفس الكلي ، وللموضوعية باعتبار كون الترديد في الجزئي ، أو باعتبار كونها هي مورد النص.

وأخرى : بدعوى أن بعض الاجناس يكون تحتها نوعان معلومان كلحم الغنم المذكى ، ولحم الميتة ، وأن اللحم المشترى من السوق مشكوك في كونه من المذكى أو الميتة. ويكون الضمير في (فيه) راجعا للكلي ، ويكون قوله : (فهو) راجعا إلى المشكوك وهذا النوع من الاستخدام اوضح من سابقه.

وينبغي أن يكون المعنى حينئذ ، كل شيء في كليه شبهة الحلال والحرام فالمشكوك منه حلال.

وثالثة : بدعوى أن بعض المشتبهات يكون فوقها كلي تحته ثلاث كليات. فكلي اللحم مثلا مشتبه وتحته ثلاث كليات ، اثنان معلومان فإن لحم الغنم معلوم الحلية ، ولحم الخنزير معلوم الحرمة ، وثالث مشكوك وهو لحم الأرنب مثلا ، وبملاحظته صح اتصاف كلي اللحم بالاشتباه. فإن الشك في الأرنب يستدعي الشك في كلي اللحم ، باعتبار أنه من مصاديقه. فالشك في الكلي مسبب عن الشك في جزئيه. وينبغي أن يكون المعنى حينئذ كل كلي تحته الحلال والحرام والمشكوك ، فذلك الكلي حلال .. ويختص بالشبهة الحكمية حينئذ أو يشملها مع الموضوعية.

وأنت ترى أن امثال هذه الخيالات لا تفيد الظن بالمراد ، فكيف تكون داخلة في حجية الظواهر.

١٣٩

٤٣ ـ قاعدة الاستيفاء

والكلام فيها يقع في مقامات.

المقام الأول : في مدركها. وقد حكى السيد الأستاذ الحكيم مدّ ظله أنها معقد إجماع ، وحكاه المحقق الرشتي أيضا. ويشهد لهذه الدعوى أيضا ما قاله في الشرائع : (وكل موضع يبطل فيه عقد الاجارة يجب فيه أجرة المثل مع استيفاء المنفعة أو بعضها ، سواء زادت عن المسمى أو نقصت). ثم ذكر في شرحها ، في إجارة الميرزا الرشتي ص ١١٧ بعد قوله (بلا خلاف) ، ما يشعر بأن ضمان منافع الحر متوقف على الاستيفاء ، بخلاف منافع غيره ، فإنها قد تضمن بالتفويت فضلا عنه ، كما لو حبس العبد والدابة ومنعه من سكنى الدار. وقال رحمه‌الله ايضا في إجارته ص ٥٠ في قاعدة ما يضمن ، بعد ذكر أدلة الاحترام : (نعم إن دليل الاحترام إنما يقتضي ضمان المنافع المستوفاة. وأما الفائتة تحت اليد فلا دليل على ضمانها. لكن هذا اشكل في اصل ضمانها في باب الغصب ، سواء كان هناك عقد فاسد أم لا. فكل ما ينحسم به الاشكال في بابه ، فهو دليل على ضمانها في العقد الفاسد).

وقال في الجواهر ص ١٠٠ في كتاب الغصب : (ولو استخدم الحر فعليه الاجرة بلا خلاف اجده فيه ولا إشكال ، لأن منفعته متقومة). وهذه هي عبارة الشرائع. ثم قال في الجواهر في ص ١٠١ في كتاب الغصب ايضا : (والمراد بالتفويت في عبارة التذكرة الاستيفاء ، كما يشعر به تفريع ذلك عليها فيها. قال : منفعة بدن الحر تضمن بالتفويت لا بالفوات. فلو قهر حرا واستعمله في شغل ضمن أجرته ، لأنه استوفى منافعه وهي متقومة ، فلزمه ضمانها كما لو استوفى منافع العبد الخ .. وقال بعد أسطر ما قلناه من أن منافع الحر تضمن بالاستيفاء لا بالفوات. وحكى الأستاذ مد ظله أن أول من استدل لها وعلّل بها الشهيد الثاني رحمه‌الله تعالى.

والتحقيق بعد استفراغ مقدار من التتبع أن قاعدة الاستيفاء بنفسها ليست حجة لأنها ليست آية ولا رواية ولا هي معقد اجماع محقق. نعم ، هي حجة

١٤٠