قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

وأما الإقدام ، فلأنه أقدم على تمليك العين مجانا في الهبة وأقدم على تمليك المنفعة أو إباحتها مجانا في العارية ، وكل منهما كما ترى. أما الأصل فإنه لا مجال له في المقام ، فإن قاعدة (على اليد) شاملة للهبة والعارية كما أوضحناه فيها. ومثلها قاعدة الإتلاف ، لو أتلف العين المتهبة مثلا ، وقاعدة الاستيفاء ، لو استوفى منفعة العين المستعارة. وأما الإقدام فلما أسلفناه في الموجبة مضافا إلى أنه أقدم على المجانية بناء منه على أنها هبة وعارية لا مطلقا ، وقد تقدم ما يشبهه في الموجبة.

والتحقيق : إن مدرك السالبة أحد أمرين.

أولهما : إمكان دعوى انصراف أدلة الضمان عن موارد السالبة ، فتكون باقية على مقتضى الأصل ، وهو البراءة.

ثانيهما : (الطيب) المستثنى في رواية الحلبي وسماعة وغيرهما. فإن قوله (ع) إلا بطيب نفسه ، وإلا بطيبة نفس منه ، حاكم على سائر أدلة الضمان. وملاحظة روايات قاعدة الاحترام مستثنى ومستثنى منه يوجب الوثوق بانصراف الاحترام إلى مورد يكون المالك محافظا فيه على حرمة ماله ، دون ما إذا أباحه أو رخص فيه. وهي بعد ذلك تصلح للحكومة على قاعدة اليد والإتلاف. وأما قاعدة الاستيفاء ، فعمدة ما يستدل لها به الإجماع ، وهو مفقود هنا ، بل يمكن ادعاؤه على خلافها. وأما قاعدة الغرور فربما يتوهم أن موارد السالبة من مصاديقها ، وإن الواهب والمعير غاران ولكنه فاسد. وإذا لم يكن من مصاديقها كانت أجنبية عما نحن فيه. وتكون النتيجة من أتلف مال غيره وهو محترم له ، وعلى اليد ما أخذت من الأموال التي تحترمها أربابها. وهذا واضح وإن كان البيان يقصر عن توضيح البرهان.

فإن قلت : إن الواهب إذا طالب بما وهبه بعد فساد الهبة ، والمعير إذا طالب بمنفعة العين المستعارة بعد فساد العارية ، لا يكون طيب نفس ..

قلت : هذا حسن من حين المطالبة ، أما قبلها فلا. اللهم إلا أن يكون ملّكه على نحو وحدة المطلوب ، بمعنى كون تمليكه مشروطا بصحة الهبة ، وكون

١٠١

إباحة المنفعة أو تمليكها في العارية مشروطا بصحة العارية ، والله العالم (١).

المقام الثالث

في بيان الأمور المهمة التي تتعلق بالموجبة والسالبة.

وهاهنا جهتان.

الجهة الأولى : في شرح ألفاظها ، على وجه تصلح ، ضابطا جامعا لجملة من موارد الضمان المستفادة من أسبابه ، فنقول : أما (كل) فيحتمل أن تكون لعموم الأنواع ، ويحتمل أن تكون لعموم الأفراد ويحتمل أن تكون لعموم الأصناف.

أما الاحتمال الأول فغير ممكن ، لأن العارية مثلا بطبعها لا تقتضي الضمان ، لكن عارية الذهب والفضة والعارية المشروطة تقتضيه. والصلح مثلا بطبعه معناه إنشاء المسألة ، والضمان أمر خارج عنه. ولكنه إذا كان عوضيا كان فيه ضمان ، وإذا كان مجانيا لم يكن فيه ضمان. والهبة بطبعها لا ضمان فيها. والمعوضة فيها ضمان ، والإجارة بطبعها لا تقتضي ضمان العين لكونها أمانة ولكونها واقعة على المنفعة ، ولكنها بالشرط تقتضيه .. فإن هذه الأمور بنوعها لا ضمان في صحيحها ، لما ذكرناه. فينبغي أن يكون فاسدها كذلك ، مع أن أسباب الضمان توجب الضمان في فاسد الصلح العوضي والهبة المعوضة والعارية المضمونة والعين المستأجرة التي اشترط ضمانها. وأيضا يلزم ثبوت الضمان في البيع بلا ثمن ، والإجارة بلا أجرة ، لأن نوعها مضمن مع أنهم قد لا يلتزمون به ، وأيضا يلزم الضمان لو علم البائع بالفساد وجهل المشترى به في العقود التي يكون صحيحها مضمنا كالبيع والإجارة وغيرهما ، مع أن غير واحد من الفقهاء لا يلتزمون بذلك.

وإما الاحتمال الثاني فكذلك ، لأن الفرد بما هو فرد لا يتصف بالصحة

__________________

(١) حرر ضحى الأحد ١٤ جماد الأول سنة ١٣٨٢ ه‍. في الكويت في دار العلامة السيد عباس المهري التي استؤجرت لأن نقيم فيها مدة وجودنا في الكويت.

١٠٢

والفساد فعلا ، لا عرضا ولا طولا. أما عرضا فللزوم اجتماع الضدين ، وأما طولا فلتبدل حقيقته. لأن الصحة والفساد عرضان وهما بمنزلة نوعين لفصلين ، فتأمل ..

وبعبارة ثانية : إن الفرد بعد وقوعه لا يتصف إلا بأحدهما ، وقبل وقوعه يكون الوصف للطبيعة ، وهو المقصود بالأنواع. وبعبارة أوضح إن كانت (كل) لعموم الأفراد لزم أن يكون الاتصاف بالصحة والفساد فرضيا لا فعليا لما مر. وهو خلاف ظاهر القاعدة وخلاف الفرض أيضا ، لأنه قبل التحصص خارجا لا فردية ، فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو إرادة عموم الأصناف. وهو الذي اختاره في المكاسب والبلغة ، والمحقق الرشتي في إجارته. واختار المحقق النائيني كونها لعموم الأنواع ، وفي تقريرات درسه للفاضل الخونساري رحمه‌الله (ص ١٣٠) اختيار أنها لعموم الأشخاص من حيث الأنواع.

وأما الموصول أعنى (ما) فإنه يحتمل أن يراد به العقود لا غير من دون فرق بين اللازم منها والجائز. وحينئذ يتحد مع قوله كل عقد يضمن. ويحتمل أن يراد به المقبوض ، كما فهمه في البلغة ، فيكون المعنى كل مقبوض ، فتشمل العقود بقسميها والإيقاعات ، وما فيه الشائبتان. فيدخل فيه عوض الخلع والجعالة واللقطة (فلو وصف اللقطة من يدعيها فدفعها الملتقط إليه وتلفت ، ثم ادّعاها آخر وأقام البينة ، فإنهم حكموا بها للثاني ، ويكون الواصف هو الضامن كما قيل ، وليس ذلك إلا لأنه لم يسلمه على نحو المجانية ، وإنما سلمه لدعوى الاستحقاق.

وأما (الباء) في قولهم (بصحيحه وبفاسده) فيمكن أن تكون للظرفية وتكون بمعنى (في) ولا محذور فيه. ويمكن أن تكون للسببية ولكنها في (بصحيحه) ظاهرة في ذلك لأن الصحة سبب للضمان بالمسمى. وأما الباء في قولهم (بفاسده) فلا لأن سبب الضمان مع الفساد ليس هو الفساد ، بل اليد والاحترام والإتلاف وغيرها.

ويمكن أن يقال : بأن الفساد ، وإن لم يكن سببا للضمان ، ولكنه موجب

١٠٣

لتهيؤ المحل فتكون سببيته سببية مجازية. وقد ظهر أن الأمر فيها دائر بين جعلها سببية في الموضعين ، أو ظرفية فيهما ، أو سببية في الأول وظرفية في الثاني ولا سبيل للعكس ومقتضى وحدة السياق انتفاء الأخيرين ودوران الأمر بين الأولين. والمتعين الظرفية بقرينة عدم سببية الفساد للضمان ووحدة السياق ، فتأمل ..

وأما الصحة والفساد فهما معروفان ، والمراد بهما هنا الفعليان لا الفرضيان ، وبذلك يتضح سقوط بعض النقوض.

وأما الضمان فإنه في الاصطلاح قسمان ضمان يد وضمان معاوضة. أما ضمان المعاوضة فهو الضمان بالمسمى في العقود الصحيحة. وأما ضمان اليد فهو ضمان المثلي بمثله ، والقيمي بقيمته في باب الغصب وغيره. والمراد من الضمان في قولهم (يضمن بصحيحه) ضمان المعاوضة. والمراد منه قولهم (بفاسده) ضمان اليد واختلافهما لا يضر بعد كون الفساد والصحة قرينة على المراد ، وتصوير الجامع ممكن ، ولكنه تضييع للوقت (١).

الجهة الثانية : هل القاعدة مختصة بمورد الجهل بالفساد أو لا ، بل تشمل العلم به.؟ احتمالان .. ولا ريب أن الثاني هو الظاهر منها. فإن تعليق الحكم على عنوان ، في لسان الشارع أو المتشرعة أو العرف ، يتبع واقعه ، ولا سيما بعد البناء على أن الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعية. ولكن مع ذلك فقد اضطربت كلماتهم كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فاعلم أن توضيح هذه الجهة يتم ببيان صورها ، ثم حكاية الأقوال فيها ، ثم التكلم في كل صورة من أصول الصور وحدها. فنقول : أما أصول الصور المتصورة في البيع والإجارة مثلا فهي خمسة :

أولها : أن يكون البيع بعوض متمول شرعا وعرفا ، ولكن يعرض له الفساد من جهة الربا أو الجهالة أو عدم القبض كما في الصرف أو غير ذلك.

ثانيها : أن يكون بعوض غير متمول شرعا ، كالخمر ، والخنزير. ويكون فساده من أجل ذلك.

__________________

(١) نقل ليلة الإثنين ١٥ جماد الأول سنة ١٣٨٢ ه‍. في الكويت في الساعة الثالثة بعد المغرب.

١٠٤

ثالثها : أن يكون بعوض غير متمول عرفا ، كالخنفساء. ويكون فساده من أجل ذلك.

رابعها : أن يكون بلا عوض أصلا ، ويكون فساده بيعا من أجل ذلك.

خامسها : أن يكون العوض متمولا شرعا وعرفا ، ولكنه مغصوب ، وإنما افردنا هذه الصورة عن الصورة الأولى ، لأنه يمكن انفرادها بالحكم ، ولو من جهة قيام الإجماع على أن من باع العين المغصوبة لا يضمن الثمن للمشتري إذا كان المشتري عالما بالغصب كما ستعرفه فيما يأتي.

إذا عرفت هذا فاعلم أن المتبايعين اما أن يكونا عالمين بالفساد ، أو جاهلين به ، أو يكون أحدهما عالما ، والآخر جاهلا ، فكل واحدة من الصور الخمس فيها أربع صور ، واعلم أن الأقوال بالنسبة لجميع هذه الصور غير واضحة كما يتضح من ملاحظة كلامي الشيخ والرشتي فيما يلي.

قال في (المكاسب) في مبحث الفضولي بعد المسألة التي عقدها لأحكام الرد (١) وأما لو كان (الثمن) تالفا ، فالمعروف عدم رجوع المشتري بل المحكي عن العلامة والمحقق والشهيد الثانيين وغيرهم الاتفاق عليه (ووجهه كما صرح به بعضهم كالحلي والعلامة وغيرهما ويظهر من آخر أيضا) أنه سلطه على ماله بلا عوض ، انتهى. وكأنه جعل بيع المغصوب وبيع الفضولي واحدا ، مع أن الفضولي أعم ، وقال المحقق الرشتي رحمه‌الله في اجارته ص ١١٩ ظاهر الأصحاب بل صريحهم ، ان العلم بالفساد لا يؤثر إلا في مسألة واحدة ، وهي بيع المغصوب. فمع علم المشتري لا يضمن البائع الثمن ، لأنه سلطه على أن لا يكون عليه ضمان. وأما في غيرها ، حتى فيما يكون فساد العقد فيه ناشئا من عدم تمول المبيع كبيع الخمر والخنزير والأعيان النجسة وأمثالها ، فبناؤهم على الضمان ، إلا بعض شيوخ مشايخنا في محكي شرح القواعد ، فحكم في الفساد الناشئ من عدم تمول العوض بعدم الضمان مع العلم. وهذا وإن لم يكن

__________________

(١) في المسألة الأولى من المسألتين اللتين عقدهما وجعل ما نحن فيه جهة من جهات الأولى منهما ص ١٤٥ من المكاسب التي عليها تعليقة الشهيدي (ره).

١٠٥

بعيدا كله ، إلا أن طريقة الأصحاب على خلافه ـ والظاهر أنها الأصوب ، لأن التسليم والتسليط إذا كان مبنيا على الوفاء بالمعاملة الواقعة ، ومتفرعا عليها ، كان مسلوب الحكم والأثر بالمرة. فيبقى حكم (على اليد) حينئذ سليما عن المعارض انتهى.

واستشكل السيد رحمه‌الله في العروة في كتاب الإجارة في ضمان الأجرة مع علم المؤجر ، خصوصا إذا كان المستأجر جاهلا ، خصوصا إذا كان البطلان من جهة جعل الأجرة ما لا يتمول شرعا وعرفا ، أو إذا كان أجرة بلا عوض. وافتى النائيني رحمه‌الله وأستاذنا كاشف الغطاء بالضمان مطلقا فيما عدا صورة البيع والإجارة بما لا يتمول عرفا وبلا عوض .. هذا ما تمكنا منه من نقل الأقوال.

إذا عرفت هذا فنقول :

أما الصورة الأولى : فظاهر الكلمات الآنفة أنه لا خلاف في الضمان فيها في صورها الأربع إلا من العروة ، فإنه استشكله ، خصوصا مع علم المؤجر وجهل المستأجر ، كما يتضح بالتأمل فيما حكيناه عنه آنفا. والأقوى ما عليه المشهور لعموم قاعدة (على اليد) وغيرها من أدلة أسباب الضمان. والضمان إنما يسقط بالإذن المجاني ، وهو مفقود هنا. فإن التسليم والتسليط مبني بنظر المتعاقدين على الوفاء بالمعاملة شرعا إذا كانا جاهلين ، أو تشريعا إذا كانا عالمين ، أو شرعا من أحدهما وتشريعا من الآخر. وربما يزيد هذا وضوحا عند التكلم في بيع الغاصب لنفسه.

وأما الصورة الثانية : فالمتعين فيها الضمان مطلقا. ونسبه المحقق الرشتي في كلامه المتقدم لظاهر الأصحاب بل صريحهم ، واختاره ، ونسب لبعض شيوخ مشايخه عدم الضمان إذا كان الفساد ناشئا من عدم تمول العوض مع العلم (١).

__________________

(١) قلت : إن كان المراد عدم تموله عرفا أو شرعا ، كان مخالفا في هذه الصورة وفي التي بعدها. وإن كان المراد عدم تموله عرفا ، كان مخالفا للمشهور في الصورة الثالثة فقط ..

١٠٦

والوجه فيه أن العلم بالتحريم لا يسقط المال المحترم عن المالية ، ولا يستلزم الإذن المجاني ، ولا يوجب انصراف أدلة الضمان عنه. فالمقتضي للضمان موجود ، وهو حديث (على اليد) وغيره ، والمانع مفقود ، فالقول بالضمان متعين. ولا فرق بين هذه الصورة وبين الصورة الأولى.

وتفصيل هذا أن أدلة الضمان من اليد وغيرها شاملة لما نحن فيه ، وأصل البراءة لا مجال له.

ودعوى انصراف أدلة الضمان عن مثله ممنوعة أشد المنع.

ودعوى تحقق الأذن المجاني يكذبها الوجدان. فإن المتعاملين ، في باب بيع الخمر وإجارة المغنية مثلا ، أقدما على الضمان بمسمى لم يسلم لهما شرعا من جهة إسقاط الشارع مالية الخمر والغناء شرعا ، وإن كانت من أعظم الأموال عرفا. فالمجانية غير ملحوظة للمتعاملين قطعا ، وإنما أقدما على احترام ماليهما ، وعلى حفظ المالية بالمبادلة ومجرد إقدام المشتري مع علمه بالتحريم ، لا يوجب سقوط ماله عن المالية.

وأما الصورة الثالثة : وهي ما إذا باعه بثمن غير متمول عرفا أو شرعا ، كالخنفساء ، فالمشهور فيها ، كما يظهر مما حكيناه ، الضمان مطلقا. وعن بعض شيوخ مشايخ الرشتي أنه حكم بعدم الضمان مع العلم ، وقد عرفت أن النائيني واستاذنا كاشف الغطاء افتيا بعدم الضمان مطلقا ، ثم عرفت كلام السيد في العروة.

ومقتضى القواعد : أن البائع إن كان له غرض يتعلق بالخنفساء ، ولو كان هذا الغرض ليس عقلائيا ، كما لو احتاجها للمزح والمداعبة والسخرية بشخص ، ولم يجد غيرها مثلا ، كان حكمها حكم الصورة الثانية حرفا بحرف ، لأن المشتري حينئذ في مقام الاحتفاظ بماله والتمسك به ، وليس في مقام بذله مجانا. وإن كان ليس له أي غرض في الخنفساء كما لو كانت الخنافس مبذولة حوله ، كانت هذه الصورة من صغريات الصورة الرابعة الآتية.

وأما الصورة الرابعة : وهي ما إذا باعه بلا ثمن أو أجره بلا أجرة مثلا ،

١٠٧

فقد أفردنا لها قاعدة مستقلة تأتي عقب هذه القاعدة ، والتحقيق فيها أنهما إن قصدا إيجاد الهبة والعارية بهذه الصيغة ابتنى الحكم في صحتهما ، كذلك على كفاية مثلها فيهما. وإذا قلنا بالفساد لحقهما حكم الفاسد منهما ، وإن قصدا البيع أو الإجارة كانتا فاسدتين ، ولحقهما حكم الفاسد منهما. ولعل القائلين بالضمان أخذوا بعموم الحديث ، وجعلوها من صغريات البيع الفاسد والإجارة الفاسدة ، والقائلين بعدم الضمان جعلوها من صغريات الهبة والعارية ، فيكون مأذونا من المالك إذنا مجانيا ، والجهل بالحكم أو العلم به لا يؤثران في رفع الأحكام في جميع العقود ما لم ينته إلى عدم القصد الموجب لزوال العنوان.

وليعلم أن ظاهر حال المتعاملين ، في الصورتين الثالثة والرابعة ، أنه يريد أن يملكه ماله بلا عوض ، ويكون حينئذ آذنا له ، والإذن يسقط الضمان. واحتمال إناطة الإذن بصحة المعاملة خلاف ظاهر الحال ، ولكن هذا الظاهر لا يفيد أكثر من الظن وهو ليس حجة ، وينبغي التنبه إلى أن حجية ظواهر الألفاظ لا تستلزم حجية ظواهر الأفعال لقيام الدليل هناك ، وعدم قيامه هنا ، لذلك خرج الظن المستفاد من ظاهر اللفظ ، من أصالة عدم حجية الظن ، وبقي الظن المستفاد من ظاهر الحال ، وكثيرا ما يشتبه على أهل الفضل ظاهر الحال بظاهر المقال ، فلا تغفل.

وأما الصورة الخامسة : فقد عرفت إجماعهم على عدم ضمان البائع الثمن للمشتري ، إذا كان المشتري عالما بالغصب. وعن جماعة إنهم عللوه بأنه سلطه على ماله بلا عوض.

وقربه في المكاسب بعدة وجوه ذكرناها في الطبعة الأولى من هذا الكتاب ، وكلها محل نظر بل منع ، وقد اعترف هو قدس‌سره بأن مستند المشهور لا يخلو من غموض.

قلت : والوجه في غموضه أمران.

أولهما : إنه لم يسلطه على ماله بلا عوض ، لأنه لو لم يتسلم منه العين المغصوبة لم يسلمه العوض.

١٠٨

وثانيهما : إن هذا التعليل بعينه يطرد في الصورة الثانية والثالثة من الصور الخمس ، لأن بذل المال في قبال الخمر بعد العلم بحرمة بيعها لكونها ليست مالا شرعيا ، وفي قبال الخنفساء بعد العلم بكونها ليست مالا عرفا ، يكون نظير بذله في قبال المغصوب بعد العلم بفساد بيع المغصوب وحرمة التصرف فيه ، مع أنهم اتفقوا على الحكم في المغصوب ، ولم يتفقوا عليه في هذين الموردين.

ويمكن أن يقال بأن المناط ليس واحدا.

بيان ذلك : هو أن الغاصب لا يمكنه المطالبة بالمغصوب شرعا ولا عرفا ، بخلاف صاحبي الخمر والخنفساء ، فإن لهما حق المطالبة بهما ، ومن أجل ذلك تكون دعوى المجانية الصرفة متصورة بالنسبة لما يقبضه بائع المغصوب ثمنا للعين المغصوبة ، وغير متصورة بالنسبة لما يقبضه بائع الخمر والخنفساء ثمنا لهما ، وهذا يقتضي كون الثمن مرتبطا بهما وغير مرتبط بالمغصوب.

إن قلت : إن الغاصب يمكنه المطالبة بالعين المغصوبة بدعوى كونه هو الذي كان مستوليا عليها وهو الذي سلمها له.

قلت : المطالبة المذكورة مطالبة بحق في عرف اللصوص ، وأما في نظر الشرع والعقلاء ، فإنها مطالبة بغير حق قطعا ، بل الواجب عليه عندهم دفعها لمالكها ولا يجوز له إرجاعها للغاصب ، ولا طريق له للتخلص من الإثم والضمان إلا بدفعها لمالكها أو للحاكم الشرعي.

ومن هذا يتضح أن بذل المال للغاصب بذل مال لمن ليس له حق في العين المبذول بازائها المال بوجه من الوجوه بخلافه فيهما.

والتحقيق : إن البيع عبارة عن مبادلة بين شيئين ، يتبعهما تبديل طرفي الاضافة بين المتبايعين ، وهذا المعنى موجود في بيع الخمر والخنفساء ، لوجود إضافة الملك في الخمر ، ووجود إضافة الملك أو الاختصاص في الخنفساء ، وهذا كله مفقود في بيع المغصوب ، لأن إضافة المغصوب للغاصب إضافة تشير إلى أنه لا حق له فيه بوجه من الوجوه ، بل هي صريحة بانتفاء مقولة الجدة عنه بالنسبة للمغصوب.

١٠٩

وبالجملة : عموم (على اليد) محكم. فإن كان الاجماع تعبديا خصصت به. وإن كان مدركيا فالعموم محكم. ويتوقف استيضاح ذلك على ملاحظة فتاوي القدماء فإن كانت عارية عن التعليل كان هذا الاجماع حجة ، تعبدا لكشفه ، وإلا كان مدركيا ، وفقنا الله لذلك.

ويمكن الاستدلال لعدم الضمان في صورة علم المالك بالفساد وجهل القابض به ، بأن القابض تسلم مالا مأذونا بالتصرف فيه باعتقاده ، والمالك سلطه عليه ، مع علمه بأنه لا يملكه.

وأجاب عنه الاستاذ الحكيم دامت بركاته في الدرس ، بأن هذا مبني على اختلاف سنخ الملكية العرفية والشرعية ، لأن اقدامه على تسليمه له ، كان مبنيا على أنه ملك له بنظر أهل العرف ، الذين لا يبالون بالصحة والفساد شرعا ، كما هو الحال بالنسبة للمسلم الذي يشتري الخمر من مستحله ، بل وممن لا يستحله ، لأنه في هذا الحال يرى الثمن ملكا للبائع.

وأما بناء على وحدتهما ، فإنه يكون قد أذن له على تقدير كونه ملكا له ، واقعا ، وبعد انكشاف العدم لا يكون مأذونا لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه فإنه بعد البناء على وحدة الملكيتين تكون العرفية منتفية بانتفاء الشرعية ، لأننا فرضنا وحدتهما سنخا ، وحينئذ يضمن ، وإن كان جاهلا بالفساد لليد. وقال وكذلك الحال إذا كان التشريع في السبب.

والتحقيق : إن ما أفاده ، مد ظله ، وإن كان دقيقا ، إلا أنه لا يجدي إلا بعد أخذ الملكية الواقعية على نحو الحيثية التقييدية لا التعليلية ، وهو غير معلوم ، بل يحتمل الأمرين. فالأولى الجواب بما قدمناه ، وهو ما أفاده شيخ مشايخنا النائيني رحمه‌الله ، وهو أن مسقط الضمان هو الاذن المجاني بالتصرف ، وهو منتف هنا ، لأن العلم بالفساد الشرعي ليس إذنا مجانيا بعد كون العوض مما يتمول شرعا. نعم في مثل البيع بلا ثمن ، أو في الخنفساء ، يكون إذنا مجانيا بالضرورة ، انتهى

١١٠

٣٦ ـ قاعدة

في تحقيق حكم البيع بلا ثمن ،

والاجارة بلا أجرة ونظائرهما

قال الفاضل الخوانساري في التقريرات ما محصله إن المحتملات أو الأقوال خمسة

الأول : عدم دخولهما في عنوان العقود أصلا.

الثاني : دخولهما في البيع والاجارة الفاسدين.

الثالث : دخولهما في الهبة والعارية الصحيحتين.

الرابع : دخولهما في الفاسدتين منهما.

الخامس : التفصيل بين إجارة الأموال فتلحق بالاجارة الفاسدة ، فيتأتى الضمان في فاسدها ، وبين اجارة الأعمال فتدخل في التبرع ولا ضمان حينئذ ، انتهى.

قلت : وهناك احتمال سادس : وهو أن تكون إجارة صحيحة بشرط إسقاط الاجرة ، وبيع بشرط إسقاط الثمن ، فيكونان بيعا وإجارة صحيحين.

والتحقيق : إن البيع والاجارة من الماهيات العرفية التي أقرها الشارع. والعرف لا يرى البيع بلا ثمن من أفراد البيع ، ولا الاجارة بلا أجرة من أفراد الاجارة ، بل يرون هذا ضربا من التشريع أو التجوز أو اللغو ، نظير قول القائل كتاب أبيض. فإن الكتاب اسم للمكتوب لا للورقة البيضاء. وحينئذ فإن قصد البائع والمؤجر الهبة والعارية ، وبنينا على صحتهما بكل ما دل عليهما ، ولو كان مجازا بعيدا كما فيما نحن فيه ، صحتا كذلك ، وإلا فهما هبة فاسدة وعارية فاسدة. وأما إذا قصدا البيع والاجارة جهلا أو تشريعا كانت المعاملة فاسدة ، لأنهما قصدا معاملة لم تثبت مشروعيتها ، وعنوناها بعنوان لا ينطبق عليها. وهل يلحقها حينئذ حكم البيع الفاسد والاجارة الفاسدة ، أو حكم الهبة والعارية الفاسدتين .. احتمالان.

١١١

ومن الواضح إن مأخذ حكم الفاسد من البيع والاجارة أو الهبة والعارية ، هو أسباب الضمان ومسقطاته ، فإنه ليس ثمة أدلة خاصة. وحينئذ فليس للعنوان خصوصية بالضرورة.

إذا عرفت هذا ، فمقتضى عموم (على اليد) وقاعدة الاحترام وغيرهما من أسباب الضمان ، هو الأول. ومقتضى الاقدام على المجانية المستلزم لطيب النفس هو الثاني.

والاقدام ليس مطردا ، فإن البيع لا ضمان فيه على المشتري قبل القبض ، مع إنهما أقدما على أن يكون مضمونا مطلقا بعد القبض وقبله.

ودعوى انفساخ البيع بالتلف قبل القبض مجرد توجيه لقاعدة تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه ، محافظة على تطبيق النص على القواعد الأولية. وليس منعكسا أيضا ، فإن البيع بلا ثمن والاجارة بلا أجرة قيل ببطلانهما .. وعلى تقدير بطلانهما ، من جهة عدم ذكر الثمن والأجرة ، أو من جهة فقد شرط من شروط الصحة ، فقد قيل بثبوت الضمان حينئذ ، كما عن العلامة والشهيد الثاني ، مع إنهما أقدما على عدم الضمان. والنقض الأول يرد على الموجبة ، والنقض الثاني يرد على السالبة ، فتدبر ..

والمدار في إسقاط الضمان الاذن المطلق في الاتلاف والاستيفاء والتفويت. فإن أحرزناه فلا ضمان ، وإلا فالضمان متعين عملا بعموم أدلة الضمان. ومع التداعي فالقول قول البائع والمؤجر ، لأصالة حرمة المال ولعموم قاعدة على اليد (١).

وأما دعوى الاذن ، فالأصل عدمها. ولا يخفى إن هذه المسألة غير مسألة دعوى صاحب المال إنه باع ، ودعوى القابض أنه وهب ، فإنها غيرها (٢) ، وحكمها مبني على كون المدار في تشخيص المدعي والمنكر ، على تحرير الدعوى وتصويرها ، فيكونان متداعيين ، أو على الغاية منها ، فيكونان مدعيا ومنكرا.

__________________

(١) ولا مجال لأصل البراءة لكونه محكوما للقاعدة.

(٢) لأنهما متفقان على ملكية القابض ويختلفان في كونه مشغول الذمة بالعوض.

١١٢

ثم إن الشهيد في المسالك والميرزا الرشتي رحمه‌الله بنيا الحكم على قصد الهبة والعارية وعدمه ، ولم يستقصيا. قال الرشتي رحمه‌الله إن احتمال كونه إجارة بشرط إسقاط العوض بعيد عن أذهان أهل العرف ، وإنه احتمال أصولي. قلت وهو جيد. وفي المكاسب في أواخر مبحث الفضولي عن الشهيد وغير واحد إنهم صرحوا بعدم الضمان في الاجارة بلا أجرة ، وقال لم يصرح بذلك أحد في البيع بلا ثمن (١)

٣٧ ـ قاعدة

في معنى التخصص والورود

والحكومة والتخصيص

اعلم أن البحث عن هذه المصطلحات من أهم الأمور نفعا وأعمها فائدة. وبضبطها يسهل على الفقيه معالجة الأدلة ، وتفهم مضامين النصوص. وبمعرفتها يستطيع تأدية مقاصده بأوجز عبارة وأدنى إشارة. وهذه الاصطلاحات لم تكن معروفة قبل شيخنا المرتضى رحمه‌الله على ما قيل. وقد قال بعضهم : إنه عثر على بعض هذه الاصطلاحات في الجواهر والمدارك.

واعلم إن هذه الأمور الأربعة وغيرها مما سنلحقه بها ، لم ترد في لسان آية أو رواية أو معقد إجماع. وإنما هي اصطلاحات على أمور مستفادة من ملاحظات دقيقة ، ونحن نعبر عن تلك الملاحظات بهذه المصطلحات.

واعلم أن تفسير الشيخ مرتضى الانصاري رحمه‌الله لها ، ليس حدا ولا رسما ، وإنما هو مجرد إيضاح لاصطلاح. ولا مانع من كون ما نذكره فيما يأتي مخالفا لما ذكره ، فإنه لا مشاحة في الاصطلاح ، مع إن الغاية سهولة تأدية المراد.

إذا عرفت هذا فاعلم إن توضيحها يكون بالكلام في مقامات

__________________

(١) حرر ضحى الاثنين في ١٥ جماد الأول سنة ١٣٨٢ ه‍. في الكويت في حسينية السيد عباس المهري قرب دروازة عبد الرزاق.

١١٣

المقام الأول : في بيان معنى التخصص ، فنقول : هو عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن الآخر موضوعا حقيقة. فلو قال : أكرم العلماء ، وقال : لا تكرم زيدا كان زيد جاهلا ، فإنه يقال زيد خارج عن العلماء تخصصا. ولا معنى لملاحظة النسبة بينهما حينئذ.

المقام الثاني : في بيان معنى الورود ، فنقول : هو عبارة عن خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر تكوينا بواسطة التعبد ، على وجه يكون المورد في طول الوارد ، بحيث يرتفع موضوع المورود عند وجود الوارد. فهو من جهة الخروج الموضوعي يشبه التخصص ، كما إنه يتحد معه نتيجة ، إلّا أنه يفترق عنه من جهة طولية موضوعيهما ومن جهة افتقار الورود إلى التعبد دون التخصص.

وفي الكفاية ، في مبحث الظنون في وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، ما يظهر منه إن موضوع الوارد غير موضوع المورود ، ولا عكس لوجود المطلق في ضمن المقيد دون العكس. فإذا انكشف الحكم الواقعي ارتفع موضوع الحكم الظاهري. وإذا شك فيه كان الموضوع الواقعي في رتبة الظاهري ، فراجع ..

إذا عرفت هذا فاعلم إن الامارات واردة على الأصول العقلية ، كالاشتغال العقلي والتخيير العقلي والبراءة العقلية. لكون موضوع الاشتغال الشك مع خوف العقاب وعدم المؤمن. فيكون خبر الواحد مثلا بعد حجيته مؤمنا وموضوع التخيير الشك مع الحيرة وعدم المرجح فيكون خبر الواحد مرجحا. وموضوع البراءة الشك مع قبح العقاب بلا بيان ، فيكون خبر الواحد بيانا.

ومن هنا يظهر إن الشك وحده ليس موضوعا للأصول ، بل هو مع القيود الآنفة وبارتفاع القيود يرتفع الموضوع ، لانتفاء المركب بانتفاء جزئه ولانتفاء المشروط بانتفاء شرطه (فإن الشروط عند العقل شطور ، والشطور عنده شروط). أو يرتفع الموضوع لارتفاع الجنس بارتفاع فصله. ومن ثم يصح أن

١١٤

يقال أن الموضوع ارتفع تكوينا. ولو كان الشك هو تمام الموضوع لما صح ذلك ، لبقائه بالوجدان. وارتفاعه تعبدا فيه تكلف بل هو خلاف المستفاد من ظاهر الأدلة.

كما إن الشك ليس موضوعا للامارة ، بل موضوعها الواقع بناء على الطريقية ، والشك مورد لها وحالة فقط ، ويشكل الأمر بناء على السببية.

المقام الثالث : في معنى الحكومة ، فنقول : هي عندنا عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر ، على نحو يكون المحكوم بمنزلة الموضوع للحاكم ، سواء كان الحاكم متعرضا لعقد وضع المحكوم أو لعقد حمله ، وسواء كان مضيقا لدائرته أو موسعا لها. فالحاكم هو المفسر للمحكوم ، سواء كان مفسرا له بالفعل ، أو صالحا للمفسرية بنظر أهل المحاورة. ولذا يصح أن يقال : إن الحاكم هو الذي يصح أن يقترن بكلمة أعني أو يرادفها مثل (أريد) و (أي) ، المأتي بها بقصد الشرح والتفسير بقصد بيان مراد.

فصور الحكومة : باعتبار عقد الوضع ، والحمل ، والتوسعة والتضييق ، أربع. والمثال الصالح للصور الأربع قول المولى : العلماء إكرامهم واجب. وقوله بعد ذلك الفلاح عالم والفاسق ليس بعالم. والتأديب إكرام وإعطاء الدراهم ليس إكراما. فإنك إذا لاحظت الفقرات الأربع الأخيرة ، وجدت الأولى منها موسعة لدائرة الموضوع ، والثانية مضيقة لها ، والثالثة موسعة لدائرة المحمول ، والرابعة مضيقة لها.

المقام الرابع : في معنى التخصيص. وهو عبارة عن الخروج حكما مع وحدة الموضوع حقيقة وتعبدا. وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الحكومة المضيقة لدائرة المحكوم. فإنها وإن اتحدت مع التخصيص نتيجة ، إلا إن الحكومة توجب التصرف في الموضوع تعبدا دونه والتصرف فيه تعبدا وإن كان بلحاظ الاثر ، لأنه هو الذي بيد الشارع رفعه ووضعه ، دون نفس الموضوع إلا إنه فرق فارق ، وسيتضح الفرق إن شاء الله في التنبيهات الآتية ثم إنه لا يبعد انطباق كلام شيخنا المرتضى رحمه‌الله في رسائله في مبحث التعادل والتراجيح على ما ذكرناه ، وإن كان يظهر من بعضها إن نتيجة الحكومة نتيجة التخصيص

١١٥

ويظهر من بعضها الآخر إن الحاكم يكون متعرضا بمدلوله اللفظي للمحكوم. وقد عرفت إن الحاكم قد لا يكون موسعا ، فلا تكون نتيجته نتيجة التخصيص ، وإنه قد لا يكون متعرضا للمحكوم بمدلوله اللفظي ، فتنبه ... وهاهنا تنبيهات مهمة.

التنبيه الأول : في توضيح معنى الحكومة ، وتوضيح الفرق بينها وبين التخصيص والتقييد ، ويتم ذلك بملاحظة أمور

أولها : إن الحكومة من الأمور النسبية. فالدليل الحاكم يفتقر إلى محكوم والمحكوم إلى حاكم. وأما الخاص والمقيد فإنهما وإن كانا نسبيين إلا إن العام والمطلق لا يفتقران إلى مخصص ولا مقيد.

ثانيها : في الفرق بين الحكومة والتخصيص ، فنقول : أما الحاكم الموسع بكلا قسميه ، فتمييزه عن التخصيص والتقييد واضح. وأما المضيق بكلا قسميه ، فإنه وإن اتحد معه نتيجة ، إلا إن العام والخاص متحدان موضوعا ، وإنما يتنافيان في الحكم تنافي الايجاب والسلب ، بحيث يكون كل منهما متعرضا لحكم الخاص. غاية الأمر إن العام متعرض لحكمه لو لا الخاص. وإن الخاص يقدم في نظر العرف على وجه يخرج الخاص عن العام حكما لا موضوعا. بل في الحقيقة : الخاص يقرر فردية مورده للعام. فقولنا مثلا : أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، بمنزلة قولنا : أنهم علماء ولكننا نحرم إكرامهم لفسقهم ، بخلاف الحاكم.

أما المضيق منه لعقد الوضع ، فلأنه يخرج مورده عن كونه فردا للمحكوم عليه إخراجا ادعائيا. فلا يكون هناك موضوع واحد ليجتمع فيه الحكمان حتى يقال : أيهما المقدم بنظر العرف .. فقولنا مثلا : الفاسق ليس بعالم ، إخراج له عنهم ادعاء خروجا تشريعيا لا تكوينيا ، وخروجا تعبديا لا حقيقيا .. وأما الحاكم المتعرض لعقد الحمل ، فإنه بعد تعرضه له يكون متعرضا للحكم فقط ، فيكون اشتباهه بالمخصص قويا جدا. ومع ذلك فربما يفرق بينهما ، تارة بأن الحاكم لسانه لسان تفسير بخلاف المخصص. وكل منهما

١١٦

وإن صح اقترانه بكلمة (أعني) ، إلا إنها في الحاكم شارحة للمحكوم ، وفي المخصص مبينة للمراد. وأخرى بأن الحاكم دائما يجعل المحكوم بنظر العرف بمنزلة الموضوع ، ثم يتحكم عليه ، فيفسره بخلاف الخاص كما يظهر. ألا ترى أنه فرق بين قولنا إكرام العلماء واجب إلا بالدراهم ، وبين قولنا : إكرام العلماء واجب وإعطاء الدراهم ليس إكراما ..

ثالثها : ربما يتوهم إن كل ما يكون حاكما على عقد الحمل يكون حاكما على عقد الوضع ، فيكون مخرجا له عن أفراد المحكوم ادعاء كما مر آنفا .. ويمثل لذلك (بلا ضرر ولا حرج). وتوضيح الحال يظهر في غير هذا المقام.

رابعها : إن النسبة بين الحاكم والمحكوم لا تلاحظ أبدا ، بل يقدم الحاكم على المحكوم على كل حال ، وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه بخلاف الخاص. فإنه لا يقدم إلا إذا كان أخص مطلقا. وأما إذا كان أعم من وجه ، فالمرجع فيه إلى المرجحات في الجملة. والسر في تقديم الحاكم هو أنه ، بعد كونه بمنزلة المفسر للمحكوم ، لا يبقى للمحكوم ظهور في الشمول الافرادي والاحوالي. وأيضا فإن الحاكم في طول المحكوم وليس في مرتبته ، وشرط التعارض والتزاحم الوحدة في الرتبة. ومن ثم قلنا بالرجوع إلى المرجحات في الجملة ، في العامين من وجه ، اللذين لا يكون أحدهما حاكما على الآخر.

خامسها : الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم ، والخاص على العام ، والمطلق على المقيد ، وغير ذلك مما يجيء في هذه القاعدة ، هو الظهور العرفي.

فإن العرف بعد الملاحظات الآنفة ، يرى هذه الأمور مقدمة ويرى تقديمها أخذا بالظهور. وبعد إثبات حجية الظواهر باستقرار طريقة العقلاء وتقرير الشارع لهم يكون ذلك شرعيا.

التنبيه الثاني : الدليل المتعرض للشيء بعنوانه الثانوي يكون مقدما على الدليل المتعرض لذلك الشيء بعنوانه الأولي ، لما أسلفناه في خامس الأمور المذكورة في آخر التنبيه الأول. فلو قال : الغنم حلال ثم قال : الموطوءة حرام ، كان القول الثاني مقدما على الأول ، وإن كانت النسبة عموما من وجه.

١١٧

وهذا داخل في الحكومة على تفسيرنا لأن العنوان الأولي يصلح موضوعا للعنوان الثانوي ولا عكس. ولكن الاستاذ الحكيم دامت بركاته كان يجعله عنوانا مستقلا عن الحكومة ، ولهذا أفردناه بالتنبيه.

التنبيه الثالث : اعلم أن التعاريف المتقدمة كلها لفظية ، وليست حدودا ولا رسوما ولذا ربما تتداخل. مضافا إلى أنها اصطلاحات ، والمتبع فيها نظر المصطلح ، وإلى أن المدار على الاستظهار كما أوضحناه في خامس الأمور المذكورة في التنبيه الأول.

فإذا اعتقد الفقيه ظهور الكلام في شيء ، وشمله دليل حجية الظواهر ، كان حجة وليسم بعد ذلك بأي اسم كان ، فإن ذلك لا يضر. فالملاك حقيقة هو تشخيص الصغرى أعني إثبات الظهور ، وملاحظة انطباق الكبرى ، أعني ملاحظة شمول دليل حجية الظواهر للصغرى. وإن كان التحقيق أن الكبرى مسلمة مطلقا ولا مخصص لها. فإذا حصل الظهور ثبتت الحجية بالضرورة.

التنبيه الرابع : الفرق بين المطلق والمقيد وبين العام والخاص هو أن تقابل العام والخاص تقابل الايجاب والسلب ، وتقابل المطلق والمقيد تقابل العدم والملكة. نعم إذا كان الاطلاق لحاظيا ، كان تقابلهما تقابل الايجاب والسلب ، وأصبح بحكم العام. وأيضا فإن المطلق متقوم بمقدمات الحكمة ، فكل ما يوجب ارتفاعها ، إن كان علما ، كان من باب التخصص. وإن كان علميا كالامارات ، كان من باب الورود. لأن المطلق إذا كان عبارة عن عدم المقيد كان انطباق التخصص على المقيد العلمي ، وانطباق الورود على المقيد الظني واضحا.

التنبيه الخامس : ربما يناقش في الحاكم الموسع لعقد الوضع ، بأنه ليس من باب الحكومة ، وإنما هو من باب التنزيل ، وفيه : أنه لا مانع من اندراجه في كلا البابين.

٣٨ ـ قاعدة

في توضيح قاعدة المقتضي والمانع

اعلم أن هذه القاعدة تدور على ألسنة المحققين من المعاصرين وممن قارب عصرهم ، وقد تعرضنا لها في الفقه في مواضع كثيرة.

١١٨

منها : مسألة الماء المتمم كرا بماء متنجس.

ومنها : مسألة الماء المتمم كرا بماء طاهر ، إذا اقترن تتميمه به بملاقاته للنجاسة ، وهو أوضح مورد لها.

ومنها : أدلة كثير الشك بالنسبة لأدلة الشكوك.

ومنها : موارد الشبهات المصداقية ، وهي أكثر من أن تحصى ، كالدم الذي يشك في كونه من ذي النفس السائلة أو من غيره ، فإنه يكون منها ، بناء على وجود دليل عام يدل على نجاسة الدم ، وكالدم الذي يعلم كونه من ذي النفس ، ويشك في كونه من المسفوح المحكوم بنجاسته ، أو من المتخلف المحكوم بطهارته.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن المقتضي لا يؤثر مع اقترانه بالمانع بالضرورة في باب القضايا العقلية ، وينبغي كونه كذلك في باب القضايا الشرعية ، لأن الممتنع عقلا لا يكون ممكنا شرعا ، واعلم أيضا : أن العقل لا يحكم بتأثير المقتضي مع احتمال اقترانه بالمانع ، لأن العقل لا يحكم بشيء إلا بعد إدراك مناطاته إدراكا واضحا ، ولذا نحده في موضع الشك لا يرتب أثر المقتضي.

وأما شرعا : فقد اختلف المحققون في مقتضى الأصل عند الشك في وجود المانع أو في مانعية الموجود ، فبعضهم كان يجري أصالة عدم المانع بدعوى كونها من الأصول العقلائية التي أقرها الشارع ، فتكون أصلا عقلائيا مستقلا بنفسه لا علقة له بالاستصحاب المعروف.

وبعضهم منع من ذلك ، بدعوى عدم ثبوت حجيته (١).

ونظيره في الفقه أصالة عدم الاشتراط عند الشك في أصل الاشتراط. هذا بالنظر إلى أصالة عدم الاشتراط مع قطع النظر عن الإطلاقات وعن أصل البراءة.

وبعضهم فرق بين الشك في المانع ، فأجرى فيه أصالة العدم ، وبين

__________________

(١) لاحظ ما علقناه في آخر القاعدة المتضمنة لحكم الخبر الصحيح الذي يشك في عمل المشهور به.

١١٩

الشك في الاشتراط ، فأجرى فيه أصالة الاحتياط ، بدعوى وجوب إحراز الشرط في مقام إفراغ الذمة وبدعوى أن الشرط أمر وجودي لا بد من إحرازه. وأما المانع فإنه أمر عدمي يكفي في إحراز عدمه أصالة عدم المانع.

والأقوى : أنه لا فرق بين الشرط والمانع ، وإن أصالة العدم لا تنفي المانع ، وإن أصالة عدم الاشتراط لا تثبت عدم الاشتراط.

إذا عرفت ذلك كله فاعلم : أن موارد أصالة العدم في الفقه أكثر من أن تحصى ، واعلم أنه يصعب على المبتدئين التفرقة بين مواردها ، مع وضوح اختلافها بنظر المحققين ومن أجل ذلك أفردنا لها قاعدة مستقلة ، واستطردنا من مواردها ما استطعنا.

إذا عرفت هذا فاعلم أيضا : أنه يمكن أن نقول فيما نحن فيه أن ملاقاة الماء للنجاسة مقتضية لانفعاله ، وإن الكرية مانعة من الانفعال. فإذا اقترنت الملاقاة بالإتمام كرا لم ينفعل ، لأنه من باب اقتران المقتضي بالمانع ، فيكون طاهرا وليس نظيره تتميمه كرا بماء متنجس ، لسبق نجاسة المتمم قبل التتميم ، فلا يطهر بالتتميم بالطاهر ، وهذا فرق فارق بين الفرضين.

ويمكن أن نقول : أن الشك في الركعات في الشكوك الصحيحة مقتضي لما يترتب عليه من صلاة الاحتياط وغيرها ، وإن الشك في المحل مقتضي لوجوب الإتيان بالمشكوك. وإن كثرة الشك مانعة من تأثيره. فإذا شك المكلف في كونه كثير الشك أو لا كان شاكا في وجود المانع أو مانعية الموجود.

ويمكن أن يقال في باب الشبهات المصداقية في قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم ، بأن العلم مقتض للإكرام ، والفسق مانع منه ، فإذا علمنا بأن زيدا عالم وشككنا في فسقه ابتنى وجوب إكرامه وعدمه على قاعدة المقتضي والمانع.

ونظيره : نجاسة الدم بناء على وجود دليل عام يدل على نجاسة الدم ، ثم تخصيصه بغير ذي النفس فإن الشك في كون الدم من ذي النفس أو غيره

١٢٠