رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

بها تفصيلاً وإن لم نقل بكفاية الاعتقاد بصحّة ما جاء به النبي فليس في موردها تكليف وبالتالي امتثال.

الثاني : مصب حق الطاعة هو التكليف لا مطلق الحكم

إنّ حقّ الطاعة عبارة عن تحمّل العبد مسئولية أمام المولى ، ولزوم مثوله بين يديه فيما أمر به أو نهى عنه ، فتختص بالطبع بموارد التكليف ولا تعمّ مطلق الحكم وبالتالي لا تشمل الإباحة الاقتضائية المعلومة تفصيلاً فضلاً عن الإباحة المحتملة.

كلّ ذلك لا لأجل التمسّك بلفظ الطاعة والجمود عليه ، بل لأنّ واقع الطاعة الذي هو عبارة عن مثول العبد أمام المولى يُحدِّد حقيقة الطاعة بما إذا كان العبد مسئولاً عمّا كُلِّف به. وأمّا الأحكام الإباحيّة الّتي ليس للمولى فيها طلب ولا بعث للعبد فلا موضوع هناك للطاعة ولا للمسئولية.

وعندئذ فإذا دار الأمر بين كون الحكم الواقعي حكماً تكليفياً مشتملاً على ملاك مقتض للإلزام أو حكماً ترخيصياً مشتملاً على ملاك يقتضي الترخيص والتسوية بين الفعل والترك.

فإن قلنا : إنّ حقّ الطاعة يختصّ بالتكاليف المبيّنة من جانب المولى ـ كما هو المختار ـ لم يكن في مورد الشبهة أيّ موضوع لحقّ الطاعة. أمّا بالنسبة إلى الوجوب المحتمل فلأجل اختصاص القاعدة بالوجوب المعلوم لا المحتمل.

وأمّا بالنسبة إلى الإباحة الاقتضائية فلأجل عدم وجود موضوع للطاعة حتّى يحكم العقل بوجوب الطاعة.

وأمّا إذا قلنا : إنّ حقّ الطاعة يسع التكاليف المعلومة والمظنونة والمحتملة

٨١

فلا يزاحمه احتمال كون الحكم الواقعي إباحة اقتضائية. لعدم وجود موضوع للطاعة فيها ويتفرَّد الحكم الإلزامي المحتمل بالطاعة.

فإن قلت : هب : انّ الإباحة الاقتضائية ليست من أقسام التكليف ولا يتصوّر فيها الامتثال والعصيان لكن الغرض من إنشائها هو تيسير الأمر على المكلّف وإطلاق العنان له بين الفعل والترك.

وعلى هذا فلو كان الأمر دائراً بين كونه واجباً أو مباحاً اقتضائياً ، فإيجاب الاحتياط بمقتضى قاعدة حقّ الطاعة وإلزام المكلّف بالأخذ بالفعل ينافي ملاك الإباحة الاقتضائية الّتي مدارها إعطاء المكلّف كامل الحرية بين الفعل والترك ، فكون الفعل محتمل الوجوب يقتضي الإلزام والضيق ، كما أنّ كونه محتمل الإباحة يقتضي التيسير والسهولة وإطلاق العنان ، فشمول القاعدة لهذه الصورة يوجد التزاحم بين الملاكين المحتملين.

قلت : إنّ الغرض من جعل الإباحة الاقتضائية يتلخّص في أمرين :

الأوّل : اعتقاد المكلّف بكون حكم الله في هذا المورد هو الإباحة لا غير ، وهذا هو المسمّى بالموافقة الالتزامية ، فلو كان الحكم أي الإباحة معلومة بالتفصيل وجب الاعتقاد بإباحتها تفصيلاً ، وإن لم تكن معلومة بالتفصيل كما في المقام كفى الاعتقاد بصحّة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المورد إجمالاً ، كلّ ذلك بناء على وجوب الموافقة الالتزامية.

الثاني : ترخيص المكلّف على الصعيد العملى من جانب الشارع دون أن يكون هناك إلزام. فإذا كان المطلوب من جعل الإباحة الاقتضائية ، هو الترخيص بما هو هو فهذا حاصل غير منتف ، إذ ليس من جانب المولى أي

٨٢

إيجاب أو تحريم بل حكم بالتسوية بين الفعل والترك ، ولكنّه لا ينافي أن يتعلّق إلزام بالفعل المباح القطعي ، فضلاً عن المحتمل ، لأجل انطباق عنوان آخر.

ويشهد على صحّة ما ذكرنا الأمران التاليان :

١. انّ الفعل المباح ، إذا صار مبدأ للضرر والحرج ، يعرض عليه اللزوم دون أن يتصوّر وجود التزاحم بين ملاك الإباحة الاقتضائية ، وملاك حرمة الضرر والحرج حتّى يكون تقديم حكمهما على الأُولى من باب الأولوية والأحقية ، لأنّ اقتضاء التسوية بما هو هو لا ينافي ترجيح أحد الطرفين لأجل عامل خارجي ، فاقتضاء الميزان ، تساوي الكفّتين ، لا ينافي ترجيح أحد الطرفين بعامل خارجي ، فلا موضوع للتزاحم حتّى يرجح أثر العامل الخارجي على التساوي الداخلي.

٢. انّ الفعل المباح ربّما يقع مقدّمة للواجب والحرام فإذا قلنا بالملازمة بين حكمي المقدّمة وذيها ، فعندئذ يعرض عليها الإلزام بالفعل والترك ، ولا يتصوّر فيه أي تزاحم بين ملاك الحكمين ، حتّى يكون تقديم الإلزام على الإباحة من باب الأهميّة والأولوية.

وما ربما يقال : من أنّ العبد في الإباحة الاقتضائية مكلّف بحفظ غرض الشارع ومقصده ، وهو الترخيص والتسهيل ، فغير مفيد فإن أُريد انّه مكلّف في مرحلة الاعتقاد ، فهو صحيح فأيّ اعتقاد بحكم الفعل يضاد الإباحة فهو تشريع محرم.

وإن أُريد انّه مكلّف به في مرحلة العمل فهو لازم الاتّباع لكن لو لم يحمله

٨٣

عامل خارجي على الأخذ بأحد الطرفين إلزاماً.

***

تمّ الكلام حول القاعدتين يوم اندلعت نار الحرب بين الحكومة العراقية

وقوات الاحتلال : البريطانيّة والإمريكيّة ـ خذلهما الله ـ

وذلك في يوم الخميس ، السادس عشر من

شهر محرم الحرام من شهور عام ١٤٢٤ ه‍ ـ.

اللهم احفظ الإسلام والمسلمين ،

وردّ كيد الظالمين إلى

نحورهم وبلادهم.

٨٤

الرسالة الثالثة

دور العرف وسيرة العقلاء

في

استنباط الأحكام

٨٥
٨٦

دور العرف وسيرة العقلاء

في استنباط الأحكام

العرف والسيرة والعادة وبناء العقلاء ، أسماء أربعة تهدف إلى معنى واحد ، وهي ألفاظ كثيرة الدوران على ألسنة الفقهاء ، وربّما يعتمد عليها القضاة في فصل الخصومات ، كما يعتمد عليها الفقهاء في تبيين المفاهيم وتمييز المصاديق ، وأحياناً في استنباط الأحكام ونحن نستخدم كلمة العرف تارة والسيرة أُخرى.

وهل العرف ، حجّة شرعية يُستنبط منه حكم كلّي شرعي كسائر المسائل الأُصولية ويصبح البحث عن حجّيته بحثاً أُصولياً كالبحث عن حجّية خبر الواحد ، أو لا؟ فسنرجع إليه عند بيان مجالاته.

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً تسلّط الضوء على المقصود :

٨٧

١

تقديم أُمور

١. لقد حاول بعض المعاصرين إلغاء الأحكام الشرعيّة الواردة في الأصعدة المختلفة بإحلال ما عليه العرف العام مكانها ، وهؤلاء هم المنكرون لخاتميّة الإسلام ، وأنّ تشريعاته كانت تشريعاً مؤقّتاً إلى أن يبلغ المجتمع درجة من الرقي يستغني بها عن تشريع السماء ، وخطابنا في هذه الرسالة غير موجّه إليهم ، وإنمّا نحن نتكلّم مع من يحترم تشريع الإسلام في عامّة الأصعدة غير أنّه يتخذ العرف طريقاً لاستنباط الحكم الشرعي أو العمل به فيما لا نصّ فيه كما يظهر ذلك في ثنايا الرسالة.

٢. إنّ للعرف دوراً واضحاً في فهم الأحكام الشرعية في مختلف المجالات ولكنّ فقهاءنا لم يفتحوا له باباً ولم يخصّوا له فصلاً وإنّما أشاروا إلى ما له من دور في مناسبات مختلفة في شتّى الأبواب ، وهذا ما صار سبباً لتعطش طلاب الحوزة إلى معرفة مكانته ودوره في الاستنباط ، ولقد كتبنا في ذلك في مقدّمة موسوعة طبقات الفقهاء ـ القسم الأوّل ـ كما طرحناه على وجه الإيجاز في الجزء الثاني من كتاب «الوسيط في أُصول الفقه» ، ولكن الموضوع بحاجة إلى تفصيل أكثر.

٣. ويكفي في الإشارة إلى أهميّة الفهم العرفي أنّ القرآن الكريم قد أنزل

٨٨

بلسان قوم النبي وقال سبحانه : (ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...)(١) ، فنزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ، وهو كتاب عالمي حجّة على الناس على ضوء ما يدركه العربي الصميم في عصر النزول ، فالخطابات القرآنية حجّة للأجيال المتأخّرة على نفس القياس.

ويكفي في أهمية الموضوع أنّ قسماً من الخلافات بين الفقهاء يرجع إلى الاختلاف في ما هو المفهوم من الكتاب والسنّة عند العرف.

يقول الإمام الخميني في بيان شرائط الاجتهاد : «الأنس بالمحاورات العرفية ، وفهم الموضوعات العرفية ممّا جرت محاورة الكتاب والسنّة على طبقها والاحتراز عن الخلط بين دقائق العلوم والعقليات الرقيقة ، وبين المعاني العرفية العادية ، فإنّه كثيراً ما يقع الخطأ لأجله كما يتّفق كثيراً لبعض المشتغلين بدقائق العلوم الخلط بين المعاني العرفية السوقية الرائجة بين أهل المحاورة المبني عليها الكتاب والسنّة والدقائق الخارجة عن فهم العرف». (٢)

ولذلك يجب على المجتهد في فهم المفردات والجمل التركيبية الرجوع إلى المعاجم الأصلية التي تذكر معاني الألفاظ ومقاصد التراكيب في عصر النزول ، ومما لا شكّ فيه طروء التطور على كثير من المفاهيم عبر القرون الغابرة وهكذا مفاد الهيئات التركيبيّة.

٤. ذكروا للعرف تعاريف مختلفة ، ولعلّ أفضلها ما ذكره الأُستاذ خلاف : «العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك». (٣)

__________________

(١). إبراهيم : ٤.

(٢). الرسائل للإمام الخميني : ٩٦.

(٣). عبد الوهاب خلّاف ، علم الأُصول : ٩٩.

٨٩

وإن شئت قلت : العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس وساروا عليه من فعل شاع بينهم أو قول تعارفوا عليه.

٥. الفرق بينه وبين الإجماع هو انّه يشترط في الإجماع الاتّفاق في المسائل الولائيّة كالإمامة أو اتّفاق المجتهدين في المسائل الفقهية ، بخلاف العرف فيكفي فيه الأكثرية الساحقة ، ولا يشترط فيه الاجتهاد ، بل القارئ والأُمّي فيه سواء.

٦. ينقسم العرف إلى : عام ، وخاص.

والمراد من الأوّل : ما يشترك فيه أغلب الناس على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وثقافاتهم ، كرجوع الجاهل إلى العالم.

والثاني : ما يشترك فيه فئة من الناس في مكان أو زمان معيّن ، وهذا ما يعبّر عنه بالآداب والرسوم المحلّية.

٧. ينقسم العرف إلى : عملي كبيع المعاطاة في أغلب البيئات ، وقولي كلفظ الولد حيث يستعمل عند العراقيين في الذكر دون الأُنثى خلافاً لقوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(١) ، فلو وقف الواقف مزرعة على الأولاد فلا يتبادر عندهم إلّا الذكور منهم.

٨. ينقسم العرف إلى : صحيح ، وفاسد.

والمراد من الأوّل : ما لا ينافي عمومات الكتاب والسنّة ولا سائر الأدلّة ، كتأجيل بعض المهر وتعجيل البعض الآخر.

والمراد من الثاني : ما يخالف الحكم الشرعي ، كالعقود الربوية واختلاط النساء بالرجال في مجالس اللهو.

قد قام التشريع الإلهي بردّ بعض الأعراف من رأس كالبيع الربوي والغرري

__________________

(١). النساء : ١١.

٩٠

انطلاقاً من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ بن جبل عند ما بعثه إلى اليمن قائلاً : «وأمِتْ أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام». (١) كما قام بإقرار بعض العادات والأعراف دون أن يتصرّف فيها إلّا بشيء بسيط ، كالنكاح والطلاق والبيع والإجارة والرهن.

٩. إنّما يعتبر العرف عنصراً في الشرع إذا لم يكن في مجراه حكم شرعي. وبتعبير آخر : يكون المورد ، منطقة فراغ ، وإلّا فلو كان هناك حكم شرعي فلا يكون العرف مورداً للاعتماد.

١٠. إنّ مصب البحث هو صيرورة العرف مصدراً لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي ، كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة على القول بحجّيتها ، وإلّا فمجرد كونه ممّا يرجع إليه الفقيه في تبيين المفاهيم أو تمييز المصاديق أو القاضي في القضاء وفصل الخصومات لا يكون سبباً لعدّه من المسائل الأُصولية.

__________________

(١). من كلمات الرسول في خطابه التاريخي في حجة الوداع ، ولقد نقله الفريقان باختلاف يسير ولعلّ ما نقله ابن شعبة الحراني في «تحف العقول» أفضل وأجمع ممّا نقله ابن هشام في سيرته ، تحف العقول : ٢٥.

٩١

٢

دور العرف في فهم المقاصد

إذا عرفت هذه الأُمور فاعلم أنّ للعرف أو السيرة مجالات يعتمد عليها الفقيه أو القاضي في مختلف الموارد نأتي بها واحداً بعد الآخر :

١. الرجوع إلى عرف أهل اللغة

العرف هو المرجع في فهم اللغة وتشخيص معاني الألفاظ وما وضعت له ، وقد أُلّفت معاجم اللغة من عصر الخليل (المتوفّى ١٧٠ ه‍ ـ) إلى يومنا هذا على ضوء الرجوع إلى أهل اللغة ، وقد حققنا في محله ، انّ تنصيص أهل اللغة حجّة تحت شرائط خاصة ، ليس المقام مناسباً لبيانها.

٢. الرجوع إلى العرف في تبيين المفاهيم

١. إذا وقع البيع والإجارة وما شابههما موضوعاً للحكم الشرعي ثمّ شكّ في مدخلية شيء في صدقه أو صحّته أو مانعيته شرعاً فالصحة عند العرف دليل على أنّه هو الموضوع عند الشرع.

إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع

٩٢

تبادر غيره وكمال اهتمامه ببيان الجزئيات من المندوبات والمكروهات ، إذ يكون تركه إغراء بالجهل ، وهو لا يجوز.

وبهذا تحلّ المشكلة المعروفة في التمسّك بالعمومات والإطلاقات في أبواب المعاملات ، حيث يتمسّك بإطلاق : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) أو عموم قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عند الشكّ في الجزئية والشرطية ، وعندئذ يستشكل بأنّه إذا كانت ألفاظ المعاملات أسماء للصحيح منها فمرجع الشكّ في الشرطية والجزئية ، إلى الشكّ في صدق الموضوع ، فيكون المورد من قبيل التمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المصداقية لهما.

ويجاب بانّه إذا كان مفهوم البيع عند العرف أوسع من الواجد للجزء أو الشرط المشكوك وجوبهما ، نستكشف من ذلك ، كونه كذلك عند الشرع ، فالصحيح عرفاً يكون طريقاً إلى ما هو الصحيح شرعاً إلّا إذا قام الدليل على الخلاف. وممن صرّح بذلك الشيخ الأنصاري في أوّل المتاجر بعد الفراغ من تعريف البيع قال : إذا قلنا بأنّ أسماء المعاملات موضوعة للصحيح عند الشارع ، فإذا شككنا في صحّة بيع أو إجارة أو رهن يصحّ لنا أن نستكشف ما هو الصحيح عند الشارع ممّا هو الصحيح عند العرف ، بأن يكون الصحيح عند العرف طريقاً إلى ما هو الصحيح عند الشارع إلّا ما خرج بالدليل. (١)

٢. لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فيحال في تحديدهما إلى العرف.

قال المحقّق الأردبيلي : قد تقرر في الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي

__________________

(١). المتاجر : ٨٠ ، ط تبريز.

٩٣

يحال إلى العرف جرياً على العادة المعهودة من ردّ الناس إلى عرفهم. (١)

٣. لو افترضنا الإجمال في حدّ الغناء ، فالمرجع هو العرف ، فكلّ ما يسمّى بالغناء عرفاً فهو حرام وإن لم يشتمل على الترجيع ولا على الطرب.

٤. «الاحياء» ورد في الشرع مطلقاً من غير تفسير كقوله : «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له» (٢) ، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى العرف والتعويل على ما يسمّى في العرف «احياء». (٣)

٥. وقد ورد لفظ «المئونة» في قوله عليه‌السلام : «الخمس بعد المئونة» (٤) ومفهوم «العيال» في وجوب الفطرة وغيره (٥) ، فالمرجع في تفسير هذه المفاهيم هو العرف ، كما أنّ المرجع في تفسير الاستحالة والانقلاب هو العرف ، فإنّ الاستحالة هي إحدى المطهرات ، كاستحالة الكلب ملحاً ، أو انقلاب الخمر خلاً ، فالتشخيص في تعيين ذينك المفهومين على عاتق العرف.

يقول صاحب مفتاح الكرامة : المستفاد من قواعدهم حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على عرفهم ، فما علم حاله في عرفهم جرى الحكم بذلك عليه ، وما لم يعلم يرجع فيه إلى العرف العام كما بيّن في الأُصول. (٦)

يقول الإمام الخميني رحمه‌الله : أمّا الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع والعنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً ـ ف في دليل لفظي

__________________

(١). مجمع الفائدة والبرهان : ٨ / ٣٠٤.

(٢). الوسائل : ١٧ ، الباب ١ من كتاب الإحياء ، الحديث ٥.

(٣). كفاية الأحكام : ٢٤١.

(٤). الوسائل : ٦ ، الباب ١٢ من أبواب الخمس ، الحديث ١.

(٥). الوسائل : ٦ ، الباب ٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٦ وغيره.

(٦). مفتاح الكرامة : ٤ / ٢٢٩.

٩٤

أو معقد الإجماع. (١) والشاهد في قوله «والعنوان». وكان الأولى أن يقول : «وتحديد العنوان».

٣. الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق

قد اتّخذ الشرع مفاهيم كثيرة وجعلها موضوعاً للأحكام ، ولكن ربّما يعرض الإجمال على مصاديقها ويتردّد بين كون الشيء مصداقاً له أو لا.

وهذا كالوطن والصعيد والمفازة والمعدن والحرز في السرقة والأرض الموات إلى غير ذلك من الموضوعات التي ربّما يشك الفقيه في مصاديقها ، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها على موردها.

يقول المحقّق الأردبيلي في حفظ المال المودع : وكذا الحفظ بما جرى الحفظ به عادة ، فإنّ الأُمور المطلقة غير المعيّنة في الشرع يرجع فيها إلى العادة والعرف ، فمع عدم تعيين كيفية الحفظ يجب أن يحفظها على ما يقتضي العرف حفظه ، مثل الوديعة ، بأن يحفظ الدراهم في الصندوق وكذا الثياب ، والدابة في الاصطبل ونحو ذلك ، ثمّ إنّ في بعض هذه الأمثلة تأمّلاً ، إذ الدراهم لا تحفظ دائماً في الصندوق ، ولا الثياب ، وهو ظاهر. (٢)

ومع ما للعرف من الدور في فهم الحكم الشرعي وتطبيقه على المصداق ولكن ذلك الدور للعرف الدقيق لا للعرف المتهاون ، وقد كان سيدنا الأُستاذ السيد الخميني قدَّس سرّه يركّز على ذلك في دروسه الشرعية ، فلو وصف العرف ما يبلغ وزنه تسعمائة وتسعة وتسعين كيلو بكونه طُناً فلا عبرة به ، لأنّه عرف متسامح ،

__________________

(١). البيع : ١ / ٣٣١.

(٢). مجمع الفائدة والبرهان : ١٠ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٩٥

وأمّا العرف الدقيق فيقول : إنّه ينقص من الطن كيلو واحد ، نعم لون الدم وإن كان في العقل الدقيق من أقسام الدم لكنّه عند العرف حتّى الدقيق لونه لا نفسه ، فيوصف بالطهارة لا بالنجاسة.

فإن قلت : انّ المختار عند المحقّق النائيني هو أنّ العرف مرجع في المفاهيم دون المصاديق قال :

فالتعويل على العرف إنّما يكون في باب المفاهيم ، ولا أثر لنظر العرف في باب المصاديق ، بل نظره إنّما يكون متبعاً في مفهوم «الكرّ» و «الفرسخ» و «الحقّة» ونحو ذلك ؛ وأمّا تطبيق المفهوم على المصداق : فليس بيد العرف ، بل هو يدور مدار الواقع ؛ فإن كان الشيء مصداقاً للمفهوم ينطبق عليه قهراً ، وإن لم يكن مصداقاً له فلا يمكن أن ينطبق عليه.

قلت : إنّه قدس‌سره يخطّئ مرجعية العرف المتسامح لا الدقيق ولذلك يقول بعد كلامه المتقدّم : ولو فرض أنّ العرف يتسامح أو يخطئ في التطبيق ، فلا يجوز التعويل على العرف في تطبيق المفهوم على المصداق مع العلم بخطائه أو مسامحته أو مع الشكّ فيه ، بل لا بدّ من العلم بكون الشيء مصداقاً للمفهوم في مقام ترتيب الآثار. (١)

٤. كشف العرف عن مراد الشارع عند الملازمة العادية

إذا كان بين الحكم الشرعي المنطوق والحكم الشرعي الآخر غير المنطوق ملازمة عادية ينتقل العرف من الحكم الأوّل المجعول إلى الحكم الثاني وإن لم يكن ملفوظاً ، وهذا كما إذا دلّ الدليل على طهارة الميت بعد الأغسال الثلاثة فهو

__________________

(١). فوائد الأُصول : ٤ / ٥٧٤ ، النشر الإسلامي.

٩٦

يلازم طهارة يد الغسّال ، والخشب الذي أجرى الغسل عليه وسائر الأدوات عند العرف.

ونظير ذلك ما دلّ على طهارة الخمر بانقلابه إلى الخل الملازم للحكم بطهارة جميع أطراف الإناء.

ومثله ما دلّ على طهارة العصير العنبي بعد التثليث بناء على نجاسته بالغليان ، فإنّ طهارة العصير يلازم عادة طهارة الإناء والأدوات التي كان الطبّاخ يستخدمها.

٥. كشف الأعراف عن مقاصد المتكلّم

إنّ لكلّ قوم وبلد أعرافاً خاصة بهم ، يتعاملون في إطارها ويتّفقون على ضوئها في كافّة العقود والإيقاعات ، فهذه الأعراف تشكل قرينة حالية لحلّ كثير من الاختلافات المتوهمة في أقوالهم وأفعالهم ، ولنقدّم نماذج منها :

١. إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومها ، فالمرجع ليس هو اللغة بل ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين وهو الفرس.

٢. إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه ، فالمرجع هو المتبادر في عرف المتبايعين ، وهو اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك والدجاج.

٣. إذا وصّى بشيء لولده ، فالمرجع في تفسير الولد هو العرف ، ولا يطلق فيه إلّا على الذكر لا الأُنثى خلافاً للفقه والكتاب العزيز ، قال سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (١)

٤. إذا اختلف الزوجان في أداء المهر ، فالمرجع هو العرف الخاص ، فلو

__________________

(١). النساء : ١١.

٩٧

جرت العادة على تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف ولكن ادّعت الزوجة بعده انّها لم تأخذه ، وادّعى الزوج دفعه إليها ، فللحاكم أن يحكم على وفق العرف الدارج في البلد.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام فيما إذا اختلف أحد الزوجين مع ورثة الزوج الآخر ، انّه جعل متاع البيت للمرأة وقال للسائل : «أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت : شاهدين ، فقال : «لو سألت من بين لابتيها ـ يعني الجبلين ونحن يومئذ بمكة ـ لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية ، من بيت المرأة إلى بيت زوجها ، فهي التي جاءت به وهذا المدّعي ، فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة». (١)

٥. إذا اختلف البائع والمشتري في دخول توابع المبيع في البيع فيما إذا لم يصرّحا به ، كما إذا اختلفا في دخول اللجام والسرج في المبيع ، فإذا جرى العرف على دخولهما في المبيع وإن لم يذكر يكون قرينة على أنّ المبيع هو المتبوع والتابع ، ولذلك قالوا : إنّ ما يتعارفه الناس من قول أو فعل عليه يسير نظام حياتهم وحاجاتهم ، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعنى المتعارف لهم ، وإذا عملوا فإنّما يعملون على وفق ما يتعارفونه واعتادوه ، وإذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم ، ولهذا قال الفقهاء : المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

٦. ويظهر من المحقّق الأردبيلي قدَّس سرّه انّ العرف هو المعتمد في تشخيص كون الشيء مكيلاً أو موزوناً حتى يجري فيه الربا المعاوضي ، لأنّه يحرم التفاضل في مبادلة المتجانسين إذا كانا مكيلين أو موزونين ، دون ما إذا كانا معدودين أو مزروعين. فلو اختلفت البلاد فكان جنس موزوناً في بلد ، ومعدوداً في بلد آخر ،

__________________

(١). الوسائل : ١٧ ، الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ١.

٩٨

يكون لكلّ بلد حكمه بشرط أن لا يعلم حاله في عهد الرسول ، وإليك كلامه :

قال : كلّما لم يثبت فيه الكيل ولا الوزن ولا عدمهما في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحكمه حكم البلدان ، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح ، وإن اختلفا ففي بلد الكيل أو الوزن يكون ربوياً تحرم الزيادة وفي غيره لا يكون ربوياً فيجوز التفاضل ، والظاهر انّ الحكم للبلد لا لأهله وإن كان في بلد غيره. (١)

٧. الشروط المبنيّ عليها العقد ، يجب الوفاء بها وإن لم تذكر في العقد كالبكارة في التزويج عند المسلمين ولو بانت ثيّباً فللزوج حقّ الفسخ إذا لم يدخل بها بعد العلم بحالها.

٨. الرجوع إلى العرف في تعيين حريم القرية فانّه يختلف حسب اختلاف الأعراف والعادات.

فقد اتضح ممّا ذكرنا انّ للعرف دوراً في تبيين الموضوع (تبيين المفاهيم) ، أو تشخيص المصاديق ، أو تشكيل قرينة على مقصود الشارع كما في الملازمات العادية ، أو مقصود المتعاملين كما هو الحال في الأعراف والرسوم القومية ، أو تشخيص الموضوع عند الشارع كما هو في الشك في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً ، ومرجع الجميع إلى تشخيص المفاهيم أو الصغريات أو الموضوعات ، أو المقاصد.

ومع ذلك يقع في بعض الموارد صغرى لاستكشاف حكم شرعي ، وبذلك يعود البحث عن حجّيته ، بحثاً أُصولياً كالبحث في حجّية الإجماع المنقول ، أو الشهرة الفتوائية.

٦. استكشاف الجواز تكليفاً أو وضعاً بالعرف

ربّما يستكشف جواز الفعل تكليفاً أو وضعاً من السيرة العقلائية الدارجة

__________________

(١). مجمع الفائدة والبرهان : ٨ / ٤٧٧ ، كتاب المتاجر ، مبحث الربا.

٩٩

بينهم ، لكن بشرطين :

١. اتّصال السيرة إلى أعصارهم وكونها بمرأى ومسمع منهم.

٢. عدم ردعهم عنها ، بقول أو فعل.

وهذا ما نلاحظه في العقود التالية :

١. العقود المعاطاتية في البيع والإجارة والرهن وغيرها ، فهي حجّة على مَن يشترط العقد اللفظي في صحّة المعاملات المزبورة.

٢. وقف الأشجار والأبنية منفكّة عن وقف العقار ، فالسيرة حجّة عند الشكّ في صحّة هذا النوع من الوقوف.

٣. دخول الحمام من دون تقديره المكث فيه ومقدار المياه التي يصرفها.

٤. استقلال الحافلة بأُجرة عينية من دون أن يعين حدّ المسافة.

٥. بيع الصبي وشراؤه في المحقرات ، دون الجلائل. مع أنّ الثالث والرابع غرريّان ، والخامس ، ينافيه قول علي عليه‌السلام عمد الصبي خطأ. (١) أو قول الصادق : عمد الصبي وخطؤه واحد. (٢)

فإن قلت : يكفي في ردع هذه السير ما دلّ على بطلان البيع والإجارة المجهولين ، أو ما ورد في مورد الصبي من أنّ عمده كلا عمد ، وقصده كلا قصد.

قلت : إنّ رسوخ هذه السير في حياة المسلمين والفقهاء على نحو لا يمكن لأحد إنكاره ، يكشف أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة حول مانعية جهالة المبيع والأُجرة ، منصرفان عن هذه الموارد أو ما ورد حول عمد الصبي ناظر إلى غير هذه الصورة.

__________________

(١). الوسائل : ١٩ ، الباب ١١ من أبواب العاقلة ، الحديث ٣.

(٢). الوسائل : ١٩ ، الباب ١١ من أبواب العاقلة ، الحديث ٢. بناء على عدم اختصاص الحديثين ، بباب الديات.

١٠٠