رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

٥

في مجال درك مصالح الأفعال ومفاسدها

إنّ الأحكام الشرعية عند الإمامية تابعة للمصالح والمفاسد ، فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه ، والتشريع الإلهي منزّه عن التشريع بلا ملاك ، ونصوص الكتاب والسنّة يشهدان على ذلك :

إنّه سبحانه يُعلّل وجوب الاجتناب عن الخمر والميسر بأنّ اقترافهما يورث العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله عموماً والصلاة خصوصاً ، يقول عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). (١)

كما أنّه يعلّل وجوب الصلاة بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، يقول سبحانه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ملاكات التشريع في الذكر الحكيم.

وكذلك الروايات فقد أكد الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في بعض كلماته

__________________

(١). المائدة : ٩١.

(٢). العنكبوت : ٤٥.

٤١

ذلك ، فقال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يُحرِّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد». (١)

وقال عليه‌السلام في وجه حرمة الدم : «إنّه يسيء الخلق ، ويورث القسوة للقلب ، وقلّة الرأفة والرحمة ، ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده». (٢)

وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ مُدْمِن الخمر كعابد الوثن ، ويورث الارتعاش ، ويهدم مروّته ، ويحمل على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا». (٣)

هذا من حيث الثبوت ممّا لا شكّ فيه.

إنّما الكلام في إمكان وقوف الفقيه على مصالح الأحكام ومفاسدها التي تدور عليها الأحكام إذا لم يرد فيها نصّ صحيح ، فالحقّ هو التفصيل بين ما اتّفق العقلاء على وجود المصلحة أو المفسدة في الموضوع ، وما إذا لم يكن هناك اتّفاق من عامّة العقلاء ، بل انفرد فيه فقيه واحد ، وإليك البيان :

إذا كان إدراك المصلحة إدراكاً عامّاً يتّفق فيه العقلاء ، كوجود المفسدة في استعمال المخدّرات ، والمصلحة في استعمال اللقاح لصيانة الطفل عن الجُدْري والحصبة حيث أصبح العقلاء متفقين على وجود المفسدة والمصلحة الملزمة ، في ذلك فلا مانع من أن يتّخذ ما أدركه العقل من المصالح والمفاسد ملاكاً لكشف حكم الشرع ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل أدرك فقيه واحد أو فقيهان وجود المصلحة في إنشاء حكم ، فهل يصحّ لهما إنشاء حكم وفق ما أدركاه ، ينسبونه إلى الشريعة الإسلاميّة؟ فالجواب هو النفي ، إذ من أين للعقل ، القطع بأنّ ما تصوّره

__________________

(١). مستدرك الوسائل : ٣ / ٧١.

(٢). بحار الأنوار : ٦٢ / ١٦٥ ، ح ٣.

(٣). بحار الأنوار : ٦٢ / ١٦٤ ، ح ٢.

٤٢

علّة ، هو علّة تامّة يدور الحكم مدارها ، إذ يحتمل أن يكون هناك مانع من حكم الشرع على وفق ما أدركه العقل.

يقول المحقّق الأصفهاني : إنّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تدخل تحت ضابطة ، وعليه لا سبيل للعقل بما هو إليها. (١)

والحاصل : أنّه لا يصحّ للفقيه أن يتّخذ ما أدركه من المصالح والمفاسد ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي من الوجوب والحرمة حتّى يكون من مصادر التشريع.

أضف إلى ذلك أنّ المصالح والمفاسد لمّا لم تكن على وزان واحد ، بل ربّ واجب يسوغ في طريق إحرازه اقتراف بعض المحرمات ، لاشتماله على مصلحة كثيرة لا يجوز تركها بحال ، كإنقاذ الإنسان المتوقّف على استطراق أرض الغير ، بلا إذنه ، وربّ حرام ذي مفسدة كبيرة لا يجوز اقترافه وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات ، فأنّى للعقل درك درجة المصلحة والمفسدة حتّى يكون مصدراً للتشريع والحكم بالوجوب والحرمة في عامة الحالات؟

إلى هنا تمّ بيان المجالات التي للعقل فيها دور في استكشاف الحكم الشرعي.

إذا عرفت ذلك فلندخل في مقالة الأخباريّين التي صارت سبباً للغور في هذا البحث.

__________________

(١). نهاية الدراية : ٢ / ١٣٠ ، الطبعة الحجريّة.

٤٣

٦

الحركة الأخبارية في مطلع القرن الحادي عشر

ظهرت الحركة الأخبارية في مطلع القرن الحادي عشر ، وقد شطبت على العلوم العقلية بقلم عريض ، ولم تر للعقل أي وزن ولا اعتبار في العلوم إلّا ما كانت مادته قريبةً من الحس ، كالحساب والهندسة وأمثال ذلك ، وأمّا ما وراء ذلك فذهبت إلى أنّ العقل عاجز عن الإدراك الصحيح.

وقد رفع رايتها الشيخ محمد أمين بن محمد شريف الأسترآبادي الأخباري (المتوفّى عام ١٠٣٣ ه‍ ـ) وألّف عند مجاورته للبلدين مكة المكرّمة والمدينة المنورة ، كتابين في هذا المجال ، وهما :

١. الفوائد المكية.

٢. الفوائد المدنية.

والأُسس التي قامت عليها المدرسة الأخبارية لا تعدو خمسة أُسس ، وأمّا ما وراء ذلك فإنّما هو أُمور جزئية أو راجع إليها ، وأمّا تلك الأُسس فهي عبارة عن :

٤٤

١. عدم حجّية ظواهر الكتاب إلّا بعد ورود التفسير عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، لما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي أوّلاً ، ولطروّ مخصّصات ومقيّدات على عمومه وخصوصه ثانياً.

٢. نفي حجّية حكم العقل في المسائل الأُصولية وعدم الملازمة بين حكم العقل والنقل ، وانّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، لا أساس له.

٣. نفي حجّية الإجماع من دون فرق بين المحصّل والمنقول.

٤. ادّعاء قطعية صدور كلّ ما ورد في الكتب الحديثية الأربعة من الروايات ، لاهتمام أصحابها بتلك الروايات ، فلا يحتاج الفقيه إلى دراسة أسنادها أو تقسيمها إلى الأقسام الأربعة المشهورة ، كما قام به ابن طاووس وتبعه العلّامة.

٥. التوقّف عن الحكم إذا لم يدل دليل من السنّة على حكم الموضوع ، والاحتياط في مقام العمل ، مثلاً التدخين الذي كان موضوعاً جديداً آنذاك يُتوقف عن الحكم فيه ويراعى الاحتياط في مقام العمل بتركه.

ثمّ إنّ المحدّث الشيخ عبد الله بن الحاج صالح السماهيجي الذي هو أحد الأخباريين في القرن الثاني عشر ، ألّف رسالة في المسائل الضرورية التي لا غنى عنها في مرحلتي الأُصول والفروع ، وقد ذكر في تلك الرسالة الفروق بين الأُصوليين والأخباريين ، فبلغت الأربعين. (١)

وقد نقلها صاحب الروضات في ترجمة محمد أمين مؤسس الأخبارية. (٢)

وكما قلنا : فإنّ الأُسس الفارقة المهمة هي ما ذكرنا ، وإليك نقل بعض الفروق الأُخرى :

__________________

(١). روضات الجنّات : ٤ / ٢٥٠.

(٢). روضات الجنّات : ١ / ١٢٧.

٤٥

قال :

١. إنّ الأدلّة عند الأُصوليّين أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، ولكنّها عند الأخباريين تختصر بالأوّلين ، بل بعضهم يقتصر على الثاني.

٢. الأُصوليون يجوزون العمل بالظنون في نفس الحكم الشرعي ، والأخباريون لا يعوّلون إلّا على العلم. إلّا أنّ العلم عندهم قطعي واقعي ، وعادي وأصلي ، وهما ما وصلا عن المعصوم ، ولم يجز فيه الخطأ عادة.

٣. الأُصوليون يقسّمون الأخبار إلى الأربعة المشهورة ، والأخباريون إلى صحيح وضعيف.

٤. الأُصوليون يفسّرون الأقسام الأربعة للحديث بما هو المعروف في علم الدراية ، والأخباريون يفسّرون الصحيح بالمحفوف بالقرائن التي توجب العلم بالصدور عن المعصوم ، والضعيف بما هو عار عن ذلك.

٥. الأُصوليون يحصرون الناس في صنفين : مجتهد ومقلّد ، والأخباريون يقولون : إنّ الناس كلّهم مقلّدون للمعصوم ولا يجوز لهم الرجوع إلى المجتهد بغير حديث صحيح صريح.

إلى غير ذلك من الفروق.

وقبل الخوض في مقالة الأخباريين لا بدّ من الإشارة إلى بعض العوامل الّتي سبّبت ظهور هذه الفرقة ؛ فإنّ تبيينها من أهمّ المسائل في الأدوار الفقهية التي تحتاج إلى دراسة مفصّلة حتّى تعكس الظروف التي نشأت فيها الفكرة.

وهناك فروض مختلفة نقلناها في «تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره» (١) ، ومن أراد التفصيل فليرجع إليها.

__________________

(١). تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره : ٣٨٦.

٤٦

والذي نظنّ أن يكون هو السبب الواقعي لظهور تلك الفرقة هو ما يلي :

سبب ظهور الفكر الأخباري

إنّ أصحاب الصادقين عليهما‌السلام ومن بعدهم كانوا على قسمين ، فقد كانوا بين مُكب على جمع الأخبار وقراءتها وتصحيحها وجمعها في أصل أو كتاب دون أن يستنطقوا العقل في المعارف والمسائل العقليّة والأُصوليّة ، وبين آخذ بالنقل والعقل معاً ، ونذكر من القسم الثاني : زرارة بن أعين ، ويونس بن عبد الرحمن ، والفضل بن شاذان ، وغيرهم ، وكان الأكثر على الخط الأوّل ، وقد استمرّ الخطّان إلى عصر الغيبة ، فابن الجنيد وابن أبي عقيل ومن تلاهم إلى عصر الشيخ المفيد وتلميذيه المرتضى والطوسي كانوا على خط الجمع بين العقل والنقل ، وعند التعارض كانوا يقدّمون العقل القطعي على النقل الظنّي.

وقد امتد الخط الأوّل إلى القرن الخامس ، وبعده انحسر أمام ازدهار الخط الثاني وكانت القوة للمنهج الثاني إلى القرن العاشر.

وبهذا يُعلم المراد من «الأخباري» في لسان العلّامة ومن قبله ؛ وهو الخبير بالأخبار والمدوّن والناشر لها ، دون أن يكون هناك منهج باسم الأخبارية أمامَ منهج الآخرين ، نعم كان للطائفة الأُولى عقائد خاصة في بعض المسائل اعتمدوا فيها على بعض الروايات ، فنقلها الصدوق في كتاب العقائد ونقدها الشيخ المفيد في كتاب تصحيح العقائد.

إنّ الأمين الاسترآبادي تصور أنّ الخط الأوّل كان منهجاً منسجماً تام الأركان في عصر الأئمة وبعدهم ، ولكن غلب عليهم عصر الاجتهاد وصار الأمين بصدد إحيائه وبسطه ، وأسماه بالأخبارية ، وألقى فكرة الإحياء بصورة البرهان ونقد أُسس

٤٧

الأُصوليين ، ثمّ إنّه تكاملت الفكرة الأخبارية بعد عصر الأمين بيد تلاميذ منهجه إلى أن عاد منهجاً متكاملاً يفارق الأُصوليين في أربعين مسألة أو بضع أُصول.

ومما نلفت إليه النظر أنّ الأمين مؤسس هذا المنهج ممّن يؤكّد على الحس والعلوم الّتي تكون مبادئُها قريبة من الحس ، ويندِّد بالعلوم النظرية الّتي تكون مبادئُها بعيدة عنه ، قائلاً : إنّ العلوم النظرية قسمان :

قسم ينتهي إلى مادّة قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ، والسبب في ذلك أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة ، أو من جهة المادة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء ، لأنّ معرفة الصورة من الأُمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، والخطأ من جهة المادة لا يتصوّر في هذه العلوم لقرب الموارد فيها إلى الإحساس.

وقسم ينتهي إلى مادة بعيدة عن الإحساس ؛ ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم أُصول الفقه والمسائل النظرية والفقهية وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق.

ثمّ استشهد بوقوع الاختلافات بين الفلاسفة. (١)

والعجب أنّ تلك الفكرة (الرجوع إلى الحس والانكباب عليه) والابتعاد عن النقل والنظر بدأت في الغرب قريباً من عصر الأمين ، حيث رفع رايتها علماء تجريبيون ، نظير ديكارت (١٥٩٦ ـ ١٦٥٠ م) ، ومن البعيد أن يكون هناك صلة بين الفريقين.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى توضيح مقالة الأخباريّين حول منع العمل

__________________

(١). الفوائد المدنية : ١٣٠.

٤٨

بالحكم المستنبط من غير الكتاب والسنّة وهي تحتمل أحد أمرين :

الأوّل : إنّهم يرفضون العمل بالمستنبط من غير المصدرين ، لأجل أنّه لا يفيد القطع بالحكم ، وأنّه لا يخرج عن دائرة الظن ، وهذا يرجع إلى منع الصغرى.

الثاني : إنّهم يرفضون العمل بغيرهما وإن أفاد القطع بالحكم ، وذلك لعدم الملازمة بين حكم العقل والشرع ، والظاهر من بعض كلمات المحدّث الاسترآبادي أنّه كان يركّز على منع الصغرى وهو منع إفادة القطع حيث يقول في كتابه :

الفصل الأوّل في إبطال التمسّك بالاستنباطات الظنيّة في نفس أحكامه تعالى ، ويقول أيضاً في ذيل هذا الفصل : كلّ من قال بجواز التمسّك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى من محقّقي العامة وجمع من متأخري أصحابنا الخاصة اعترف بانحصار دليل جوازه بالإجماع. (١)

إلى غير ذلك من العبارات الّتي يجدها السابر لكتابه الدالّة على أنّه بصدد منع الصغرى.

ومع ذلك فاحتمال كون النزاع كبرويّاً وهو عدم حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة باق بحاله ، وذلك لأجل نفي الملازمة بين الحكمين : العقلي والشرعي.

لو افترضنا أنّ النزاع كبروي ـ أي في حجية القطع الحاصل من الأدلّة العقلية ـ فيقع الكلام في مقام الثبوت والإثبات.

والمراد من الثبوت : إمكان النهي عن العمل به.

والمراد من مقام الإثبات : ورود النهي عنه شرعاً ، بعد ثبوت الإمكان.

وإليك الكلام في كلا المقامين :

__________________

(١). الفوائد المدنية : ٩٠ ، الطبعة الحجرية.

٤٩

المقام الأوّل : إمكان النهي عن العمل بالقطع

يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم ، امتناع النهي عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، لأنّه يعدّ تناقضاً في نظر القاطع مطلقاً ، وفي الواقع عند الإصابة.

لكن الحق جواز المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غيرهما ، لأنّ للشارع التصرّف في موضوع إطاعته وامتثاله ، بأن يطلب إطاعة الأحكام الّتي وصل إليها المكلّف عن طريق الكتاب والسنّة ، فإنّ لزوم الإطاعة وإن كان عقلياً ، لكن تحديد موضوعها سعة وضيقاً بيد الشارع ، فله أن يحدّد الموضوع ويخصّها بالأحكام المستنبطة من طريقيهما لا من الطرق الأُخرى.

هذا هو الوجه الذي اعتمدنا عليه ، ولكن ذهب المحقّق النائيني إلى جواز التقييد بوجه آخر وهو قاعدة «نتيجة الإطلاق والتقييد» التي استفاد منها في غير مورد ومنها : إمكان تخصيص الأحكام بالعالمين بالبيان التالي ، وحاصله : إنّ العلم بالحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقة للحكم ، فلا يمكن فيه التقييد ؛ لاستلزامه الدور ، وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً ، لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

ومن جانب آخر : أنّ الإهمال الثبوتي لا يعقل ، بل لا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد ، فإنّ الملاك الّذي اقتضى تشريع الحكم إمّا أن يكون محفوظاً في كلتا حالتي الجهل والعلم ، فلا بدّ من نتيجة الإطلاق ، وإمّا أن يكون محفوظاً في حالة العلم فقط ، فلا بدّ من نتيجة التقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلاً لبيان ذلك ، فلا بدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق والتقييد وهو المصطلح عليه ب ـ (متمّم الجعل) ، فاستكشاف كلّ من

٥٠

نتيجة الإطلاق والتقييد يكون من دليل آخر ، وقد ادّعى تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وأنّ الحكم مطلق في حقّ العالم والجاهل ، ولكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص ، وقد خصّص في غير مورد ، كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام. (١)

ومن هذه الموارد توجيه مقالة الأخباريين بأن يقال : إنّ الأحكام الواقعية قيّدت بنتيجة التقييد ، وهي إنّ الأحكام الشرعية ، إنّما تجب إطاعتها إذا وصلت إلى المكلّف عن طريق الكتاب والسنّة.

ويلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ تقابل الإطلاق والتقييد اللحاظيّين تقابل الضدّين ؛ لفرض قيامهما بلحاظ السعة والضيق ، فكيف يكون تقابلهما تقابل العدم والملكة؟

وثانياً : سلّمنا أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ولكن لا يصحّ ما رتب عليه ، وهو أنّه إذا لم يصحّ تقييد الحكم بالعلم به يمتنع إطلاقه بالنسبة إلى العالم والجاهل به ، وذلك لأنّ امتناع التقييد لأجل استلزامه الدور ، وهو مختص بصورة التقييد بالعالم ، فلا مانع من إطلاقه بالنسبة إلى كلتا الحالتين ، فلا يلزم من امتناع التقييد امتناع الإطلاق.

وثالثاً : أنّ المحذور ـ على فرض قبوله ـ إنّما هو في الإطلاق اللحاظي ، بأن يلاحظ المكلّف في حالتي العلم والجهل بالحكم ، لا في الإطلاق الذاتي ، وهو كون الطبيعة متعلّقة للحكم ، أو كون ذات البالغ العاقل موضوعاً للحكم ، وهذا متحقّق في كلتا الحالتين ؛ سواء أكان هناك علم بالحكم أم لا.

فالمحذور المتصوّر في باب الإطلاق اللحاظي غير جار في الإطلاق الذاتي فلا وجه لعدّهما من باب واحد.

__________________

(١). فوائد الأُصول : ٣ / ١٢.

٥١

هذا كلّه حول الثبوت ، وقد عرفت إمكان المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة. بقي الكلام في المقام الثاني :

المقام الثاني : في ورود المنع عن العمل أو عدمه

ذهبت الأخبارية إلى ورود المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، وقد استدلّوا بطوائف ثلاث من الروايات سيوافيك الكلام فيها.

وربّما يستدلّ لهم بالدليل العقليّ ولنقدّم هذا القسم على الأدلّة النقلية.

الأوّل : احتمال سعة مناط الحكم عند العقل

إنّ العقل وإن كان يدرك الجهات المحسّنة والمقبّحة ، إلّا أنّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ، ولم يصل العقل إليها ؛ إذ ليس من شأن العقل ، الإحاطة بالواقع. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلاف المفروض ، لأنّ الكلام فيما إذا حكم العقل بحكم قطعي على موضوع بما هو هو ، كقبح الظلم وخيانة الأمانة ، أو كقبح ترجيح المهم على الأهمّ ، وعندئذ لا يحتمل أن يكون للحكم مانع في الواقع أو شرط عند الشارع ، فما ذكره خارج عن محط البحث.

نعم لو احتمل العقل أحد هذه الأُمور لم يحكم بحكم باتّ.

الثاني : جواز خلو الواقعة من الحكم

يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم فيه العقل بالوجوب أو الحرمة ، حكم

__________________

(١). فوائد الأُصول : ٣ / ٦٠ ناقلاً عن كتاب الفصول.

٥٢

أصلاً ، لا موافقاً ولا مخالفاً ، بأن تخلو الواقعة من الحكم رأساً ، وعلى ذلك لا حكم للشرع في الموضوع وفاقاً أو خلافاً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ احتمال خلو الواقعة من الحكم يخالف مع ما ورد عنهم عليهم‌السلام : «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة».

وفي حديث آخر : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ قال : «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه» أو «في الكتاب والسنّة». (٢)

فكيف يمكن أن لا يكون للشارع حكم في الموضوعات الخطيرة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة حجّة الوداع : «يا أيّها الناس ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار ، إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه». (٣)

ثمّ إنّ الأخباريّين استدلّوا بطوائف من الروايات الّتي زعموا دلالتها على مدّعاهم ، وإليك استعراضها تحت عناوين خاصة ليسهل للطالب الوقوف عليها ، ولم نذكر جميع الروايات لأنّها غير خارجة عن تلك العناوين.

الطائفة الأُولى : لزوم توسيط الحجّة في بيان الحكم

قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم يتوسط الحجّة في تبليغه وبيانه ، ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة.

ويدلّ على ذلك صحيح زرارة : «أما لو أنّ رجلاً صام نهاره ، وقام ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، وتكون

__________________

(١). الفصول في علم الأُصول : ٣٣٧.

(٢). الكافي : ١ / ٥٩ ـ ٦٢ ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة.

(٣). الوسائل : ١٢ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢.

٥٣

جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله ثواب ، ولا كان من أهل الإيمان». (١)

وعن الرضا ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من دان بغير سماع ألزمه الله البتة إلى الفناء». (٢)

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «كلّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل». (٣) إلى غير ذلك من الروايات.

ويلاحظ عليه : بما نوّهنا به في محاضراتنا في غير مقام ، وهو أنّه كما أنّ للآيات شأن نزول ، فكذلك للروايات شأن صدور ، وكما أنّ شأن النزول يرفع الإبهام الطارئ على الآية لأجل الفصل الزماني ، فهكذا شأن الصدور بالنسبة للرواية.

وفي ضوء تلك القاعدة فالرواية ناظرة إلى التابعين والفقهاء ، كأبي حنيفة وابن شبرمة وابن أبي ليلى وغيرهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت بتاتاً ولم يستضيئوا بنور علومهم ، وإنّما اقتصروا على ما رواه الصحابة من المسانيد والمراسيل والموقوفات غير الكافية في مجال الإجابة عن المسائل المستجدّة.

وأمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب والسنّة وتمسّكوا بالثقلين ، غاية الأمر أخذوا بالعقل في ما له شأن الحكم على وجه القطع والبت ، فهؤلاء ليسوا من مصاديق الحديث ، لأنّهم عرفوا ولاية ولي الله فوالوه في عامّة الموارد الّتي فيها لهم حكم وبيان وجعلوا أعمالهم بدلالة الولي ، لكنّهم أخذوا في موارد بالحكم القاطع للعقل ، لا لأجل الإعراض عن أبوابهم ، بل من باب الأخذ بالحكم العقلي الّذي أيّده الأئمّة في غير واحد من رواياتهم.

__________________

(١). الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

(٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ ، ١٨.

(٣). الوسائل : ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ ، ١٨.

٥٤

الطائفة الثانية : ما يدلّ على عدم حجّية الرأي

وهناك طائفة أُخرى تدلّ على عدم حجّية الرأي ، فقد روي عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه». (١)

وروى ابن مسكان ، عن حبيب قال : قال لنا أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما أحد أحبّ إليّ منكم ، إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى ، منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل». (٢)

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الرأي هو الإفتاء بغير دليل قطعي أو سنّة صحيحة بشهادة قول أبي جعفر عليه‌السلام : «من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم». (٣)

ولذلك يوصف أصحاب القياس بأصحاب الرأي كأبي حنيفة ومدرسته.

روى الدميري عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنّه سمع عن أبي حنيفة أنّه يقول : ما جاء عن رسول الله فعلى الرأس والعين ، وما جاء عن الصحابة اخترناه ، وما كان غير ذلك فهم رجال ونحن رجال.

وعن أبي حنيفة أنّه قال : علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه ، فمن جاء بأحسن منه قبلناه. (٤)

وعلى ذلك يحمل قوله عليه‌السلام : «من قال بالقرآن برأيه فقد أخطأ».

أي : قال فيه قولاً غير مستفاد من كتاب ولا سنّة ولا من دليل يعتمد عليه ، بل قال برأيه حسب ما يقتضيه أمره ويذهب إليه وهمه بالظن والتخمين.

__________________

(١). الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١ ، ٣١ ، ١٢.

(٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١ ، ٣١ ، ١٢.

(٣). الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١ ، ٣١ ، ١٢.

(٤). حياة الحيوان : ٢ / ١٠٣ ؛ الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٣٣٨.

٥٥

وأين هذا من الإفتاء بالحكم العقلي القطعي الموافق للفطرة الإنسانية والحكم الواضح عند العقلاء.

والحاصل : إنّ هذه الرواية تندد بعمل أبي حنيفة ؛ فإنّه لم يثبت إلّا سبعة عشر حديثاً من أحاديث النبي (١) ومع ذلك يبني على المقاييس والآراء الّتي اعتمد عليها فقهه الّذي عمل به أغلبُ المسلمين.

ولذلك نرى أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام يذمّ أبا حنيفة وابن شبرمة ، يقول الأخير : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد عليهما‌السلام فقال لأبي حنيفة : «اتّق الله ولا تقس في الدين برأيك ، فإنّ أوّل من قاس إبليس». (٢)

وكذلك قال أبو جعفر عليه‌السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : «شرّقا وغرّبا ، فلا تجدان علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت». (٣)

الطائفة الثالثة : ما يدلّ على أنّ المرجع هو الكتاب والسنّة

هناك روايات تدلّ على أنّ المرجع في الأحكام هو الكتاب والسنّة ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل». (٤)

وقال عليه‌السلام : «وإنّما الناس رجلان : متتبع شرعة ، ومبتدع بدعة ، ليس معه من الله برهان سنّة ، ولا ضياء حجّة». (٥)

يلاحظ عليه : أنّها بصدد ردّ علم من يعمل بكلّ ما اشتهر على ألسن الناس وإن لم يكن له دليل ، مقابل من يرجع إلى الكتاب والسنّة ، ولا صلة له بالبحث

__________________

(١). مقدّمة ابن خلدون : ٢٨٢ ، فصل الحديث ، طبع دار ومكتبة الهلال.

(٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥ و ١٦.

(٣). الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥ و ١٦.

(٤). الوسائل : ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢ و ٣١.

(٥). الوسائل : ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢ و ٣١.

٥٦

أبداً.

والحاصل : أنّ هذه الروايات الّتي حشدها صاحب الوسائل في الباب السادس والعاشر من أبواب صفات القاضي وغيرهما لا صلة لها بالمجتهدين الكبار الذين أخذوا الأُصول والفروع عنهم عليهم‌السلام وأناخوا ركائبهم أمام أبوابهم عليهم‌السلام ، بل هي راجعة إلى المعرضين عن أبوابهم.

وقد تقدّم أنّ قسماً من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام كزرارة ويونس بن عبد الرحمن وغيرهما كانوا على خط العقل مع العلم بالنقل ولم يعزلوا العقل عن منصة التشريع.

ثمّ إنّ للمحدّث الاسترآبادي مغالطة واضحة في بعض كلماته وطالما نسمعها من أصحاب التفكيك في عصرنا هذا.

قال : إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا عن الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم لم نُعْصَم عنه ، ومن المعلوم أنّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً.

يلاحظ عليه : أنّه مغالطة محضة ، فإنّ المسلم الواعي لا يعوِّض كلامهم بشيء ، إذ لا يعادله شيء ، لكن الكلام في أنّه إذا لم يوجد عنهم نص صحيح ، ولا ظاهر قويم ، فهل هنا مرجع غير الشرع؟ فالأُصولي يجيب بالإثبات ، لكن فيما إذا كان الموضوع ممّا يصحّ أن يرجع إليه ، والأخباري يجيب بالنفي.

بلغ الكلام إلى هنا ظهيرة يوم الأحد آخر

شهر شعبان المعظم من شهور عام ١٤٢٤ ه‍ ـ

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٥٧
٥٨

الرسالة الثانية

مسلك حقّ الطاعة

بين

الرفض والقبول

٥٩
٦٠