رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

شرع ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه ، ويُقبِّح الإساءة والظلم ويذمّ عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشكّ وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع». (١)

ويقول أيضاً في كتاب آخر : إنّ من الأفعال ما هو معلوم الحُسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، فكلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. (٢)

ومن حسن الحظ انّ الذكر الحكيم يشير إلى موقف العقل من إدراك تحسين الأشياء وتقبيحها ، فترى أنّه يحتج في موارد بقضاء فطرة الإنسان بحسن بعض الأفعال ، وفي الوقت نفسه يقبّح بعضها على وجه يسلِّم بأنّ الفطرة الإنسانية صالحة لهذين الإدراكين ، ولذلك يتخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في قضائه ويقول :

١. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (٣)

٢. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (٤)

٣. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). (٥)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكل الذكرُ الحكيم القضاءَ إلى وجدان

__________________

(١). كشف المراد المطبوع مع تعاليقنا : ٥٩.

(٢). نهج الحق وكشف الصدق : ٨٣.

(٣). سورة ص : ٢٨.

(٤). القلم : ٣٥ ـ ٣٦.

(٥). الرحمن : ٦٠.

٢١

الإنسان ، وانّه هل يسوّي بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والمجرمين ، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً ، ويقول : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، ويقول أيضاً : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم أنّ المخاطب يعرفهما معرفة ذاتية ، ولا يحتاج في تعرفهما إلى الشرع ، وكأنّ الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته.

ويقول سبحانه :

١. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (١)

٢. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (٢)

٣. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٣)

نظرية الأشاعرة

ثمّ إنّ الأشاعرة عطَّلوا دور العقل في درك الحسن والقبح ، فقالوا : إنّ المرجع في الحسن والقبح هو الشرع ، فما حسّنه الشارع فهو حسن ، وما أخبر عن قبحه فهو قبيح ، وليس للعقل المقدرة على تمييز الحسن عن القبيح.

هذا ، وقد ذهلوا عن أنّ القول بكون الحسن والقبح شرعيين ، وأنّهما لا يثبتان إلّا بالشرع ، يستلزم عدم ثبوتهما حتّى بالشرع أيضاً ، وذلك لأنّه إذا كان العقل عاجزاً عن درك محاسن الأفعال ومساوئها ومن ثمّ «عن حسن الصدق»

__________________

(١). النحل : ٩٠.

(٢). الأعراف : ٣٣.

(٣). الأعراف : ١٥٧.

٢٢

و «قبح الكذب» ، فمن أين نعلم أنّ الشارع صادق في إخباره؟ لأنّه لم يثبت بعدُ حسن الصدق ولا قبح الكذب ، فإذا أخبرنا عن شيء أنّه حسن ، لم نجزم بحسنه حتّى عند الشرع ، لتجويز الكذب عليه.

والحاصل : أنّه لو لم نعرف حسن الأفعال وقبحها شرعاً إلّا عن طريق إخبار الأنبياء ، فإذا قالوا : الصدق حسن والكذب قبيح ، لا يحصل لنا العلم بصدق القضية ، إذ نحتمل أن يكون المخبر كاذباً.

ولو قيل : إنّه سبحانه شهد على صدق مقالة أنبيائه ، فنقول : إنّ شهادته سبحانه لم تصل إلينا إلّا عن طريقهم ، فمن أين نعلم صدقهم في كلامهم هذا؟

أضف إلى ذلك من أين نعلم أنّه سبحانه ـ والعياذ بالله ـ لا يكذب؟

فهذه الاحتمالات لا تندفع إلّا باستقلال العقل ـ قبل كلّ شيء ـ بحسن الصدق وقبح الكذب ، وأنّه سبحانه منزّه عن القبح .... (١)

وربّما يعترض عليه بأنّ ما ذكر من التالي (عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتّى بالشرع لو كان الطريق منحصراً بالسماع من الشرع) إنّما يصحّ إذا انحصر الطريق بإخباره المحتمل فيه الصدق والكذب ، وأمّا لو كان الطريق هو أمره ونهيه فلا يتطرّق إليه احتمال الكذب ، لأنّه والصدق من أوصاف الإخبار لا الإنشاء.

وهذا هو ما ذكره القوشجي معترضاً به على المحقّق الطوسي وقال : إنّ الحسن والقبح عبارة عن كون الحسن متعلّق الأمر والمدح ، والقبيح متعلق النهي والذمّ. (٢)

ويلاحظ عليه : أنّ احتمال الكذب في الإنشاء وإن كان منتفياً ، لكنّ هنا

__________________

(١). لاحظ كشف المراد : ٥٩ ، المطبوع مع تعاليقنا.

(٢). شرح التجريد للقوشجي : ٤٤٢ ، طبعة تبريز.

٢٣

احتمالاً أو احتمالات تمنع من استكشاف الحسن والقبح ، من مجرّد سماع الأمر بشيء والنهي عنه ، إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثاً في أمره ونهيه ، ولو قال : إنّه ليس بعابث ، لا يثبت به نفي احتمال العبث عن فعله وكلامه ؛ لاحتمال كونه هازلاً أو كاذباً في كلامه.

فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإدراكات العقلية شيء لا يتوقّف درك حسنه وقبحه على شيء ، وأن يكون العقل مستقلاً في دركه ، وهو حسن العدل وقبح الظلم وحسن الصدق وقبح الكذب ، حتّى يستقلّ العقل في ظلِّه بإدراك أنّ كلّ ما حكم به الشرع فهو صادق في إخباره أو مريد لا هازل في إنشائه ، فيثبت عندئذ أنّ ما تعلّق به الأمر حسن شرعاً ، وما تعلّق به النهي قبيح شرعاً ، وهذا ما يهدف إليه المحقّق الطوسي من أنّه لو لا استقلال العقل بإدراك حسن أو قبح بعض الأفعال ما ثبت حسن ولا قبح بتاتاً.

بعض الأحكام المستنبطة من هذا الأصل

إنّ هذا الأصل الّذي عليه العدلية ، يحتجّ به في الأُصول في الموارد التالية :

١. البراءة من التكليف المحتمل ؛ لقبح العقاب بلا بيان.

٢. الاشتغال بالتكليف عند العلم الإجمالي وتردّد المكلّف فيه بين أمرين ، لحكمه بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية وحسن عقوبة من لم يخرج عن عهدة التكليف القطعي على وجه اليقين.

٣. الإتيان بالمأمور به مُجز عن الإعادة والقضاء ، لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

٤. مرجّحات باب التزاحم.

٢٤

إنّ مرجّحات باب التزاحم كلّها من باب تقديم الأهمّ على المهم ، وإليك عناوينها :

أ. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

ب. تقديم المضيّق على الموسّع.

ج. تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأهميته.

د. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً.

ه ـ. تقديم الواجب المطلق على المشروط.

إلى غير ذلك من الموارد الّتي يستقل العقل فيها بحسن الفعل وقبح ضدّه ، فيستكشف منه كونه كذلك عند الشارع.

ثمّ إنّ الحكم الشرعي المستنبط من حسن الأفعال أو قبحها ، يكون حكماً إلزامياً دائراً بين الإلزام بالفعل أو الإلزام بالترك ، ولذلك تكون الأحكام المستنبطة بالعقل منحصرة في حكمين : الوجوب أو الحرمة.

وذلك لأنّ العناوين المحسنة أو المقبحة ـ بحكم وجوب انتهاء كلّ ما بالعرض إلى ما بالذات ـ تنتهي إلى العدل والظلم ، فإذا كان الفعل حسناً عند العقل فانّما هو لانطباق عنوان العدل عليه ، فيكون خلافه ظلماً ، ومعه كيف يكون جائز الترك (المستحب) أو كان الفعل قبيحاً ، فإنّما هو لانطباق عنوان الظلم عليه ، ومعه كيف يكون جائز الفعل (المكروه) ولذلك حصر المتكلّمون الأحكام الشرعية المستنبطة من العقل في حكمين : الوجوب والحرمة.

وأمّا تقسيم الأحكام الشرعية إلى أقسام خمسة ، فهو وإن كان صحيحاً لكن لا بملاك الحسن والقبح ، بل بملاك المصلحة أو المفسدة الملزمة وغيرها ، وهذا لا يمنع أن يكون في مورد الوجوب والحرمة ملاكان : الحسن العقلي والمصلحة الملزمة ،

٢٥

أو القبح العقلي والمفسدة.

وهناك إجابة أُخرى نشير إليها وهي :

إنّ الأحكام المستنبطة من الحسن والقبح حسب الثبوت وإن كانت أربعة ؛ لاختلاف درجات الحسن والقبح ، فالدرجة العالية من الحسن تقتضي الوجوب والمتوسطة تقتضي الاستحباب ، وهكذا القبح فالدرجة القوية منه تلازم الحرمة والدرجة الضعيفة تلازم الكراهة ، إلّا أنّ هذا صحيح حسب الثبوت ، وأمّا حسب الإثبات فلا ؛ لأنّ الحسن والقبح من المستقلات العقلية ، والعقل لا يدرك إلّا ما كان لازم الفعل أو لازم الترك ، وأمّا ما وراء ذلك فهو وإن صحّ واقعاً ، لكن ليس للعقل إليه سبيل.

والحاصل : أنّ الضيق : إنّما هو في إدراك العقل للحسن والقبح ، والعقل لا يدرك إلّا ما كان لازم الفعل أو لازم الترك ، كالإحسان لمن أحسن وعدم الإساءة إليه ، والعمل بالميثاق وعدم نقضه ، إلى غير ذلك من العناوين التي يقف عليها العقل ، فلا يستنبط منه إلّا الحكم الإلزامي.

٢٦

٢

في مجال الملازمات

إنّ باب الملازمات هو المجال الثاني لحكم العقل ، فإذا أدرك العقل الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين وورد أحد الوجوبين في الشرع دون الآخر ، يحكم العقل بالوجوب الثاني بناء على وجود الملازمة بين الحكمين ، فاستكشاف الحكم الشرعي رهن ثبوت الملازمة بين الحكمين ، وإليك نماذج من هذا :

١. الملازمة بين الوجوبين ، كوجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

٢. الملازمة بين الحرمتين ، كحرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

٣. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، كوجوب المضيق وحرمة الموسّع عند التزاحم.

٤. الملازمة بين النهي عن العبادة وفسادها.

٥. الملازمة بين النهي عن المعاملة وفسادها.

٦. الملازمة بين وجود الحكم لدى وجود الشرط والوصف و... والانتفاء لدى الانتفاء.

إلى غير ذلك ممّا يدخل في أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير

٢٧

المستقلة ، فانّ الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة ، حكم شرعي نظير :

١. وجوب مقدّمة الواجب.

٢. حرمة مقدّمة الحرام.

٣. حرمة الضدّ الموسّع المزاحم للمضيق كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد ، أو أداء الدين الحال.

٤. فساد العبادة المنهي عنها ، كالصوم في السفر.

٥. فساد المعاملات المنهي عنها كبيع الخمر.

إلى غير ذلك من الموارد الّتي توصف بباب الملازمات غير المستقلة ، وفي الفقه الشيعي والأُصول دور كبير لباب الملازمات ، فمن مثبت وناف ومفصِّل.

قال المحقّق السيد علي القزويني معلّقاً على قول المحقّق القمي : «ومنها ما يحكم به العقل بواسطة خطاب الشرع كالمفاهيم والاستلزامات» : أي بملاحظته كحكمه بوجوب المقدّمة بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة ، وبحرمة الضد ، بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيق ، وبالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلّق على شرط أو وصف أو غيرهما ، لئلا يلغو التعليق وذكر القيد ويسمّى بالاستلزامات العقلية كحكم العقل باستلزام إيجاب الشيء وجوب مقدّماته واستلزام الأمر بالشيء حرمة ضدّه ، واستلزام الوجود عند الوجود ، والانتفاء عند الانتفاء ، فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات. (١)

إلى هنا تبيّن حجّية حكم العقل في المجالين :

١. مجال التحسين والتقبيح ويسمّى بالملازمات المستقلة.

__________________

(١). تعليقة السيد علي القزويني المطبوعة على هامش القوانين. لاحظ القوانين : ٢ / ١ ، قسم الحواشي.

٢٨

٢. مجال الملازمات غير المستقلة.

ووجه تسمية الأوّل بالمستقلات والثاني بغيرها ، هو : انّ إدراك الموضوع والحكم في الأوّل ، راجع إلى العقل ولا يستعين في حكمه بالشرع ، بل يدرك الموضوع ويصدر الحكم ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح ، بخلاف القسم الثاني ، فإنّه في حكمه يستعين بالشرع ، فإنّ الشارع هو المعيّن للموضوع ، مثلاً يقول : إنّ الوضوء مقدمة للواجب ، والعقل يُصدر الحكم ويقول : مقدمة الواجب واجبة ، ومثله سائر الموارد.

٢٩

٣

في مجال تنقيح المناط

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويعدّها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع ، فأُجيب بأنّه يبني على كذا ، فإنّ السائل وإن سأل عن الرجل الّذي شكّ في المسجد ، لكنّ العرف يعدّ تلك القيود مثالاً ، لا قيداً للحكم ، فيعمّم الحكم على الرجل والأُنثى ومن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط الّذي يساعد عليه الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ؛ إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم في نظر المخاطب يعمّ الرجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، مرة واحدة.

ومن هذا القبيل قصة الأعرابي الّذي قال : هلكتُ يا رسول الله ، فقال له : ما صنعت؟ قال : وقعت على أهلي في نهار رمضان ، قال : اعتق. (١)

والعرف ربما يساعد على إلغاء القيدين التاليين وعدم مدخليتهما في الحكم :

__________________

(١). صحيح مسلم : ٣ / ١٣٨ ـ ١٤٠ ، كتاب الصيام ، الحديث ١٨٧ ، وقد روي بطرق مختلفة مع اختلاف يسير في المتن.

٣٠

١. كونه أعرابياً.

٢. الوقوع على الأهل.

فيعمّ البدوي والقروي ، والوقوع على الأهل وغيره ، فيكون الموضوع من واقع نهار شهر رمضان وهو صائم.

إنّ تنقيح المناط من المزالق للفقيه ، إذ ربما يُلغي بعض القيود باستحسان أو غيره ، مع عدم مساعدة العرف عليه ، فعليه الاحتياط التام في تنقيح موضوع الحكم والاقتصار على ما يساعد عليه فهم العرف من إلغاء القيد ، وإن شكّ في مساعدة العرف على الإلغاء وعدمها ، فليس له تعميم الحكم.

وعلى كلّ حال ، فهذه التعميمات ، لا صلة لها بالقياس ، وإنّما هي استظهار من مفاد الدليل واستنطاقه حسب الفهم العرفي.

وهذا ما يعبر عنه في الفقه الإمامي ، بإلغاء الخصوصية ، أو مناسبة الحكم والموضوع ، مضافاً إلى التعبير عنه ب ـ «تنقيح المناط». (١)

__________________

(١). الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف : ٢ / ٤٤١ ـ ٤٤٢.

٣١

٤

في مجال تخريج المناط

إذا قضى الشارع بحكم في محل من دون أن ينصّ على مناطه ، فهل للعقل أن يستحصل مناط الحكم غير المذكور في النص حتّى يُعمِّم الحكم في ضوء المناط؟

وهذا هو الأمر الرائج في فقه السنّة ، الممنوع في فقه الشيعة ، وقد ذكروا لاستخراج المناط طرقاً سبعة ، والمهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر والتقسيم.

والسبر في اللغة هو الامتحان ، وتقريره : أن تُحصر الأوصاف الّتي توجد في واقعة الحكم وتصلح لأن تكون العلّة واحدة منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً في ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلّة ، وأنواع الاعتبار الّذي تعتبر به ، وبواسطة هذا الاختبار تستبعد الأوصاف الّتي لا يصحّ أن تكون علّة وتُستبقى الّتي يصحّ أن تكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصّل إلى أنّ هذا الوصف هو العلّة.

أقول : إنّ السبر والتقسيم إنّما يوجب القطع بالمناط في موردين :

١. إذا كان المورد في وضوح المناط من مقولة تحريم الخمر ، فلو افترضنا أنّه

٣٢

لم يرد فيه نصّ على علّة الحكم ، فأخذ المجتهد يردّد العلّة بين كونها من العنب ، أو كونها سائلاً ، أو كونها ذا لون خاص ، أو كونها مسكراً ، وعندئذ يستبعد كلّ واحدة من العلل إلّا الأخيرة ، فيحكم بأنّها العلّة ، ثمّ يقيس كلّ مسكر عليها ، وهذا النوع من المناط خاص بالخمر وما هو نظيرها في الموضوع ، لكن أكثر موارد القياس يفقد هذا النوع من الاطمئنان ، وأكثر من يحتج على صحّة تخريج المناط يُمثل بالخمر الّذي لا يشكّ الإنسان بعد التأمّل في أنّ مناط تحريمها هو الإسكار ، فأين هو من سائر الموارد المبهمة؟!

٢. التقسيم إذا كان دائراً بين النفي والإثبات يفيد اليقين ، كقولك : العدد إمّا زوج أو فرد ، والحيوان إمّا ناطق أو غير ناطق ، وأمّا إذا كان بشكل التقسيم والسبر ، أي ملاحظة كلّ وصف خاص وصلاحيته للحكم ، فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم ، وما استبعده يطرحه ، فمثل هذا لا يكون مناطاً قطعياً بل ظنياً ، وهذا شيء أطبق عليه مثبتو القياس.

وفي ضوء ما ذكرنا فتنقيح المناط في الموردين المذكورين من الأدلّة العقلية القطعية ، وأمّا في غيرهما فهو من الأدلّة العقلية الظنيّة ، ويشبه أن يكون نفس القياس مستنبط العلّة الّذي يبحث عنه في باب القياس ، وهو من الأدلّة الظنية ، ولكنّا بصدد بيان الأدلّة القطعية.

ولأجل أن يقف القارئ على أنّ تخريج المناط دليل ظني لا قطعي نأتي بمثال :

قد ورد في الحديث : «لا يُزوّج البكرَ الصغير إلّا وليُّها» ، فقد ألحق بها بعض فقهاء السنّة الثيِّب الصغيرة ، بل المجنونة والمعتوهة.

وذلك بتخريج المناط ، وانّه عبارة عن كون المزوّجة صغيرة ناقصة العقل ،

٣٣

فيعمّ الحكم الثيِّب الصغيرة والمجنونة أو المعتوهة لاتّحاد المناط.

وأمّا استخراج المناط فهو بالبيان التالي :

إنّ الحديث اشتمل على وصفين كلّ منهما صالح للتعليل ، وهما الصغر والبكارة ، وبما أنّ الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية في المال كما قال : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)(١) هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، الولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد وهو الولاية ، فتكون النتيجة أنّ الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، فيقاس على البكر الصغيرة ، من في حكمها من جهة نقص العقل ، وهي المجنونة أو المعتوهة ، كما تقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة ، وبذلك أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث على المدخلية في الحكم.

ويلاحظ عليه : أنّه من أين علم أنّ الصغر تمام الموضوع للحكم مع إمكان أن يكون جزءاً منه كما هو مقتضى اجتماعه مع البكارة؟

إنّ قياس باب النكاح بباب التصرّف في الأموال ، قياس مع الفارق ، فإنّ العناية بصيانة مال الصغير تستدعي أن يكون الموضوع هو الصغير ذكراً كان أو أُنثى ، بكراً كان أو ثيّباً ، إذ لا دخالة لهذه القيود في أمر الصيانة ، ولهذا يعمّ الحكم جميعَ أفراد الصغيرة ، وهذا بخلاف باب النكاح فيحتمل فيها الفرق بين الصغيرة البكر والثيب ، نظير الفرق بين الكبيرة البكر والثيب ، حيث ذهب جماعة إلى أنّ الأُولى أيضاً لا تزوّج إلّا بإذن الوليّ. (٢)

__________________

(١). النساء : ٦.

(٢). نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغراء ، للمؤلف : ١ / ١٧٢ ـ ١٧٦.

٣٤

ولأجل إيضاح المقام نأتي بأمثلة أُخرى أفتى فقهاء السنّة فيها بناءً على تخريج المناط :

١. قياس الولاية في النكاح بالميراث

يقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في الميراث. المقيس عليه

فيقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في ولاية النكاح. المقيس

امتزاج الإخوة. المناط

٢. قياس الجهل في المهر بالبيع

إنّ الجهل بالعوض يفسد البيع بالاتفاق. المقيس عليه

فالجهل بالمهر يفسد النكاح. المقيس

وجود المعاوضة والجهل فيها. المناط

٣. قياس ضمان السارق بالغاصب

إنّ الغاصب يضمن إذا تلف المال تحت يده. المقيس عليه

فالسارق أيضاً يضمن وإن قطعت يده. المقيس

تلف المال تحت اليد العادية. المناط

فانّ تخريجات المناط في هذه الموارد وعشرات أمثالها تخريجات ظنية ، وهي بحاجة إلى قيام الدليل ، وإلّا فيمكن أن يكون للميراث خصوصية غير موجودة في النكاح ، أو يكون الجهل بالعوض مفسداً في البيع دون النكاح ، لأنّ البيع مبادلة بين مالين ، بخلاف النكاح فإنّه علاقة تجمع بين شخصين ، فالعلّة هو الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر ، والمهر ليس عوضاً ، وإن أطلق عليه العوض فإنّما هو

٣٥

بضرب من المجاز والاستعارة.

التماس العلل وعرض النصوص عليها

إنّ التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وعرض النصوص على العلل المزعومة وجعلها مقياساً لصحّة النصوص الشرعية وبطلانها ، كان أمراً رائجاً بين فقهاء السنّة في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام ، وعلى هذا النوع من الاصطلاح تنزّل التعبيرات الشائعة : «إنّ هذا الحكم موافق للقياس وذلك الحكم مخالف له» ، وليس المراد من القياس فيها ، القياس المعروف المؤلف من الأصل والفرع والجامع بينهما ، بل المراد : تصحيح الأحكام حسب العلل الّتي استحسنها الفقيه حسب عقله وذوقه ، فيوصف الحكم الموافق بالصحّة والمخالف بالبطلان.

وقد كان القياس بهذا المعنى مثارَ معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق عليه‌السلام وبعض فقهاء عصره ، وعلى هذا الاصطلاح دارت المناظرة التالية بين الإمام وأبي حنيفة : روى أبو نعيم بسنده عن عمرو بن عبيد : دخلت على جعفر بن محمد أنا وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا معك؟ قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين ، قال : «لعلّه يقيس أمر الدين برأيه» إلى أن قال : «يا نعمان ، حدثني أبي عن جدّي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم ، فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس ، لأنّه اتّبعه بالقياس». (١)

__________________

(١). حلية الأولياء : ٣ / ١٩٧.

٣٦

فالقياس في هذه الرواية منصرف إلى هذا المصطلح ؛ لأنّ إبليس تمرّد على الأمر بالسجود ، لأنّه على خلاف قياسه ، لتخيّله أنّ الأمر بالسجود يقتضي أن يبتني على أساس التفاضل العنصري ، ولأجل هذا خطّأ الحكم الشرعي ؛ لاعتقاده بأنّه أفضل في عنصره من آدم ؛ لكونه مخلوقاً من نار وهو مخلوق من طين.

وعلى هذا الاصطلاح يبتني ما رواه أبان بقوله :

قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع امرأة ، كم فيها؟ قال : «عشرة من الإبل» ، قلت : قطع اثنين؟ قال : «عشرون» ، قلت : قطع ثلاثاً؟ قال : «ثلاثون» ، قلت : قطع أربعاً؟ قال : عشرون».

قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الّذي جاء به الشيطان ، فقال عليه‌السلام : «مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين». (١)

إنّما صار أبان إلى تخطئة الخبر الّذي وصل إليه حتّى نسبه إلى الشيطان ، لأجل أنّه وجده خلاف ما حصّله وأصّله ، وهو انّه كلّما ازدادت الأصابع المقطوعة تزداد الدية ، فلمّا سمع قوله «قطع أربعاً ، قال : عشرون» قامت سورته ، إذ وجده مخالفاً للأصل الأصيل عنده ، فردعه الإمام بأنّ هذا هو حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانّ استنكارك قائم على الأخذ بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ، وتصحيح الأحكام وتخطئتها حسب الموازين المتخيّلة سبب لمحق الدين ، وأنّى للعقول أن تصل إليها؟

__________________

(١). الوسائل : ١٨ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث ١.

٣٧

هذا أحد المصطلحين في القياس ، وقد صار هذا الاصطلاح مهجوراً في العصور المتأخرة ، والرائج هو الاصطلاح التالي :

استنباط حكم واقعة ـ لم يرد فيها نصّ ـ من حكم واقعة ورد فيها نصّ ؛ لتساويهما في علّة الحكم ومناطه وملاكه ، وهو دليل ظنّي خارج عن نطاق البحث ، فافهم واغتنم.

التنصيص بالعلّة ليس من تنقيح المناط ولا تخريجه

قد علمت أنّ تنقيح المناط غير تخريجه وأنّ الأوّل من المداليل العرفية دون الثاني ، ومع ذلك هنا قسم آخر خارج عن كلا القسمين ، وإليك البيان :

إذا كان مناط الحكم وملاكه مذكوراً في نفس الدليل على نحو يعلم منه أنّه تمام علّة الحكم لا حكمته.

فاستكشاف أحكام سائر الموارد عن طريق هذه العلّة من المداليل اللفظية ، مثلاً إذا قال : الخمر حرام لأنّه مسكر ، فإلحاق غير الخمر من سائر المسكرات ، به ليس عملاً بالقياس المصطلح ، بل عمل بالسنّة الشريفة والضابطة الّتي أدلى بها الشارع.

وفي الحقيقة إذا كان استخراج الحكم غير متوقّف إلّا على فهم النص بلا حاجة إلى اجتهاد ، فهو عمل بالظاهر ، بخلاف ما إذا كان متوقّفاً وراء فهم النص على بذل جهد ، والوقوف على المناط ، ثمّ التسوية ، ثمّ الحكم ، قال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(١) ، فلا نحتاج في حكم الخير الكثير إلّا إلى فهم مدلول الآية.

__________________

(١). الزلزلة : ٧.

٣٨

ولنذكر مثالاً من طريقنا :

روى محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، أنّه قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فيُنزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأنّ له مادة». (١)

فإنّ قوله : «لأنّ له مادة» بما أنّه تعليل لقوله : «لا يفسده شيء» يكون حجّة في غير ماء البئر أيضاً ، فيشمل التعليل بعمومه ، ماءَ البئر ، وماء الحمام والعيون وصنبور الخزّان وغيرها ، فلا ينجس الماء إذا كان له مادة ، فالعمل عندئذ بظاهر السنّة ولا صلة له بتنقيح المناط وتخريجه ، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلّة والفروع بأجمعها داخلة تحته.

وفي ضوء ما ذكرنا ، يكون العمل بالملاك المنصوص ، عملاً بظاهر السنّة لا بالقياس ، وأمّا المجتهد فعمله تطبيق الضابطة ـ الّتي أعطاها الشارع ـ على جميع الموارد دفعة واحدة ، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلّة والفروع بأجمعها داخلة تحته ، كما أنّه ليس من مقولة تنقيح المناط وتخريجه.

أولوية الحكم في الفرع

إذا كان ثبوت الحكم في الفرع أولى من ثبوته في الأصل ؛ لقوة العلّة المفهومة فيه بطريق النص ، فهو حجّة على الإطلاق ، وهو أيضاً عمل بالنص لا بالقياس ، كما أنّه ليس من مقولة تنقيح المناط وتخريجه ، وعلى فرض كونه

__________________

(١). وسائل الشيعة : ١ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

٣٩

قياساً فهو حجّة عند الجميع ، نظير الاحتجاج بقوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) على تحريم الضرب ، ولا شكّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم ، لأنّه مدلول عرفي يقف عليه كل من تدبّر الآية.

__________________

(١). الإسراء : ٢٣.

٤٠