رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

١

القياس

ولنقدم أُموراً :

الأمر الأوّل : حقيقة القياس

القياس في اللّغة : هو التسوية ، يقال قاس هذا بهذا أي سوّى بينهما ، قال علي عليه‌السلام : «لا يقاس بآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأُمّة أحد» (١) أي لا يُسوّى بهم أحد.

وفي الاصطلاح : استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نصٌّ ، عن حكم واقعة ورد فيها نصٌّ ، لتساويهما في علّة الحكم ، ومناطه وملاكه.

ثمّ إنّ أركان القياس أربعة :

الأصل : وهو المقيس عليه.

الفرع : وهو المقيس.

الحكم : وهو ما يحكم به على الثاني بعد الحكم به على الأوّل.

العلّة : وهو الوصف الجامع ، الذي يجمع بين المقيس والمقيس عليه ، ويكون هو السبب للقياس.

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة الثانية.

٢٤١

مثلاً إذا قال الشارع : «الخمر حرام لكونه مسكراً» ، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ والفقاع يحكم عليهما بالحرمة ، لاشتراكهما مع الخمر في الجهة الجامعة.

الأمر الثاني : أقسام القياس

إنّ القياس ينقسم إلى منصوص العلّة ، ومستنبطها.

فالأوّل فيما إذا نصَّ الشارع على علّة الحكم وملاكه على وجه علم أنّها علّة الحكم الّتي يدور الحكم مدارها لا حكمته التي ربّما يتخلّف الحكم عنها.

والثاني ، فيما إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها ، وإنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره وجهده ، فيطلق على هذا النوع من القياس ، مستنبط العلّة.

وينقسم مستنبط العلّة إلى قسمين :

تارة يصل الفقيه إلى حدّ القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم ومناطه.

وأُخرى لا يصل إلّا إلى حدّ الظن بكونه كذلك. وسيوافيك حكم القسمين تحت عنوان «تنقيح المناط».

وقلّما يتّفق لإنسان عادي أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع ومناطه واقعاً ، وأنّه ليس هناك ضمائم أُخرى وراء ما أدرك.

الأمر الثالث : الفرق بين علّة الحكم وحكمته

الفرق بين علّة الحكم وحكمته ، هو أنّ الحكم لو كان دائراً مدار الشيء وجوداً وعدماً ، فهو علّة الحكمِ ومناطه ، كالإسكار بالنسبة إلى الخمر ، وامّا إذا كان

٢٤٢

الحكم أوسع ممّا ذُكر في النصّ ، أو اسْتُنْبِطَ ، فهو من حِكَم الأحكام ومصالحه ، لا من مناطاته وملاكاته ، فمثلاً :

الإنجاب وتكوين الأُسرة من فوائد النكاح ومصالحه ، وليس من مناطاته وملاكاته ، بشهادة أنّه يجوز تزويج المرأة العقيمة واليائسة ومن لا تطلب ولداً بالعزل ، وغير ذلك من أقسام النكاح.

الأمر الرابع : القياس في منصوص العلّة

العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلى العمل بالسنّة ، لا بالقياس ، لأنّ الشارع شرّع ضابطة كلّية عند التعليل ، فنسير على ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلّة ، كما في قول الإمام الرضا عليه‌السلام في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ، ويطيب طعمه ، لأنّ له مادة. (١)

فإنّ قوله : «لأنّ له مادة» تعليل لقوله : «لا يفسده شيء» فيكون حجّة في غير ماء البئر ، لانّه يشمل بعمومه ماء البئر ، وماء الحمام ، والعيون وحنفية الخزّان وغيرها ، فلا ينجس الماء إذا كانت له مادّة ، وعندئذ يكون العمل بظاهر السنّة لا بالقياس ، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلّة ، والفروع بأجمعها داخلة تحتها.

الأمر الخامس : قياس الأولوية

القياس الأولوي : هو عبارة عن كونِ الفرع (ضرب الوالدين) أولى بالحكم

__________________

(١). وسائل الشيعة : ١ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

٢٤٣

من الأصل (التأفيف) عند العرف ، مثل دلالة قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) على تحريم الضرب ، ولا شكَّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم ، لأنّه مدلول عرفيّ ، يقف عليه كل من سمع الآية.

الأمر السادس : تنقيح المناط

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات ، لا يراها العرفُ المخاطبُ دخيلة في الموضوع ، ويتلقّاها من قبيل التمثيل على وجه القطع واليقين ، فهذا ما يسمّى ب ـ «تنقيح المناط» أو «إلغاء الخصوصية» ، كما في قصة الأعرابي حيث قال : هلكتُ يا رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال له : ما صنعتَ؟ قال : وقعتُ على أهلي في نهار رمضان ، قال : أعتق. (٢)

والعرف يساعد على إلغاء القيدين التاليين وعدم مدخليتهما في الحكم.

١. كونه أعرابياً.

٢. الوقوع على الأهل.

فيعمّ حكم العتق البدويَّ والقرويَّ ، والوقوع على الأهل وغيره ، فيكون الموضوع : «من أفطر بالوقاع صيام شهر رمضان».

وهذا ممّا لا غبار عليه في عامّة الموارد ، وليس هذا من موارد القياس المبحوث عنه ، بل تُعدّ التسرية من المداليل العرفيّة.

الأمر السابع : تخريج المناط

إذا حكم الشارع بحكم على موضوع من دون أن ينصّ لمناطه ولكن اجتهد

__________________

(١). الإسراء : ٢٣.

(٢). صحيح مسلم ، كتاب الصيام ، الحديث ١٨٧.

٢٤٤

المجتهد لتخريج مناطه وبالتالي تسرية الحكم إلى كلّ موضوع يوجد فيه المناط.

مثلاً قد ورد في الحديث «لا يزوِّجُ البكرَ الصغيرةَ إلّا وليُّها» ، فقد ألحق بها أصحاب القياس الثيّبَ الصغيرة ، بل المجنونةَ والمعتوهةَ ، وذلك بتخريج المناط ، وانّه عبارة عن كون المزوّجة صغيرة ناقصة العقل ، فيعمّ الحكمُ الثيّبَ الصغيرة والمجنونة أو المعتوهة لاتّحاد المناط.

وأمّا كيفية تخريج المناط فبأن يقال قد اعتبر الشارع الصغر علّة للولاية على المال ، والولاية على المال. والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد وهو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، ولهذا يقاس على البكر الصغيرة ، مَن في حكمها من جهة نقص العقل ، وهي الثيب الصغيرة والمجنونة والمعتوهة.

وبذلك أسقطوا دلالة لفظ «البكارة» من الحديث مع إمكان أن تكون جزءاً من التعليل كما هو مقتضى جمعها مع الصغر على فرض امكان استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير. (١)

وهذه النقطة هي النقطة الحسّاسة بين نفاة القياس ومثبتيه.

فإنّ العلم بمناطات الأحكام وملاكاتها أمر مشكل لا يصحّ لأحد ادّعاؤه ، فإنّ الإنسان لم يزل في عالم الحس خاطئاً فيما يُمارس من العلوم ، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة ، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة على العقل ، إلّا في موارد جزئية كالإسكار في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات ، خصوصاً في ما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك

__________________

(١). الأُصول العامة للفقه المقارن : ٢٩٨.

٢٤٥

مناطاتها الحقيقية وإن كان يظن شيئاً لكن الظن لا يغني من الحقّ شيئاً.

الأمر الثامن : التماس العلل وتصحيح النصوص

ربّما يطلق القياس ويراد به التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية وجعلها مقياساً لصحّة النصوص الشرعية ، فما وافقها يؤخذ ويحكم عليه أنّه حكم الله ، وما خالفها يرفض ويحكم عليه بأنّه ليس حكمه سبحانه.

والقياس بهذا المعنى كان رائجاً في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام. وقد استعمل هذا المصطلح في رواية أبان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع امرأة كم فيها؟ قال : «عشرة من الإبل» ، قلت : قطع اثنين؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثاً؟ قال : «ثلاثون». قلت : قطع أربعاً؟ قال : «عشرون». قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! انّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : إنّ الّذي جاء به شيطان.

قال عليه‌السلام : «مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين». (١)

والقياس في هذا الحديث هو بهذا المعنى ، أي التماس العلل ، ثمّ عرض النصوص على العلل المستنبطة والقضاء فيها بالقبول إن وافق ، والرد إن خالف. والقياس بهذا المعنى صار مهجوراً ، لا يستعمل إلّا في أحاديث أئمّة أهل البيت ، والقياس بالمعنى الرائج عند الفقهاء غير هذا تماماً كما مرّ.

__________________

(١). الوسائل : ٢٩ / ٣٥٢ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث ١.

٢٤٦

الأمر التاسع : السبب من وراء العمل بالقياس

ظهر القول بالقياس بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمواجهة الأحداث الجديدة ، وكان هناك اختلاف حادّ بين الصحابة في الأخذ به ، ولو توفّرت بأيديهم نصوص فيها لما حاموا حول القياس ، ولكن إعواز النصوص جرّهم إلى العمل بالقياس ، لأجل معالجة المشاكل العالقة والمسائل المستحدثة ، وقد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة أنّه قال لم يصحّ عندي من أحاديث الرسول إلّا سبعة عشر حديثاً. (١) فإذا كان الصحيح عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب والسنّة؟! فلم يكن له محيص إلّا اللجوء إلى القياس ونظائره.

قال عبد الوهاب خلاف : إنّ نصوص القرآن والسنّة متناهية ، والوقائع غير محدودة ، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية مصادر تشريعية لما لا يتناهى ، والقياس هو المصدر التشريعي الّذي يساير الوقائع المتجدّدة ، ويكشف عن حكم الشريعة فيما يقع في الحوادث ويوفق بين التشريع والمصالح. (٢)

هذا النص يدلّ على أنّ اللجوء إلى القياس وأشباهه ، كان لأجل انسداد العلم ، وعدم التمكّن من استنباط الحكم الشرعي عن طريق الكتاب والسنّة ، فلم يروا بدّاً من العمل بالظن القياسي بحجّة أنّه أقرب الطرق إلى كشف الحكم الشرعي في الموارد.

يلاحظ عليه : أنّ عدم إيفاء النصوص بالإجابة عن جميع الأسئلة المتوفرة ،

__________________

(١). مقدمة ابن خلدون : ٤٤٤ ، الفصل السادس في علوم الحديث. لكنّ الحنفية ينكرون صحّة هذه النسبة إلى إمامهم.

(٢). مصادر التشريع الإسلامي : ٣٥ ، انظر المنخول من تعليقات الأُصول : ٣٢٧ و ٣٥٩.

٢٤٧

لا يكون دليلاً على أنّ الشارع جعل القياس حجّة فيما لا نصّ فيه ، إذ من المحتمل أنّ الشارع قد حلّ العقدة من طريق آخر : نظير :

١. الرجوع إلى الأُصول العملية الأربعة ، أعني : البراءة والتخيير والاحتياط والاستصحاب ، التي لها دلائل صالحة في الكتاب والسنّة والعقل ، ولكلّ مورد خاص ؛ ففي الشكّ في أصل التكليف ، المرجع هو البراءة ، وفي ما لو علم التكليف ولم يتمكّن من الاحتياط يعمل بالتخيير ، وفي ما يتمكّن منه فالمرجع هو الاحتياط ، كلّ ذلك فيما إذا لم يكن للشيء المشكوك حالة سابقة ، وإلّا يعمل على وفق الحالة السابقة.

٢. أو الرجوع إلى أحاديث أئمّة أهل البيت الذين هم قرناء الكتاب في الحجّية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي». (١) ولا عذر لفقهاء السنّة في ترك العمل بأحاديثهم ، بعد قبول حديث الثقلين.

٣. الرجوع إلى القوانين الوضعية لمجالس التقنين الحرّ في العالم.

فعدم إيفاء النصوص بالإجابة لا يكون دليلاً لخصوص حجّية القياس مع أنّ أمام المجتهد هذه الطرق الثلاثة ، وبالأخصّ الطريق الثاني الّذي أكّد عليه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير موضع من المواضع.

الأمر العاشر : الاختلاف في حجّية القياس

إنّ العمل بالقياس قد وقع موقع نقاش بين الصحابة وبعدهم ، فأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وفي مقدّمتهم الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنكروا العمل به ، ووافقهم من الفقهاء : داود بن خلف إمام أهل الظاهر ، وتبعه ابن حزم الأندلسي ، فلم

__________________

(١). حديث متواتر أو متضافر.

٢٤٨

يقيموا له وزناً ، وقد عقد شيخنا الحرّ العاملي في «وسائل الشيعة» باباً خاصّاً أسماه باب عدم جواز القضاء والحكم بالمقاييس ، ونقل فيه ما يربو على ٢٠ حديثاً في النهي عن القياس ، وقد روى عن ابن سيرين أنّه قال : أوّل من قاس إبليس ، وما عُبِدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس.

روى عن الحسن البصري : أنّه تلا هذه الآية : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١) ، قال : قاس إبليس ، وهو أوّل من قاس.

وروى مسروق أنّه قال : إنّي أخاف وأخشى أن أقيس فتزلّ قدمي.

وروى عن الشعبي قال : والله لئن أخذتم بالمقاييس لتحرّمن الحلال ولتحلّنّ الحرام ، إلى غير ذلك. (٢)

إنّ أعلام نفاة القياس أكثر ممّن ذكرنا ، فمن حاول أن يقف على أسمائهم ، فعليه الرجوع إلى : «الذريعة» للسيد المرتضى. (٣) و «العدّة» للشيخ الطوسي. (٤)

أدلّة القائلين بحجّية القياس

استدلّوا على حجّية القياس بالدليل النقلي تارة والعقلي أُخرى ، وإليك بيانهما :

أ. الدليل النقلي

واعلم أنّ الأصل الأوّلي في الظنون التي لم يقم دليل على حجّيتها ، هو عدم

__________________

(١). الأعراف : ١٢.

(٢). الدارمي ، السنن ١ ، باب تفسير الزمان : ٦٥.

(٣). الذريعة : ٢ / ٦٧٧ ـ ٦٩٧.

(٤). العدّة : ٢ / ٦٨٨ ـ ٦٩٠.

٢٤٩

الحجّية ـ وقد ثبت في محلّه أنّ الشكّ في حجّية كلّ ظن ـ لم يقم على حجّيته دليل ـ يلازم القطع بعدم الحجّية ما لم يدل دليل عليه ، فيكفي في نفي حجّيّة عدم الدليل عليها ، وقد استدلّ القائلون بحجّته بوجوه من النقل نشير إلى أهمّها :

١. حديث الجارية الخثعمية قالت : يا رسول الله إنّ أبي أدركته فريضة الحج شيخاً ، زمناً لا يستطيع أن يحج ، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟

فقال لها : «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، أكان ينفعه ذلك؟» قالت : نعم ، قال : «فدَيْن الله أحقّ بالقضاء».

٢. حديث ابن عباس : انّ امرأة جاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إنّ أُمي نذرت أن تحجّ فماتت قبل أن تحجّ ، أفأحج عنها؟ قال : «نعم حجّي عنها ، أرأيت لو كان على أُمّك دَيْن أكنت قاضيه؟».

قالت : نعم ، فقال : «اقضوا لله فإنّ الله أحقّ بالوفاء». (١)

وجه الاستدلال : انّ الرسول ألْحق دَيْن الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه ، وهو عين القياس بشهادة أنّه قال : «فدَيْن الله أحقّ بالقضاء والوفاء». (٢)

يلاحظ على الاستدلال بكلا الحديثين ـ مضافاً إلى أنّ الاستدلال على حجّية قياس غير المعصوم ، بقياس المعصوم نوع من القياس ، وهو أوّل الكلام ـ بوجهين :

الأوّل : أنّ القياس الوارد في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من باب القياس الأولوي ، وذلك لأنّه إذا وجب الوفاء بحقوق الناس حسب النص فحقوق الله أولى بالقضاء والوفاء ـ كما نصّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث ـ وأين هذا من مورد النزاع؟! وقد تقدّم أنّ القياس الأولويّ عمل بالنصّ ، لأنّه مدلول عرفي وليس عملاً بالقياس.

الثاني : أنّ القياس من أقسام الاستنباط وهو استخراج حكم الفرع من

__________________

(١). السرخسي ، أُصول الفقه : ٢ / ١٣٠.

(٢). السرخسي ، أُصول الفقه : ٢ / ١٣٠.

٢٥٠

الأصل بالدقّة وإعمال النظر وبعد التأنّي والتفكير. وذلك لأنّ الحكم يكون في الأصل واضحاً ، وفي الفرع خفيّاً ، فيُزال الخفاء عن وجه الفرع بفضل القياس.

ولكن المقام يفقد هذا الشرط ، فإنّ الأصل والفرع على صعيد واحد وهو وجوب قضاء الدين ، غير أنّ المخاطب كان يحضره حكم أحد الموردين دون الآخر ، فأرشده النبي إلى ما كان يحضره من قضاء دين الناس ، حتّى ينتقل إلى حكم ما لا يحضره ، لما أنّ الموردين من أقسام الضابطة الكلية ، أعني : وجوب أداء الحق ممّن عليه ، إلى من له من غير فرق بين كونه من مقولة حقوق الله أو حقوق الناس.

إنّ المقام أشبه بما يقال : إنّ من شرائط الاستدلال بالقياس أن لا يتناول دليل الأصل ، إثبات الحكم في الفرع ، وإلّا لغى التمسك بالعلّة المشتركة ، كما إذا قيل : النبيذ حرام بجامع الإسكار الموجود في الخمر ، مع دليل الأصل كاف في إثبات الحكم له من دون حاجة إلى التعليل ، وهو قوله : «كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام». (١)

وجه الشبه : انّ الكبرى الشرعية «يجب قضاء الدين» يتناول حكم الفرع كما يتناول حكم الأصل ، غير أنّ المخاطب كان غافلاً عن أحد الفردين ، نبّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه مثل حق الناس يجب قضاؤه.

٣. حديث عمر بن الخطاب ، قال : قلت : يا رسول الله ، أتيتُ أمراً عظيماً ، قبّلتُ وأنا صائم ، فقال رسول الله : «أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم» ، فقلتُ : لا بأس بذلك ، فقال رسول الله : «فصم».

وجه الاستدلال : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاس القُبْلة بالمضمضة ، فحكمَ بعدم بطلان

__________________

(١). صحيح مسلم بشرح النووي ، باب الأثر : ١٣ / ١٧٢ و ١٦٧.

٢٥١

الصوم.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الحديث دليل على بطلان القياس ، لأنّ عمر ظنَّ أنّ القُبلة تُبطل الصوم قياساً على الجماع ، فردَّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأنّ الأشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها.

وثانياً : أنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع من حكم الأصل ، بحيث يستمد الفرع حكمه من الأصل ، وليس المقام كذلك ، بل كلاهما في مستوى واحد كغصني شجرة ، أو كجدولي نهر.

وإن شئت قلت : إنّ المبطل هو الشرب لا مقدّمته (المضمضة) ، كما أنّ المبطل هو الجماع لا مقدّمته ، فبما أنّ المخاطب كان واقفاً على ذلك الحكم في الشرب ، دون الجماع ، أرشده النبي إلى تشبيه القُبلَة بالمضمضة إقناعاً للمخاطَب ، لا استنباطاً للحكم من الأصل.

وكم فرق بين كون المتكلّم في مقام استنباط حكم الفرع من الأصل ، وكونه في مقام إرشاد المخاطب إلى حكم الله وإقناعه بالمثال ، وهذا المورد وما تقدّم من الموردين من قبيل الثاني دون الأوّل.

ب : الدليل العقلي

ويقرّر بوجهين :

أ. انّه سبحانه ما شرّع حكماً إلّا لمصلحة ، وأنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام ، فإذا ساوت الواقعةُ المسكوت عنها ، الواقعةَ المنصوص عليها في علّة الحكم التي هي مظنّة المصلحة ، قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم ، تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع ، ولا يتفق وعدلَ الله وحكمتَه أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة على عقول عباده ،

٢٥٢

ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصيّة الخمر ، وهي الإسكار ، لأنّ مآل هذا ، المحافظةُ على العقول من مسكر ، وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الكبرى مسلّمة ، وهي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح والمفاسد ، إنّما الكلام في امكان وقوف الإنسان على مناطات الأحكام وعللها على وجه لا يخالف الواقع قيد شعرة ، وأمّا قياس النبيذ على الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام ، لأنّا نعلم علماً قطعيّاً بأنّ مناط حرمة الخمر هو الإسكار ، ولذلك روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّه سبحانه حرّم الخمر وحرّم النبيُّ كلَّ مسكر. (٢) ولو كانت جميع الموارد من هذا القبيل لما اختلف في حجية القياس اثنان.

ولأجل إيضاح الحال ، وأنّ المكلّف ربّما لا يصل إلى مناطات الأحكام ، نقول :

إذا نصّ الشارع على حكم ولم ينصّ على علّته ومناطه ، فهل للمجتهد التوصّل إلى معرفة ذلك الحكم عن طريق السبر والتقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم ، وتصلح لأن تكون العلّة ، واحدة منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً ، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة ، ويستبقي ما يصحّ أن يكون علة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة؟

ولكن في هذا النوع من تحليل المناط إشكالات واضحة مع غض النظر عن النهي الوارد في العمل بالقياس :

أوّلاً : نحتمل أن تكون العلّة عند الله غير ما ظنّه بالقياس ، فمن أين نعلم

__________________

(١). عبد الوهاب خلاف : مصادر التشريع الإسلامي : ٣٤ ـ ٣٥.

(٢). الشوكاني : نيل الأوطار : ٣ / ١٥٢.

٢٥٣

بأنّ العلّة عندنا وعنده واحدة؟

ثانياً : لو افترضنا أنّ المُقيس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين نعلم أنّها تمام العلّة ، لعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع ولم يصل المُقيس إليه؟

ثالثاً : نحتمل أن تكون خصوصية المورد دخيلة في ثبوت الحكم ، مثلاً لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في فساد البيع ، ولكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة ، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه ، إذا كان المهر فيه مجهولاً ، فالعلّة هي الجهل بالثمن ، لا مطلق الجهل بالعوض حتى يشمل المهر ، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع بالمناط.

وقد ورد على لسان أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام النهي عن الخوض في تنقيح المناط.

والذي يكشف عن هذا المطلب ، هو أن الجارية تحت العبد إذا أُعتقت فلها الخيار إن شاءت مكثت مع زوجها ، وإن شاءت فارقته ، أخذاً بالسنّة حيث إنّ بريدة كانت تحت عبد ، فلمّا أُعتقت ، قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد ، وإن شئت أن تفارقيه». (١)

ثمّ إنّ الحنفية قالت بأنّ الجارية تحت الحرّ إذا أُعتقت لها الخيار كالمعتقة تحت العبد ، لاشتراكهما في كونهما جاريتين اعتقتا ، ولكن من أين نعلم بأنّ الانعتاق تمام المناط للحكم؟ ولعلّ كونها تحت العبد وافتقاد المماثلة جزء العلّة؟ فما لم نقطع بالمناط لا يمكن إسراء الحكم ، وهذا هو الذي دعا الشيعة إلى منع العمل بالقياس وطرح تخريج المناط الظني الذي لا يغني من الحق شيئاً.

__________________

(١). الكافي : ١ / ٢٦٦ برقم ٤.

٢٥٤

٢

الاستحسان

الاستحسان لغة : عدّ الشيء حسناً ، كالاستقباح ، وهو عدّه قبيحاً.

وأمّا اصطلاحاً فقد اختلفوا في تعريفه ، ولنذكر تعريفين :

١. الاستحسان : ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس. وعلى هذا التعريف ، فالاستحسان استثناء من القياس ومخصِّص له ، وكأنّ المجتهد يترك القياس الجلي بقياس خفي.

مثلاً مقتضى القياس الجلي ، هو إلحاق سؤر الطيور المعلَّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة ـ على القول بنجاسة سؤره ـ لاشتراكهما في الافتراس ، ولكن مقتضى القياس الخفي إلحاقه بسؤر الإنسان في الطهارة.

وعلى هذا فالاستحسان من شعب القياس وليس دليلاً مستقلاً فيرد عليه ما أوردناه على مطلق القياس.

٢. الاستحسان : هو ترك الدليل في المسألة قياساً كان أو غيره ، لدليل يستحسنه المجتهد بعقله. ولعلّ التعريف الثاني أوفق كما يظهر من بعض الأمثلة.

٢٥٥

١. انّ مقتضى قوله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). (١)

هو قطع يد السارق من دون فرق بين عام الرخاء والمجاعة ، لكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

٢. يقول سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ). (٢)

وقد نقل عن مالك بن أنس إخراج الأُم ، الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن تُرضع ولدها.

يلاحظ عليه : بأنّ التفريق بين عام المجاعة وغيره ، أو بين الأُمّهات ، إن كان مستنداً إلى دليل شرعي ـ لا أقلّ من انصراف الدليل عن عام المجاعة ، أو الأُم الرفيعة المنزلة ـ فهو ، وإلّا فلا وجه لصرف الحكم عنهما ، لأنّ ذمّة المجتهد رهن إطلاق الدليل الأوّل ، فلا يجوز له العدول عن مقتضى دليله إلى حكم آخر بمجرّد الاستحسان وموافقته لطبعه ، بل لا بدّ من دليل شرعي يعتمد عليه في العدول ، وعلى ضوء ذلك فالعدول لو كان مستنداً إلى دليل شرعي فهو عدول من حجّة إلى حجّة أقوى ، سواء استحسنه الطبع أم لا ، وإن لم يكن كذلك فهو تشريع محرّم.

وبذلك يظهر أنّ الاستحسان بما هو استحسان ليس له قيمة في مجال الإفتاء ، بل الاعتبار بالدليل ، فلو كان هناك دليل للعدول فالمنكر والمثبت للاستحسان أمامه سواء ، وإن لم يكن فلا وجه للعدول.

٣. هو العدول عن حكم اقتضاه دليل شرعي في واقعة إلى حكم آخر فيها ، لدليل شرعي اقتضى هذا العدول ، وهذا الدليل الشرعي المقتضي للعدول هو سند

__________________

(١). المائدة : ٣٨.

(٢). البقرة : ٢٣٣.

٢٥٦

الاستحسان. (١)

أقول : إذا كان ثمة دليل معتبر على العدول فلا عبرة بالاستحسان حتى يكون الدليل سنداً وعماداً له. ويكون استخدام لفظ «الاستحسان» في المقام غير صحيح ، لأنّ الفقيه إمّا يعتمد على دليل شرعي ، فالحجّة هو الدليل سواء استحسنه المجتهد أم لا ، وإلّا فلا قيمة له بمجرد أنّ الفقيه يميل إليه بطبعه.

وقد كان مالك بن أنس أكثر الناس أخذاً به ، حيث قال : الاستحسان تسعة أعشار العلم ؛ وكان الشافعي رافضاً له ، حيث قال : من استحسن فقد شرّع ؛ إلى ثالث يفصِّل بين الاستحسان المبني على الهوى والرأي ، والاستحسان المبني على الدليل.

والقول الحاسم في الاستحسان هو أن يقال : إنّ المجتهد المستحسِن إذا استند إلى ما يستقل به العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، أو إلى دليل شرعي ، فلا إشكال في كونه حجّة ، لأنّه أفتى بالدليل ، لا بمجرّد الاستحسان ، وأمّا إذا استند لمجرد استحسان طبعه وفكره ، وأنّ الحكم الشرعي لو كان كذا لكان أحسن ، فهو تشريع باطل ، وإفتاء بما لم يقم عليه دليل شرعي.

__________________

(١). عبد الوهاب الخلاف : مصادر التشريع الإسلامي : ٧١.

٢٥٧

٣

الاستصلاح

أو

المصالح المرسلة(١)

المصالح المرسلة : عبارة عن تشريع الحكم في واقعة لا نصّ فيها ، ولا إجماع ، وفقَ مصلحة مرسلة لم يدلّ دليل على اعتبارها ولا على عدم اعتبارها ، وفي الوقت نفسه في اعتبارها جلب نفع أو دفع ضرر.

فقد ذهب مالك وآخرون تبعاً له إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، ولكنّ الشافعي ومن تبعه ذهبوا إلى أنّه لا استنباط ولا استصلاح ، ومن استصلح فقد شرّع.

وقد اشترط «مالك» فيها شروطاً ثلاثة :

١. أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع ولا دليلاً من أدلّته.

٢. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم ، أو دافعة ضرراً عنهم.

__________________

(١). المرسلة : غير المعتمدة على نصّ خاص لاحظ «المدخل للدواليبي : ٢٨٤. ويمكن أن يكون المراد ، المصالح العامة غير المختصة بفرد أو فئة.

٢٥٨

٣. أن لا تمسَّ العبادات ، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معنى على هذا التفسير. (١)

وقد استدلّ عليها بما يلي :

إنّ الوقائع تحدث والحوادث تتجدّد ، فلو لم ينفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح ، ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد ، وقصرت عن حاجاتهم ولم تصلح لمسايرة مختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال ، مع أنّها الشريعة العامة لكافّة الناس وخاتمة الشرائع كلّها. (٢)

وقد قرّره بعض المعاصرين بلفظ آخرُ قال :

إنّ الحياة في تطوّر مستمر ومصالح الناس تتجدّد وتتغيّر في كلّ زمن. فلو لمتشرّع الأحكام المناسبة لتلك المصالح لوقع الناس في حرج ، وتعطّلت مصالحهم في مختلف الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة الزمن ومراعاة المصالح والتطوّرات ، وهذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس وتحقيقها. (٣)

فلنذكر عدّة أمثلة :

١. ما روي أنّ عمر منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم ما كانوا يأخذونه في عهد الرسول بعد ما قوي الإسلام.

٢. تجديد عثمان أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون ، ولم يكف الأذان بين يدي الخطيب وإعلامهم.

__________________

(١). الدكتور أحمد شلبي : تاريخ التشريع الإسلامي : ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٢). مصادر التشريع الإسلامي : ٧٥.

(٣). الوجيز في أُصول الفقه : ٩٤ لوهبة الزحيلي.

٢٥٩

٣. اشتراط سن معيّنة للمباشرة عند الزواج.

٤. إنشاء الدواوين.

٥. وسَكِّ النقود.

والنظر الحاسم في المقام هو : إنّ استخدام المصالح المرسلة في مجال الإفتاء يتصوّر على وجوه :

الأوّل : الأخذ بالمصلحة وترك النصّ بالمصلحة المزعومة ، وهذا نظير إمضاء الطلاق ثلاثاً ، ثلاثاً.

روى مسلم عن ابن عباس أنّه قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناها عليهم ، فأمضاه عليهم. (١)

لا شكّ أنّ الخليفة صدر في حكمه هذا عن مصلحة تخيّلها ، ولكنّ هذا النوع من الاستصلاح رفض للنصّ في موردها ، وهو تشريع محرّم.

وعلى هذا نهى الخليفة عن متعة الحج ومتعة النساء ، والحيعلة في الأذان.

الثاني : إذا كان الحكم على وفق الاستصلاح مخالفاً لإطلاق الدليل كما هو الحال في منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم ، فإنّ مقتضى إطلاق الآية كونهم من مصارف الزكاة ، سواء أكان للإسلام قوّة أم لا ، فتخصيص الحكم بحالة ضعف الإسلام تقديم للرأي على إطلاق الكتاب ، وقد مرّ عن الإمام مالك أنّه قال : من شرائط العمل بالاستصلاح عدم مخالفته لإطلاق أُصول الشرع.

__________________

(١). صحيح مسلم : ٤ / ١٨٣ ، باب الطلاق الثلاث ، الحديث ١.

٢٦٠