رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

٧. الإطلاق فرع كون المتكلّم في مقام البيان

إذا وقع لفظ كلّي تحت دائرة الحكم ـ كما إذا قال : أعتق رقبة ـ يحكم الفقهاء بأنّ الموضوع مطلق ، فلا فرق في مقام الامتثال بين كونها مؤمنة أو كافرة. فجعلوا دلالة المطلق على الاجتزاء بكلّ فرد منه ، دلالة عقلية بمعنى أنّ الموضوع عند المشرّع هو ذات المطلق ، فلو كان الموضوع مركباً من شيئين : المطلق وقيده ، لزم أن يركّز عليه المشرّع ، فسكوته دليل على عدم مدخليته.

لكن الركن الركين في جواز التمسّك بالمطلق ـ عند الإمامية ـ كون المتكلّم في مقام بيان للموضوع من جزء أو شرط ولو لا إحرازه لم يتم التمسّك بالمطلق ، وعلى هذا فلو قال : الغنم حلال ، لا يصحّ التمسك بإطلاقه لإثبات حليّة مطلق الغنم (مملوكه ومغصوبه ، جلّاله وغيره ،) وبحجّة انّ المتكلّم اتّخذ الغنم موضوعاً لحكمه وهو صادق على القسمين ، ذلك لأنّ المتكلّم بصدد بيان حكم الغنم بما هو هو ، لا بما إذا اقترن مع العوارض.

نرى أنّ بعض الفقهاء أفتوا بجواز أكل ما أمسكته كلاب الصيد دون وجوب أن يغسل مواضع عضّها ، تمسّكاً بقوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ)(١) ولم يقل فكلوا بعد غسل مواضع العض.

ولكن التمسّك بإطلاق الآية غفلة عن الشرط اللازم للمطلق ، أعني : كون المتكلّم في مقام البيان فليست الآية إلّا بصدد بيان حلّية ما اصطادته الجوارح ، وأنّه ليس من مقولة الميتة ، وأمّا أنّه يؤكل بغير غسل ، أو معه فليست الآية في مقام بيانه حتّى يستدلّ بسكوته على عدم شرطيّته.

__________________

(١). المائدة : ٤.

٢٢١

وبالتدبّر في هذا الأصل يظهر بطلان كثير من التمسّكات بالإطلاق في كثير من أبواب الفقه وهو غير صالح للتمسّك.

٨. الملازمات العقلية

لقد طال البحث في دلالة الأمر على وجوب المقدّمة والنهي على حرمة مقدّمته وحاول كثير من الأُصوليين إثبات الدلالة اللفظية بنحو من الأنحاء الثلاثة ، ولكن الإمامية طرقوا باباً آخر في ذلك المجال وانتهوا إلى نفس النتيجة لكن من طريق أوضح ، وهو : وجود الملازمة العقلية بين إرادة الشيء وإرادة مقدّمته ، من غير فرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، فكما أنّ إرادة الصعود إلى السطح لا تفارق إرادة تهيئة السلّم واستخدامه ، فهكذا الإرادة التشريعية بمعنى تعلّق إرادته بصعود الغير إلى السطح.

وقد استفاد الأُصوليّون من هذه القاعدة ـ الملازمة العقلية ـ في غير واحد من أبواب أُصول الفقه ، كالملازمة بين الأمر بالشيء وإجزائه عن الإتيان به ثانياً ، والنهي عن العبادات وفسادها ، والنهي عن المعاملات وفسادها عند تعلّق النهي بما لا يجتمع مع صحتها ، كالنهي عن أكل ثمنها ، كما إذا قال : ثمن الميتة سحت ، أو ثمن المغنّية سحت ، فللملازمات دور كبير في استنباط الأحكام.

٩. التعارض والتزاحم والفرق بينهما

إنّ التنافي بين الدليلين إذا كان راجعاً إلى مقام الجعل والإنشاء بأن يستحيل من المقنّن الحكيم ، صدورُ حكمين حقيقيين لغاية الامتثال فهو المسمّى بالتعارض ، مثلاً يستحيل جعل حكمين باسم : «ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة» ، فلو كان تنافي الخبرين من تلك المقولة ، فهذا ما يبحث عنه في باب

٢٢٢

التعادل والترجيح ويرجّح أحد الخبرين على الآخر بمرجّحات منصوصة أو مستنبطة.

وأمّا إذا كان التنافي راجعاً إلى مقام الامتثال دون مقام الجعل والإنشاء ، وهذا كما إذا ابتلي الإنسان بغريقين ، فالتنافي في المقام يرجع إلى عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، لأنّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن صرفها في الآخر ، فهذا ما يعبّر عنه بالتزاحم. وإلّا فلا تنافي في مقام التشريع بأن يجب إنقاذ كلّ غريق فضلاً عن غريقين.

وبذلك ظهر الفرق بين التعارض والتزاحم بوجه آخر ، وهو أنّ ملاك التشريع والمصلحة موجود في أحد المتعارضين دون الآخر غالباً ، بخلاف المتزاحمين فالملاك موجود في كل من الطرفين كإنقاذ كلّ من الغريقين ولكن المانع هو عجز المكلّف ، وعند ذلك يجب رفع التزاحم بالتخيير إذا كانا متساويين ، أو بالترجيح كما إذا كان أحدهما أهمّ من الآخر.

وبذلك يستطيع الفقيه رفع التنافي بين كثير من الأدلّة التي يظهر فيها التنافي لعجز قدرة المكلّف مع كون الحكمين ذا ملاك. ورفع التنافي رهن إعمال مرجّحات خاصة بباب التزاحم ، وها نحن نذكر رءوسها دون تفصيل :

١. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

٢. تقديم المضيّق على الموسّع.

٣. تقديم الأهمّ بالذات على المهم.

٤. سبق أحد الحكمين زماناً.

٥. تقديم الواجب المطلق على المشروط.

والتفصيل موكول إلى محله.

٢٢٣

ولنمثل لإعمال مرجّحات باب التزاحم مثالاً يوضح المقصود :

قد أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقّف عليها نظام الطب الحديث ، فلا يتسنّى تعلم الطب إلّا بالتشريح والاطّلاع على خفايا أجهزة الجسم وأمراضها.

غير أنّ هذه المصلحة تصادمها ، مصلحة احترام المؤمن حيّهِ وميّتهِ ، إلى حدّ أوجب الشارع ، الإسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن ، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه ، بل هو من المحرّمات الكبيرة ، والذي لم يجوّزه الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور ، غير أنّ عناية الشارع بالصحّة العامّة وتقدّم العلوم جعلته يسوّغ ممارسة هذا العمل لتلك الغاية ، مقدّماً بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف منه ، وهكذا ....

١٠. تقسيم حالات المكلّف إلى أقسام ثلاثة

إنّ تقسيم حالات المكلّف إلى أقسام ثلاثة ـ أعني : كونه قاطعاً بالحكم ، أو ظانّاً ، أو شاكّاً فيه ـ تقسيم طبيعي في مورد الحكم الشرعي ، بل بالنسبة إلى كلّ شيء يفكر الإنسان فيه ويلتفت إليه فهو بين قاطع وظان وشاك.

لا شكّ أنّ القاطع يعمل بقطعه ولا يمكن نهيه عن العمل بالقطع ، لأنّه يرى نفسه مصيباً للواقع ، إنّما الكلام في الشقين الأخيرين ، فالإمامية لا يعتقدون بحجّية الظنون في مورد استنباط الأحكام إلّا ما قام الدليل القطعي على حجّيته ، ويستدلّون على ذلك بأنّ الشكّ في حجّية الظن يوجب القطع بعدم الحجّية ، ولعلّ بعض الناس يتلقاه لُغزاً ، إذ كيف يتولّد من الظن بالحجّية ، القطع بعدمها ، ولكنّه تظهر صحته بأدنى تأمّل ، وذلك لأنّ المراد من الظن هو الظن

٢٢٤

بالحكم الشرعي ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، العمل به مع التردد في الحجّية مصداق للبدعة والبدعة حرام قطعي لا مزية فيه.

وبعبارة أُخرى : إذا كانت البدعة عبارة عن إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين ، فإذا عمل المكلّف بالظن ، مع الشك في حجّيته وإذن الشارع بالعمل به فقد أدخل بعمله هذا ، ما لم يعلم كونه من الدين ، في الدين ، فإذا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غير عالم بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ، فقد نسب إليه حكماً ما لم يعلم كونه منه ، ولذلك أصبحت الضابطة الأُولى عند الإمامية حرمة العمل بالظن إلّا ما قام الدليل القطعي على حجّته ، كخبر الثقة الضابط ، والبيّنة ، وقول أهل الخبرة ، إلى غير ذلك من الظنون التي ثبتت حجّيتها من جانب الشرع.

وأمّا حكم الشاك فهذا هو بيت القصيد في المقام. أقول : الشكّ على أقسام أربعة :

ألف. الشكّ في شيء له حالة سابقة

إذا شككنا في بقاء حكم أو بقاء موضوع كنّا جازمين به سابقاً وإنّما نشك في بقائه ، فهنا يؤخذ بالحالة السابقة ويسمّى باصطلاح الأُصوليين بالاستصحاب عملاً بالسنّة : «لا تنقض اليقين بالشك».

ب. الشكّ في أصل تشريع الحكم

إذا شككنا في حرمة شيء أو وجوبه وليس له حالة سابقة ، كالشك في حرمة التدخين أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وأمثال ذلك ، فالمرجع هنا هو البراءة ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ويعضده ما ورد في الشرع من قوله

٢٢٥

سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) وبعث الرسول كناية عن بيان الوظائف في العقائد والأحكام وقول النبيّ الأكرم : «رفع عن أُمّتي تسع : ما لا يعلمون ...».

وهذا (الشكّ في أصل الحكم) يسمّى في مصطلح الأُصوليّين بالشبهة البدويّة.

ج. إذا كان عالماً بالحكم وجاهلاً بالمكلّف به

إذا كان المكلّف عالماً بالحكم الشرعي وجاهلاً بالمكلّف به ، كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر ولم يعرف القبلة ، فيحكم العقل بالاشتغال ولزوم تحصيل البراءة اليقينية وهو الصلاة إلى أربع جوانب ليعلم أنّه صلّى إلى القبلة.

من غير فرق بين كون الجهل متعلّقاً بالموضوعات الخارجية كالمثال المذكور أو بمتعلقات الأحكام كما إذا علم بأنّه فات منه صلاة واحدة مردّدة بين المغرب والعشاء ، فالعقل يحكم بوجوب الجمع بينهما ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، وعلى هذا الأصل فرّعوا فروعاً كثيرة.

د. تلك الصورة ولكن لم يكن الاحتياط ممكناً

كما إذا دار أمر الشيء بين كونه واجباً أو حراماً ، فالمرجع هاهنا هو التخيير.

وبذلك ظهر أنّ علاج الشكّ في الموضوع ، أو الحكم الشرعيين ، يتحقّق بإعمال القواعد الأربع حسب مظانها وهي :

أ. الاستصحاب ، عند ما كانت هناك حالة سابقة.

__________________

(١). الإسراء : ١٥.

٢٢٦

ب. البراءة ، إذا كان الشكّ في الحكم الشرعي ولم يكن هناك حالة سابقة بالنسبة إليه.

ج. قاعدة الاشتغال ، عند الشكّ في المكلّف به مع إمكان الاحتياط.

د. التخيير ، فيما إذا لم يمكن الاحتياط.

إنّ بعض هذه القواعد وإن كان يتواجد في أُصول الآخرين ولكن بيان أحكام القاطع والظان والشاك بهذا المنوال من خصائص أُصول الإمامية.

١١. تقسيم الأدلّة إلى اجتهادية وفقاهية

إنّ تقسيم ما يحتجّ به المستنبط إلى دليل اجتهادي ، وأصل عملي من خصائص أُصول الفقه عند الإمامية ، لأنّ ما يحتجّ به المجتهد ينقسم إلى قسمين :

أ. ما جُعِلَ حجّة لأجل كون الدليل بطبعه طريقاً ومرآة إلى الواقع ، وإن لم يكن طريقاً قطعياً بشكل كامل ، وهذا كالعمل بقول الثقة والبيّنة وأهل الخبرة وغير ذلك ، فإنّها حجج شرعية لأجل كونها مرايا للواقع وتسمّى بالأدلّة الاجتهادية.

وهذا بخلاف الأدلّة الفقاهية أعني الأُصول العملية كالاستصحاب ، والبراءة ، والتخيير ، والاشتغال ، فالمجتهد وإن كان يحتج بها ، ولكن لا بما أنّها طرق إلى الواقع ومرايا له ، وإنّما يحتجّ بها لأجل الضرورة ورفع الحيرة ، حيث انتهى المستنبط إلى طريق مسدود.

ويترتّب على ذلك تقدم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، فلا يحتج بأصل البراءة مع وجود الدليل كقول الثقة على وجوب الشيء أو حرمته ، ولا بالاستصحاب إذا كان هناك دليل اجتهادي كالبيّنة على ارتفاع المستصحب.

٢٢٧

وبذلك يظهر الخلط بين كلمات الفقهاء فلم يميّزوا بين الأدلّة الاجتهادية والأُصول العملية فربّما جعلوا الأصل معارضاً للدليل الاجتهادي.

١٢. تقديم أحد الدليلين على الآخر بملاكات

لا شكّ أنّ بعض الأدلّة يتقدّم على الآخر ولكن المذكور في كلمات الأُصوليين ملاك واحد ، وهو أنّ المخصص يتقدّم على العام ، والمقيّد على المطلق وربّما يضاف إليهما تقدّم الناسخ على المنسوخ ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، ولكن هناك موجبات أُخرى توجب تقدّم أحد الدليلين الاجتهاديين على الآخر ، وهي عبارة عن العنوانين التاليين :

أ. كون الدليل حاكماً على دليل آخر.

ب. كونه وارداً على الآخر.

أمّا الحاكم فهو عبارة عن : أن يكون لسان أحد الدليلين بالنسبة إلى الدليل الآخر لسان التفسير فيقدّم المفسِّر على المفسَّر ، مثلاً : قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) ، فالآية صريحة في الطهارة المائية وأنّ شرط صحة الصلاة هو تحصيل الطهارة المائية قبلها.

وإذا قيس قوله : «التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين» إلى الآية ، يأخذ لنفسه طابع التفسير ويوسّع الشرط اللازم تحصيله قبل الصلاة ، فتكون النتيجة شرطية مطلق الطهارة : المائية والترابية ، غاية الأمر أنّ الاجتزاء بالثانية رهن فقدان الأُولى.

ونظير ذلك قوله : «الطواف بالبيت صلاة» فيستدلّ به على وجوب تحصيل

__________________

(١). المائدة : ٦.

٢٢٨

الطهارة قبل الطواف ، وذلك لأنّ الدليل الثاني جعل الطواف من مصاديق الصلاة ادّعاءً وتشريعاً فيكون الطواف محكوماً بالصلاة من أحكام.

وأمّا الوارد فهو أن يكون أحد الدليلين مزيلاً ورافعاً لموضوع الدليل الآخر ، وهذا نظير قول الثقة بالنسبة إلى أصل البراءة العقلية ، فإنّ موضوع البراءة هو قبح العقاب بلا بيان ، أي بلا بيان من الشارع ، فإذا أخبر الشارع بحجّية قول الثقة فيكون قوله في مورد الشك بياناً من الشارع ، فيكون رافعاً له.

١٣. الأقل والأكثر والشكّ في المحصّل

إذا تعلّق الحكم الشرعي بمركب ذي أجزاء ، وشككنا في قلّة أجزائه وكثرته ، كما إذا شككنا في أنّ الجلسة بعد السجدتين واجبة أو مستحبة ، فالمرجع هو البراءة عن وجوبها ، لأنّ الأجزاء الباقية معلومة الوجوب وهذا الجزء مشكوك وجوبه ، فيرجع فيه إلى أصل البراءة ، أخذاً بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون» حيث إنّ وجوب هذا الجزء ممّا لا يُعلم.

وهذا ما يعبّر عنه في مصطلح الأُصوليّين من الإمامية «بالأقل والأكثر الارتباطيين».

ولكنّهم استثنوا صورة أُخرى ربّما تسمّى بالشكّ في المحصّل تارة ، والشكّ في السقوط ثانياً ، ومورده ما إذا كان المكلّف به أمراً بسيطاً لا كثرة فيه ، ولكن محقَّقه ومحصّله في الخارج كان كثيراً ذا أجزاء ، فشككنا في جزئية شيء لمحصِّله وعدمه ، مثلاً لو قلنا بأنّ الطهور في قوله : «لا صلاة إلّا بطهور» اسم للطهارة النفسانية الحاصلة للنفس الإنسانية لا للغسلات والمسحات ، ولكن نشكّ في جزئية شيء كالمضمضة والاستنشاق وعدمه للمحصِّل ، فيحكم هنا بالاشتغال ولزوم ضم

٢٢٩

الاستنشاق أو المضمضة إلى الوضوء ، وذلك لأنّ المحصِّل وإن كان مركّباً ذا أجزاء منحلا إلى ما علم وجوبه كالغسلات والمسحات وإلى ما شكّ في وجوبه كالمضمضة والاستنشاق ، وهو في حدّ نفسه قابل لإجراء البراءة عن وجوده ، ولكن بما أنّ تعلّق الوجوب بالطهور بمعنى الطهارة النفسانية وهو أمر بسيط لا يتجزأ ولا يتكثر ، فلا تقع مجرى للبراءة ، بل العقل يبعث المكلّف إلى تحصيلها بالقطع والجزم ، لأنّ الاشتغال اليقيني بهذا الأمر البسيط يقتضي البراءة اليقينية ، ولا تحصل البراءة القطعية إلّا بضمّ الاستنشاق والمضمضة إلى سائر الواجبات والإتيان بهما رجاءً واحتمالاً.

١٤. تقدّم الأصل السببي على المسببي

كثيراً ما يتصوّر أنّ أحد الأصلين معارض للأصل الآخر ، وهذا صحيح إذا كان الأصلان في درجة ورتبة واحدة ، وأمّا إذا كان أحد الأصلين متقدّماً رتبة على الآخر وكان الأخذ بأحدهما رافعاً للشكّ في الجانب الآخر فيؤخذ بالمتقدّم ويطرح الآخر ، وملاك التقدّم هو كون الشكّ في أحد الأصلين ناشئاً عن الشكّ في الأصل الآخر ، فإذا عملنا بالأصل في جانب السبب يرتفع الشك عن الجانب المسبب حقيقة ، ولنذكر مثالاً :

إذا كان هناك ماء طاهر شككنا في طروء النجاسة عليه ، ثمّ غسلنا به الثوب النجس قطعاً ، فربّما يتصوّر تعارض الأصلين ، فإنّ مقتضى استصحاب طهارة الماء هو كون الثوب المغسول به طاهراً ، ومقتضى استصحاب نجاسة الثوب كون الماء نجساً فيقال : تعارض الاستصحابين.

ولكن الأُصولي الإمامي يقدّم استصحاب طهارة الماء على استصحاب

٢٣٠

نجاسة الثوب ، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب بعد الغسل بالماء ، نابع عن كون الماء طاهراً وعدمه ، فإذا قلنا بحكم الشارع : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بطهارة الماء وقال إنّه طاهر ، فيزول الشك في جانب الثاني ويحكم عليه بالطهارة ، وذلك لأنّ كلّ نجس ، غسل بماء محكوم بالطهارة فهو طاهر.

ومن هنا ينفتح أمام الفقيه باب واسع لرفع التعارض بين الأُصول العملية.

١٥. ما يصحّ أخذه في المتعلّق وما لا يصحّ

ومن ابتكاراتهم تقسيم القيود إلى قسمين :

قسم يتعلّق به الطلب ويقع تحت دائرته ، كالطهارة ، فيقال : صلّ مع الطهارة ، أو صلّ إلى القبلة ، إلى غير ذلك من القيود المأخوذة في جانب المتعلّق.

وهناك قيود لا يتعلّق بها الطلب ولا يتحقّق إلّا بعد تعلّق الطلب بالمتعلِّق ومثلها ـ ما يتولد بعد تعلّق الطلب ـ ب ـ لا يقع متعلّقاً له ، كقصد الأمر وقصد الوجه (الوجوب أو الندب) ، فإنّ هذه القيود ، قيود فوق وقد دائرة الطلب وإنّما تتولّد بعده.

ويترتّب على ذلك أنّه لو شكّ في أنّ واجباً كذا تعبّدي أو توصّلي ، لا يمكن الحكم بأنّه توصّلي بحجّة أنّ قصد الأمر لم يقع في متعلّق الأمر ، لأنّ المفروض أنّ قصد الأمر ـ على فرض وجوبه ـ لا يمكن أخذه في متعلّق الطلب ، فعدم أخذه فيه لا يكون دليلاً على عدم أخذ قيداً للمتعلّق.

وهذا التقسيم وإن وقع موضعاً للنقاش ، ولكنّه لا يخلو عن فائدة.

٢٣١

١٦. استصحاب الزمان والزمانيات

لمّا كان الاستصحاب عند الإمامية أصلاً من الأُصول ، ودلّ على حجّيته الأحاديث الصحيحة ، ذكروا حوله بحوثاً علمية جليلة ، منها التقسيم التالي :

١. استصحاب الزمان : ما إذا كان الزمان معنوناً بعنوان وجودي ، ككونه ليلاً أو نهاراً.

٢. استصحاب الأمر غير القار بالذات : وهذا كالحركة وجريان الماء وسيلان الدم وبقاء التكلم والمشي إذا شكّ في بقائها ، فإنّ ذات الأفعال في هذه المسألة أُمور متدرجة بالذات متقضية بالطبع.

٣. استصحاب الأمر القار بالذات المقيد بالزمان : وهذا كالجلوس في المسجد إلى الظهر.

والغاية من هذا التقسيم هو أنّ روح الاستصحاب هو إبقاء ما كان ، وهذا لا يتصوّر إلّا في القسم الثابت مع أنّ المستصحب في كلّ من الأقسام الثلاثة غير ثابت.

أمّا الليل والنهار فهي أُمور زمانية والزمان لا يتصوّر فيه البقاء ، وأمّا الأُمور الوجودية المزيجة بالزمان كالحركة وجريان الماء فهي أيضاً كالأُمور الزمانية (الليل والنهار) لأنّ المفروض أنّ الحركة أمر غير قارّ بالذات.

ومنه يظهر حال القسم الثالث فإنّ الجلوس وإن كان قاراً بالذات لكن تقيده بالزمان يجعله مثله.

ومع هذا فقد ذكر المحقّقون وجوهاً لجريان الاستصحاب فيها بتصوير أنّ بقاء كلّ شيء بحسبه وأنّ للزمان والزمانيات والأُمور المقيدة بالزمان بقاءً وثباتاً عرفية مشروحة في محلها.

٢٣٢

١٧. تقسيم المستصحب إلى جزئي وكلّي

قسّم المستصحب إلى كونه جزئياً وكلّياً. فلو علمنا بوجود زيد في الغرفة وشككنا في خروجه فيصحّ لنا استصحاب وجوده الجزئي كما يصحّ لنا استصحاب وجود الإنسان ، لأنّ في العلم بوجود زيد في الغرفة علماً بوجود الإنسان فيه.

وعلى ذلك تترتب آثارٌ في الفقه.

١٨. تقسيم الاستصحاب إلى تنجيزي وتعليقي

إذا كان الحكم الشرعي محمولاً على الموضوع بلا قيد ولا شرط ، فالحكم تنجيزي وإلّا فتعليقي ، سواء عُبّر عنه بالجملة الخبرية التي قصد منها الإنشاء في نحو قولك : العصير العنبي حرام إذا غلى ، أو بالجملة الإنشائية نحو قولك : اجتنب من العصير العنبي إذا غلى.

وعندئذ يقسّم الاستصحاب حسب انقسام القضية إلى استصحاب تنجيزي واستصحاب تعليقي ، وقد وقع الكلام في جواز التنجيزي وعدمه.

١٩. الأُصول المثبتة

إنّ القدماء لمّا قالوا بحجّية الاستصحاب من باب الظن والأمارة ، رتّبوا عليه الآثار العقلية ؛ وأمّا المتأخّرون من أصحابنا الإمامية فلمّا قالوا بحجّية الاستصحاب بما أنّه أصل لا أمارة ، منعوا من ترتيب الآثار العقلية لأنّه أصل والأصل لا يثبت به إلّا الحكم الشرعي فقط ، ونوضح ذلك بالمثال التالي :

٢٣٣

إذا شككنا في حياة زيد فمقتضى قوله : «لا تنقض اليقين بالشك» هو ترتيب الآثار الشرعية ، للحياة الواقعية ، على الحياة التعبّدية الثابتة بالأصل ، فهو ـ بفضل الاستصحاب ـ مالك لماله ، لا يقسّم باحتمال موته.

وأمّا الآثار العقلية للحياة ، كجريان الدم في عروقه فلا يثبت باستصحاب الحياة ، وإن كان من لوازمها. وعلى ضوء ذلك لو ترتّب على جريان الدم أثر شرعي ـ كإعطاء الصدقة للفقير ـ فلا يثبت ولا يُحكَمُ به ، وذلك لتوسط الأمر العقلي (جريان الدم) بين المستصحب (الحياة) ، والأثر الشرعي : (وجوب الصدقة) فالحياة ، تلازم جريان الدم ، وهو موضوع لوجوب التصدّق.

وإيضاحاً للحال نأتي بمثالين :

١. إذا مات الوالد في زوال يوم الجمعة ، وعلمنا بموت الولد أيضاً لكن تردّد موته بين كونه قبل الزوال أو بعده ، فموت الوالد لأجل كونه معلوم التاريخ وغير مشكوك لا من جهة أصل وجوده ولا زمانه لا يجري فيه الأصل ، بخلاف موت الولد فإنّه يجري فيه الأصل ، فيقال : الأصل بقاء حياة الولد إلى زوال يوم الجمعة.

فلو كان الأثر (الإرث) مترتّباً على حياة الولد حين موت الوالد فيرثه الولد ، وأمّا لو قلنا بترتّبه على تأخّر موته عن حياة الأب ، فلا يرث ، لأنّ عنوان التأخر لازم عقلي للمستصحب ، حيث إنّ لازم بقاء حياة الولد ، إلى زمان موت الوالد مع العلم بموته أيضاً ، هو تأخّر موته عن موت الوالد.

٢. إذا علمنا بإصابة البول للماء القليل زوال يوم الجمعة ، ثمّ علمنا بأنّه صار كرّاً إمّا قبل الزوال أو بعده ، فالأصل لا يجري في معلوم التاريخ لعدم الشكّ فيه وإنّما يجري في مجهوله ، فيقال : أصالة عدم صيرورته كرّاً إلى زوال يوم الجمعة ، فلو كانت النجاسة مترتّبة على الماء غير الكرّ فيحكم عليه بالنجاسة ، وأمّا لو كان

٢٣٤

مترتّباً على تأخّر الكرّية عن إصابة البول فلا يحكم عليه بها ، لأنّ تأخّر الكرّية عنها لازم عقلي لعدم صيرورته كرّاً إلى زوال يوم الجمعة مع العلم بحدوث الكرّية أيضاً.

٢٠. في استصحاب حكم المخصّص

إذا ورد التخصيص على عموم وعلم خروج فرد من تحته في فترة من الزمان ولكن شكّ في أنّ خروجه يختص بها أو يعمّ ما بعدها ، كما في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وقد خرج منه العقد الغبني ، فالمغبون ذو خيار بين الإمضاء والفسخ ، فشككنا في أنّ الخيار فوري أو ثابت إلى زمان لا يتضرر البائع من تزلزل العقد.

فحينئذ يقع البحث هل المرجع بعد انقضاء الفور هو عموم العام ، أعني : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، فيكون العقد لازماً.

أو المرجع استصحاب حكم المخصص ، أعني : كونه جائزاً؟ وهناك تفصيل وتحقيق لا يسع المقام له.

هذه نماذج ممّا ابتكره فحول الأُصوليّين عبر القرنين ، وهناك مسائل أُخرى لا تنقص أهميتها عمّا ذكرنا ، خصوصاً بحوثهم حول العلم الإجمالي.

إنّ لأصحابنا حول العلم الإجمالي بحوثاً ابتكارية ، نظير :

١. انّ متعلّق العلم الإجمالي تارة يكون محصوراً وأُخرى غير محصور.

٢. العلم الإجمالي في المحصور ، منجّز للتكليف.

٣. هل هو منجّز على وجه العلّة التامة ، بحيث لا يجوز الترخيص في أطرافه ؛ أو منجّز على الوجه المقتضي ، فيجوز الترخيص في بعض أطرافه؟

٢٣٥

٤. هل خروج أحد الأطراف ، قبل تعلّق العلم الإجمالي أو مطلقاً ، مانع عن تنجيزه ، أو لا ، أو فيه تفصيل؟

٥. هل طروء الاضطرار على بعض الأطراف قبل تعلق العلم الإجمالي ، مانع عن التنجيز أو لا؟

٦. هل ملاقي بعض أطراف الشبهة ، محكوم بنفس حكم الملاقى أو لا ، أو فيه تفصيل؟

إلى غير ذلك من مباحث لم يسبق إليهم سابق.

رحم الله الماضين من علمائنا

وحفظ الله الباقين منهم

٢٣٦

الرسالة الثامنة

حكم ما لا نصّ فيه

في الفقه السنّي

١. القياس

٢. الاستحسان

٣. الاستصلاح أو المصالح المرسلة

٤. سدّ الذرائع

٥. فتح الذرائع

٦. قول الصحابي

٧. إجماع أهل المدينة

٢٣٧
٢٣٨

حكم ما لا نصّ فيه

في الفقه السنّي

انّ مصادر التشريع عندنا ، هو الكتاب والسنّة والإجماع ، والعقل ، وأمّا عند السنّة ، فمصادر التشريع ، هي الثلاثة الأُولى ، ثمّ يأتي دور الاستنباط فيعتمد على أُصول وقواعد وعلى رأسها القياس.

قال أبو القاسم محمد بن أحمد بن جُزَي (المتوفّى سنة ٧٤١) : «يجب على العالم أن ينظر أوّلاً في الكتاب فإن لم يجدها ، نظرها في السنة ، فإن لم يجدها نظر فيما أجمع عليه العلماء واختلفوا فيه ، يأخذ بالإجماع ورجّح بين الأقوال في الخلاف فإن لم يجدها في أقوالهم استنبط حكمها بالقياس وبغيره من الأدلّة وعددها على التفصيل عشرون ما بين متفق عليه ومختلف فيه. (١)

وقد اتّفقت كلمتهم على انّه إنّما يعتمد على هذه الضوابط إذا لم يكن هناك دلالة قرآنية ، أو سنة نبوية أو إجماع من العلماء ، قال نظام الدين الشاشي : «القياس حجّة من حجج الشرع يجب العمل به عند انعدام ما فوقه

__________________

(١). تقريب الأُصول في علم الأُصول : ١٠١ ، ط دار النفائس ، الاردن.

٢٣٩

من الدليل في الحادثة. (١)

نعم ذهب بعضهم إلى تخصيص العموم بالقياس ، لكنّه أمر تضاربت فيه الآراء فمن قائل بالجواز ، إلى آخر قائل بالمنع ، إلى ثالث مفصّل بين القياس الجليّ فيقدم على العام ، والخفي ، إلى رابع مفصّل بين العام المخصَّص من قبل وعدمه ، فيقدم في الأوّل دون الثاني ، إلى خامس متوقف في المسألة إلى غير ذلك ممّا لا يهمنا بيانه ومن أراد الوقوف على أقوالهم فليرجع إلى الأحكام للآمدي ٢ / ٣١٣ ، وتيسير التحرير : ١ / ٣٢١.

وبذلك نخرج بالنتيجة التالية :

انّ الرجوع إلى القياس واضرابه في الفقه السنّي ، إنّما هو فيما لا نصّ فيه أو ما لا نقل فيه من الفقهاء كالإجماع ، وبما أنّ هذه القواعد مورد نقاش عندنا فقد قمنا بدراستها في هذه الرسالة واقتصرنا بتحليل الأُصول التالية المهمة عندهم وتركنا غير المهم منها ، أو ما ليس بمورد نقاش كالاستصحاب والبراءة ، أعني :

١. القياس ، ٢. الاستحسان ، ٣. الاستصلاح ، ٤. سدّ الذرائع ، ٥. فتح الذرائع ، ٦. قول الصحابي ، ٧. إجماع أهل المدينة.

وأسميناها «حكم ما لا نصّ فيه في الفقه السنّي».

ومن المعلوم انّ حكم «ما لا نصّ فيه» عند الإمامية يستنبط من الأُصول العملية الأربعة ، ولكلّ أصل مجرى خاص.

__________________

(١). أُصول الشاشي ١٩٢ لنظام الدين أبي أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي المتوفّى سنة ٣٤٤ ، ط بيروت.

٢٤٠