رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) فالإنسان بكلامه يبين مراده بالنص والظاهر معاً فالقدح في دلالة الظواهر على المعاني كأنّه قدح في أبرز صفات الإنسان التي أشار إليها الله سبحانه في الآية المتقدّمة.

نعم دفع الأُصوليون الاحتمالات التي ذكرها الرازي والإيجي والجرجاني ومن تقدّم عليهم أو تأخر عنهم بأُصول عقلائية اختراعية ، كدفع احتمال المجاز بأصالة الحقيقة ، ودفع احتمال النقل والإضمار بأصالة عدمهما ، إلى غير ذلك من الأُصول اللفظية التي دفعوا بها تلك الاحتمالات الطارئة على الذهن.

ولكنّك خبير بأنّ المفاهمة تتحقّق بين الناس مع الغفلة عن هذه الأُصول ، لأنّ هذه الشكوك لا تظهر في الأذهان حتّى تعالج بهذه الأُصول ، والمخاطب يتلقّى دلالة الظواهر دلالة قطعية دون أن يحتمل إرادة المجاز أو وجود الإضمار والنقل حتّى يعالج تلك الشكوك بتلك الأُصول اللفظية.

الثاني : هداية الأنبياء على أساس القطع

لا شكّ أنّه سبحانه بعث أنبيائه لهداية الناس كما أمر أولياءه وعلماء الأُمّة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكلّ ذلك يتحقّق بمخاطبة الناس بما لديهم من النصوص والظواهر ، فلو كانت دلالة الظواهر على المقاصد دلالة ظنيّة لعرقلت خُطى الهداية والإرشاد ، وأصبح عندئذ تعليم الناس وإرشادهم كأُمنية غير محقّقة. يقول سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ). (٢)

__________________

(١). الرحمن : ١ ـ ٤.

(٢). إبراهيم : ٤.

١٦١

الثالث : صيرورة القرآن معجزة ظنيّة

لو كانت دلالة الظواهر ظنيّة لزم أن يكون القرآن معجزة ظنية ، لأنّ الإعجاز أمر قائم باللفظ والمعنى ، فلو كان ما يفهمه من ظواهر آياته مفهوماً ظنيّاً يكون إعجازه مبنياً على أساس ظني والنتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ، ومن المعلوم أنّ الإعجاز الظني لا يكون عماداً للنبوة التي تطلب لنفسها دليلاً قطعياً.

وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكشف الظواهر عن المراد الجدّي ـ فضلاً عن الاستعمالي ـ كشفاً قطعياً ، لا ظنيّاً ، لما عرفت من أنّ المخاطبين لا يلتفتون إلى هذه الشكوك التي أبدعها إمام المشككين ، بخلاف الوجه الرابع الآتي فانّ الظواهر ـ على ذاك الوجه ـ تكشف عن المراد الاستعمالي كشفاً قطعياً ، لا المراد الجدّي.

الرابع : ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟

ما نذكره في هذا المقام هو بيت القصيد بين الأدلّة وهو أنّ الذين يصفون الظواهر بظنية الدلالة لم يحقّقوا ـ تحقيقاً علمياً ـ ، المهمة التي أُلقيت على عاتق الظواهر فزعموا أنّ كشف الظواهر عن المراد الجدّي ظني لا قطعي ولو كان هذا هو الأمر المهم على عاتق الظواهر كان لوصف دلالتها بالظنيّة وجه ، ولكن الوظيفة التي القيت على عاتقها شيء آخر وهي بالنسبة إليها قطعية الدلالة.

توضيحه : أنّ الوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني

١٦٢

في ذهن المخاطب ، سواء أكانت المعاني حقائق أو مجازات ، فلو قال : رأيت أسداً ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس ، وإذا قال : رأيت أسداً في الحمام ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه ، فدلالة الجملة في كلا الموردين على المراد الاستعمالي قطعية وليست بظنية ، وقد أدى اللفظ رسالته بأحسن وجه. وعلى ذلك لا تصحّ تسميته كشفاً ظنيّاً ، اللهم إلّا إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً ، فالكلام عندئذ يكون قاصراً عن إحضار المعنى الاستعمالي مشخصاً ، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث والكلام في الظواهر لا في المجملات والمتشابهات.

١٦٣

سؤال وجواب

إنّ السبب لعدّ الظواهر من الظنون هو تطرق احتمالات إليها ، وهي :

١. يحتمل أنّ المتكلم لم يستعمل اللفظ في معنى من المعاني.

٢. أو استعمل في المعنى المجازي ولم ينصب قرينة.

٣. أو كان هازلاً في كلامه.

٤. أو كان مورّياً في خطابه.

٥. أو كان لاغياً فيما يلقيه.

٦. أو أطلق العام وأراد الخاص.

٧. أو أطلق المطلق وأراد المقيّد.

فمع تطرق هذه الاحتمالات إلى الظواهر ، تسلب عنها القطعيةُ ويسبّب الاضطراب في كشف الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الجدية على وجه القطع.

هذا هو السؤال وإليك الجواب بوجهين :

أوّلاً : إنّ الاحتمالات الخمسة الأُولى موجودة في النصوص أيضاً فيحتمل فيها كون المتكلّم لاغياً أو هازلاً أو مورّياً أو متّقياً ، إلى غير ذلك من الاحتمالات ومع ذلك نرى أنّ الأُصوليين يعدّونها من القطعيات.

١٦٤

ثانياً : إنّك قد عرفت أنّ الوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر هي احضار المعاني المرادة استعمالاً في ذهن المخاطب وليس لها دور في مجال المفاهمة إلّا ذلك ، وأمّا هذه الاحتمالات ودفعها وعلاجها فليس على عاتق الظواهر حتّى توسم لأجل وجودها بوسم الظنيّة ولذلك قلنا إنّ النصوص والظواهر أمام هذه الاحتمالات سواسية.

فمؤاخذة الظواهر بوسم الظنية أشبه بقول القائل :

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

فكأنّني سبابة المتندّم

وأمّا الاحتمالان الأخيران أعني احتمال استعمال العام وإرادة الخاص أو المطلق وإرادة المقيّد فهما وإن كانا من خصائص الظواهر ولا يوجدان في النصوص لكنّهما لا يضران بقطعية الدلالة لما عرفت من أنّ المراد هو دلالتها على ما هو المراد استعمالاً لا ما هو المراد جدّاً بل تعيين المراد الجدّي ـ عند طروء الشكّ والريب ـ على عاتق أُصول عقلائية ، تدور عليها رحى الحياة ، وهي أنّ مقتضى كون المتكلّم حكيماً التحرز عما يُعدّ لغواً أو هزلاً. نعم في الموارد التي يحتمل فيها التقية أو التخصيص والتقييد فكشف الظواهر عن المراد الجدّي فرع إحراز كون المتكلّم بصدد بيان المراد الواقعي أو عدم العثور على المخصص والمقيّد في مظانها.

فتلخص من هذا البحث الضافي أُمور :

الأوّل : إنّ البحث في المقام كبروي وليس صغروياً بمعنى أنّ الكلام ـ بعد ثبوت ظهور للكلام ـ في أنّ دلالته على المعاني المرادة قطعية أو ظنية.

الثاني : ما جاء به الرازي من التشكيكات ـ على فرض صحتها ـ يرجع إلى

١٦٥

منع الصغرى ، أي عدم وجود الظاهر لا إلى منع الكبرى.

الثالث : إنّ المفاهمة بين الناس على أساس القطع بالمراد الجدّي من غير فرق بين النصوص والظواهر.

الرابع : ما عالج به الأُصوليون بعض الاحتمالات المضرّة بالظهور إنّما يحتاج إليها إذا كان هناك ريب وشك.

والمفروض صفاء ذهن المخاطبين في الأصعدة المختلفة عن هذه الشكوك حتّى تزال بها.

نعم على فرض طروء الشكوك فأصالة الحقيقة وعدم الاشتراك أو عدم النقل والإضمار محكمة مفيدة.

الخامس : المهمة الموضوعة على عاتق الظواهر هي دلالة المتكلم على المراد الاستعمالي ، وأمّا المراد الجدّي فليس على عاتق الظواهر بشهادة طروء الشكوك الخمسة على النصوص أيضاً.

السادس : بما أنّ المفاهمة في الأصعدة المختلفة على القطع بالمراد فالإرادة الاستعمالية تكشف عن المراد الجدي قطعياً ، لما عرفت من أنّ الشكوك التي أثارها الأُصوليون من أصحابنا أو ما أثاره الرازي ممّا يغفل عنها المتكلّم والمخاطب. نعم لو طرأ شكٌّ ـ على فرض طروئه ـ فيعالج بالأُصول العقلائية.

السابع : لما جرت السيرة على فصل المخصّص والمقيد عن العام والمطلق في صعيد التقنين والتشريع ، فكشف الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الجدّية يتوقف على الفحص عن المخصص والمقيّد. وكون المتكلّم على حالة التقنين يدفعنا إلى الفحص عنهما.

١٦٦

ولذلك لو لم يكن المتكلّم جالساً على منصة التشريع يتلقّى العام دليلاً على الجدّ ولا يلزم الفحص عن مخصصه ، وهكذا المطلق ، يؤخذ به ولا يلتفت إلى مقيّده.

جعفر السبحاني

١ / ذو القعدة الحرام من شهور عام ١٤٢٤

١٦٧
١٦٨

الرسالة السادسة

عدم حجّيّة الخبر الواحد

في العقائد

١٦٩
١٧٠

١

حكم الظن في الأُصول الاعتقادية

قد ثبت في محلّه انّ الظن الانسدادي ليس حجّة في الفروع العملية ، وأمّا الظن الخاص فهو حجّة فيها ، وعندئذ يقع الكلام في حجّية الظن في الأُصول الاعتقادية ويقع الكلام تارة في الظن الانسدادي وأُخرى في غيره وإليك دراسة الأمرين :

١. الظن الانسدادي والعقائد

انّ الظن الانسدادي ليس بحجّة في الأُصول الاعتقادية لعدم تمامية مقدمات الانسداد فيها لانّ من مقدماته انسداد الطريق إلى الواقع وهو غير منسد في العقائد ، لإمكان عقد القلب على ما هو الواقع ، وبذلك تفارق العقيدة عن العمل ، لإمكان تحصل الواقع فيها بعقد القلب على ما هو الواقع ، وذلك كتفاصيل الرجعة ، والبرزخ والميزان والصراط ، بخلاف الثاني فانّ البراءة لا تحصل إلّا بالاحتياط في مقام العمل.

نعم (١) لا يكفي الاعتقاد الإجمالي فيما يجب فيه المعرفة التفصيلية ، كمعرفة الله

__________________

(١). وإلى هذا الاستدراك أشار في الكفاية بقوله : نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات.

١٧١

سبحانه ومعرفة أنبيائه وأوصيائه ـ على القول بأنّ الوصاية منصب إلهي ـ فإنّ الأثر المترقّب منها لا يترتب على الاعتقاد الإجمالي ، بل يترتب على المعرفة التفصيلية لوجوده سبحانه ومعرفة أنبيائه وأوصيائهم. نعم لا دليل على وجوب معرفة غير هذه الأُصول بالتفصيل بل ، يكفي فيه الاعتقاد الإجمالي.

دفع توهّم

(١)

ربّما يتصوّر وجوب معرفة كلّ ما جاء به النبي حول الأُمور الاعتقادية تفصيلاً. حتى ادّعى الشيخ الأنصاري لزوم تحصيل المعرفة التفصيلية في عامّة المسائل الاعتقادية من غير فرق بين أصل وأصل ـ خلافاً لما قلنا من أنّها على قسمين ـ مستدلاً بأُمور :

١. قوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٢) أي ليعرفون.

٢. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس» (٣) ، بناء على أنّ الأفضلية من الواجب ، مثل الصلاة تستلزم الوجوب.

٣. عمومات وجوب التفقّه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد (٤) الإمام عليه‌السلام بها بوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق.

__________________

(١). أشار إليه بقوله : «ولا دلالة لمثل قوله تعالى الخ».

(٢). الذاريات : ٥٦.

(٣). جامع أحاديث الشيعة : ٤ / ٣ ، الأحاديث ١ ـ ٤.

(٤). نور الثقلين : ٢ / ٢٨٢ ، الحديث ٤٠٦ وجاء فيه : أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال : أمّا أهل هذه البلدة فلا ـ يعني المدينة ـ وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم أنّ الله عزوجل يقول : (وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كافَّةً فَلَو لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين ...).

١٧٢

٤. عمومات طلب العلم. (١)

فنتيجة هذه الإطلاقات هو لزوم معرفة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلّ قادر يتمكّن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد ، وإلّا توقّف ولم يتديّن بالظن لو حصل. (٢)

ولا يخفى أنّ ما ذكره من الإطلاقات غير تام ، لعدم ورودها في بيان ما يجب التديّن والاعتقاد به حتى يؤخذ بإطلاقها.

أمّا الأوّل : فالظاهر أنّ المراد منه هو معرفة الله سبحانه لا كلّ ما جاء به النبي في مجال المعارف بدليل أنّ اللام للغاية ، والنون للوقاية والمعنى : أي لعبادتي وعرفاني لا مطلق ما يجب معرفته.

وأمّا الثاني : فالحديث في مقام بيان أهمية الصلوات الخمس ، لا في مقام بيان ما يجب معرفته حتى يؤخذ بإطلاق قوله بعد المعرفة.

وأمّا الثالث : فبمثل ما أجبنا عن الثاني ، فالآية في مقام الحثّ على النفر ، وكيفيته ، لا في مقام بيان ما يجب أن يتفقّه فيه ، وقد تمسّك الإمام بالآية لإثبات كيفية التعرّف على الإمام بعد تسليم لزوم معرفته.

وأمّا الرابع : فهو في مقام بيان لزوم تحصيل العلم لا في بيان ما يجب تعلّمه.

هذا كلّه فيما يجب المعرفة مستقلاً ، وقد عرفت أنّه لا دليل على وجوب معرفة ما ادّعى العلّامة لزوم معرفتها ، إلّا معرفة الصانع وتوحيده ، وبعض صفاته ومعرفة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامه ويوم معاده.

__________________

(١). بحار الأنوار : ١ / ١٦٢ ـ ٢٢١.

(٢). الفرائد : ١٧١ ، طبعة رحمة الله.

١٧٣

نعم يكفي تحصيل اليقين أو حصوله من دون حاجة إلى الاستدلال لعدم الدليل على اشتراطه. وعلى ذلك أكثر المسلمين فهم على يقين من عقائدهم وإن لم يكن مقروناً بالدليل غالباً.

فظهر ممّا ذكرنا أُمور :

١. الظن الانسدادي ليس حجّة في الأُصول الاعتقاديّة مطلقاً لإمكان تحصيل الواقع ، بعقد القلب على ما هو عليه.

٢. انّ هنا أُصولاً يجب تحصيل المعرفة التفصيلية فيها كمعرفة الله ، فلا يكفي فيها لا عقد القلب ، ولا الظن لعدم ترتّب الأثر المترقّب عليهما كالأُصول الأربعة.

٣. لا دليل على لزوم تحصيل المعرفة التفصيلية في كلّ ما جاء به النبي حول المعارف ، كالبرزخ والصراط والأعراف والميزان ، وما استدلّ به غير كاف كما عرفت.

إلى هنا تمّ تقرير ما في الكفاية ، بقي هنا شيء وهو انّ المحقّق الخراساني لم يحدّد لنا ما تجب فيه المعرفة التفصيلية ، وما لا يجب ، وهذا أمر مهم نشير إليه.

ما يجب فيه المعرفة التفصيلية(١)

أقول : يظهر من غير واحد من الروايات أنّ ما يجب تحصيل العلم به لا يتجاوز عن أُمور ثلاثة : التوحيد ، والرسالة ـ وهما دعامتا الإسلام ـ والولاية وهي دعامة الإيمان ـ ولم يذكر المعاد ؛ لأنّ معرفة النبوة تلازم الاعتقاد بالمعاد ، إذ لا يتحقّق الدّين بمعناه الحقيقي من دون اعتقاد بالمعاد.

__________________

(١). وإلى هذا الاستدراك أشار في الكفاية بقوله : نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات.

١٧٤

روى سماعة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن الإسلام والإيمان ، أهما مختلفان؟ فقال : «إنّ الإيمان يُشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان» فقلت : فصفهما لي ، فقال : «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله ، به حُقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس». (١)

وفي رواية سفيان بن السمط ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان ، فهذا الإسلام ، وقال : الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا». (٢)

وبهذا المضمون ما ورد في صحاح أهل السنّة روى البخاري ، عن عمر بن الخطاب أنّ علياً «صرخ» (عند ما بعثه النبي لمقاتلة أهل خيبر) : يا رسول الله على ما ذا أُقاتل؟ قال : «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله». (٣)

كلّ هذه الروايات تحدّد الواجب من المعرفة وانّها لا تتجاوز معرفة الأصلين في تحقّق الإسلام والولاية في تحقّق الإيمان.

هذه هي الضابطة ولو دلّ دليل على وجوب معرفة شيء آخر كمعرفة أحكام الصلاة فيكون أمراً رابعاً وخامساً.

٢. الظن الخاص والعقائد

ثمّ إنّ صاحب الكفاية بعد ما فرغ عن دور الظن الانسدادي في العقائد

__________________

(١). أُصول الكافي : ٢ / ٢٥ ، باب انّ الإيمان يشارك الإسلام ، الحديث ١.

(٢). المصدر نفسه : ٢٤ ، باب أنّ الإسلام يحقن به الدم ، الحديث ٤.

(٣). صحيح البخاري : ١ / ١٠ ، كتاب الإيمان ؛ صحيح مسلم : ٧ / ١٧ ، كتاب فضائل علي عليه‌السلام.

١٧٥

أشار إلى دور الظن الخاص فيها (١) :

وهذا هو الأمر الثاني الذي أشرنا إليه في صدر البحث.

قد عرفت عدم حجّية الظن الانسدادي في العقائدي من غير فرق بين ما يجب فيه المعرفة التفصيلية وما يكفي فيه عقد القلب وإن لم تكن فيه معرفة تفصيلية ، إنّما الكلام في حجّية الظن الخاص في كلا المقطعين ، فالمحقّق الخراساني يرى أنّه لا يتنزل من العلم إلى الظن ، فإن أمكن تحصيل العلم فهو ، ومع العجز عن العلم كان معذوراً.

أقول : كان عليه أن يبرهن على الموضوع بشكل آخر ، وهو أنّ باب العلم مفتوح في العقائد التي يكفي فيها عقد القلب ، ومعه لا يعمل بالظن إذ فيه مظنّة البدعة.

نعم فيما يجب فيه المعرفة التفصيلية كالأُصول الخمسة أو الأربعة إن تمكن من تحصيل العلم فهو ، وإلّا فيُعدّ معذوراً إذا كان قاصراً.

ثمّ القصور يستند تارة إلى غفلة المكلّف وأُخرى إلى غموض المطلب مع قلة الاستعداد ، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال.

نعم إذا كان الجهل عن تقصير في الاجتهاد ولو لأجل حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف فهو غير معذور.

فتلخص من ذلك أُمور :

١. أنّ الظن الخاص غير معتبر في العقائد بكلا قسميها.

٢. إذا لم يتمكن من تحصيل العلم لا يتنزل إلى الظن بل يكون معذوراً إن كان جاهلاً قاصراً.

__________________

(١). أشار إليه بقوله : «ثمّ إنّه لا يجوز الاكتفاء بالظن».

١٧٦

٣. إنّ القصور يستند تارة إلى غفلة المكلّف وتارة إلى غموض المطلب.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني دخل في مطلب آخر من دون أن يشير إلى عنوانه وهو البحث عن وجود الجاهل القاصر وعدمه.

إمكان وجود الجاهل القاصر(١)

قد أشار المحقّق الخراساني إلى وجود الجاهل القاصر بقوله : «كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال» غير أنّ هناك من يتصوّر عدم وجود الجاهل القاصر لوجوه ندرسها :

١. الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد غير معذور ، وصحّة الإطلاق يتوقف على عدم وجود القاصر ، وإلّا لبطل مع كون القاصر معذوراً. فيقال : الجاهل القاصر مخطئ ، وكلّ مخطئ غير معذور ، فينتج : الجاهل القاصر غير معذور ولو كان موجوداً ، لعذّب ، مع أنّ العقل يرى تعذيبه على خلاف العدل ، ولا يحصل التخلص إلّا بالقول بعدم وجوده.

يلاحظ عليه : أنّ مصبَّ الإجماع هو الجاهل المتمكن ، فلا يشمل الجاهل القاصر.

٢. أنّ المعرفة غاية الخلقة ، فلو قلنا بوجود الجاهل القاصر يلزم نفي الغاية مع أنّها لا تنفك عن فعل الحقّ سبحانه. قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الغاية غاية للنوع لا لكلّ فرد لبداهة وجود المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.

__________________

(١). أشار إلى هذا البحث بقوله : والمراد من المجاهدة في قوله تعالى ....

(٢). الذاريات : ٥٦.

١٧٧

٣. قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(١) حيث جعل الملازمة بين المجاهدة والهداية التي هي المعرفة ، فلو لم يكن الطرفان ممكنين لم تصح الملازمة فعدم هداية الجاهل القاصر لعدم جهاده.

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد بيان الملازمة بين المتمكن من الجهاد ، والهداية ، والملازمة بينهما مسلمة ، وأمّا غير المتمكن كالقاصر فهو خارج عن الآية كخروج المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.

وقد أجاب المحقّق الخراساني عن الاستدلال بأنّ المراد من الجهاد هو جهاد النفس لا الجهاد في طريق معرفة الحق. (٢)

أقول : إنّ هنا احتمالات :

أ. أن يكون المراد من الجهاد جهاد العدو.

ب. أن يكون المراد منه جهاد النفس.

ج. أن يكون المراد منه هو الجهاد في طريق معرفة الرب.

والأوّل غير صحيح ، لأنّ السورة مكية ولم يكن جهاد العدو مشروعاً في العهد المكّي ، فكيف يمكن أن تكون الآية ناظرة إليه.

أمّا الثاني : فلأنّ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) يقابل قوله في الآية المتقدّمة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) ومقتضى التقابل أنّ البحث يدور حول الكافر والمؤمن ، لا العارف وغير العارف ، فتعيّن المعنى الثالث.

٤. قوله سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ

__________________

(١). العنكبوت : ٦٩.

(٢). الكفاية : ٢ / ١٧٥.

١٧٨

عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(١) ، فإنّ قوله : (فِطْرَتَ اللهِ) عطف بيان أو بدل من الدين ، نصب بفعل مقدر ، مثل أعني أو أخص ، وإلّا لكان الواجب أن يكون مجروراً بحكم البدلية ، ولازم ذلك أن تكون معرفته سبحانه أمراً فطرياً وخلقياً ، لا يقبل القصور كسائر الأُمور الوجدانية.

والظاهر انّ الآية أوضح ما في الباب ، وهي تدلّ على عدم وجود القاصر في معرفة الرب ، وانّ للعالم خالقاً وصانعاً ، وانّه واحد لا شريك له في ذاته ، وهو أمر لا يقبل القصور إلّا إذا عاند الإنسان فطرته وأنكر وجدانه لغاية مادية كالانحلال من القيود الشرعية ، ولأجل ذلك لا يبعد ادّعاء عدم وجود القاصر في باب التوحيد.

إنّما الكلام في غيره كباب النبوة والإمامة والمعاد ، والآية لا تدلّ على عدم وجود القصور فيها بشهادة أنّ قوله : (حَنِيفاً) تدلّ على أنّ التوحيد هو الموافق للفطرة لا الشرك.

نعم ، أكثر الكبريات الواردة في مجال الفروع أُمور فطرية كالدعوة إلى الزواج وإكرام الوالدين ورد الأمانة وحرمة الخيانة لكن الكلام في الأُصول لا الفروع.

٥. دلّت العمومات على حصر الناس في المؤمن والكافر.

ودلّت الآيات على خلود الكافرين بأجمعهم في النار.

ودلّ الدليل العقلي بقبح عقاب الجاهل القاصر.

فإذا ضم الدليل العقلي إلى العمومات المتقدّمة ينتج عدم وجود القاصر في

__________________

(١). الروم : ٣٠.

١٧٩

المجتمع الإنساني ، لأنّ ما في المجتمع بين مؤمن وكافر ، وكلّ كافر محكوم بالعذاب ، ولا تصدق الكبرى إلّا مع عدم وجود الكافر الجاهل القاصر فيهم ، وإلّا لخص بغير القاصر وهو خلاف الظاهر.

يلاحظ عليه : بأنّ الكبرى ناظرة إلى المتمكن من المعرفة ، لأنّ عقاب العاجز القاصر قبيح فضلاً عن خلوده في النار ، فالكبرى كلية غير مخصصة لكنّها واردة في حقّ المتمكن ، لا كلّ إنسان وإلّا تمنع كليّتها.

هل الجاهل القاصر كافر؟

القاصر في مجتمعنا ، فهل يحكم عليه بالكفر بعد كونه معذوراً في جانب العقاب.

الظاهر أنّه كافر ثبوتاً وليس بكافر إثباتاً.

أمّا الأوّل فلأنّ المستفاد من الكتاب والسنّة أنّه ليس هنا واسطة بين المؤمن والكافر قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (١)

وبهذه الآية ردّ على المعتزلة القائلين بوجود الواسطة بين الإيمان والكفر فإنّ مرتكب الكبيرة عندهم لا مؤمن ولا فاسق ، بل منزلة بين المنزلتين وهذا ما لا يساعد عليه القرآن الكريم.

هذا كلّه حول الثبوت وإمّا إثباتاً فالظاهر من بعض الروايات كونهم متوسطين بين الكفر والإيمان ، وهذا نظير قولنا : «لا شكّ لكثير الشك» فإنّ كثير

__________________

(١). التغابن : ٢.

١٨٠