رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

د. فعندئذ يترتّب عليه عدم الوجوب.

وعدم الوجوب متأخر عن الحكم الواقعي برتبتين ، لأنّ الحكم الواقعي في رتبة ثانية والظاهري في رتبة رابعة.

ثمّ أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعي لكن الحكم الواقعي ـ لأجل إطلاقه وشموله للحالات الثلاثة أعني : العلم بالحكم الواقعي أو الجهل به أو الشكّ فيه ـ واقع في مرتبة الحكم الظاهري وهذا الإشكال هو الذي ذكره المحقّق الخراساني في نقد القائلين بالترتب.

إلى هنا تمت الأجوبة الخمسة التي ذكرها الخراساني مع التفصيل والبيان.

١٤١

٦

نظريتنا في الجمع بين الحكمين

قد عرفت مقالات القوم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، غير أنّ هنا بياناً آخر وإن شئت فاجعله سادس الأجوبة وربّما توجد جذوره في الأجوبة السابقة ، وحاصله مبني على أمرين :

أ. أنّ حجّية الأمارة ليس إلّا إمضاءً للسيرة العقلائية في حياتهم ومعاشهم حيث يعتمدون على قول الثقة في مختلف المجالات لكن أخبار الثقة ليس إلّا لغاية الإيصال إلى الواقع ، فلو صادف ينجّز وإلّا يعذِّر دون أن يكون له دور في إنشاء الحكم وفق مؤدّاه ، مثلاً إذا أخبرنا الناطق الرسمي للدولة عن حكم مصوّب فلا يحدث خبره إنشاء حكم ، سواء أكان موافقاً للواقع أو لا ، بل لو صدق فقد أخبر بالواقع ، ولو كذب فيكون المؤدّى كاذباً دون أن يكون هناك حكم خاطئ مجعول من جانب الدولة.

وعلى ضوء ذلك ليس في موارد الأمارات أي حكم مجعول وإنّما يؤخذ لأجل كونه طريقاً موصلاً.

ب. أنّ إيجاب العمل بالعلم موجب العسر والحرج وربّما يكون سبباً لخروج الناس عن الدين ، ولذلك قام الشارع بإمضاء ما بيد العقلاء من حجّية قول الثقة

١٤٢

وغيره الذي يوافق الواقع ٩٠% ويخالفه ١٠% ، ففي تجويز العمل بالأمارة خير كثير وإن كان ينتهي إلى شر قليل على عكس إيجاب تحصيل العلم ، ففيه الشر الكثير ، فقدم الأوّل على الثاني لتلك الغاية.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا محذور بالتعبد بالأمارة الظنيّة لا ملاكاً ولا خطاباً ولا مبادئياً.

١. المحذور الملاكي

فله صورتان :

الأُولى : ما يتجلى بصورة تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة كما إذا كان الشيء واجباً أو حراماً ودلت الأمارة على حليته ففيه تفويت المصلحة إذا كان واجباً أو الالقاء في المفسدة إذا كان حراماً.

الثانية : ما يتجلى بصورة تدافع الملاكات كما إذا قامت الأمارة على وجوب ما كان حراماً في نفس الأمر ، وإليك دراسة الصورتين :

أمّا الصورة الأُولى فإنّ في العمل بالأمارة وإن كان فوت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في بعض الموارد ، لكن في إيجاب العمل بتحصيل العلم والاحتياط مفسدة كبرى وهي لزوم العسر والحرج الشديدين اللّذين ربما يسببان رغبة الناس عن الدين وخروجهم عنه ، زرافات ووحداناً ، ففي هذا المأزق ، يحكم العقل ، بتقديم

١٤٣

الأوّل على الثاني.

لا أقول : أنّ المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة تتدارك ؛ بل أقول : إنّ الأمارات حجّة من باب الطريقية المحضة ، وإنّ قيام الأمارة لا يحدث مصلحة في المتعلّق ، ولكن إذا دار الأمر بين الشرّ القليل والشر الكثير يحكم العقل بتقديم الأوّل على الثاني.

وأمّا الصورة الثانية ، أعني : محذور تدافع الملاكات فدفعه واضح ، لأنّه إنّما يلزم لو كانت الأمارة محدثة للمصلحة أو المفسدة في المتعلق فيلزم التدافع ، وقد عرفت عدم دور للأمارة سوى الطريقية.

وبعبارة أُخرى : إذا كانت الأمارة تمس كرامة الواقع وتحدث مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، كان للتدافع وجه ، وأمّا لو قلنا بالطريقية المحضة كما هو الحق ، فلا مصلحة ولا مفسدة في الحكم الظاهري حتى يتحقق التدافع.

حتى ولو قلنا بالمصلحة السلوكية لا يلزم التدافع ، لأنّ المصلحة السلوكية مصلحة نوعية قائمة بنفس الأمر بالعمل بالأمارة لغاية إيجاد الرغبة في الدين فلا صلة لها بالمتعلّق الذي قامت به المصلحة والمفسدة.

ومن هنا تبين انّه لا يكون في الأمر بالعمل بالأمارة أيُّ محذور ملاكي.

٢. المحذور الخطابي

المحذور الخطابي يتلخص في اجتماع المثلين أو اجتماع الضدّين.

والجواب عنه بوجهين :

١. أنّ التماثل والتضادّ من أقسام التقابل وكلاهما من الأعراض الخارجية التي توصف بها الأُمور الحقيقية. وأمّا البعث والزجر الإنشائيّان فهما من الأُمور الاعتبارية التي لا توصف بالتضاد والتماثل إلّا اعتباراً ، والاعتبار خفيف المئونة فلا مانع من إنشاء البعث والزجر في شيء واحد.

وبعبارة أُخرى : انّ دلالة الألفاظ على المعاني بالوضع والاعتبار ، فإذا كان الوضع كذلك فالبعث والزجر المفهومان من اللفظين أولى أن يكونا اعتباريين.

١٤٤

فإن قلت : إنّ إنشاء الإيجاب والزجر مسبوقان بإرادتين متضادتين فكيف يمكن أن تتعلّق إرادتان بشيء واحد في آن واحد.

قلت : هذا محذور آخر سيوافيك بيانه في المحذور المبادئي والكلام في المقام في المحذور الخطابي.

٢. أنّ الإشكال مبني على أن يكون في مورد الأمارات والأُصول حكم شرعي طبق المؤدّى وهو خلاف التحقيق ، إذ ليس للأمارة والأُصول المحرزة دور سوى الطريقية والإيصال إلى الواقع ، فإن وافق الواقع فالمتحقّق هو الواقع ، وإلّا فقد تضمّن خبراً كاذباً.

نعم يمكن القول بجعل الحكم الظاهري في الأُصول غير المحرزة كالحليّة في قوله : كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام ، وكالطهارة في قوله : كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر ، ففي هذه الصورة يدفع المحذور الخطابي بالجواب الأوّل وهو اعتبارية إنشاء الحليّة أو الطهارة.

٣. المحذور المبادئي

إذا تعلّقت الإرادة القطعية بالأحكام الواقعية وفي الوقت نفسه تعلّقت بالأحكام الظاهرية لزم ظهور الإرادتين المتماثلتين عند التوافق ، أو المتضادتين عند التباين ، ويقرب منهما مشكلة الحب والبغض إذا كان هناك تخالف بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

والجواب ما عرفت من أنّه ليس لنا في مورد الأمارات والأُصول المحرزة حكم مجعول باسم الحكم الظاهري حتّى تتعلّق به الإرادة والكراهة ، ولو كانت هناك إرادة أو كراهة فقد تعلّقتا بالحكم الواقعي فحديث اجتماع الإرادتين أو

١٤٥

الإرادة والكراهة أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

نعم تعلّقت إرادة المولى بالعمل بالأمارة على الوجه الكلي تيسيراً وتسهيلاً للأمر ، وأين هو من تعلّقها بالمتعلّق؟

وإن أبيت إلّا القول بامتناع اجتماع الإرادتين حتى بهذا النحو بمعنى تعلق الإرادة الذاتية بالمتعلّق وتعلق إرادة أُخرى بالعمل بالأمارة المخالفة للواقع فلا محيص عن القول برفع الشارع اليد عن الحكم الواقعي ، وإرادته للمصلحة العليا وهو ترغيب الدين ، وهذا لا يلازم التصويب ، لأنّ الحكم الإنشائي المشترك بين العالم والجاهل موجود غير مرفوع ، بينما اللازم هو تعليق فعلية الحكم الواقعي أو تنجزه على عدم قيام الأمارة على خلافه وبهذا اندفعت المحاذير الثلاثة الملاكية : والخطابية والمبادئية.

١٤٦

الرسالة الخامسة

دلالة الظواهر على معانيها

قطعية أو ظنية؟

١٤٧
١٤٨

دلالة الظواهر على معانيها

قطعية أو ظنية؟

اشتهر بين الأُصوليين أنّ دلالة الظواهر على معانيها ظنيّة لا قطعية وبذلك جوّزوا تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد بحجّة أنّ ظواهر الكتاب ظنية.

وإليك سرد بعض الكلمات.

احتجّ القائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، بأنّ الكتاب قطعي ، والخبر الواحد ظني ، والظني لا يعارض القطعي.

وردّ عليه صاحب المعالم بأنّ مورد التخصيص هو الدلالة وهي ظنيّة وإن كان المتن قطعيّاً ، فلم يلزم ترك القطعي بالظني ، بل هو ترك الظنّيّ بالظنّي.

وبتقرير آخر : وهو انّ عام الكتاب وإن كان قطعي النقل لكنّه ظنّي الدلالة ، وخاص الخبر وإن كان ظني النقل لكنّه قطعي الدلالة ، فصار لكلّ قوة من وجه وضعف من وجه فتساويا ، فتعارضا ، فوجب الجمع بينهما. (١)

وقال المحقّق القمي في مسألة تخصيص الكتاب بالخبر الواحد : إنّ

__________________

(١). معالم الدين : ٣٠٦.

١٤٩

الكتاب وإن كان قطعي الصدور ولكنّه ظني الدلالة ، وخاص الخبر وإن كان ظني الصدور ولكنّه قطعي الدلالة ، فصار لكلّ قوة من وجه فتساويا فتعارضا فوجب الجمع بينهما.

ثمّ ردّ عليه بأنّ الخاص أيضاً ليس بقطعي الدلالة ـ إلى أن انتهى إلى قوله : ـ بأنّ كليهما ظنيان تعارضا وتساويا ولأجل أنّ التخصيص أرجح أنواع المجاز رجّحنا التخصيص. (١)

نعم ذهب السيد المرتضى في «الذريعة» والشيخ في «العدّة» إلى عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، لا بملاك أنّ ظواهر الكتاب قطعيّة ، بل لوجود القصور في حجّية خبر الواحد.

قال المرتضى : والذي نذهب إليه أنّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال وقد كان جائزاً أن يتعبد الله تعالى بذلك فيكون واجباً غير أنّه ما تعبّدنا به. (٢)

وقال الشيخ في العدّة : لو سلّم لهم العمل بخبر الواحد على غاية اقتراحهم لم يجز تخصيص العموم به ، لأنّه ليس ما دلّ على وجوب العمل بها ، يدلّ على جواز التخصيص ، كما أنّ ما دلّ على وجوب العمل بها ، لا يدلّ على وجوب النسخ بها ، بل احتاج ذلك إلى دليل غير ذلك ، فكذلك التخصيص فلا فرق بينهما. (٣)

نعم يظهر من بعض كلماته أنّ عموم الكتاب يفيد العلم وخبر الواحد

__________________

(١). القوانين المحكمة : ١ / ٣٠٩.

(٢). الذريعة : ١ / ٢٨٠.

(٣). عدة الأُصول : ١ / ٣٤٥.

١٥٠

يوجب غلبة الظن ، ولا يجوز أن يترك العلم للظن على حال فوجب لذلك أن لا يُخص العموم به. (١)

والظاهر أنّ مراده هو كون الكتاب قطعي الصدور وخبر الوحد ظني الصدور فلا يترك القطعي بالظني ، وإلّا فلو أُريد العلم لأجل الدلالة فالخبر الواحد ـ مع قطع النظر عن الصدور ـ مثله.

هذا وقد شرح الرازي هذا الموضوع نقدّمه ضمن أُمور :

__________________

(١). عدة الأُصول : ١ / ٣٤٤.

١٥١

١

الرازي وكون الظواهر ظنيّة

إنّ الرازي ممّن شرح هذا الموضوع وأثبت ـ حسب ظنّه ـ بأنّ الدلائل اللفظية ظنيّة ، لأنّ التمسك بالدلائل اللفظية موقوف على عشرة أُمور ظنيّة ، والموقوف على الظنّي ظنّي.

وهذه الأُمور العشرة موجزها عبارة عن :

عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ ، وإعرابها ، وتصريفها ، وعدم الاشتراك ، والمجاز ، والنقل ، والتخصيص بالأشخاص والأزمنة ، عدم الإضمار ، والتأخير ، والتقديم ، والنسخ ، وعدم المعارض العقلي ، الذي لو كان لرجح عليه. (١)

ثمّ إنّه شرح الأُمور العشرة في غير واحد من كتبه ، ويتلخّص بالنحو التالي :

١. أنّ التمسّك بالدلائل اللفظية يتوقّف على نقل مفردات اللغة ، ونقل النحو والتصريف ، لكن رواية هذه الأشياء منقولة بالآحاد ، لأنّها تنتهي إلى أشخاص قليلين ، غير معصومين ، ولا يمنع إقدامهم على الكذب ، أو وقوعهم في

__________________

(١). محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ٧١.

١٥٢

الخطأ ، ومثل هذه الرواية لا تفيد إلّا الظن. (١)

٢. ويتوقف على عدم الاشتراك ، فإنّه بتقدير الاشتراك يجوز أن يكون مراد الله تعالى من هذا الكلام غير هذا المعنى الذي اعتقدناه ، لكن نفي الاشتراك ظني. (٢)

٣. ويتوقف على المجاز ، فإنّ حمل اللفظ على حقيقته إنّما يتعيّن لو لم يكن محمولاً على مجاز ، لكن عدم المجاز مظنون. (٣)

٤. ويتوقف على عدم الحذف والإضمار ، لأنّ تجويزه يفضي إلى انقلاب النفي إثباتاً ، والإثبات نفياً ، لكن عدم الحذف والإضمار مظنون. (٤)

٥. ويتوقف على عدم التقديم والتأخير ، لأنّ بسببهما يتغيّر المعنى ، لكن عدمهما مظنون. (٥)

٦. ويتوقّف على عدم التخصيص ، وعدمه مظنون. (٦)

٧. ويتوقّف على عدم الناسخ ، وعدمه مظنون. (٧)

٨. ويتوقف على عدم النقل ، فإنّ بتقدير أن يقال الشرع أو العرف نقله من معناه اللغوي إلى معنى آخر ، كان المراد هو المنقول إليه لا ذلك الأصل. (٨)

٩. ويتوقّف على عدم المعارض النقلي ، لأنّ الدلائل اللفظيّة قد يقع فيها

__________________

(١). الأربعين : ٤٢٤.

(٢). الأربعين : ٤٢٥.

(٣). المطالب العالية : ٩ / ١١٤.

(٤). المطالب العالية : ٩ / ١١٤.

(٥). المطالب العالية : ٩ / ١١٦.

(٦). الأربعين : ٤٢٥.

(٧). الأربعين : ٤٢٥.

(٨). المحصول : ١ / ٥٧١.

١٥٣

التعارض ، ويصار فيها إلى الترجيحات التي لا تفيد إلّا الظن. (١)

١٠. ويتوقف على سلامتها عن المعارض العقلي القاطع ، لأنّ بتقدير وجوده يجب صرف الظاهر السمعي إلى التأويل ، لكن عدم هذا المعارض القطعي مظنون لا معلوم ، لأنّ أقصى ما في الباب أنّ الإنسان لا يعرف ذلك المعارض ، لكن عدم العلم لا يفيد العلم بالعدم. (٢)

ثمّ قال : «فثبت أنّ الدلائل النقلية موقوفة على هذه المقدرات العشرة ، وكلّها ظنّية ، والموقوف على الظني أولى أن يكون ظنياً ، فالدلائل النقلية ظنيّة». (٣)

وقد تبعه غير واحد من المتكلّمين كالإيجي في مواقفه فنقل ما ذكره الرازي بحرفيته لكن على وجه الإيجاز. ولم يذكر أي مصدر لكلامه. (٤)

وقد شرح السيد الشريف الجرجاني المواقف شرحاً مزجياً ونحن نأتي بكلام الشارح ، الممزوج بكلام الإيجي ، لأنّ فيه إيضاحاً لمقاصده قال :

المقصد الثامن : الدلائل النقلية هل تفيد اليقين بما يستدلّ بها عليه من المطالب؟ قيل : لا لا تفيد وهو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة. (لتوقفه) أي توقف كونها مفيدة لليقين (على العلم بالوضع) أي وضع الألفاظ المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإزاء معان مخصوصة (والإرادة) أي وعلى العلم بأنّ تلك المعاني مرادة منه (والأوّل) وهو العلم بالوضع (إنّما يثبت بنقل اللغة) حتّى يتعيّن مدلولات جواهر الألفاظ (و) نقل (النحو) حتّى يتحقّق مدلولات الهيئات التركيبية (و) نقل (الصرف) حتّى يعرف مدلولات هيئات المفردات (وأُصولها) أي أُصول هذه العلوم الثلاثة (تثبت برواية الآحاد) ، لأنّ مرجعها إلى أشعار العرب وأمثالها

__________________

(١). الأربعين : ٤٢٦.

(٢). الأربعين : ٤٢٦.

(٣). الأربعين : ٤٢٦.

(٤). المواقف : ٤٠.

١٥٤

وأقوالها التي يرويها عنهم آحاد من الناس كالأصمعي والخليل وسيبويه ، وعلى تقدير صحّة الرواية يجوز الخطأ من العرب ، فإنّ امرأ القيس قد خطئ في مواضع عديدة مع كونه من أكابر شعراء الجاهلية (وفروعها) تثبت (بالأقيسة وكلاهما) يعني رواية الآحاد والقياس دليلان (ظنيان) بلا شبهة.

(والثاني) وهو العلم بالإرادة.

(يتوقّف على عدم النقل) أي نقل تلك الألفاظ عن معانيها المخصوصة التي كانت موضوعة بازائها في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معان أُخرى ، إذ على تقدير النقل يكون المراد بها تلك المعاني الأُولى لا المعاني الأُخرى التي نفهمها الآن منها (و) على عدم (الاشتراك) إذ مع وجوده جاز أن يكون المراد معنى آخر مغايراً لما فهمناه.

(و) عدم (المجاز) إذ على تقدير التجوز يكون المراد المعنى المجازي لا الحقيقي الذي تبادر إلى أذهاننا.

(و) عدم (الإضمار) إذ لو أضمر في الكلام شيء تغير معناه عن حاله (و) عدم (التخصيص) إذ على تقدير التخصيص كان المراد بعض ما تناوله اللفظ لا جميعه كما اعتقدناه.

(و) عدم (التقديم والتأخير) فإنّه إذا فرض هناك تقديم وتأخير كان المراد معنى آخر لا ما أدركناه.

(والكل) أي كلّ واحد من النقل واخواته (لجوازه) في الكلام بحسب نفس الأمر (لا يجزم بانتفائه بل غايته الظن).

واعلم أنّ بعضهم أسقط الإضمار بناء على دخوله في المجاز بالنقصان

١٥٥

وذكر النسخ وكأنّ المصنّف أدرجه في التخصيص ، لأنّ النسخ على ما قيل تخصيص بحسب الأزمان.

(ثمّ بعد) هذين (الأمرين) أعني العلم بالوضع والعلم بالإرادة (لا بدّ من العلم بعدم المعارض العقلي). (١)

هذه كلمات الرازي والإيجي والجرجاني ، غير أنّ هنا نكتة نلفت إليها نظر القارئ وهي :

__________________

(١). شرح المواقف : ٢ / ٥١ ـ ٥٢.

١٥٦

٢

دراسة أدلّة الرازي على أنّ دلالة الظواهر ظنيّة

إنّ هنا بحثاً صغروياً.

وبحثاً كبروياً.

فلو كان البحث مركّزاً على الفحص عن انعقاد الظهور للجملة ، وعدمه ، وبعبارة أُخرى : هل للكلام ظهور أو لا؟ يكون البحث صغروياً ؛ كما إذا كان البحث مركّزاً على ظهور الكلام ـ الذي فرغنا من ثبوته ـ هل يكشف عن المعاني ، كشفاً قطعياً أو ظنيّاً أو لا؟ يكون البحث كبرويّاً.

والكلام في المقام يدور حول الثاني ، أي بعد ما ثبت للجملة ظهور ، وصار الكلام ذا ظهور مستقر على نحو يُعد خلافه مرجوحاً أو غير ملتفت إليه.

وأمّا ما طرحه الرازي فإنّما يرجع إلى المقام الأوّل وهو الشكّ في وجود الظهور أو استقراره ، فجعل ـ مثلاً ـ عدم الاشتراك سبباً لظنيّة الدلالة ، إذ لو كان هناك اشتراك أو احتماله لم ينعقد للكلام ظهور.

وهكذا كسائر الشكوك فإنّ الشكّ في كون اللفظ مستعملاً في المعنى المجازي أو كون الجملة مشتملة على الحذف والإضمار كلّها يرجع إلى الشكّ في وجود الصغرى (وجود الظهور) ولا شكّ أنّ الشكّ فيه كاف في كون الدلالة ظنيّة.

١٥٧

إنّما الكلام إذا تمت دلالة الكلام واستقر ظهوره في معنى معيّن على نحو يُعد خلافه مرجوحاً أو غير ملتفت إليه ، فهل توصف دلالته حينئذ ظنيّة؟

وبذلك تعرف الفرق بين الظاهر والنصّ ، فقد عرّفا بوجوه مختلفة ، ولكن أوجز التعاريف للنص والظاهر هي ما يلي :

النص : ما لا يحتمل إلّا معنىً واحداً.

الظاهر : ما يحتمل معنيين : أحدهما راجح ملتفت إليه ، والثاني مرجوح لا يلتفت إليه العرف.

وإن شئت قلت : إنّ النصّ ما لا يمكن صرفه إلّا إلى معنى واحد ولو صرفه إلى معنى آخر لعُدّ المتكلّم متناقضاً ، وهذا بخلاف الظاهر ، فإنّ صرفه إلى غير المعنى الظاهر أمر مرجوح ولكن لا يُعدّ تناقضاً ، فالأوّل كقوله سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فإنّ لفظة «أحد» نصّ في التوحيد والقول بالتثليث يناقضه ، أو قوله سبحانه : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(١) فإنّ الألف وكذا لفظ الخمسين وهكذا سائر ألفاظ الآية لا تحتمل إلّا معنى واحداً.

وأمّا الثاني فكقوله : أكرم العلماء فإنّه ظاهر في عامة العلماء ، ولكن لو قال : بأنّ مقصودي منهم هو قسم العدول ، فهذا يُعدّ خلافاً للظاهر ولا يعدّ الرجل مناقضاً إذا كان بصدد التشريع والتقنين ، فإنّ المخصص في البيئات التقنينية يأتي متأخراً غالباً لا مقارناً.

ولذلك لا يقبل من الإنسان ـ الذي ليس له شأن التقنين ـ إلقاء العام وإرادة الخاص إذا لم يذكر المخصّص في جنب العام.

__________________

(١). العنكبوت : ١٤.

١٥٨

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ دلالة الظواهر على معانيها التي وضعت لها دلالة قطعيّة وليست بظنية ومن يصف دلالة الظواهر بالظنيّة يطلب منها ما لا يتوفر فيها ، وسيتّضح ذلك بعد بيان مقدّمة.

تقسم الإرادة إلى استعمالية أو جدّية

لا شكّ أنّ للمتكلّم الذي هو بصدد الإفادة والاستفادة ، إرادتين :

١. إرادة استعمالية.

٢. إرادة جدّية.

والمراد من الإرادة الاستعمالية هو استعمال اللفظ في معناه ، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب ، سواء كان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك ، سواء كان المعنى حقيقياً أو مجازياً.

والمراد من الإرادة الجدية هو أن يكون ما استعمل فيه اللفظ مراداً له جدّاً وما هذا إلّا لأنّه ربما يفارق المرادان : الاستعمالي ، الجدّي ، كما في الهازل والمورّي والمقنن الذي يُعلّق الحكم على العام والمطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص والمقيد ، ففي هذه الموارد تغاير الإرادة الجدية الإرادة الاستعمالية ، إمّا تغايراً تاماً كما في الهازل والمورّي واللاغي ، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص ، أو المطلق الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.

إذا عرفت ذلك فنحن على القول بأنّ دلالة الظواهر على معانيها دلالة قطعية لا ظنيّة وذلك بوجوه من الأدلّة.

١٥٩

٣

دلالة الظواهر قطعية

لا شكّ أنّ المفاهمة بين الناس في أصعدة الحياة المختلفة على أساس القطع واليقين بمراد المتكلّم ، فعند ما يخاطب الزوجُ الزوجةَ والوالدُ الولدَ والمعلمُ المتعلمَ والسوقيُ البائع المشتريَ والموظف من راجعه ، فلا يتردد المخاطب في مقاصد المتكلّم ، وليس كلّ كلام يُلقى في هذه الأصعدة نصاً اصطلاحياً وإنّما الغالب هو ما يسمّيه الأُصوليون بالظواهر ، وإلّا فلو كانت دلالة الجمل في الحياة العامة للإنسان ظنية ، لانهارت الحياة وامتنع التفاهم. ونحن نقول بأنّ دلالة الظواهر في جميع الأصعدة على معانيها دلالة قطعية لا ظنيّة ويتّضح ذلك ببيان أُمور :

الأوّل : المفاهمة على أساس القطع بالمراد

إنّ الأساتذة في الجامعات ، والمدرسين في الثانويات ، يربون جيلاً كبيراً بالظواهر التي زعم الرازي وغيره أنّها ظنيّة الدلالة باحتمال تطرق أحد الأُمور التي ستوافيك مع أنّا نرى أنّ هذه الاحتمالات لا تنقدح في ذهن تلاميذهم ، بل يتلقّون كلامهم وجملهم قاطعة الدلالة واضحة المراد.

ومما يرشد إلى ذلك انّه سبحانه يصف الإنسان بقوله : (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ

١٦٠