رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

التوبة : ١٢٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله خالق النعم ، وبارئ النسم ، حمداً يليق بعزّ جلاله ، وعظمة كبريائه.

والصلاة والسلام ، على من أتمّ به النعمة ، وأكمل به الدين محمد أشرف الرسل ، والهادي إلى أفضل السبل.

وعلى آله المخصوصين بالولاية ، خير أئمّة وسادة.

أمّا بعد : فهذه رسائل في تحقيق قسم من المسائل الأُصولية ، الّتي لها دور مهم في استنباط المسائل الفقهية ، أفردتها بالبحث والدراسة إمّا استيفاء لحقّها ، حيث إنّ القوم لم يُعيروا لها أهمية لائقة بها (١) أو إيضاحاً لمقاصد القوم. (٢) أو نقداً لبعض الآراء (٣) ، أو ردّاً على ما ذهب إليه أكثر الأُصوليين. (٤)

ورائدي فيها ، هو قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(٥) ، فإن أصبت الحق فهو من الله سبحانه وإن أخطأت فهو من قصوري

__________________

(١). كالبحث عن حجّية العقل ومجالاتها ، أو دور العرف وسيرة العقلاء في استنباط الأحكام.

(٢). كالبحث عن الجمع بين الحكمين : الواقعي والظاهري.

(٣). نظرية مسلك حق الطاعة.

(٤). دلالة الظواهر على معانيها قطعية.

(٥). العنكبوت : ٦٩.

٥

أو تقصيري استلهاماً من قوله : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(١).

وخصّصنا الرسالة السادسة ، بعدم حجّية الظن أو الخبر الواحد في العقائد ، كما درسنا في الرسالة السابعة تاريخ علم الأُصول بشكل موجز ، وألمعنا إلى التطوير الّذي أحدثه فيه أصحابنا الإمامية في الأعصار الأخيرة.

كما طرحنا في الرسالة الثامنة الظنون غير المعتبرة عندنا كالقياس والاستحسان وغيرهما وهي مصادر التشريع عند أهل السنّة في ما لم يكن فيه دلالة قرآنية أو سنّة نبويّة أو إجماع الفقهاء.

ولئن ترتّب على جهدي هذا ثوابٌ فإنّي أُهديه إلى روح مَنْ بذر وجودي ، وربّاني في حِجْره ، وفتح عيوني على العلوم الدينية والمعارف الإلهية ، ذلك هو الشيخ الوالد آية الله الحاج محمد حسين السبحاني التبريزي (١٢٩٩ ـ ١٣٩٢ ه‍ ـ).

وقد حُك على صخرة قبره هذان البيتان :

إنّ الّذي صنع العلوم مخلدٌ

لا سيّما في العلم والعرفان

فإذا انقضت أيام مدّة عمره

فجميل صنع المرء عمر ثان

المؤلف

__________________

(١). سبأ : ٥٠.

٦

الرسالة الأُولى

دور العقل

في

استنباط الحكم الشرعي

٧
٨

دور العقل في استنباط

الحكم الشرعي

المشهور عند الأُصوليّين من أصحابنا انحصار الأدلّة في أربعة ، أعني : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ويعبّر عنها في كلماتهم بالأدلّة الأربعة الّتي ربما يقال : إنّها الموضوع لعلم الأُصول وأنّه يبحث فيه عن عوارضها.

ولأجل ذلك تَرى أنّهم عقدوا لكلّ واحد منها باباً أو فصلاً مستقلاً بحثوا فيه عن عوارضه وخصوصيّاته.

فهذا هو المحقّق القمي (١١٥١ ـ ١٢٣١ ه‍ ـ) ، الّذي نهج في تأليف كتابه «القوانين المحكمة» منهج «مقدّمة معالم الدين» للشيخ حسن بن زين الدين العاملي (٩٥٩ ـ ١٠١١ ه‍ ـ) ، قد عقد لكلّ من الأدلّة الأربعة باباً واستقصى الكلام عليها ، وإليك الإشارة إلى عناوينها :

قال : «الباب السادس في الأدلّة الشرعية ، وفيه مقاصد :

المقصد الأوّل : في الإجماع ... (١) المقصد الثاني : في الكتاب ... (٢) ، المقصد

__________________

(١). القوانين المحكمة : ١ / ٣٦٤ ، ٣٩٢.

(٢). القوانين المحكمة : ١ / ٣٩٣ ـ ٤٠٨.

٩

الثالث : في السنّة ، وهو قول المعصوم أو فعله (١) ، المقصد الرابع : في الأدلّة العقلية ، والمراد من الدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصل به إلى الحكم الشرعي ، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى الحكم الشرعي».

وقد طرح فيه قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ، وإن خلط بين الحكم العقلي القطعي كالقاعدة ، والحكم العقلي الظنّي كالاستصحاب على طريقة القدماء.

وهذا هو المحقّق محمد حسين المعروف بصاحب الفصول (المتوفّى ١٢٥٥ ه‍ ـ) قد مشى في كتابه في ضوء «القوانين المحكمة» ، فخصّ كلاً من الأدلّة الأربعة بالبحث وأفرد لكلّ باباً ، وإليك عناوينها :

«المقالة الثانية في الأدلّة السمعية :

القول في الكتاب. (٢) القول في الإجماع. (٣) الكلام في الخبر (السنّة). (٤) المقالة الثالثة في الأدلّة العقلية». (٥)

وقد خلط في المقالة الثالثة كصاحب القوانين الدليل العقلي القطعي بالعقلي الظني ، وجعل الجميع في مصاف واحد ، ولكنّه أشبع الكلام في القسم القطعي.

كما أنّ الشيخ الأنصاري (١٢١٤ ـ ١٢٨١ ه‍ ـ) خصّ الأدلّة العقلية في «مطارح الأنظار» بالبحث وأفردها عن غيرها ، وأفاض في الكلام في التحسين

__________________

(١). القوانين المحكمة : ١ / ٤٠٩ ـ ٤٩٦.

(٢). الفصول : ٢٤٠ ـ ٢٤٢.

(٣). الفصول : ٢٤٢ ـ ٢٦٤.

(٤). الفصول : ٢٦٤ ـ ٣١٦.

(٥). الفصول : ٣١٧ ـ ٣٨٤.

١٠

والتقبيح العقلي وغيرهما. (١)

هذا هو ديدن الأُصوليّين المتأخّرين وقريب منه ديدن القدماء.

مثلاً عقد الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍ ـ) باباً للأخبار. (٢) كما عقد باباً خاصاً للإجماع. (٣) وأفرد فصلاً لما يعلم بالعقل والسمع. (٤)

ولمّا وصلت النوبة للمحقّق الخراساني (١٢٥٥ ـ ١٣٢٩ ه‍ ـ) ، حاول تلخيص علم الأُصول ، فغيّر إطار البحث ، فلم يعقد لكلّ دليل من الأدلّة الأربعة باباً خاصاً واضحاً ، فقد أدخل البحث عن حجّية الكتاب ، في فصل حجّية الظواهر كتاباً كانت أو سنّة ، كما أدرج البحث عن الإجماع في البحث عن حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، وأدغم البحث عن السنّة في حجّية الخبر الواحد ، وترك البحث عن حجّية العقل بتاتاً ، بل ركّز على نقد مقال الأخباريّين في عدم حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي ، دون أن يبحث في حجّية العقل في مجال الاستنباط وتحديد مجاريه ، وتمييز الصحيح عن الزائف ، وصار هذا سبباً لاختفاء الموضوع على كثير من الدارسين.

وقد كان التركيز على الأدلّة الأربعة بما هي هي أمراً رائجاً بين الأُصوليّين ، سواء أصحّ كونها موضوع علم الأُصول أم لا.

وهذا هو فقيه القرن السادس محمد بن إدريس الحلّي (٥٤٣ ـ ٥٩٨ ه‍ ـ) يذكر الأدلّة الأربعة في ديباجة كتابه ويحدّد موضع كلّ فيها ، ويقول : فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا كتاب الله سبحانه ، أو سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتواترة المتفق عليها ،

__________________

(١). لاحظ مطارح الأنظار : ٢٣٣ ـ ٢٣٩.

(٢). عدة الأُصول : ١ / ٦٣ ـ ١٥٥.

(٣). عدة الأُصول : ٢ / ٦٠١ ـ ٦٣٩.

(٤). عدة الأُصول : ٢ / ٧٥٩ ـ ٧٦٢.

١١

أو الإجماع ، أو دليل العقل ؛ فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسّك بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها ، فمن تنكّب عنها عسف وخبط خبط عشواء وفارق قوله من المذهب. (١)

إذا عرفت ذلك فلنقدم أمام البحث عن حجّية العقل أُموراً تسلط الضوء على الموضوع.

__________________

(١). السرائر : ١ / ٤٦.

١٢

١

العقل كاشف وليس بمشرّع

إنّ الشيعة الإمامية أدخلت العقل في دائرة كشف الحكم ، حيث يُستكشف به الحكم الشرعي في مجالات خاصة كما يُستكشف بسائر الأدلّة من الكتاب والسنّة والإجماع.

وليس معنى ذلك إطلاق سراحه في جميع المجالات بحيث يُستغنى به عن الشرع ، بل للعقل مجالات خاصة لا يصلح له الكشف إلّا فيها ، وسيوافيك بيان تلك المجالات.

ويراد من حجّيّة العقل كونه كاشفاً لا مشرّعاً ، فإنّ العقل حسب المعايير الّتي يقف عليها ، يقطع بأنّ الحكم عند الله سبحانه هو ما أدركه ، وأين هذا من التشريع أو من التحكُّم والتحتم على الله سبحانه ، كما ربّما نسمعه من بعض الأشاعرة ، حيث يزعمون أنّ القائلين بحجّية العقل في مجالات خاصة يُحكِّمون العقل على الله ، ولكنّهم غفلوا عن الفرق بين الكشف والحكم ، فإنّ موقف العقل في هذه المسائل هو نفس موقفه في الإدراكات الكونية ، فإذا حكم بأنّ زوايا المثلث تساوي مائة وثمانين درجة ، فمعناه : أنّه يكشف عن واقع محقّق ومحتّم قبل حكم

١٣

العقل ، فهكذا المورد فلو حكم بأنّ العقاب بلا بيان قبيح ، فليس معناه : أنّه يحكم على الله سبحانه بأن لا يُعذّب الجاهلَ غير المقصّر ، بل المراد : أنّ العقل من خلال التدبّر في صفاته سبحانه ـ أعني : العدل والحكمة ـ يستكشف أنّ لازم ذينك الوصفين الثابتين لله سبحانه ، هو عدم عقاب الجاهل.

وكنّا نسمع من روّاد منهج التفكيك بين العقل والشرع أنّ روّاد الفلسفة يحتّمون على الله أن يحكم بالوجوب واللزوم و... وأنّ عمل الفيلسوف هو الحكم على الله ، غافلين عن أنّ عمله هو الاستكشاف ، فلو قال : «واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات» إنّما يخبر عن تلك الحقيقة بالبرهان الّذي أرشده إليها ، فيستنتج من ذلك أنّه سبحانه واجب في علمه وقدرته كما أنّه واجب في فعله وخلقه.

وليس الإشكال أمراً جديداً فقد سبقهم الرازي وقال : لا يجب على الله تعالى شيء عندنا ـ خلافاً للمعتزلة ـ فانّهم يوجبون اللطف والعوض والثواب. والبغداديّون خاصّة يوجبون العقاب ، ويوجبون الأصلح في الدنيا.

بين الإيجاب المولوي والإيجاب الاستكشافي

لا شكّ أنّه ليس لأحد أن يكلّف الله سبحانه بشيء ويحكم عليه باللزوم والوجوب ، لأنّه سبحانه فوق كلّ مكلّف ، ولا فوقه أحد ، ومع ذلك كلّه فربما يأتي في كلام المتكلّمين بأنّه يجب على الله سبحانه أن لا يعذّب البريء. غير أنّ أهل الحديث واتباع السلفية لم يفرّقوا بين الإيجاب المولوي والإيجاب الاستكشافي ، فالذي هو باطل لا يتفوّه به أيّ إنسان موحّد ، هو الإيجاب المولوي ، فإنّه سبحانه مولى الجميع والناس عباد له ، وأمّا الإيجاب الاستكشافي بمعنى أنّ العقل

١٤

يستكشف من خلال صفاته سبحانه ككونه حكيماً عادلاً قادراً ، أنّه سبحانه لا يعذّب البريء ، فالقول بأنّه يجب على الله سبحانه بمعنى الملازمة بين حكمته وعدله وعدم تعذيب البريء ، وليس استكشاف العقل في المقام بأقلّ من استكشاف الأحكام الكونية حيث يحكم بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين ، فزوايا المثلث في الخارج موصوفة بهذا المقدار والكميّة ، ولكن العقل يستكشف ذلك.

وبذلك يظهر أنّ ما أطنب به أتباع السلفية حول الأحكام العقلية إطناب بلا طائل ، وتفسير بما لا يرضى به صاحبه ، فقالوا :

أوجب العدلية على الله تعالى أشياء بمحض عقولهم ، وإن لم ترد بها الشريعة.

بل أوجبوا على الله أشياء مخالفة للصحيح الصريح من نصوص الكتاب والسنّة ، ولا شكّ أنّ هذا الإيجاب العقلي من المعتزلي على الله باطل ، لأنّه يلزم عليه أن يكون هناك موجب فوق الله أوجب عليه شيئاً ، ولا موجب عليه سبحانه وتعالى ، كما يلزم عليه أن لا يكون تعالى فاعلاً مختاراً ، وهو باطل. (١)

وقد أجاب عنه المحقّق نصير الدين الطوسي وقال : ليس هذا الوجوب بمعنى الحكم الشرعي كما هو المصطلح عند الفقهاء ، بل هذا الوجوب بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ تاركه الذمّ ، كما أنّ القبيح بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الذمّ. والكلام فيه هو الكلام في الحسن والقبح بعينه ويقولون إنّ القادر العالم الغني لا يترك الواجب ضرورة. (٢)

__________________

(١). مدارج السالكين : ١ / ٦٦.

(٢). نقد المحصل : ٣٤٢.

١٥

والعجب أنّ بعض أتباع السلفيّة يحكم على الله سبحانه بنفس ما يحكم به العدليّة وكأنّه غفل عمّا عليه سلفه.

قال : والحقّ أنّ الظلم ممكن مقدور عليه والله تعالى منزّه عنه ، لا يفعله لعلمه وعدله ، لا لكونه مستحيلاً عليه كما تقوله الأشاعرة ، ولا لمجرّد القبح العقلي كما تقوله المعتزلة ، فهو لا يحمل على أحد ذنب غيره ، كما قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١) ، وقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً). (٢)

فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزّه عنه الله تعالى. (٣)

__________________

(١). الإسراء : ١٥.

(٢). طه : ١١٢.

(٣). منهاج السنّة : ٢ / ٣٠٩.

١٦

٢

تضافر الروايات على حجّيّة العقل

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام على حجّيّة العقل ، نأتي بنصّين ونحيل الباقي إلى مصادرها. (١)

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «حجة الله على العباد النبي ، والحجّة في ما بين العباد وبين الله العقل». (٢)

وقال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام مخاطباً هشام بن الحكم : «يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول» (٣). وتخصيص ما دلّ على حجّية العقل بالمعارف والعقائد ، تخصيص بلا وجه.

وأمّا الآيات الدالّة على حجّية العقل في مجالات خاصّة فسيوافيك نقل قسم منها عند البحث عن التحسين والتقبيح العقليّين.

__________________

(١). الكافي : ١ / ١٠ ـ ٢٩ ، كتاب العقل والجهل.

(٢). الكافي : ١ / ٢٥ ، الحديث ٢٢.

(٣). الكافي : ١ / ١٦ ، الحديث ١٢.

١٧

٣

الإدراك النظري والإدراك العملي

قسّم الحكماء الإدراك العقلي إلى : إدراك نظري ، وإدراك عملي.

فالأوّل : إدراك ما ينبغي أن يُعلم ، كإدراك وجود الصانع وصفاته وأفعاله.

والثاني : إدراك ما ينبغي أن يُعمل ، كإدراكه حسن العدل وقبح الظلم ، وحسن رد الوديعة وقبح الخيانة فيها ، وحسن العمل بالميثاق وقبح نقضه ، إلى غير ذلك من العلوم الإدراكية الّتي يستعملها العقل في حياته ومعاشه.

فبذلك يعلم أنّ المقسّم إلى قسمين (النظري والعملي) هو إدراك العقل لا نفس العقل ، فليس لنا عقلان أحدهما نظري والآخر عملي ، بل عقل واحد تارة يدرك ما من شأنه أن يُعلم ، وأُخرى ما من شأنه أن يعمل.

فالفيلسوف والمتكلّم يعتمدان على العقل النظري في المسائل النظرية الّتي يعبّر عنها بالإلهيّات ، فبالعقل يَعرفُ العبدُ إلهه وصفاته وأفعاله ، كما أنّ الفقيه والأخلاقي يعتمدان على العقل العمليّ في موارد من الفقه والأخلاق.

ومن العجائب أنّ طائفة من المسلمين ألغوا دور العقل في العقائد والأحكام واعتمدوا في كلا الموردين على النقل ، مع أنّه ما لم تثبت حجّية النقل عن

١٨

طريق العقل كيف يمكن الاعتماد على النقل؟!

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أعطوا للعقل أهمية كبيرة ، فهذا هو الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام يقول : «إنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه ـ إلى أن قال : ـ وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا في مَن أُحب ، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب». (١)

إذا علمت هذه الأُمور الثلاثة فلندخل في صلب الموضوع وهو تحديد مساحة حجّية العقل والبرهنة على حجّيته فيها.

أقول : إنّ للعقل مجالات خاصة هو فيها حجّة بلا كلام ، منها :

__________________

(١). الكافي : ١ / ١٠ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١.

١٩

١

مجال التحسين والتقبيح

إذا استقلّ العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء (عن أمر الشارع ونهيه وحتّى الآثار الّتي تترتب على الشيء ، كقوام النظام الإنساني بالعدل وانهياره بممارسة الظلم) إلّا النظر إلى نفس الفعل ، فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع؟ نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف منه أنّ حكم الشرع كذلك؟ والجواب : نعم ، وذلك لأنّ الحكم المزبور من الأحكام البديهيّة للعقل العملي.

فإذا عرض الإنسان العدلَ والظلم على وجدانه وعقله ، يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل وتنفرّاً من الظلم ، وهكذا كلّ فعل يصدق عليه أحد العنوانين ، وهذا من الأحكام العقلية النابعة من صميم العقل وليس متأثراً بالجوانب اللاشعورية أو الغرائز الحيوانية أو العواطف الإنسانية ، أو الآثار البنّاءة أو الهدامة لهما ، يقول العلّامة الحلّي :

«إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى

٢٠