رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

٤

الجمع بين الحكم

الواقعي والظاهري

إنّ العنوان الواقعي لهذه المسألة عند القدماء هو : جواز التعبّد خبر الواحد عقلاً ، ولكنه تغيّر عنوانها في الأعصار المتأخرة من عصر المحقّق البهبهاني (١١١٨ ـ ١٢٠٦ ه‍ ـ) إلى الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري وبقي إلى يومنا هذا. وإليك بعض كلمات القدماء.

قال المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍ ـ) : إنّ شبهة من أحال التعبّد بالعمل بالخبر الواحد في تخصيص أو غيره ، التي عليها المدار ومنها تتفرع جميع الشبه أنّ العموم طريقة العلم فلا يجوز أن يُخصّ بما طريق إثباته غالب العلم. ثمّ قام بقلع الشبهة. (١)

وقال الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍ ـ) في فصل خاص بذكر الخبر الواحد : اختلف الناس في خبر الواحد ـ إلى أن قال : ـ فقال قوم لا يجوز العمل به عقلاً. (٢)

__________________

(١). الذريعة : ١ / ٢٨١.

(٢). العدّة : ١ / ٩٨.

١٢١

وقال المحقّق (٦٠٢ ـ ٦٧٦ ه‍ ـ) في المعارج : يجوز التعبّد بخبر الواحد عقلاً خلافاً لابن قبة (قبل ٣١٧ ه‍ ـ). (١)

وقال الحسن ابن الشهيد الثاني زين الدين العاملي (٩٦٥ ـ ١٠١١ ه‍ ـ) في المعالم : وما عُري من الخبر الواحد عن القرائن المفيدة للعلم يجوز التعبّد به عقلاً ولا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفاً سوى ما حكاه المحقّق عن ابن قبة ، ويعزى إلى جماعة من أهل الخلاف. (٢)

وفي الجملة عنوان المسألة هو جواز التعبّد وإمكانه وعدمه. كما أنّ عنوان المسألة يختلف عن عنوان المتأخرين لأجل اختلاف أدلّتهم على امتناع التعبّد.

ذكر المحقّق في المعارج استدلال القائلين بمنع التعبّد ، قال : احتج الخصم بوجهين :

أحدهما : أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم فيجب أن لا يعمل به ، و [المقدمة] الأُولى ظاهرة ، ولأنّا لا نتكلم إلّا في ما هذا شأنه من الأخبار ؛ وأمّا الثانية فلأنّه عمل بما لا يؤمن كونه مفسدة.

ثانيهما : ثبت أنّه لا يقبل خبر النبي إلّا بعد قيام المعجزة على صدقه ففي من عداه أولى. (٣)

وأين هذا الاستدلال مما في كلام المتأخرين من اجتماع المثلين أو الضدّين أو الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة ، إلى غير ذلك ممّا سيمر عليك.

هذا هو العنوان عند القدماء ، وأمّا عنوان المتأخّرين فهو الجمع بين الحكم

__________________

(١). المعارج : ٨٠.

(٢). المعالم : ٣٤٠.

(٣). المعارج : ٨١.

١٢٢

الواقعي والظاهري ، سواء أكان الحكم الظاهري موافقاً للواقع أم مخالفاً ، لأنّ الحكم الظاهري إن كان مماثلاً للحكم الواقعي يلزم اجتماع المثلين وإن كان مخالفاً له يلزم اجتماع الضدّين.

وأيضاً ففي الصورة الأُولى يلزم اجتماع الإرادتين في موضوع واحد وفي الصورة الثانية يلزم اجتماع مصلحة ومفسدة أو إرادة وكراهة في موضوع واحد.

هذا مع فرض حفظ الحكمين والملاكين دون أن يكون هناك كسر وانكسار وإلّا فلو غلب ملاك الحكم الظاهري ، الملاك الواقعي ولم يكن في الساحة إلّا الحكم الظاهري يلزم التصويب واختصاص الحكم الواقعي بالعالمين وخروج الجاهلين من تحته ، وهو تصويب باطل ، لاتّفاق الإمامية على أنّ أحكامه سبحانه مشتركة بين العالم والجاهل.

وهذا ما دعا المحقّقين إلى الغور في هذا المقام حتّى يرفعوا بذلك مشكلة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وإذا أردت تصوير المحاذير بصورة واضحة فنقول : إنّ المحذور إمّا ملاكيّ وإمّا خطابيّ وإمّا مبادئيّ.

المحذور الملاكي

المراد بالمحذور الملاكي هو التزاحم في ملاكات الحكم كالمصلحة والمفسدة ، حيث اتّفقت الإمامية على أنّ أحكام الله سبحانه تابعة للمصالح والمفاسد ، فإذا كان الحكم الواقعي هو الحرمة وملاكها المفسدة وكان الحكم الظاهري هو الوجوب وملاكه هو المصلحة يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة ، وهذا ما يعبر عنه بالمحذور الملاكي. ولا يختص المحذور الملاكي بهذه الصورة ، وربّما

١٢٣

يتجلّى بصورة أُخرى وهو تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ، كما إذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب والظاهري هو الإباحة ، فالعمل بالثاني يفوّت مصلحة الحكم الواقعي ؛ كما أنّه إذا كان الحكم الواقعي هو الحرمة والظاهري هو الوجوب ، فهو يوقع المكلّف في المفسدة.

هذا هو المحذور الملاكي سواء أتجلّى بصورة اجتماع المصلحة أو المفسدة أو تفويتها أم بصورة الإلقاء بالمفسدة.

المحذور الخطابي

المحذور الخطابي عبارة عن اجتماع المثلين أو الضدين ، فعند الموافقة يلزم الأوّل أي تشريع حكمين متماثلين لموضوع واحد ، وعند المخالفة يلزم الثاني ، أي تشريع حكمين ضدّين لموضوع واحد.

المحذور المبادئي

المحذور المبادئي عبارة عن تواجد الإشكال في مبادئ الأحكام ـ أعني : الإرادة والكراهة ـ فانّ البعث والزجر ينشآن منهما ، فلو وافق الظاهريُّ الحكمَ الواقعي يلزم اجتماع الإرادتين في شيء واحد ، وإن تخالفا يلزم اجتماع الإرادة والكراهة.

هذا كلّه إذا لم يكن هناك كسر وانكسار بين الملاكين ، وإلّا فلو غلب ملاك الظاهري على ملاك الحكم الواقعي يلزم اختصاص الأحكام الواقعية بمَن لم تقم الأمارة عنده على خلاف الواقع ، وهذا هو التصويب وتخصيص الأحكام بالعاملين وإخراج الجاهل عنها.

فعلى من يريد الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري والالتزام بحكمين

١٢٤

أحدهما ظاهري والآخر واقعي السعي في حلّ المشاكل المتجلّية في ملاكات الأحكام تارة ، وفي نفس الأحكام وخطاباته أُخرى ، وفي مبادئ الأحكام من الإرادة والكراهة والحب والبغض ثالثاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أتى في «الكفاية» بأجوبة خمسة وكأنّه اختار الثلاثة الأُول ورفض الجواب الرابع والخامس.

ونحن نذكر تلك الأجوبة مقرونة بالتحليل والتوضيح :

١٢٥

١

المجعول في الأحكام الظاهرية هو الحجيّة

اختلفت كلمتهم فيما هو المجعول في باب الأمارات والأُصول إلى أقوال ، منها انّ المجعول في الجميع هو الحجّية المنجلية في التنجز عند الإصابة والتعذير عند المخالفة ، وعلى ذلك ليس هنا حكم ظاهري وراء الحكم الواقعي ، بل ليس للشارع إلّا حكم واحد باسم الحكم الواقعي ، وأمّا الحكم الظاهري فليس له حقيقة سوى أنّ الشارع جعل الأمارة حجة فقط ، لتكون منجّزة إذا أصابت ومعذرة إذا أخطأت ، وليس جعل الحجيّة أمارة كخبر الواحد ملازماً لجعل المؤدى والمحتوى.

هذا خلاصة الجواب : وإليك نص المحقّق الخراساني في هذا الصدد ، قال : إنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعله حجة ، والحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية حسب ما أدّى إليه الطريق ، بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب وصحة الاعتذار إليه إذا أخطأ وتكون مخالفته وموافقته تجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته كما هو شأن الحجّة غير المجعولة (العلم والقطع) فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين ، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة

١٢٦

والمصلحة والكراهة والإرادة. (١)

وهو قدس‌سره بإنكاره الحكم الظاهري بتاتاً وأنّه ليس هناك حكم وراء الواقع أجاب عن جميع الإشكالات ، إذ ليس هناك وراء الحكم الواقعي حكم حتّى يلزم الاجتماع ـ أي اجتماع حكمين ضدين أو مثلين ـ ولا الإرادة ولا الكراهة ولا المصلحة ولا المفسدة ، لأنّ الاجتماع في أي مرتبة من المراتب من شئون وجود حكمين ، فإذا لم يكن هناك حكم ثان لم يكن هناك ما يُعدّ من شئون الحكم الثاني ، أي الاجتماع في المظاهر الثلاثة.

نعم ما ذكره من الجواب لا يدفع محذور تفويت المصلحة ، أو الإلقاء في المفسدة ، فإنّ الأمر بالعمل بالأمارة بنفسه مفوّت لمصلحة الواقع أو موقع في المفسدة الواقعية وإن لم يتضمّن حكماً شرعياً ، وقد أجاب عنه قدس‌سره بأنّه مدفوع بوجود مصلحة غالبة على مصلحة التفويت أو الإلقاء.

ولعلّ مراده من تلك المصلحة هو المصلحة السلوكية في منهج الشيخ الأنصاري ، والمراد بها تسهيل الأمر على المسلمين ، حيث إنّ الأمر بتحصيل الواقع يورث العسر والحرج في أكثر الأزمنة بخلاف العمل بالأمارة فإنّ فيه تسهيلاً للأمر ولو خالف الواقع بنسبة قليلة لكنّه يوافقه بنسبة كثيرة ، وهذا المقدار من الخير الكثير يُجبر الشر القليل.

تحليل الجواب

وهذا الجواب غير خال من الإشكال حيث إنّ القول بأنّ المجعول في باب

__________________

(١). الكفاية : ٢ / ٤٨ ـ ٤٩.

١٢٧

الأمارات هو الحجّية خلاف التحقيق ، فإنّه ليس للشارع أيّ جعل في باب الأمارات ، بل وأقصى ما قام به ، انّه أمضى ما عليه العقلاء من العمل بقول الثقة ، بالسكوت أو بإخراج الفاسق وإبقاء العادل بالروايات الإرجاعية وغيرها ، فما ورد في الروايات إمّا إرشاد إلى الصغرى أو إمضاء لما في يد العقلاء حتّى أنّ ما ورد في التوقيع عن الناحية المقدسة ، أعني قوله : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» ليس بصدد إنشاء الحجّية ، بل إخبار عن كونهم حجج الله كما يخبر عن نفسه بأنّه حجّة من الله ، إذ لا معنى لإنشاء الحجّية على نفسه.

١٢٨

٢

أحد الحكمين حقيقي والآخر طريقي

هذا الجواب مبني على أنّ جعل الحجّية لا يفارق جعل المؤدى ـ أي جعل الحكم الظاهري ـ فلا يمكن لنا الالتزام بجعل الحجّية من دون الالتزام بلازمه ، أي جعل الحكم الشرعي على وفق الأمارة ، بل يمكن أن يقال أنّه لا معنى لجعل الحجّية سوى جعل تلك الأحكام.

وعلى ضوء هذا أجاب عن المحاذير بأنّ أحد الحكمين حقيقي والآخر طريقي ، والمراد من الحكم الحقيقي ما صدر عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه موجبة لإرادته وكراهته ، مستلزمة لإنشائه زجراً أو بعثاً ، كما أنّ المراد من الحكم الطريقي هو الحكم المنشأ عن مصلحة في نفس الحكم لا في المتعلّق ، موجبة لإنشائه الذي هو سبب التنجز إن صادف الواقع والاعتذار إن خالف الواقع ، وعندئذ ترتفع المحاذير.

أمّا المحذور الملاكي فلاختلاف متعلّق المصلحة والمفسدة ، فحامل الملاك في الحكم الواقعي هو المتعلّق والآخر هو نفس الحكم.

أمّا الخطابي فهو مندفع باختلاف الحكمين جوهراً وذاتاً ، لأنّ أحدهما طريقي والآخر حقيقي ، فلا يلزم من اجتماعهما (اجتماع المثلين) المحال ، أو

١٢٩

اجتماع الضدّين.

وأمّا المحذور المبادئي أعني : الإرادة والكراهة فقد تعلّقا في الحكم الواقعي بالمتعلق ، وأمّا في الحكم الظاهري فليس هناك إرادة وكراهة بالنسبة إلى المتعلّق ، نعم تعلّقت الإرادة في الثاني بنفس الإنشاء ، ولا مانع من اجتماع الإرادتين إذا اختلفا في المتعلّق حيث إنّها في الواقعي تعلّقت بالمتعلّق وفي الظاهري بالإنشاء.

تحليل الجواب

يلاحظ على هذا الجواب : أنّ القول بوجود حكمين أحدهما نفسي والآخر طريقي قول بلا دليل ، فإنّ المجعول هو الحكم الواقعي النفسي ولا دليل على جعل حكم طريقي في مقابل الواقع ، بل أقصى ما هناك هو الأمر بالعمل بالطرق ليتوصل بها المكلّف إلى الواقع ، فإن أوصلته إليه فليس هنا إلّا مؤدى الأمارة الذي هو حكم واقعي وإلّا فتكون أُكذوبة نسبت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام.

وبالجملة : حكم نقلة الأحاديث والروايات عن الله سبحانه بواسطة أنبيائه وأئمته ، حكم الناطق في الأجهزة الإعلامية من جانب الدولة ، فلو أصاب خبره الواقع يكون المؤدّى نفس الواقع ، وإن أخطأ يكون كلاماً مكذوباً على لسانها.

أضف إلى ذلك أنّ القول بتعلّق الإرادة في الحكم الحقيقي بالمتعلّق وفي الحكم الطريقي بنفس الإنشاء خلطٌ بين الإرادة والكراهة والحب والبغض ، فإنّ الأخيرين يتعلّقان في الحكم الواقعي بالمتعلّق ولا أثر منهما في الحكم الظاهري ، وأمّا الإرادة التي تعدّ من مبادئ الحكم فالواقعي والطريقي في ذلك المضمار سيّان في تعلّقها بالطلب الإنشائي مطلقاً كان واقعياً أو ظاهرياً.

١٣٠

٣

تقسيم الفعلي إلى منجّز وغير منجّز

كان الجواب الثاني مبنيّاً على أنّ الحكم الظاهري ليس حكماً حقيقياً ، بل حكم طريقي للتنجيز والتعذير ، ولكنّه ربّما لا يتماشى هذا الجواب مع الأُصول العملية غير المحرزة ، كقوله : كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام ، فإنّ ظاهره جعل الحكم الحقيقي في صورة الشك في الحلية والحرمة ، وعند ذلك يعود المحذور عند ما كان الحكم الواقعي هو الحرمة والظاهري هو الحليّة ، حيث إنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع واقعاً وفعلاً ، وذلك لأنّ الإباحة على قسمين :

الأوّل : أن تكون ناشئة عن عدم مصلحة أو مفسدة ملزمتين أو غير ملزمتين.

الثاني : أن تكون ناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة.

ومن المعلوم أنّ الإباحة بالمعنى الثاني لا تجتمع مع النهي ، وعند ذلك التجأ المحقّق الخراساني إلى جواب ثالث وهو :

أنّ الأحكام الواقعية كلّها فعلية لكنّها على قسمين :

أ. فعلي منجّز ، وهو إذا علم به المكلّف أو أصابته الأمارة.

ب. فعلي غير منجّز ، وهو ما إذا خالفته الأمارة.

١٣١

ففي مجرى الأُصول غير المحرزة نلتزم بأنّ الواقع فعلي غير منجز ، والحكم المنجّز عبارة عن محتوى الأُصول غير المحرزة.

وبعبارة أُخرى : الأحكام الواقعية فعلية إذا لم يكن هناك إذن في الترك لأجل المصلحة.

١٣٢

٤

الحكم الواقعي إنشائي

قد نسب المحقّق الخراساني هذا الجواب إلى الشيخ الأنصاري ، وحاصله : أنّ الأحكام الواقعية أحكام إنشائية ، والأحكام الظاهرية أحكام فعلية ، وبعبارة أُخرى : الحكم الواقعي في مورد الأُصول والأمارات عند ما كانت مخالفة له ، ليس بفعلي.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :

الإشكال الأوّل : لو كانت الأحكام الواقعية أحكاماً إنشائية يلزم عدم وجوب امتثالها

لو قامت الأمارة عليها ، وذلك لأنّ جوهر الحكم الواقعي لما كان إنشائياً فقيام الأمارة لا يغيّر الواقع ولا يخرجه عن الإنشائية ، لأنّها قامت على حكم إنشائي غير واجب الامتثال.

ثمّ أورد على نفسه وقال : لا مجال لهذا الإشكال لأنّ الحكم الواقعي قبل قيام الأمارة عليه إنشائي وبقيامها عليه يصير فعلياً بالغاً تلك المرتبة.

ثمّ أجاب عنه بما هذا توضيحه :

إنّ الأمارة إنّما تخرج الحكم الإنشائي إلى مرتبة الفعلية إذا أدّت إلى الحكم

١٣٣

الواقعي وقامت على الحكم الإنشائي الواقعي ففي هذه المرحلة ينقلب الحكم الواقعي الإنشائي إلى الفعلية.

وأمّا المقام فقد قامت على الحكم الإنشائي التعبدي ، لأنّ المفروض انّه لم يُحرز الحكم الواقعي الإنشائي بعدُ لعدم العلم بصدق الأمارة حتّى يصدق عليها أنّها قامت على حكم واقعي إنشائي.

وبعبارة أُخرى : الموضوع لوجوب الامتثال هو الحكم الإنشائي الواقعي الذي قامت عليه الأمارة ، وهذا فرع العلم بوجود الحكم الواقعي في مورد الأمارة ، والمفروض عدمه والذي قامت عليه الأمارة هو الحكم الإنشائي التعبديّ أو التنزيلي الذي قامت عليه الأمارة وهو غير الموضوع.

وإلى هذا الجواب أشار بقوله : «فانّه يقال لا يكاد يُحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبداً إلّا حكم إنشائي تعبداً لا حكم [واقعي] إنشائي أدّت إليه الأمارة. أمّا حقيقة فواضح ، وأمّا تعبّداً فلانّ قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤدّاه هو الواقع تعبّداً لا الواقع [الحقيقي] الذي أدّت إليه الأمارة.

ثمّ إنّه ضعّف الجواب عما أورده على نفسه واستسلم أمام الإشكال على مرامه ، وذلك بالبيان التالي :

نفترض أنّ الأثر الشرعي مترتب على الحكم الواقعي الإنشائي إذا أدّت إليه الأمارة ، فالموضوع مركّب من جزءين :

أ. الحكم الواقعي الإنشائي.

ب. الذي قامت عليه الأمارة.

١٣٤

فإذا قام الدليل على أنّ الأمارة حجّة ، فهذا التنزيل فعل الحكيم لا بدّ من وجود الأثر له ، ولا يترتّب عليه الأثر إلّا بتنزيل الجزء الأوّل وهو أنّ مؤدى الأمارة هو مؤدى الواقع ، فصار الجزء الأوّل أيضاً محرزاً ، فتنزيل الأمارة منزلة الحجة الشرعية يدلّ بدلالة الاقتضائية على أنّ مؤدى الأمارة نازل منزلة الواقع. وهذا هو المفهوم من عبارته في الكفاية في المقام حيث قال :

اللهم إلّا أن يقال أنّ الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الذي صار مؤدّى لها ، هو دليل الحجّية بدلالة الاقتضاء.

وبالجملة إفاضة الحجّية على الأمارة فعل الحكيم وهو بما هو هو لا يترتّب عليه الأثر إلّا أن يصان عن اللغويّة بدلالة الاقتضاء بتنزيل آخر وهو جعل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع ، فإذا قامت الأمارة على حكم فكأنّ الأمارة قامت على حكم واقعي إنشائي ، فيتبدّل إلى الفعلية لتمام الموضوع.

ولكن الظاهر من قوله : «لكنّه لا يكاد يتم إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً ، وإلّا لم يكن لتلك الدلالة مجال كما لا يخفى» ، انّ مراده أمر آخر وهو انّ جعل الحجّية على الأحكام الإنشائية لا بدّ أن يحمل على بيان كون الأحكام الإنشائية تكون فعلية إذا قامت الأمارة عليها وإلّا ـ إذ لم يلازم قيام الأمارة فعلية الأحكام الواقعية ـ يكون جعل الحجّية على الأمارة أمراً لغواً ، ويصون كلام الحكيم عن اللغو ، يستدلّ بإفاضة الحجية عليها ، على صيرورة الأحكام الإنشائية فعلية.

وعلى هذا التقرير يصحّ ما ذكره أخيراً ـ لا على التقرير المتقدّم ـ «من أنّه لا يكاد يتمّ إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً ، وإلّا لم يكن لتلك الدلالة مجال كما لا يخفى» ، فلا يستكشف من جعل الحجّية للأمارة ، صيرورة

١٣٥

الأحكام الإنشائية فعلية ، وذلك لترتّب الأثر وإن لم يصر فعلية ، كما في مورد النذر. كما إذا نذر لله أن يصلي ركعتين إذا قامت الأمارة على حكم إنشائي ، فيجب العمل بالنذر وإن لم يصر فعلياً.

إلى هنا تمّ الكلام حول الإشكال الأوّل الذي أورده المحقّق الخراساني على الشيخ الأنصاري ، وإليك الإشكال الثاني.

الإشكال الثاني : وجود أحكام واقعية فعلية

وحاصل الإشكال هو كيف يلتزم الشيخ بكون الأحكام الواقعية إنشائية مع أنّا نعلم وجود أحكام فعلية بعثية وزجرية في موارد الطرق والأُصول العملية المتكفلة لأحكام فعلية ، فإذا قامت الأمارة على حكم فعلي واحتملنا مخالفتها للواقع يلزم منه احتمال اجتماع حكمين فعليين متنافيين فكما أنّ القطع بالمتنافي محال فهكذا احتماله.

ثمّ خرج المحقّق الخراساني بالنتيجة التالية وقال : فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الفعلي الواقعي ـ الذي يكون مورد الطرق إنشائياً ـ غير فعلي.

أقول : ما نسبه المحقّق الخراساني إلى الشيخ لا يصدّقه كلامه في المقام فيكون ما ساقه من الإشكالات أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّ ظاهر كلامه في الفرائد أنّ الأحكام الواقعية فعلية ، فإذا قامت الأمارة على وفقها فالمؤدى هو نفس الحكم الواقعي ، وأمّا إذا خالفها فالمكلّف معذور في مخالفة الحكم الواقعي غير أنّ المصلحة الفائتة أو المفسدة الواقعة ، بالمصلحة السلوكية. وإليك بيان مرامه في ضمن أُمور :

١٣٦

١. الحكم الواقعي عند الشيخ هو الحكم المتعيّن المتعلق بالعباد الذين تحكي عنه الأمارة ويتعلق به العلم لا الظنّ وقد أُمر السفراء بتبليغه وإن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه إلّا أنّه يكفي في كونه الحكم الواقعي ، أنّه لا يُعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلاً مقصّراً والرخصة في تركه عقلاً كما في الجاهل القاصر أو شرعاً كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه. (١)

٢. إنّه قدَّس سرّه دفع محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة بالمصلحة السلوكية ، وحاصل ما أفاد : أنّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا لم تتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة ، بمصلحة في نفس التعبّد بالظن بمعنى انّه لا مانع أن يكون في سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها مصلحة يجبر بها الفائتة منها أو الواردة من المفسدة ، وذلك لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم مفسدة العسر والحرج وبالتالي خروجهم عن الدين بخلاف الأمر بالعمل بالأمارة والأُصول ففيها تسهيل للمكلّفين في سلوكهم الاجتماعي والفردي ، والمصلحة السلوكية لا تمسّ كرامة الواقع ولا تغيره غير انّه إذا صادفت الأمارة الواقع يكون نفس الواقع وإلّا يكون كاذباً ، ولكن نفس العمل بالأمارة لما كان ذا مصلحة سلوكية يتدارك به ما فات من المصالح أو ابتلى به من المفاسد. (٢)

والمتبادر من هذه العبارة أنّ العمل بالأمارة ذا مصلحة سلوكية وهو مصلحة اليسر في العمل بالدين ، لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم مفسدة العسر والحرج.

وأمّا في مورد الأمارات فليس هنا جعل للحكم الشرعي سواء أوافق الواقع

__________________

(١). الفرائد ، ٣٠ ، طبعة رحمة الله.

(٢). الفرائد : ٣٠.

١٣٧

أو خالف ، وانّما تتضمن الأمارة وجوب العمل عليها لا وجوب إيجاد عمل «على طبقها». (١)

٣. ثمّ إنّه قدَّس سرّه دفع بالأمرين السابقين كلّ المحاذير.

أمّا تفويت المصلحة والإلقاء بالمفسدة فيتدارك بالمصلحة السلوكية.

وأمّا اجتماع المصلحة والمفسدة فأحد الأمرين قائم بموضوع الحكم الواقعي والآخر بالعمل بالأمارة ونفس السلوك.

وأمّا محذور مبادئ الأحكام ، أعني : الإرادة والكراهة فمتعلّق بأحدها الحكم الواقعي والآخر العمل بالأمارة.

وأمّا محذور التضادّ الخطابي فهو مرفوع بإنكار الحكم الظاهري وأنّه ليس هنا حكم وراء الواقع. نعم أمر بالعمل بالأمارة لحيازة المصلحة السلوكية وبذلك تُعلم الأُمور التالية :

١. أنّ ما نسب المحقّق الخراساني إلى القائل بأنّ الأحكام الواقعية إنشائية ، ثمّ أورد عليه إشكالين بقوله تارة وأُخرى ثانياً أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، لمّا عرفت من أنّ الشيخ يعتقد بأنّ الأحكام الواقعية لها خصائص أربع :

أ. لا يُعذر إذا كان عالماً.

ب. لا يُعذر إذا كان جاهلاً مقصّراً.

ج. يُعذر إذا كان جاهلاً قاصراً.

د. إذا كان معذوراً شرعاً.

ومن له هذه الشئون الأربعة يكون (الحكم) فعلياً لا إنشائياً.

__________________

(١). الفرائد : ٢٧ ، طبعة رحمة الله.

١٣٨

٢. أنّ مرجع جواب الشيخ إلى الجواب الأوّل للمحقّق الخراساني من أنّ المجعول هو الحجّية لا الحكم الشرعي ، غاية الأمر أنّ المحقّق الخراساني عبّر عن نظريته بأنّ المجعول هو الحجّية والشيخ الأنصاري عبّر عنها بأنّ المجعول وجوب العمل على الأمارة لا جعل مؤدّاها حكماً شرعياً.

٣. إنّ الشيخ الأنصاري دفع عامّة المحاذير من غير فرق بين المحذور الملاكي (المفسدة والمصلحة) والمحذور المبادئي (الإرادة والكراهة) والمحذور الخطابي (كاجتماع الضدين أو المثلين).

هذا ما فهمناه من التدبر في كلام الشيخ ولكلّ فهمه ودليله.

١٣٩

٥

الحكمان ليسا في رتبة واحدة

قد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : إنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة ، بل في مرتبتين ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين.

والجواب منسوب إلى السيد محمد الفشاركي (المتوفّى ١٣١٥ ه‍ ـ) وقد ذكره شيخ مشايخنا المحقّق الحائري في درره. (١)

وحاصل الجواب : أنّ صلاة الجمعة بما هي هي موضوع للوجوب ، وأمّا الموضوع لعدم الوجوب أو الحرمة عبارة عن صلاة الجمعة التي تعلّق بها الحكم الواقعي وشك فيه ، فهو موضوع للحرمة أو عدم الوجوب ، وأمّا تأخّر الثاني عن الواقعي بمرتبتين فظاهر ، لأنّ موضوع عدم الوجوب أو الحرمة مركب من أُمور ثلاثة :

أ. صلاة الجمعة.

ب. تعلّق الحكم الواقعي به.

ج. الشكّ فيه.

__________________

(١). لاحظ درر الأُصول : ٢ / ٢٥ ـ ٢٦.

١٤٠