رسائل أصوليّة

الشيخ جعفر السبحاني

رسائل أصوليّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

فالسيرة في هذه الموارد ونظائرها ، كاشفة عن حكم شرعي كلّي وبهذا يصحّ البحث عن حجّيته ، مسألة أُصولية. ويكون البحث عن حجّيتها بحثاً أُصوليّاً.

وبهذا تبيّن انّ الاحتجاج بالسيرة يتوقّف على وجود شرطين :

١. اتّصال السيرة بعصر المعصومين عليهم‌السلام وكونها بمرأى ومسمع منهم.

٢. عدم ردع صريح عنها.

فخرج بالشرط الأوّل العقود التالية الرائجة بين العقلاء الحادثة في الحضارة الصناعية :

١. عقد التأمين : وهو عقد رائج بين العقلاء ، عليه يدور رحى الحياة العصرية ، فموافقة العرف لها ليس دليلاً على مشروعيتها ، بل يجب التماس دليل آخر عليها.

٢. عقد حقّ الامتياز : قد شاع بين الناس شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء والهاتف والماء وغير ذلك التي تعد من متطلبات الحياة العصرية ، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند الاستفادة والانتفاع بها ، وحيث إنّ هذه السيرة استحدثت ولم تكن من قبل ، فلا تكون موافقة العرف لها دليلاً على جوازها ، فلا بد من طلب دليل آخر.

٣. بيع السرقفلية : قد شاع بين الناس أنّ المستأجر إذا استأجر مكاناً وسكن فيه مدّة فيصبح له حقّ الأولوية وربما يأخذ في مقابله شيئاً باسم «السرقفلية» حين التخلية.

٤. عقود الشركات التجارية على أنواعها الرائجة في عصرنا هذا ، ولكلّ منها تعريف يخصّها ، ولم يكن لها أثر في عصر الوحي ، فتصويب كلّ هذه العقود بحاجة ماسة إلى دليل آخر وراء العرف ، فإن دلّ عليها دليل شرعي يؤخذ بها

١٠١

وإلّا فلا يحتج بالعرف.

وخرج بالشرط الثاني : ما يصادم الكتاب والسنّة نظير السير التالية :

١. اختلاط الرجال بالنساء في الأفراح والأعراس.

٢. المعاملات الربوية بأنواعها.

٣. اشتراط المرتهن الانتفاع من العين المرهونة.

٤. اشتراط رب المال في المضاربة قدراً معيناً من الربح لا بالنسبة بهذه السيرة ، لأنّه يحتج بها.

هل السيرة دليل مستقل أو راجع إلى السنّة؟

قد عرفت أنّ السيرة تستخدم تارة في تبيين المفاهيم وتشخيص المصاديق ، وأُخرى في استكشاف مرادات الشارع فيما يرجع إلى الدلالات الالتزامية بالنسبة لكلامه ، وثالثة مقاصد المتكلّم الذي وقع فعله أو كلامه موضوعاً للحكم الشرعي ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تتجاوز عن تشخيص الصغرى أو الموضوع للحكم الشرعي ، دون أن يقع ذريعة لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي ، وبذلك لا يصلح أن تعدّ السيرة مسألة أُصولية يستنبط بها ، الحكم الشرعي الكلّي.

نعم السيرة المتّصلة في قسم من المعاملات بعصر المعصوم وسكوتهم عنها وعدم ردعهم ربّما يكون ذريعة لتقريرهم وإمضائهم إذا كانت السيرة بمرأى ومسمع منهم ، وهذا وإن كان يصحّح كون البحث عنها مسألة أُصولية ، لكنّها لا تخرج عن الكشف عن السنّة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره ، فلا يصحّ عدّها أصلاً مستقلاً ، أو دليلاً خاصاً وراء الأدلّة الأربعة ، فهي داخلة تحت تقرير المعصوم الذي هو قسم من السنّة.

١٠٢

٣

هل العرف من مصادر التشريع؟

هذا حسب أُصولنا ولكن الظاهر من أهل السنّة ، انّه من مصادر التشريع لا بمعنى انّه كاشف عن الحكم الشرعي ، بل هو خلّاق للحكم الشرعي ، نظير الإجماع عندهم ، فهو عندهم من مصادره كالكتاب والسنّة ، فالإجماع يضفي المشروعية على الحكم المتّفق عليه ، ويصير بالاتّفاق حكماً واقعياً إلهياً.

يقول الأُستاذ السوري «وهبة الزحيلي» في مستند الإجماع ، بأنّه إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة ، فيكون الإجماع مؤيّداً ومعاضداً له ؛ وإمّا دليل ظنّي وهو خبر الواحد والقياس ، فيرتقي الحكم حينئذ من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. (١)

والسيرة عندهم كالإجماع ، غير أنّ الثاني يشترط فيه الاتّفاق والاجتهاد ، دون السيرة ، غاية الأمر أن لا تكون مخالفة لنصّ الكتاب والسنّة أو روح الشريعة ولذلك اشتهرت في ألسنة فقهائهم.

إنّ العرف عندهم من مصادر التشريع ، وهو أصل أخذ به الحنفية والمالكية

__________________

(١). الوجيز في أُصول الفقه : ١٤٩.

١٠٣

في غير موضع النص.

والعرف عندهم ما اعتاده الناس من معاملات واستقامت عليه أُمورهم ، وهذا يُعدّ أصلاً من أُصول الفقه ، ولذلك ذكر الفقهاء من الحنفية والمالكية : أنّ الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي.

ويقول السرخسي في «المبسوط» : الثابت بالعرف كالثابت بالنص. ومعناه أنّ الثابت بالعرف ثابت بدليل يعتمد عليه كالنص حيث لا نص.

وقالوا أيضاً : العرف شريعة محكمة ، والعرف المعتبر ما يخصّص به العام ويقيد المطلق. (١)

يقول محمد أبو زهرة في حقّ العرف من منظار الحنفية والمالكية : إنّ العلماء الذين يقرّرون أنّ العرف أصل من أُصول الاستنباط ، يقرّرون أنّه دليل حيث لا يوجد نصّ من كتاب أو سنّة. وإذا خالف العرف الكتاب ، أو السنّة ، كتعارف الناس في بعض الأوقات تناول بعض المحرمات كالخمر ، وأكل الربا ، فعرفهم مردود عليهم ، لأنّ اعتباره إهمال لنصوص قاطعة ، واتّباع للهوى وإبطال للشرائع ، لأنّ الشرائع ما جاءت لتقرير الفساد.

ثمّ قال : إنّ العرف قسمان : عرف فاسد لا يؤخذ به ، وهو الّذي يخالف نصاً قطعياً ، فإنّ هذا يرد ؛ والقسم الثاني عرف صحيح ، فإنّه يؤخذ به ويعتبر الأخذ به أخذاً بأصل من أُصول الشرع. (٢)

ما أفاده الأُستاذ أبو زهرة من تخصيص حجّية العرف في مجال ما لا نصّ فيه

__________________

(١). رسائل ابن عابدين : رسالة نشر العرف الذي فرغ منها عام ١٢٤١ ه‍ ـ ، ومصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه للشيخ عبد الوهاب خلاف مطابع دار الكتاب العربي وغيرهما.

(٢). أُصول الفقه ، للأُستاذ محمد أبو زهرة : ٢٥٥ ، ط مصر ، دار الكتاب العربي.

١٠٤

وانّه لا يحتجّ به إذا خالف الكتاب والسنّة ، ممّا لا غبار عليه.

إنّما الكلام في جواز الاعتماد عليه في كشف الحكم الشرعي الكلّي ، سواء أكان سائداً في عصر المعصوم أو لا.

قال أبو زهرة : العرف العام هو الّذي اتّفق عليه الناس في كلّ الأمصار ، كدخول الحمام واطّلاع الناس بعضهم على عورات البعض أحياناً ، وعقد الاستصناع. نعم العرف الخاص الّذي يسود في بلد أو طائفة فإنّ هذا العرف لا يقف أمام النص. (١)

وقال ابن عابدين : وتجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص للنصّ الّذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا ترك للنص ، لأنّا عملنا بالنصّ في غير الاستصناع. (٢)

وهذه الجمل توضح موقفهم من العرف وانّه حجّة فيما نصّ فيه وانّه ربما يكون مصدراً للتشريع بل مخصصاً له. وهذا هو المدّعى ، ولنذكر دلائلهم على مدّعاهم.

ثمّ إنّهم استدلوا على حجّية العرف ببعض الآيات والروايات :

١. قوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). (٣)

قال ابن عابدين : واعلم أنّ بعض العلماء استدلّ على اعتبار العرف بقوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ). (٤)

__________________

(١). أُصول الفقه : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٢). سيوافيك توضيح عقد الاستصناع.

(٣). الأعراف : ١٩٩.

(٤). رسائل ابن عابدين ، رسالة نشر العرف : ١١٣.

١٠٥

والاستدلال مبني على أنّ المراد به المتعارف بين الناس كما هو المتبادر من هذا اللفظ في مصطلح اليوم ؛ ولكن الظاهر أنّ المراد هو كلّ خصلة تعرف صوابها العقول وتطمئن إليها النفوس ولا صلة له بالرسوم والأعراف القومية. (١)

يقول السيد الطباطبائي : العرف هو ما يعرفه عقلاء المجتمع من السنن والسير الجميلة الجارية بينهم ، بخلاف ما ينكره المجتمع وينكره العقل الاجتماعي من الأعمال النادرة الشاذة. (٢)

والإمعان فيما ورد في الآية من الجمل الثلاث ، يكشف عن أنّه سبحانه يأمر النبي بالأخذ بخصال ثلاث كلّها خير وصلاح ، وهي :

أ. العفو عن المجرم وقبول عذره وبالتالي المداراة مع الناس.

ب. الدعوة إلى خصال الخير التي يعرفها العقل والشرع.

ج. الصبر والاستقامة أمام إيذاء الجاهلين.

وأين هذا من دلالة الآية على العادات السائدة بين الناس ، سواء أكانت لها جذور في العقل والشرع أم لا؟

ولذلك فسّر السيوطي الآية بالنحو التالي : (خُذِ الْعَفْوَ) : اليسر من أخلاق الناس ، ولا تبحث عنها (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) : المعروف ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) : فلا تقابلهم بسفههم. (٣)

وعلى ضوء هذا فالاستدلال بالآية على اعتبار الحسن والقبح العقليين أظهر من الاستدلال على غيره ، فالعقل يدرك حسن الأفعال وقبحها في مجالات مختلفة.

__________________

(١). مجمع البيان : ٢ / ٢١٢.

(٢). الميزان : ٩ / ٣٣٠.

(٣). تفسير الجلالين : ٢٢٢.

١٠٦

٢. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما رآه المسلمون حسناً ، فهو عند الله حسن». (١)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الرواية على فرض صحّة سندها تهدف إلى الحسن العقلي ، الّذي رآه المسلمون حسناً حسب ضوء العقل وإرشاده فهو عند الله حسن ، للملازمة بين ما يدركه العقل وما هو عند الله.

أضف إلى ذلك أنّ الحديث موقوف رواه عبد الله بن مسعود دون أن يسنده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال ابن عابدين : ناقلاً عن كتاب الأشباه : القاعدة السادسة : العادة محكم وأصلها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. قال العلائي : لم أجده مرفوعاً في شيء من كتب الحديث أصلاً ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنّما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده. (٢)

٣. انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمضى بعض الأعراف السائدة بين العرب ، مثلاً أمضى ما سنّه عبد المطلب في دية الإنسان وانّه مائة من الإبل كما أمضى انّ الدية على العاقلة.

إنّ الرسول لمّا وجد عرف أهل المدينة جارياً على بيع السلم وعلى بيع العرايا وأصبح هذان النوعان من البيوع الّتي لا يستغني عنهما المتعاملون أباحهما ، فرخّص في السلم ورخّص في العرايا مع أنّ كلاً منهما حسب الأحكام الشرعية عقد غير صحيح ، لأنّ السلم بيع مبيع غير موجود وقت البيع بثمن حال فهو

__________________

(١). رسائل ابن عابدين ، رسالة نشر العرف : ١١٣.

(٢). رسائل ابن عابدين ، رسالة نشر العرف : ١١٣ ؛ لاحظ مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة ، الحديث ٣٤١٨.

١٠٧

عقد على معدوم ، وقد نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع المعدوم.

والعرايا : عبارة عن بيع الرطب على النخل بالتمر الجاف ، وهذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين ، وقد نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً ، ولكن ضرورات الناس دعتهم إلى هذا النوع من التعامل وجرى عرفهم به فراعى الرسول ضرورتهم وعرفهم ورخّص فيه. (١)

أقول : كأنّ الأُستاذ خلاف يهدف بكلامه هذا إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اعترف ببعض الأعراف الّتي كانت تنسجم مع حياة الناس ، فنحن أيضاً إذا واجهنا سيراً تنسجم مع حياة الناس وتتلاءم معها يلزم علينا إمضاؤها وتطبيق الحياة عليها وإن لم يرد على صحتها نصّ في الكتاب ولا في السنّة.

وعلى ضوء ذلك فكلّما سار عليه العقلاء في الحضارة الصناعية من المعاملات المستحدثة ، فتتخذ لنفسها صبغة شرعية اقتداءً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أخذ بالسير السائدة.

نحن نصافق الأُستاذ بالأخذ بهذه السير ولكن بشروط محددّة :

١. أن لا تكون السيرة وما جرى عليه الناس مخالفة لنصوص الكتاب والسنّة ، ولا أظن أنّ الأُستاذ لا يوافقنا في هذا الشرط ، وكيف ومجال العرف هو منطقة الفراغ أي في ما لا نص فيه ، ولو كان هناك نص ـ سواء أوافق العرف أم خالفه ـ. فلا يكون هناك موضوع للاحتجاج بالعرف.

٢. أن يكون ما اعتبره العقلاء موجوداً في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نحو كان بمرأى ومسمع منه ، وإلّا فلا قيمة لما اجتمع عليه العقلاء مع إمضاء الشارع وتصديقه.

__________________

(١). مصادر التشريع الإسلامي : ١٤٦.

١٠٨

وأمّا ما استدلّ به على اعتبار عرف العقلاء بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمضى ما سنّه عبد المطلب في دية الإنسان ، أو أمضى أنّ الدية على العاقلة ، فهو وإن كان صحيحاً ، لكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابل الأخذ بهذين ألغى عامّة الأعراف السائدة في الجاهلية وسننها ، وجعلها تحت قدميه واستثنى القليل منها ، فهو كان أشبه بالتخصيص الأكثر فالأكثر كما قال في خطبة حجة الوداع : وإنّ دماء الجاهلية موضوعة ، وإنّ أوّل دم ابدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والسعاية. (١)

على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كان عالماً بملاكات الأحكام ـ حيث تعلّم من عند الله ما تعلّم على وجه وصف سبحانه علمه بالعظمة وقال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(٢) ـ ميّز الصالح عن غيره ، والصحيح عن الفاسد ، فأعطى ما هو لصالح الأُمّة وألغى ما كان فاسداً ومفسداً ، وأين علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غيره الّذي وصفه الله سبحانه بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(٣)؟!

هذا كلّه يرجع إلى الاستدلال بإمضاء دية النفس أو كون الدية على العاقلة.

ثمّ إنّه استدلّ ـ كما مرّ ـ بإمضاء عادتين مع كونهما مخالفتين لأُصول الشرع ، ألا وهما :

١. أمضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيع السلم مع أنّه من أقسام بيع المعدوم.

٢. أمضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيع العرايا ، أي بيع الرطب على النخل بالتمر الجافّ ، مع أنّهما من المتجانسين اللّذين لا يجوز فيهما التفاضل ، مع وجوده في هذا النوع من البيع.

__________________

(١). السيرة النبوية : ٢ / ٦٠٣ ـ ٦٠٤ ؛ تحف العقول : ٢٩.

(٢). النساء : ١١٣.

(٣). الإسراء : ٨٥.

١٠٩

أقول : أمّا الأوّل : أعني : تشريع بيع السلم ، فلم يكن منهياً عنه حتّى يرخّص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ، وذلك لأنّ المنهي عنه هو قوله : «ولا بيع ما ليس عندك» (١) ، وهو ناظر إلى بيع العين الشخصية الّتي ليست في ملك البائع وإنّما يبيعها فضوليّاً ليشتريها من غيره ثمّ يدفعها إليه ، وأين هذا من بيع السلم؟!

فإنّ السلم عبارة عن ابتياع مال مضمون في ذمّة البائع إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه ، والمبيع كلّي في ذمّته لا عين شخصيّة.

ولذلك اشترط الفقهاء فيه أُموراً منها ذكر الجنس والوصف ، لأنّه يختلف لأجلهما الثمن ، بخلاف العين الشخصية فإنّها محسوسة مشاهدة.

يقول ابن عباس : اشهد انّ السلف المضمون إلى أجل مسمّى قد أحلّه الله في كتابه وأذن فيه ، ثمّ قرأ قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)(٢). (٣)

وبذلك يعلم أنّ عقد الاستصناع ـ هو عقد مقابل مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئاً ـ لا صلة له بالنهي عن بيع ما ليس عندك.

وقد صرّح بما ذكرنا بعض فقهاء السنّة منهم :

ابن تيمية حيث قال : وأمّا قولهم «السلم على خلاف القياس» فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تبع ما ليس عندك» وأرخص في السلم. وهذا لم يرو في الحديث ، وإنّما هو من كلام بعض الفقهاء ، وذلك أنّهم قالوا : السلم بيع الإنسان ما ليس عنده ، فيكون مخالفاً للقياس.

__________________

(١). بلوغ المرام : ٨١٥ برقم ٨٢٠. قال : ورواه الخمسة ، وروي أيضاً : «ولا تبع».

(٢). البقرة : ٢٨٢.

(٣). مستدرك الحاكم : ٢ / ٢٨٦.

١١٠

ونهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده : إمّا أن يراد به بيع عين معينة ، فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه. وفيه نظر. وإمّا أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه ، وإن كان في الذمّة. وهذا أشبه. فيكون قد ضمن له شيئاً لا يدري هل يحصل أو لا يحصل؟ وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه ، والمناسبة فيه ظاهرة.

فأمّا السلم المؤجل ، فإنّه دين من الديون ، وهو كالابتياع بثمن مؤجّل ، فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجّلاً في الذمّة ، وكون العوض الآخر مؤجّلاً في الذمّة ، وقد قال تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) قال ابن عباس : أشهد أنّ السلف المضمون في الذمّة حلال في كتاب الله ، وقرأ هذه الآية.

فإجابة هذا على وفق القياس لا على خلافه». (١)

ومنهم ابن القيم حيث قال في «إعلام الموقعين» : «وأمّا السلم ، فمن ظن أنّه على خلاف القياس فوهم دخوله تحت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تبع ما ليس عندك» فإنّه بيع معدوم ، والقياس يمنع منه.

والصواب أنّه على وفق القياس ، فإنّه بيع مضمون في الذمّة موصوف مقدور على تسليمه غالباً ، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة ، وقد تقدّم أنّه على وفق القياس.

وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمّته ، مقدور في العادة على تسليمه. فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع». (٢)

__________________

(١). الموسوعة الفقهية : ٢٥ / ١٩٥ ، نقلاً عن : مجموعة فتاوى ابن تيمية : ٢٠ / ٥٢٩.

(٢). الموسوعة الفقهية : ٢٥ / ١٩٥ ـ ١٩٦ ، نقلاً عن : إعلام الموقعين عن رب العالمين (مراجعة طه عبد الرءوف سعد) : ٢ / ١٩.

١١١

وأخيراً نضيف أنّ الحياة الاجتماعية في الوقت الحاضر متوقّفة على بيع السلم والسلف ، فالكثير من أصحاب الصنائع وغيرهم يحتاجون إلى أدوات وأجهزة غير موجودة في الخارج وإنّما يهيّئونها حسب ما يطلبونها منهم ، ومن المعلوم أنّ الإسلام دين الفطرة فكيف ينهى عنه أوّلاً ثمّ يرخصه؟

نعم ربّما كان بيع السلف عندهم أوسع ممّا سنّه الشارع ، ولذلك يقول ابن عباس : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين ، فقال : «من أسلف في تمر فليُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم». (١) ولو تصرّف فيه الشارع فإنّما حدّده بشرائط خاصّة.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل وقد عرفت أنّ تجويز السلم لم يكن استثناءً من المنهي عنه.

حول بيع العرايا

وأمّا الثاني : أعني «بيع العرايا الّذي هو عبارة عن بيع الرطب على النخل بالتمر الجافّ ، وهذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين» فهو ليس استثناءً من الضابطة ، أعني : شرطية تساوي المتجانسين كيلاً ووزناً عند مبادلتهما وذلك بالبيان التالي :

إنّ أبا سعيد الخدري قد روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثلاً بمثل ولا تشفُّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثلاً بمثل ، ولا تُشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز». (٢)

__________________

(١). بلوغ المرام : ١٧٤ برقم ٨٧٤.

(٢). بلوغ المرام : ١٧٠ برقم ٨٥٢.

١١٢

وروى عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد». (١)

فمورد الروايات هو المكيل والموزون من الجانبين فيحرم فيهما التفاضل ، وأمّا الثمرة على الشجرة فهي ليس ممّا يوزن أو يكال عند البيع ، بل هي من قبيل المشاهدات ولذلك يغتفر فيها الجهل إلى حدّ والتفاضل. فالتبادل فيها ولو بالتفاضل الرائج غير داخل في النصّ.

وبعبارة واضحة : ما ذكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجع إلى المكيل والموزون وبيع العرايا ليس من قبيل المكيل والموزون ولو من جانب واحد ، بل من قبيل المشاهدات فيختلف حكمه عن حكمهما.

فتبيّن أنّ ما زعمه الأُستاذ من أنّ ترخيص بيع السلم أو العرايا كان من قبيل تقديم العرف على النص وانّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه قام بذلك ممّا لا أساس له.

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلّ من أن يقدّم عادة الناس على التشريع الإلهي ، إلّا أن يأذن الله سبحانه.

__________________

(١). المصدر السابق.

١١٣

٤

العادة كالقرينة الحالية

ثمّ إنّ فقهاء السنّة ذكروا تخريجات في المقام زاعمين أنّ للعرف بما هو هو دوراً في استنباط الحكم الجزئي للمورد ، غافلين عن أنّ العرف ، قسم من القرائن ، وهو كالقرينة الحالية الّتي هي نظيرة القرينة المقالية فيجب اتباعهما ، والعرف الخاص والعرف العام من أقوى القرائن على توجيه الكلام.

وها نحن نذكر فروعاً من التخريجات التي ذكرت في مجلة الأحكام الّتي كانت تُدرّس في معاهد الحقوق من زمن بعيد في البلاد العربية.

وكلّ ما ذكر فيها للعرف من شأن فهو لأجل كونه قرينة حالية يعتمد عليها المتكلّم في محاوراتهم ومعاملاتهم لا غير ، وإليك هذه الفروع :

١. كلّما كان من توابع العمل ولم يشترط على الأجير يعتبر فيه عرف البلدة وعادتها : فالعادة في الخيط أن يكون على الخياط ، وفي الحبل أن يكون على المكاري ، وكذلك يعتبر العرف في اللجام والسُّرج إذا استؤجر الحيوان للركوب. فلو اشترط على أحد الطرفين القيام بتوابع العمل فهو ، وإلّا فالعرف هو المتبع.

٢. وإذا استأجر كاتباً فالقلم والحبر عليه.

٣. ولو استأجر الدابة فعلف الدابة على المؤجر.

١١٤

٤. ولو دفع ثوبه إلى صبّاغ ليصبغه ولم يعين له أُجرة ، استحقّ أُجرة المثل.

٥. لو اشترى شيئاً من السوق بثمن معلوم ولم يصرّحا بحلول ولا تأجيل يتبع العرف والعادة ولعلها هو التعجيل.

٦. لو استأجر حجرة في دار إجارة مطلقة لم يقيّدها بلون من الألوان كان له أن يسكنها ويضع فيها أمتعته وليس له استعمالها بما يخالف العادة كأن يشتغل فيها بصنعة الحدادة.

٧. إذا وجد المشتري في الحنطة والشعير وأمثالهما من الحبوب المشتراة تراباً ، فإن كان ذلك التراب يُعدّ قليلاً في العرف صحّ البيع ولزم ، وإن كان كثيراً بحيث يعدّ عيباً عند الناس ، كان المشتري مخيراً.

٨. البيع المطلق ينعقد معجلاً أمّا إذا جرى العرف في بلده على أن يكون البيع المطلق مؤجلاً أو مقسّطاً إلى أجل معلوم ، سينصرف البيع المطلق إلى ذلك الأجل.

٩. الهدايا الّتي ترد في الختان والعرس هي لمن ترد باسمه من المختون والعروس والوالد والوالدة ، وإن لم يذكر لمن وردت ، ولم يمكن السؤال والبحث ، فيراعى عرف البلدة وعادتها.

١٠. إذا وقع العقد على الثمن ، فيتبع في تعيين العُمْلة عرف البلدة والعادة الجارية.

١١. إذا وقع العقد بثمن له أجزاء فيتبع في تعيين الجزء عرف البلد ، فإذا اشترى شيئاً بمائة ألف ريال ، فالعرف هو دفع الثمن بعملة كبيرة كالألف وغيره لا بعملة صغيرة كالريال والتومان الواحد.

١٢. كلّ ما كان في حكم جزء من أجزاء المبيع ، أي ما لا يقبل الانفكاك

١١٥

عن المبيع نظراً إلى عرف الاشتراء يدخل في المبيع بدون ذكر ، كما إذا بيع قفل دخل مفتاحه. وإذا اشتريت بقرة حلوب لأجل اللبن ، يدخل فلوها الرضيع في البيع بدون ذكر. وما لا يكون من مشتملات المبيع ولا هو من توابعه المتصلة المستقرة أو لم يكن في حكم جزء من المبيع أو لم تجر العادة والعرف في بيعه معه ، لا يدخل في البيع ما لم يذكر وقت البيع ، أمّا ما جرت عادة البلدة والعرف ببيعه تبعاً للمبيع فيدخل في البيع من غير ذكر ، فالأشياء غير المستقرة الّتي توضع لأن تستعمل وتنقل من محل إلى آخر كالخزانة والكرسي والسرير المنفصلات لا تدخل في بيع الدار بلا ذكر. (١)

وهناك فروع أُخرى مذكورة في الكتب الفقهية يظهر حالها بما ذكرنا. وليس للعرف فيها دور سوى كونه قرينة حالية.

وبهذا يظهر انّ كلمات فقهاء السنّة حول العرف لا تخلو من إغراق ، نظير :

١. العرف عادة محكمة.

٢. العرف شريعة محكمة.

٣. التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.

٤. الثابت بالعرف كالثابت بالنص.

٥. العرف في الشرع له اعتبار.

٦. استعمال الناس حجة.

٧. الحقيقة تترك بدلالة العادة.

٨. العبرة للغالب.

__________________

(١). انظر شرح المجلة : ص ١٣.

١١٦

٩. المعروف عرفاً كالمشروط.

١٠. المعروف بين التجار كالمعروف بهم.

إلى غير ذلك من التعابير المتكررة الواردة في مجلة الأحكام (١) تحت عناوين مختلفة والّتي يرجع الجميع إلى وجود القرينة الحالية الدالة على المراد.

وفي الختام نلفت نظر القرّاء إلى نكتة ، وهي : أنّ دراسة تاريخ التشريع في المجتمعات البشرية تشهد على أنّ كلّ أُمّة لم يكن لها قانون مدوّن لم يكن لها محيص عن التعاطف مع العرف والعادة فكانت تتخذهما قانوناً حاسماً في المخاصمات كما كان الحال كذلك عند الرومان.

وقد كان للعرف والعادة دوراً هاماً في شمال فرنسا إلى عهد نابليون ، ولمّا تمّ التقنين العام لمجموع البلد ، انحسرت العادة والعرف عن مجال التقنين فلا يعتمد عليهما إلّا في مجالات التجارة ، وأمّا المسلمون فهم ـ بحمد الله ـ في غنى عن اتخاذ العرف أساساً للتشريع حيث أغناهم الله سبحانه عن كلّ تشريع سوى تشريعه ، والحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة.

وأمّا إخواننا أهل السنّة فإنّما يلتجئون إلى العرف والعادة في التقنين والتشريع فيما لم يكن له أصل في عصر الرسول بسبب قلّة مصادر التشريع عندهم ، فلذلك التجئوا إلى العرف والعادة في التقنين والتشريع.

يقول الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في تحرير المجلّة حول مادّة ٣٦ : «العادة محكّمة ، هذا مبنيّ على الأصل المقرّر عندهم من «عدم النص وفقد

__________________

(١). انظر شرح المجلة : ص ١٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ١١٣ ، ١١٦ ، ١٢٤ ، ١٢٦ ، ١٩٦ ، ٣٠٨ ، ٤٩٢.

١١٧

الدليل الشرعي على حكم جملة من الحوادث» ، خلافاً لما ذهبت إليه الإمامية من عدم خلوّ واقعة من الدليل على حكمها ، بالعموم أو الخصوص ، وعلى فرض خلوّ واقعة من النصّ فالعادة عند الإمامية لا يعتبر بها ولا تصلح لإثبات حكم شرعيّ». (١)

فخرجنا من هذا البحث الضافي بنتيجتين ، هما :

١. إذا وقع العرف ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي الكلّي ، فهو يرجع لباً إلى السنّة لكن تقريراً وليس دليلاً مستقلاً.

٢. انّ الاعتماد على العرف في رفع المنازعات ونظائرها ، اعتماد على القرينة الحاليّة وهو ليس بشيء بديع.

__________________

(١). تحرير المجلة : ٣١.

١١٨

الرسالة الرابعة

الجمع بين

الحكم الواقعي والظاهري

١١٩
١٢٠