إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

عليه إلى ضمّ كلمة أُخرى إليه لتدل على متعلّقه ، وهذا هو المراد بقولهم إنّ للاسم والفعل معنى كائناً في نفس الكلمة الدالة عليه ، وإذا لاحظه العقل من حيث هو حالة بين السير والبصرة مثلاً وجعله آلة لتعرف حالهما كان معنى غير مستقل بالمفهومية ولا يصلح أن يكون محكوماً عليه وبه ولا يمكن أن يتعقّل إلاّ بذكر متعلّقه بخصوصه ولا أن يدلّ عليه إلاّ بضم كلمة دالّة على متعلّقه. (١)

ثمّ إنّه أفاض القول في ذلك ، فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.

وبذلك يعلم ضعف كلام المحقّق الخراساني حيث جعل المعاني الاسمية والحرفية واحداً بالذات تصوراً وذاتاً لكن الاستقلالية والآلية تعرضان على المعنى الوارد عند الاستعمال ، فجعل ما هو جزء الذات أو صميمها أمراً عرضياً للمعنى.

أسئلة وأجوبة

فإن قلت : قد عدّ العرض في البيان السابق من القسم الثاني وهو ما يكون مستقلاً مفهوماً ، وغير مستقل وجوداً ، مع أنّ هذا التعريف للأعراض لا يصدق إلاّ على الكم والكيف ولا يصدق على الأعراض النسبية كالأين ومتى ، فانّ الأوّل عبارة عن كون الشيء في المكان ، كما أنّ الثاني عبارة عن كون الشيء في الزمان ، وما هذا معناه فهو من المعاني الحرفية القائمة بالغير مفهوماً ووجوداً لا وجوداً فقط.

قلت : إنّ تفسير المقولتين بما ذكر تفسير خاطئ ، بل الأين عبارة عن الهيئة الحاصلة للشيء من كونه في المكان أو من كونه في الزمان ، والهيئة الحاصلة معنى اسمي مستقل مفهوماً ، وإن كان غير مستقل وجوداً ، وهذا نظير الجِدَة فانّ الجدة ليست إلاّ الهيئة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالهيئة الحاصلة للإنسان بالتعمم

__________________

١ ـ شرح الكافية المشهور بشرح الجامي : ١٥.

٦١

والتقمّص.

فإن قلت : إنّ ما ذكر من التعريف للمعنى الحرفي لا ينطبق على بعض الحروف كالكاف في قوله ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) (١). فانّ معناه « ليس مثلَ مثله شيء » ونظيره « واو » الاستئناف و « تاء » التأنيث في « ضربت » ، ولفظة « قد » في الفعل الماضي.

قلت : إنّ الكاف في الآية ليس حرفاً بل اسم بمعنى « مثل » ولذلك تقسم الكافُ إلى حرف واسم ، وأمّا الباقي فالأولى المعاملة معها معاملة العلائم كالتنوين في الفاعل ، والنصب في المفعول ، ولا مانع من كون بعض العلائم مشيرة إلى المعنى الاسمي.

فإن قلت : إنّ المحقّق صاحب الحاشية ( المتوفّى ١٢٤٨ هـ ) قسّم معاني الحروف إلى قسمين : إخطارية وإيجادية ، والمراد من الأُولى ما يكون حاكياً عن معنى متحقّق في الخارج مثل قولك : « سرت من البصرة إلى الكوفة » ، كما أنّ المراد من الثانية ما لا يكون حاكياً عن معنى متحقّق في الخارج بل المعنى يوجد بنفس الاستعمال ، مثل قولك : يا زيد أو « إياك » فالجميع ينشئُ معنى النداء والخطاب ، فالقسم الأوّل أشبه بالجمل الخبرية والقسم الثاني أشبه بالجمل الإنشائية ، فهل يخالف ذلك المعنى ، المختار؟

قلت : إنّ تقسيم معاني الحروف إلى إخطارية وإيجادية تقسيم بديع ، ولكن الإخبار والإيجاد يتحقّقان بما للحروف من المعنى ، فلابدّ من التركيز على المعنى الحرفي أوّلاً ـ وقد أهمله صاحب الحاشية ـ ثمّ تقسيم ذلك المعنى إلى إخطاري

__________________

١ ـ الشورى : ١١.

٦٢

وإيجادي فقد تكلّم هو عن خصوصيات المعنى الحرفي وأقسامه دون حقيقته وواقعه.

وبذلك يعلم انّ نظرية المحقّق النائيني أيضاً لا تخالف مختارنا حيث قال : إنّ شأن أدوات النسبة ليست إلاّ إيجاد الربط بين جزئي الكلام ، فانّ الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية والذات ، فلفظ « زيد » بما له من المعنى مباين للفظ « قائم » بما له من المعنى ، وكذا لفظ « السير » مباين للفظ « الكوفة » و « البصرة » بما لهما من المعنى ، لكن أدوات النسبة إنّما وضعت لإيجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم على وجه يفيد فائدة تامة يصحّ السكوت عليها ، فكلمة « من » و « إلى » إنّما جيء بهما لإيجاد الربط وإحداث العلقة بين « السير » و « البصرة » و « الكوفة » الواقعة في الكلام بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط وعلقة أصلاً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من شأن الحروف أمر لا سترة عليه لكن الربط يحصل بواقع المعنى الحرفي فكان عليه أن يحدد المعنى الحرفي ثمّ يتكلّم في أوصافه وقُدُراته.

وبذلك يظهر انّ نظرية المحقّق الخوئي في الحروف أيضاً لا تخالف ما ذكرنا حيث قال : إنّ الحروف وضعت لتضييق المعاني الاسمية وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية ، بل التضييق إنّما هو في عالم المفهوم ، ثمّ مثّل بمثال وقال : الصلاة في المسجد حكمها كذا ، فانّ الصلاة لها إطلاق إلى الخصوصيات المسنونة والمصنفة والمشخصة ، فغرض المتكلّم قد يتعلّق ببيان المفهوم على إطلاقه وسعته ويقول : الصلاة خير موضوع ، وقد يتعلّق بإفادة حصة خاصة منه ويقول : الصلاة في المسجد حكمها كذا ، حتى تدلّ على

__________________

١ ـ فوائد الأُصول : ١ / ٤٢ ؛ أجود التقريرات : ١ / ١٨.

٦٣

انّ المراد ليس الطبيعة السارية إلى كلّ فرد بل خصوص حصة منها. (١)

يلاحظ عليه : لو سلمنا انّ دور الحروف دور التضييق فهو يحصل بما للحرف من المعنى فلابدّ أن نتعرف على ذات المعنى ثمّ على وصفه من الضيق.

على أنّ فيما ذكره من وضع المعاني الحرفية للضيق إشكالاً واضحاً ذكره شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة. (٢) وبذلك علم أنّ النظريات الثلاث ليست مخالفة للمختار وإنّما ركّز أصحابها على صفات المعاني الحرفية دون ذاتها وواقعها ، فهذه النظريات الأربع ترجع إلى أمر واحد.

الجهة السادسة : في بيان كيفية وضع الحروف

قد تقدّم البحث في حقيقة المعنى الحرفي وحان البحث عن كيفية وضعها ، فهناك نظريات :

أ : الوضع عام كما أنّ الموضوع له كذلك ، وهو خيرة المحقّق الخراساني.

ب : الوضع عام لكن الموضوع له خاص ، وهو المختار.

أمّا الأُولى : فهي خيرة المحقّق الخراساني ، وحاصلها : انّه لا فرق بين المعنى الاسمي والحرفي جوهراً وذاتاً وانّهما وضعا لمعنى واحد غير انّ الاختلاف بالاستقلال والآلية يعرضان على المعنى عند الاستعمال.

فالواضع نظر إلى مفهوم كـ « آغاز » باللغة الفارسية ووضع له لفظ الابتداء ولفظة « من » لكن اشترط على المستعملين باستعمال الأوّل في الابتداء المستقل والثاني في الابتداء غير المستقل ، فهما يعرضان على المعنى عند الاستعمال ، فالملحوظ « آغاز » بما انّه عام فالوضع عام وبما انّه الموضوع له فكذلك.

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ١٨.

٦٤

ولكنّك عرفت عدم اتقان المبنى وانّ معاني الحروف تتمايز عن الأسماء بجوهرهما لا باللحاظ.

وأمّا الثانية : فهي خيرة السيّد الأُستاذ قدس‌سره ، وتوضيحها يحتاج إلى مقدّمة ، وهي انّه لا جامع مقولي للمعاني الحرفية ، وذلك لأنّ الجامع المقولي عبارة عن المفهوم العام المنتزع من الأفراد باعتبار اشتراكهما في حقيقة واحدة ، وما هو كذلك يكون له مفهوم مستقل يلاحظه الذهن مرة بعد مرة ، ومثل ذلك لا يكون جامعاً مقولياً للحروف ، لأنّ واقع الحروف هو القيام بالغير والاندكاك فيه ، فلو انسلخت هذه الخصوصية عنه لانقلب المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي.

وبذلك يعلم أنّه لا يمكن أن يكون هناك جامع مقولي للحروف ، لأنّه بما هو جامع مقولي يلازمه الاستقلال ، وبما هو جامع مقولي للحروف يلازمه الاندكاك والتبعية ، وهما لا يجتمعان في مفهوم واحد في زمان واحد.

وبعبارة أُخرى : لا جامع مقولي بين المعاني الحرفية ، إذ لو كان الجامع من سنخ المعنى الحرفي لوجب أن يكون متدلّياً بالذات وهو بهذا الوصف يمتنع أن يكون مقولة ، لأنّ المقولة تحمل على مصاديقها ، والحمل يستلزم الاستقلال في التصور ، وهو لا يجتمع مع كونه معنى حرفياً غير مستقل في المفهوم.

وإن شئت قلت : إنّه لو كان الجامع من سنخ المعاني الاسمية ، فهو لا يكون جامعاً للمعاني الحرفية.

فإن قلت : إذا لم يكن هناك جامع ذاتي للمعاني الحرفية ، فكيف توضع الحروف لمصاديق المعنى الكلي حتى يكون الموضوع له عاماً؟

قلت : لا محيص للواضع من التمحل بأن يتوصل عند الوضع بمفاهيم اسمية لا تكون جامعاً ذاتياً لها ، كما لا تكون ربطاً حقيقياً وتدلياً واقعيا ، كمفاهيم

٦٥

الظرفية والابتداء الآلي وغيرهما. فيضع الحروف لما هو مصداق لها بالحمل الشائع ، ويشير بهذه العناوين إلى المصاديق ، وبهذه المفاهيم إلى الأفراد.

وبذلك يعلم أنّ الموضوع له خاص ، لأنّه وضع لما هو المصداق للابتداء أو الانتهاء ، والمصداق يلازم الجزئية.

فإن قلت : قد استدلّ المحقّق الخراساني على كون معاني الحروف كلية بقوله : إنّ المستعمل فيه كثيراً ما يكون كلياً كما إذا وقع تحت الأمر كقوله : « سر من البصرة إلى الكوفة » بشهادة انّه إذا بدأ بسيره من أي نقطة من نقاط البصرة يكون ممتثلاً ولو كان المستعمل فيه جزئياً لما صحّ الامتثال إلاّ من نقطة واحدة.

يلاحظ عليه : أنّا لا نجد فرقاً بين هذا المثال المدّعى استعمال الحرف فيه في المعنى الكلي ، وبين قولنا : « سرت من البصرة إلى الكوفة » المدّعى استعمال الحرف فيه في المعنى الجزئي ، والظاهر انّ المتكلّم لاحظ البصرة أمراً واحداً شخصياً واستعمل الحرف في ذلك الواحد الشخصي ، وإنّما التكثر جاء من جانب العقل ، حيث إنّ العقل بعدما لاحظ انّ البصرة واحد ذو أجزاء ، يصلح أن يتبدأ بالسير من كلّ جزء ، حكم بأنّ الامتثال يحصل من أي جزء تحقق ، وكم فرق بين أن يكون المستعمل فيه أمراً كلياً من أوّل الأمر ، وبين أن يكون واحداً حقيقياً منحلاً إلى كثير بحكم العقل ، نظير انحلال الحكم الواحد إلى الكثير كما لا يخفى.

ثمرة البحث

وقد ذكرت ثمرات للبحث عن كيفية الوضع والموضوع له نشير إلى بعضها :

أ : لو كان الموضوع له فيها خاصاً لا يتصور تقييده ، وذلك لأنّ التقييد فرع الإطلاق وهو فرع السعة ، والخاص فاقد لها فلا يمكن تقييده ، وعلى ذلك رتبوا انّ

٦٦

القيد في الواجب المشروط لا يرجع إلى الهيئة ، لأنّ مدلول الهيئة معنى حرفي ، والمعنى الحرفي بما انّ الموضوع له فيه خاص لا يقبل التقييد فلا مناص من إرجاعه إلى المادة ، نظير قولك : « أكرم زيداً إن سلّم » فقوله : « أكرم » مركب من هيئة ومادة ، فلو كان الموضوع له للهيئة هو الوجوب الشخصي فهو لا يقبل التقييد فلا يمكن القول بأنّ الوجوب مشروط بالتسليم ، بل يجب القول بأنّ التسليم قيد للمادة ، ومعنى الجملة هو ان سلم زيد أكرمه إكراماً مقيداً بكونه بعد التسليم.

يلاحظ عليه : بما ذكرناه في محلّه من أنّ الجزئي غير قابل للتقييد من حيث الأفراد لكنّه قابل له من حيث الأحوال ، فزيد بما انّه جزئي لا يقبل التقييد الافرادي ، ولكن يقبل التقييد الأحوالي ، لأنّ له أحوالاً كثيرة ككونه قائماً قاعداً ، متعمماً ، وغير متعمّم ، فيمكن أن يقيّد بحال من الأحوال ، ولذلك لو شككنا انّ الموضوع للوجوب هو زيد أو هو مع قيد التعمم يحكم بالإطلاق على الأوّل. وعلى هذا ، الوجوب أو إنشاء البعث وإن كان أمراً شخصياً لكن له أحوالاً مختلفة ، فالوجوب المقيّد بتسليم زيد غير الوجوب المقيّد بعدم تسليمه فيصحّ تقييده بالتسليم.

ب : إنكار المفهوم للقضايا الشرطية ، فانّ القول بالمفهوم على أساس انّ المنفي سنخ الحكم لا شخصه ، وإلاّ فانّ الشخص يرتفع بارتفاع قيده وهو لا يجتمع مع كون مفاد الهيئة أمراً جزئياً بخلاف ما إذا قلنا بأنّ مفادها أمر كلي فمع ارتفاع شخص الحكم ، يقع الكلام في ارتفاع سنخه وعدمه.

يلاحظ عليه : بمثل ما ذكرنا في الثمرة الأُولى فانّ الموجود الشخصي وإن لم يكن قابلاً للتقييد من حيث الافراد ، لكنّه قابل له من حيث الأحوال ، فانّ وجوب الإكرام المقيّد بتسليم زيد غير وجوب الإكرام في حالة أُخرى ، فللوجوب وجود

٦٧

سعي حسب الحالات.

وعلى ضوء هذا فللحكم الشخصي الجزئي حالتان :

١. ملاحظته مع التسليم فلا شكّ انّه في هذا اللحاظ مرتفع بعدم التسليم على كلا القولين.

٢. ملاحظته مع عدم التسليم فالمثبت للمفهوم يقول بارتفاعه أيضاً دون المنكر.

فالقول بالمفهوم وإنكاره لا يبتني على كون مفاد الهيئة كليّاً بل يجري على القول بجزئية معناها.

وبذلك ظهر انّ المسألة فاقدة الثمرة.

الجهة السابعة : في وضع أسماء الإشارة والضمائر والموصولات

وفي المسألة آراء نشير إليها :

١. نظرية المحقّق الخراساني

لقد اختار المحقّق الخراساني فيها ما اختاره في الحروف من أنّ الوضع عام والموضوع له والمستعمل فيه كذلك ، وانّ أسماء الإشارة مثل « هذا » والضمائر الغائبة والحاضرة كلّها وضعت لنفس المفرد المذكر على النحو الكلي ، إمّا ليشار بها إلى معانيها كأسماء الإشارة والضمائر الغائبة ، أو يخاطب بها كما في الضمائر الخطابية ، ولما كانت الإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص ، لأنّ الإشارة والتخاطب لا يكاد يكون إلاّ إلى الشخص أو معه ، فتعرض الخصوصية من ناحية الاستعمال كما لا يخفى. (١)

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦.

٦٨

فعلى ما ذكره يكون الموضوع له هو ذات المفرد المذكر ونفس المشار إليه مع قطع النظر عن كونه بوصف المشار إليه ، لكن النظرية يحيطها شيء من الغموض لأنّه يقول : « وضعت لنفس المفرد المذكر على النحو الكلّي ليشار بها إلى معانيها ».

فماذا يريد من الإشارة؟ فإن أراد الإشارة بنفس اللفظ ، فهو غير معقول ، لأنّه إذا كان موضوعاً لنفس المفرد المذكر فاستعماله فيه لا يستلزم إلاّ إحضار نفس المعنى لا أمراً زائداً عليه.

وإمّا أن يراد الإشارة الحسية بالاصبع وغيره ، فمع أنّه يستلزم عدم صحّة استعماله إلاّ مع الإشارة يلزم عدم صحّة الضمائر الخطابية ، فانّ الخطاب لا يتحقّق إلاّ بنفس اللفظ لا بأمر آخر حيث نقول : « خرجت أنت ».

٢. النظرية الثانية : نظرية المحقّق البروجردي

وهذه النظرية على طرف النقيض من النظرية السابقة ، لأنّها تعتمد على أنّ أسماء الإشارة وضعت لنفس الإشارة من دون أن يدخل فيها المشار إليه ، أعني : المفرد المذكّر ، وقد تبعه السيّد الأُستاذ قدس‌سره.

وحاصل النظرية : انّ أسماء الإشارة والضمائر والموضوعات ، التي يجمعها « المبهمات » وضعت لنفس الإشارة فيكون لفظ « هذا » بمنزلة الإشارة بالاصبع فيكون آلة للإشارة ، والإشارة أمر متوسط بين المشير والمشار إليه. وعلى ذلك يكون عمل المبهمات كلّها عملاً إيجادياً ، ولأجل ذلك ينتقل الذهن بعد سماعها إلى المشار إليه.

ولعلّه إلى ذلك يشير ابن مالك في ألفيّته بقوله :

بذا ، لمفرد مذكر أشر

بذي وذه ، تي تا على الأُنثى اقتصر

فهو يقول : إنّ لفظ « ذا » موضوع لنفس الإشارة لا للمشار إليه ، ومثله

٦٩

الضمائر فيشار بلفظ « أنا » إلى المتكلّم ، وبلفظ « أنت » إلى المخاطب ، وبلفظ « هو » إلى الغائب. ولأجل ذلك يجب أن يكون المشار إليه متعيّناً إمّا تعيّناً خارجياً أو ذكرياً ، كما في ضمير الغائب ، أو وصفياً كما في الموصولات حيث يشار لها إلى ما يصدق عليه مضمون الصلة. (١)

يلاحظ عليه : أنّه إذا كانت أسماء الإشارة موضوعة لنفس الإشارة ، فالإشارة معنى حرفي قائم بالمشير والمشار إليه ، ولازم ذلك أن لا يقع مبتدأً مع أنّ الواقع خلافه ، وقد أجاب عن هذا الإشكال السيّد الأُستاذ بقوله : بأنّ المبتدأ هو الشخص الخارجي وقد أُحضر بواسطة اللفظ ، والمحمول إنّما يحمل على ذلك الشخص الخارجي.

لكن الإجابة غير مقنعة ، إذ لازم ذلك تركيب الكلام من جزء ذهني وهو المحمول ، وجزء خارجي وهو الموضوع. والالتزام بصحّة هذا النوع من الكلام كما ترى.

على أنّ بعض المبهمات مثل « من » ، « ما » ، « أي » لا يتبادر منها الإشارة كقوله : ( يُسَبِّحُ للّهِ ما فِي السَّموات وَما فِي الأَرْض ). (٢)

وقوله تعالى : ( فَأَيُّ الفَريقينِ أَحَقُّ بالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون ). (٣)

وقوله عليه‌السلام : « من كان على يقين وشكّ فليمض على يقينه ». (٤)

٣. النظرية المختارة

إنّ أسماء الإشارة لم توضع لنفس المفرد المذكر كما في النظرية الأُولى ، ولا لنفس الإشارة مع قطع النظر عن المشار إليه كما في النظرية الثانية ، بل وضعت

__________________

١ ـ نهاية الأُصول : ٢١ ـ ٢٢.

٢ ـ الجمعة : ١.

٣ ـ الأنعام : ٨١.

٤ ـ الوسائل : ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

٧٠

للمفرد المذكر في حال الإشارة على نحو يكون القيد ( أي الإشارة ) خارجاً والتقيّد داخلاً ، وهذا هو الذي اختاره المحقّق الاصفهاني فقال : إنّ أسماء الإشارة والضمائر وبعض المبهمات موضوعة لنفس المعنى في حال تعلّق الإشارة به خارجاً أو ذهناً على نحو القضية الحينية (١). فقولك « هذا » لا يصدق على زيد إلاّ إذا صار مشاراً باليد أو بالعين ، والفرق بين مفهوم لفظ « المشار إليه » ولفظ « هذا » هو الفرق بين لفظ الربط ومفهوم « في » و « من ». (٢)

توضيحه : انّه يمكن استظهار حال أسماء الإشارة من الإشارة التكوينية فانّ دورها هو إحضار المشار إليه عن طريق الإشارة بالاصبع والعصا ، وكان الإنسان البدائي يحضرها بالاستعانة بالإشارة التكوينية ، ولمّا تقدّم في مجال الحضارة قامت الألفاظ مكان الأعمال ، ووضع لفظ « هذا » مكان العمل التكويني فكانت النتيجة إحضار المشار إليه عن طريق الإشارة اللفظية فيكون الموضوع له ، الذاتَ الواقعة في إطار الإشارة ومجالها أو حين الإشارة.

وبالجملة المتبادر من أسماء الإشارة هو الذات المتقيدة بالإشارة على نحو يكون القيد خارجاً والتقيّد داخلاً. ودخول الإشارة بالمعنى الحرفي لا بالمعنى الاسمي.

وبذلك تظهر كيفية الوضع فهو عام فيكون الملحوظ قبل الوضع عاماً ( الذات في مجال الإشارة ) لكن الموضوع له خاص ، لأنّ الإشارة الخارجية ( لا مفهوم الإشارة ) معنى حرفي لا جامع مقولي بين أفرادها. فيتوصل بلفظ ( المفرد المذكر عند الإشارة ) إلى مصاديقها فتوضع عليها ، فيكون الموضوع له خاصاً.

ومنه تظهر حال الضمائر : الخطاب والتكلّم والغيبة حرفاً بحرف ، فالمتبادر

__________________

١ ـ بل المقيدة بالإشارة كما سيوافيك في التوضيح.

٢ ـ نهاية الدراية : ١ / ٢١.

٧١

من لفظ « أنت » و « أنا » و « هو » الذات عند الإشارة وإن كانت الإشارة في الضمير الغائب أضعف من الأوّلين.

ثمّ إنّ الإشارة اللفظية تتكفّل وراء إحضار المشار إليه ، بيان إفراده وتثنيته وجمعه وتذكيره وتأنيثه ، حضوره وغيبته ، ولذلك مسّت الحاجة إلى وضع الألفاظ وعدم الاكتفاء بالإشارات التكوينية.

وأمّا الموصول فالظاهر عدم وجود الإشارة فيه فهو بأسماء الأجناس أشبه ، ولأجل اشتمالها على الإبهام المطلق دون أسماء الأجناس تلزم الصلة بعدها ، فالظاهر انّ الوضع فيها عام كالموضوع له.

الجهة الثامنة : في الإخبار والإنشاء

الجمل الإنشائية على ضربين :

فضرب منها يُستخدم في باب الأمر والنهي ، وقسم منها في العقود والإيقاعات ، مثل قولك « بعت » أو « أنت طالق » إذا كنت في مقام الإنشاء ، وقد اختلف الأُصوليون في تبيين الفرق بين الإخبار والإنشاء على وجوه :

١. نظرية المحقّق الخراساني

اختار المحقّق الخراساني في المقام نفسَ ما اختاره في المعاني الاسمية والحرفية من عدم دخول واقعية الانشاء والاخبار في الموضوع له ، وإنّما هما من قيود الوضع وطوارئ الاستعمال. فمفاد « بعت » نسبة مادة البيع إلى المتكلّم إمّا بقصد ثبوت معناه في موطنه فإخبار ، أو بقصد تحقّقه وثبوته بنفس الاستعمال فإنشاء. (١)

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦.

٧٢

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلاف الحكمة فإذا كان المعنى في حدّ ذاته على قسمين ويريد المتكلّم تارة حكاية المعنى وأُخرى إيجاده بنفس الاستعمال ، فلا وجه للعدول عن هذا الطريق الطبيعي وجعل اللفظ لمعنى مشترك بين القسمين.

وبالجملة : اخراج مفاد الإخبار والإنشاء عن نطاق الموضوع له وجعلهما من قيود الوضع خلاف الوضع الطبيعي.

٢. نظرية المحقّق الخوئي

إنّ للمحقّق الخوئي في باب الفرق بين الإنشاء والإخبار نظرية شاذة خالف فيها المشهور ، توجد جذورها في كلام المحقّق الإيرواني. (١) وقد ذكره في تعاليقه في أجود التقريرات. (٢) وقرره تلميذه في المحاضرات ، ونحن نذكر ما في الأخير حيث قال : إنّ الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز أمر نفساني خاص ، وكلّ متكلّم متعهد بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك ، يتكلّم بالجملة الإنشائية. مثلاً : إذا قصد إبراز اعتبار الملكية ، يتكلّم بصيغة « بعت » أو « ملكت » وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجية ، يبرزه بقوله : « زوجت » أو « أنكحت » وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المخاطب ، يتكلم بصيغة « إفعل » ونحوها.

فالجمل الإخباريةوالإنشائية تشترك في الدلالة على الإبراز ، إلاّ أنّ الأُولى مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر ، وتلك مبرزة لاعتبار من الاعتبارات كالملكية والزوجية ونحوهما.

واستدلّ على ذلك بأنّ المراد من كون الإنشاء للإيجاد ، إمّا الإيجاد التكويني فهو بيّـن البطلان ، وإمّا الإيجاد الاعتباري ، كإيجاد الوجوب والحرمة والملكية

__________________

١ ـ نهاية الدراية : ١ / ١٣.

٢ ـ أجود التقريرات : ١ / ٢٥ ـ ٢٦.

٧٣

والزوجية ، فيرده أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلّم ، فإنّ الإيجاد يتحقّق بالاعتبار النفساني سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن ، ومن هنا يعلم أنّه لا فرق بينها وبين الجمل الاخبارية. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ لازم ما ذكره هو رجوع الإنشاء إلى الإخبار وقبوله الصدق والكذب مثل الاخبار ، فإذا كانت الجملة مطلقاً سواء كانت إنشائية أو إخبارية موضوعة للإبراز غير انّ المبرَز تارة يكون قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ، وأُخرى الابراز عمّا في الذهن من اعتبار المالكية للمشتري والزوجية لزيد. فعندئذ يكون مفاد الجملة الإنشائية كالجملة الإخبارية ، غير أنّ إحداهما تحكي عن الخارج والثانية عن عمل الذهن ، ويتوجه عليه انّه يحتمل الصدق والكذب ، وهذا هادم لما هو المعروف من أنّ الجملة الإنشائية لا يصحّ وصفها بالصدق أو الكذب.

ثانياً : أنّ لازم ذلك كون « بعت » و « زوجت » مرادفاً لاعتبار الملكية للمشتري أو الزوجية للزوج وهو كما ترى.

ثالثاً : أنّ ما ذكره من أنّ الإيجاد يتحقّق بالاعتبار النفساني سواء أكان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن ، غير تام ، وذلك لأنّه مبني على أنّوعاء الاعتبار هو الذهن ، وقد تم فيه مع أنّ الأُمور الاعتبارية لا خارجية ولا ذهنية ، بل لها واقعية في عالم الاعتبار ، والأثر مترتب على إيجاد الموضوع في ذلك الوعاء لا في وعاء الذهن.

فقولك : زوجت هذه لهذا إيجاد للزوجية في عالم الاعتبار لا في وعاء الذهن ، فما اعتبره في الذهن يكون كالمقدمة والأرضية الصالحة لإنشاء ما اعتبره في الذهن في عالم الاعتبار باللفظ على نحو يعد ذلك العمل في تلك الظروف وعاءً للإنشاء.

__________________

١ ـ المحاضرات : ١ / ٩٤ ـ ٩٥.

٧٤

وإن شئت قلت : إنّ الأثر غير مترتب على التصورات الذهنية وان ابرزه باللفظ ، بل الأثر مترتب على النقل والانتقال الإنشاءيّين بالسبب القولي أو السبب الفعلي. وأنت إذا لاحظت حقيقة المعاطاة تقف على أنّ الغاية هي إيجاد البيع بالسبب الفعلي الذي كان الإنسان البدائي يزاوله.

٣. النظرية المختارة

إنّ مشاهير الأُدباء والأُصوليين ذهبوا إلى أنّ دور الصيغ الإنشائية دور الإيجاد لمعانيها لا الكشف عن حقيقة خارجية أو ذهنية ، فقولك : « زوّجت » إيجاد للزوجية ، و « بعتُ » إيجاد للملكية ، و « هل قام زيد » إيجاد للاستفهام بالحمل الشائع ، والكلام في المقام في العقود والإيقاعات التي تدور عليها رحى الحياة فنقتصر على توضيحها ، وأمّا الكلام عن سائر الإنشائيات كمدلول الأمر والنهي فنرجئ البحث عنها إلى مكانها.

لا شكّ أنّ الزوجية والملكية والرئاسة اعتبارات اجتماعية ، إنّما الكلام في كيفية اعتبارها وانتقال الإنسان الاجتماعي إلى تلك الأُمور الاعتبارية ، فنقول :

إنّ سبب الانتقال إلى اعتبار هذه الأُمور إنّما هو التكوين ، مثلاً :

يرى الإنسان في الخارج أمرين مماثلين ، كالعينين والأُذنين والرجلين واليدين على نحو كلّ يدعم الآخر في العمل ومن جانب آخر يلمس الإنسان انّ بين الرجل والمرأة تجاذباً جنسياً وعاطفياً على نحو يُكمل كلّ منهما الآخر في مجالات مختلفة ، وهذا ما يدفع الإنسان الاجتماعي إلى اعتبارهما زوجين كالأُذنين ، غير انّ زوجية الأُذنين بالتكوين وزوجية الرجل والمرأة بالاعتبار والتنزيل.

ثمّ إنّ الزوجية الاعتبارية كالزوجية التكوينية تحتاج إلى عامل يوجدها

٧٥

ويحقّقها ، فالعامل المكوّن للزوجية التكوينية هو خالق الكون ، والمكوّن للزوجية الاعتبارية هو السبب اللفظي أو السبب الفعلي ، فيقول : زوجت هذه بهذا ، أو زوجت المرأة المعلومة بالرجل المعلوم ، وبذلك يوجد ما اعتبره من الزوجية في عالم الاعتبار وعلى صعيد القانون بحيث يتلقّى العرف كلاً زوجاً للآخر.

ولك أن تجري ذلك البيان في الملكية الاعتبارية ، فانّ الإنسان يحسّ من جانب انّه مالك لكلّ عضو من أعضائه ولذلك يضيف الأعضاء إلى نفسه فيقول : يدي ورجلي وعيني وسمعي ، وهذه الملكية ملكية تكوينية.

ومن جانب آخر انّه يرى نفسه أولى من غيره لما جناه بيده من السمك من البحار والبلوط من الغابات ، بل يرى كلّ ما حصّله ببدنه وسائر أعضائه أولى بها من غيرها ، ولذلك يخاطب أمير المؤمنين عليه‌السلام جنوده ويقول : « فَجَناةُ أيديهم لا تكونُ لغيرِ أفواهِهِم ». (١)

ثمّ إنّه يحسّ في الحياة الاجتماعية إلى ضرورة التبادل بين ما يرى نفسه أولى به وما يراه الآخر أولى به ، كدفع السمك الذي اصطاده من البحر إلى من يملك الحنطة فيقوم بالمبادلة يقول : بعت هذا بهذا ، أي ملكتك ما مَلِكتُ ، غير انّ الملكية التكوينية تحتاج إلى عامل تكويني ولكنّها في المقام بعامل لفظي.

وبذلك يعلم أنّ عالم الاعتبار عبارة عن تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، أو تنزيل الموجود الاعتباري منزلة التكويني وأخذ الثاني أُسوة للجعل والإنشاء.

ولك أن تجري ذلك البيان في الرئاسة فانّ الرأس يدير البدن تكويناً فالإدارة بما أنّها أمر تكويني منحها اللّه سبحانه هذه المسؤولية إليه هذا من جانب ، ومن جانب آخر إذا كان هناك مجتمع لغاية عقلائية فالضرورة تقضي وجود مدير

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٢.

٧٦

لهم وعند ذلك يعتبره رئيساً ، أي يعطي ما للرأس من الحكم التكويني لهذا الإنسان. وينشأ ما اعتبر ، بقوله : جعلته حاكماً ورئيساً لكم ، وبذلك يتبين انّ عامل الاعتبار كنفس المعتبرات ليس لها في الواقع والخارج مصداق يخصّه ولكن الحياة تدور على هذه المفاهيم الوهمية.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الأحكام الإنشائية لا توصف بالصدق أو الكذب ، لأنّ السبب أعني : اللفظ أو الفعل وضعا للإيجاد ، والمفروض تحقّقه ويتلوه المسبب ، والصدق والكذب من آثار الحكاية.

الجهة التاسعة : في مفاد هيئة الجملة الاسمية

المعروف بين المنطقيين أنّ القضية تتركب من أُمور ثلاثة : الموضوع ، المحمول ، والنسبة ، وهي إمّا إيجابية أو سلبية ، وعلى ذلك فالقضية مشتملة على نسبة كلامية والدالّ عليها هيئة الجملة الاسمية.

ثمّ إن وافقت النسبةُ الموجودة في القضية الملفوظة أو المتصورة ، النسبةَ الخارجية ، فالقضية صادقة ، وإلاّ فهي كاذبة.

فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في اشتمال القضية على النسبة التي نعبر عنها بالنسبة الكلامية.

الثاني : في وجود النسبة الخارجية.

والدليل الوحيد في المقام الأوّل هو التبادر ، كما أنّ الدليل في المقام الثاني هو البرهان العقلي. فلا يختلط عليك المقامان من حيث التحليل واختلاف البرهان.

أمّا الأوّل : فالظاهر عدم اشتمال القضية الحملية على النسبة الكلامية ، وذلك لأنّ هيئة الجملة الاسمية لم توضع لها بل وضعت للهوهوية وانّ هذا ذاك ،

٧٧

فإذا لم يكن هناك دالّ على النسبة الكلامية ، فمن أين نعلم بأنّ القضية الكلامية تشتمل على النسبة؟ هذا ، وانّ التبادر ببابك ، فلاحظ القضايا الحملية ترى أنّ المتبادر هو الهوهوية وانّ هذا ذاك لا أنّ هنا موضوعاً وهناك محمولاً وهناك نسبة تَربط المحمول بالموضوع ، فهذا غير متبادر جدّاً.

وإليك دراسة القضايا :

١. القضايا الحملية الأوّلية مثل : الإنسان إنسان أو حيوان ناطق.

٢. القضايا الحملية الشائعة بالذات مثل : البياض أبيض.

٣. القضايا الحملية الشائعة بالعرض مثل : الجسم أبيض.

والفرق بين القسمين الأخيرين أنّ الموضوع في الأوّل مصداق حقيقي للمحمول وفي الثاني مصداق له بالعرض ، فانّ ما هو الأبيض واقعاً هو البياض ، وأمّا الجسم فإنّما يكون أبيض ببركة ذلك العارض له.

٤. قضايا الهلية البسيطة مثل : زيد موجود.

٥. قضايا الهلية المركبة مثل : زيد قائم.

ففي جميع هذه الموارد يتبادر من الهيئة الهُوهويّة ، أي كون المحمول عين الموضوع مفهوماً أو مصداقاً. ولا تتبادر الكثرة حتى يُربط أحدهما بالآخر بالنسبة ، فإذا سألك سائل بقوله : هل زيد قائم أو موجود؟ فانّه يسأل عن أنّه هل هو ولا يسأل عن ثبوت الوجود أو القيام لزيد ، من دون فرق بين كون المشتق مركباً أو بسيطاً ، لأنّ الكلام ليس في مفهوم المشتق بل الكلام في مفهوم الجملة التركيبية فبساطة المشتق وتركبه غير مؤثر في ذلك.

هذا كلّه في الحمليات الموجبة بعامة أقسامها.

وأمّا الحمليات السالبة فالهيئة فيها موضوعة لسلب الحمل ونفي الهوهوية ،

٧٨

فمعنى قول القائل : ليس زيد عالماً هو سلب كونه هو هو ، وانّه لا اتحاد بينهما ، وليس معناه حمل النسبة السلبية على زيد.

فالسوالب المحصلة من القضايا الحملية لسلب الهوهوية لا حمل النسبة السلبية على زيد.

هذا كلّه في الحمليات الحقيقية ، وأمّا الحمليات المؤوّلة ، أعني : ما تتخللها الأدوات مثل « في » و « على » فالحقّ انّ موجباتها تشتمل على النسبة الكلامية أوّلاً والخارجية ثانياً دون سالباتها ، فالأوّل مثل قولك : « زيد في الدار » أو « زيد على السطح » لأنّ تفسير الجملة عن طريق الهوهوية غير تام ، إذ لا يمكن أن يقال انّ زيداً هو نفس في الدار ، بل لابدّ من القول باشتمال الجملة على النسبة وهي انّ هنا زيداً ، كما أنّ هنا داراً وشيئاً ثالثاً وهو كون زيد فيها. وهو أمر وراء الموضوع والمحمول. وهذا من غير فرق بين مقام الدلالة ومقام الخارج ، ففي الخارج أيضاً زيد وسطح واستقرار زيد عليه نظير قولك : « الماء في الكوز » ، ففي هذا النوع من الحمليات ترافق النسبةُ الكلامية ، النسبةَ الخارجية.

وأمّا السوالب فهي لسلب النسبة ، فقولك : ليس زيد في الدار ، سلب للنسبة المذكورة الكلامية أو الخارجية.

وبذلك يعلم أنّ متعلّق السلب تابع لما هو مدلول القضية الحملية الموجبة ، فلو كان مدلولها هو الهوهوية فالسلب يتعلّق بسلب الهوهوية كما أنّه لو كان موجبها هو النسبة وحصول شيء في شيء أو على شيء فالسلب يتعلّق بسلب تلك النسبة.

إلى هنا تبيّن عدم اشتمال الجمل الاسمية على النسبة الكلامية إلاّ في الحملية المؤوّلة الموجبة ، فالقول بالاشتمال فيها هو الصحيح.

٧٩

الثاني : في النسبة الخارجية

هذا كلّه حول المقام الأوّل ، وأمّا المقام الثاني أي عدم وجود النسبة الخارجية بين الموضوع والمحمول في عالم التطبيق ، فالدليل الوحيد هو البرهان لا التبادر.

والبرهان يثبت عدمها في القضايا التالية :

١. الحمل الأوّلي كقولك : الإنسان إنسان أو حيوان ناطق ، فلا نسبة خارجية بين الأمرين لامتناع جعل الربط بين الشيء ونفسه ، فانّ النسبة فرع التعدد والمفروض هو الوحدة في مقام المفهوم فضلاً عن مقام المصداق.

٢. الهلية البسيطة ، مثل قولك : زيد موجود ، فانّ القول بوجود النسبة الحرفيّة بين الطرفين يستلزم استقلال الماهية وكونها طرفاً للنسبة وهو باطل.

٣. الهلية المركبة ولكن المحمول من قبيل الذاتي في باب البرهان كقولك : زيد ممكن ، وإذ يمتنع أن تكون هناك نسبة خارجية بين زيد وإمكانه ، لأنّ المفروض انّ المحمول ينتزع من صميم الموضوع وحاقه على نحو يكون وضع الموضوع كافياً لوضع المحمول ، فكيف يمكن أن يكون هناك رابط بينهما؟

٤. الحمل الشائع بالذات ، مثل قولنا : البياض أبيض ، لامتناع تصور النسبة بين الشيء ومصداقه الذاتي.

فلم يبق إلاّ الحمل الشائع بالعرض ، مثل قولنا : الجسم أبيض أو زيد قائم ففيه التفصيل بين النسبة الكلامية والنسبة الخارجية ، فالأُولى منتفية لما عرفت من أنّ الهيئة الكلامية موضوعة للهوهوية لا للنسبة ، وأمّا الثانية فهي متحقّقة فانّ زيداً شيء والقيام شيء آخر ، وحصول القيام له أمر ثالث.

ومنه تظهر حال الحمليات المؤوّلة نحو زيد في الدار ، أو زيد على السطح ،

٨٠