إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

الأمر الثاني

في الوضع

وفيه جهات من البحث :

الجهة الأُولى : في حقيقة الوضع (١)

منها : الوضع ، هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيها أُخرى. (٢)

يلاحظ عليه :

١. انّ اختصاص اللفظ بالمعنى والارتباط المذكور من نتائج الوضع ، ناشئ منه وليس نفسه.

٢. انّ الارتباط المذكور كما يحصل بالأمرين اللّذين أشار إليهما ، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في المعنى بداعي الوضع ، وسيوافيك تفصيله عند البحث في الحقيقة الشرعية على أنّ تصوير الجامع بين القسمين من الوضع مشكل.

٣. انّ التعريف لا يخلو من إجمال ، حيث قال : نحو ارتباط بين اللفظ و

__________________

١ ـ لقد استأثرت هذه البحوث باهتمام خاص في علم الألسنة الذي يدرس في الجامعات كعلم مستقل ، له خصوصياته واستيعاب البحث فيه يخرجنا عن المقصود ، إنّما نكتفي بالإشارة إليه على وجه عابر.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٠.

٤١

المعنى ، دون أن يُبيّن حقيقة هذا الربط.

ومنها : انّ حقيقة الوضع ليست إلاّ التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى. (١)

وهذا التعريف هو المعروف بمسلك التعهد في الوضع ، وأوّل من فسّر الوضع به هو المحقّق النهاوندي ( المتوفّى ١٣١٧ هـ ) وتبعه تلميذه أبو المجد الاصفهاني ( ١٢٨٥ ـ ١٣٦٢ هـ ) والمحقّق الخوئي ( ١٣١٧ ـ ١٤١٣ هـ ) في محاضراته وتعليقاته على أجود التقريرات.

قال أبو المجد في شرح مرام أُستاذه : الوضع عبارة عن التعهّد ، أعني : تعهد المتكلّم للمخاطب والتزامه بأنّه لا ينطق بلفظ خاص إلاّ عند إرادته معنى خاصاً ، أو أنّه إذا أراد إفهامه معنى معيناً ، لا يتكلّم إلاّ بلفظ معيّن ، فمتى تعهد له بذلك وأعلمه به حصلت الدلالة وحصل الإفهام. (٢)

يلاحظ عليه بوجوه :

١. انّه من قبيل خلط الغاية من الفعل ، بنفس الفعل. فالوضع شيء والغاية المتوخّاة منه شيء آخر ، فالتعهد المذكور في كلامه غاية الوضع حتى يخرج فعل المتكلّم عن اللغوية.

وإن شئت قلت : الوضع عمل خاص يستعقب ذلك التعهدَ وليس نفسَه.

٢. لو كانت حقيقة الوضع ذاك التعهد ، لزم كون كلّ مستعمل واضعاً ، لالتزام كلّ مستعمل تفهيم المعنى عند التكلّم باللفظ المخصوص والالتزام به أمر

__________________

١ ـ تشريح الأُصول : للمحقق النهاوندي.

٢ ـ وقاية الأذهان : ٦٢ ، ط مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢

غريب وإن التزم به بعض المحقّقين. (١)

٣. انّ الالتزام بالتعهد في الوضع ، غير لازم بل يكفي فيه مجرّد جعل اللفظ في مقابل المعنى بداعي الانتقال إليه عند التكلّم كما هو الحال في سائر الدوال كالعلائم الرائجة لإدارة المرور.

وقد تفطن المحقّق الاصفهاني لما ذكرناه من كون كيفية الدلالة والانتقال من اللفظ وسائر الدوال على نهج واحد بلا إشكال.

فقال : فليس من ناصب العلامة على رأس الفرسخ إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه ، من دون أيّ تعهّد منه. (٢)

نظرنا في حقيقة الوضع

والحقّ انّ الوضع (٣) عبارة عن تعيين الألفاظ في مقابل المعاني فقط ، وأمّا التزام الواضع بأنّه متى أراد تفهيم المعنى ، يتكلّم بهذا اللفظ فهو الغرض الداعي إلى ذلك الجعل ، والذي يدلّ على أنّ حقيقة الوضع لا تتجاوز عن ذلك ، أمران :

الأوّل : انّ وظيفة الأخصّائيين في اللغة العربية هي وضع الألفاظ بازاء المعاني ، فإذا كانت هناك اصطلاحات علمية أو اجتماعية غير دارجة في اللغة العربية ، فانّ هؤلاء الأخصّائيين يضعون بازائها ألفاظاً من اللغة العربية وبعد أن يتمّ الاتفاق عليها ، يذاع أمرها فتستعمل.

فإذا كان عملهم لا يتجاوز إلاّ جعل اللفظ بازاء المعنى فليكن كذلك عمل السائرين عبر الزمان من أهل اللغة.

__________________

١ ـ تعاليق أجود التقريرات : ١ / ١٢.

٢ ـ نهاية الدراية : ١ / ١٤.

٣ ـ المقصود ، التعييني ، لا التعيّني لما مرّ في ص ٤١.

٤٣

الثاني : انّ مسؤولية إدارة المرور هي عبارة عن « وضع علائم للوظائف » التي ينبغي لسائقي الشاحنات والناقلات الالتزام بها بغية تنظيم المرور ، وعملهم هذا أشبه بعمل الواضع فليكن عمل المتقدمين من أهل اللغة كذلك.

الجهة الثانية : وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ ومعانيها

قد نقل عن غير واحد من أهل الأدب وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ والمعاني وذلك لصيانة عمل الواضع عن الترجيح بلا مرجح ، فانّ جعل لفظ في مقابل معنى فعل اختياري صادر من الإنسان الذي لا يرجِّح أحد الطرفين إلاّ بمرجح وليس هو إلاّ وجود العلقة الذاتية.

يلاحظ عليه : لو صحّ ذلك لزمت لغوية الوضع إذ تكون دلالة اللفظ على المعنى أشبه بدلالة الدخان على النار ، أو دلالة السعال على وجع الصدر. (١)

نعم يمكن تفسير القول بالعلقة الذاتية بين اللفظ والمعنى بوجه آخر ، وهو أنّ التتبع يكشف عن أنّ الإنسان كان يسمِّي الحيوانات بأصواتها كالهدهد ، والبوم ، والحمام ، والعصفور ، والهرة ، كما يستند في حكاية الأفعال والحركات إلى أصواتها ، كالدق ، والدك ، والشق ، الكسر ، الصرير ، الدوي ، النهيق ، ولأجل ذلك ربّما يمكن أن يقال : إنّ كلّ إنسان بما هو مفطور على إظهار ما في ضميره ، كان ينتخب لإبراز ما في ضميره ألفاظاً يرى بينها وبين معانيها مناسبة خيالية أو وهمية كالمشابهة في الشكل والهيئة وغير ذلك من المناسبات ، فها هو لفظ الهيولى فانّه بمعنى « المادة الأُولى » لكن يستعمل العرف الخاص في الموجود المَهيب ، لما يراه بين ذلك اللفظ والمعنى من مناسبة وهمية.

__________________

١ ـ الدلالة الأُولى عقلية ، والثانية طبعيّة.

٤٤

وبذلك يجاب عمّا يقال بأنّه لولا العلقة الذاتية بين اللفظ والمعنى يلزم الترجيح بلا مرجح ، وذلك لما عرفت من أنّه يكفي وجود التناسب الوهمي والخيالي وغيرهما في انتخاب اللفظ ولا يحتاج إلى المناسبة الذاتية.

الجهة الثالثة : في تعيين الواضع

إنّ الإمعان في الحياة البشرية الغابرة ، يُثبت بأنّ الحضارة الإنسانية بأبعادها ليست وليدة يوم أو شهر أو سنة ، بل الإنسان خرج من البداوة والحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية بالتدريج فهو عبْر تعمير الأرض بأنحائها المختلفة كان بحاجة شديدة إلى المفاهمة والمكالمة ، وقد خلق اللّه سبحانه مادتها في فطرته ، وقال : ( علّمه البيان ) فالحاجة دعته إلى إفهام ما في ضميره من الحوائج بإنشاء ألفاظ مقابل معان بالتدريج فلو قلنا إنّ لكلّ لغة واضعاً ، فالواضع هو البشر عبر الزمان بإذن اللّه سبحانه بالتدريج ولم يزل الأمر كذلك في مستقبل الحضارة حيث انّ الألفاظ تزداد ، وفق زيادة المعاني.

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواضع هو اللّه تبارك وتعالى ، وهو الواضع الحكيم حيث جعل لكلّ معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا ، وجعله تبارك وتعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الأُمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك. فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر ، ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبيّ أو وصيّ ، بل يلهم اللّه تبارك وتعالى عباده على اختلافهم كلّ طائفة بالتكلّم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص.

٤٥

واستدل على ذلك بأمرين :

الأوّل : لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ ، بقدر ألفاظ أيّ لغة لما قدروا عليه فما ظنك بواحد.

الثاني : كثرة المعاني ، فانّه يتعذّر تصوّرها من شخص أو أشخاص. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّه سبحانه وضع الألفاظ لمعانيها ثمّ ألهم بها الإنسان أمر محتمل ، وربما يشير إليه سبحانه : ( الرّحمن * علّمَ القُرآن * خَلَقَ الإِنْسان * عَلَّمَهُ البَيان ) لا يخالف ما اخترناه آنفاً ، لكن ما استدلّ عليه بالوجهين غير تام. لأنّه إنّما يتمّ لو كان هناك واضع خاص أو أشخاص معينون ، وأمّا على القول بأنّ أصل كلّ لغة وتكاملها يرجع إلى جهد الإنسان عبر سنين طويلة فلا بعد في أن يقوم البشر طيلة هذه السنين بوضع لغات متعددة لمعاني كثيرة.

الجهة الرابعة : في أقسام الوضع

قُسِّم الوضع إلى أقسام أربعة :

١. الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

٢. الوضع العام والموضوع له العام.

٣. الوضع العام والموضوع له الخاص.

٤. الوضع الخاص والموضوع له العام.

وقد اتّفق علماء الأُصول على إمكان الأوّلين ووقوعهما ، والأكثر على إمكان الثالث ووقوعه وامتناع القسم الرابع.

غير انّ المهم هو الوقوف على ما هو الميزان في كون الوضع خاصّاً أو عامّاً؟

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ١١ ـ ١٢.

٤٦

ثمّ البحث عن القسمين إمكاناً ووقوعاً وإجمال الكلام فيه على انّ الوضع يقوم بأمرين :

الأوّل : اللفظ وهو الموضوع.

الثاني : المفهوم الملحوظ.

والمدار في وصف الوضع بكونه خاصّاً أو عامّاً ، هو كون الملحوظ خاصّاً ، أو عاماً. فلو كان الملحوظ خاصّاً فالوضع خاص. ولو وضع اللفظ لنفس الملحوظ الخاص يكون الموضوع له خاصاً أيضاً. ولو كان الملحوظ عاماً فالوضع عام ولو وضع اللفظ لنفس الملحوظ العام يكون الموضوع له عامّاً أيضاً.

وأمّا إذا كان المفهوم الملحوظ عامّاً لكن لم يوضع اللفظ بازائه ، بل بازاء مصاديقه ، فيكون الوضع عامّاً لكون الملحوظ عاماً ، والموضوع له خاصاً ، لأنّ الوضع للأفراد والمصاديق ، وهذا كأسماء الإشارة حيث إنّ الملحوظ طبيعة المفرد المذكر والموضوع له مصاديق ذلك الملحوظ العام.

وأمّا إذا كان المفهوم الملحوظ خاصّاً لكن لم يوضع اللفظ بازاء ذلك الخاص بل بازاء الجامع بين ذلك الفرد وسائر الأفراد ، يكون الوضع خاصّاً والموضوع له عاماً.

إلى هنا وقفنا على واقع التقسيم الرباعي في مجال الوضع ، فإذا كان الأوّل والثاني ممكنين وواقعين فلا نبحث فيهما وإنّما نركز الكلام على الثالث والرابع.

القسم الثالث : إمكاناً ووقوعاً

فنقول : المشهور بين الأُصوليين إمكان الثالث ووقوعه ، وقد قرروا إمكانه بوجوه :

٤٧

الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني في « الكفاية » ، قال :

إنّ العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك ، فانّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص فانّه بما هو خاص لا يكون وجهاً للعام ولا لسائر الأفراد ، فلا تكون معرفته وتصوّره معرفة له ولا لها أصلاً ولو بوجه. (١)

وحاصل هذا الوجه : انّه لا يشترط في تصوّر الموضوع له تصوّره تفصيلاً ، بل يكفي تصوّره إجمالاً ، ويكفي في ذلك معرفة الأفراد بوجهها وهو العام.

يلاحظ عليه : أنّ معنى كون الشيء وجهاً ، هو كونه مرآة له وحاكياً عنه ، والحكاية فرع الوضع ، والمفروض أنّ الملحوظ العام كالحيوان الناطق لم يوضع إلاّ لنفس الحقيقة المعرّاة عن كلّ قيد وشرط ، فكيف يمكن أن يحكي المعنى المطلق ، عن القيود والخصوصيات التي بها قوام الفرديّة؟!

والحاصل : انّ القدر المشترك بما هو قدر مشترك والذي نعبّر عنه بالملحوظ لا يحكي إلاّ عن القدر الجامع عن الخصوصيات وفردية الفرد بالثانية دون الأُولى.

الثاني : ما ذكره المحقّق الخوئي ، حيث قرر إمكان القسم الثالث بما هذا خلاصته : الفرق بين القضية الخارجية والحقيقية ، هو انّ الحكم في الأُولى مقصور على الأفراد الموجودة في ظرف الحكاية ، مثل قولك : « قُتل من في العسكر » و « نهب ما في الدار » وأمّا الحقيقية فالحكم فيها مجعول على الأفراد المحقّقة ، والمقدّرة في الأزمنة الآتية ، مثل قولك : كلّ إنسان كاتب بالقوّة.

فكلّ إنسان موجود في ظرف الحكم والموجود في الأزمنة الآتية المقدرة ظرفه ، مشمول لهذا الحكم ، وليس هذا إلاّ لأجل أخذ الطبيعة في موضوع الحكم

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٠.

٤٨

على وجه سارية في أفرادها ، وجارية في مصاديقها ، فيشمل كلّ فرد محقّق في ظرفه ، وما قيل من أنّ العام لا يحكي عن المصاديق والأفراد فإنّما يصحّ إذا كانت القضية طبيعية أو خارجية ، وأمّا إذا كانت مأخوذة على نحو القضية الحقيقية التي تكون فيها الطبيعة متحدة مع المصاديق وسارية فيها ، فانّها تحكي عن الجميع حسب سريانها. (١)

يلاحظ عليه : انّ معنى سريان الطبيعة في مصاديقها هو ثبوت الحكم عليها متى وجدت ، ويكفي في ثبوت الحكم انطباق العنوان عليها ، ويكفي في الانطباق كون الفرد بما هو إنسان مصداقاً للجامع بما هو هو ، لا بما له من الخصوصيات والقيود. وأمّا حكايتها عن الافراد والخصوصيات فلا ، لأنّ مناط الحكاية هو دخول الخصوصيات في مفاد الملحوظ العام ، والمفروض انّها حقيقة معرّاة ، وتصور انّ الجامع متحد مع الخصوصيات وإن كان صحيحاً لكن الاتحاد ليس مناط الحكاية ، وإنّما مناطها دخول الخصوصيات في المعنى الجامع وحكايتها عنها ، والمفروض أنّ الملحوظ الجامع لم يوضع إلاّ لنفس الجامع.

الثالث : ما أفاده المحقّق العراقي وحاصله :

إنّ العناوين العامة المنتزعة على أنواع :

١. العنوان المنتزع من الجامع الذاتي بين أفراده ، المتحد وجوداً مع خصوصيات الأفراد والمعرّى عنها تصوراً وحقيقة كالحيوان والإنسان.

٢. العنوان المنتزع من الأفراد باعتبار اتّصافها بخصوصية خارجة عن ذاتها

__________________

١ ـ حكى شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ انّه سمع ذلك التقرير من السيد الخوئي في درسه الشريف عام ١٣٧٠ هـ. ق وأشار إلى ذلك التقرير في المحاضرات بصورة عابرة حيث قال : وهذا هو الوضع العام والموضوع له الخاص وحاله كحال القضية الحقيقية ( المحاضرات : ١ / ٥٣ ).

٤٩

وذاتياتها ، سواء كان ما بحذائها شيء كالأبيض ، أو لا كالممكن. وهذان القسمان لا يحكيان عن شيء من خصوصيات أفراده بل يحكيان عن الجامع الساري.

٣. العنوان العام الذي يحكي إجمالاً عن الخصوصيات التي يكون بها التشخص خارجاً.

والأوّل والثاني يحكيان عن الجامع الموجود في الفرد ، دون الخصوصيات ، والثالث يحكي عن نفس الخصوصيات التي بها يكون التشخص خارجاً ، مثل مفهوم « الشخص » و « الفرد » و « المصداق » فهذه عناوين كلية منتزعة من الأفراد والخصوصيات الخارجية. ونظيرها لفظ « كل » و « بعض » والموصولات مثل « من » و « ما ». وعندئذ يصحّ أن يوضع لفظ « الإنسان » ، لكلّ من ينطبق عليه لفظ الإنسان فانّ لفظ الكلّ ، حاك عن الأفراد إجمالاً ، أو يقال لفظ « هذا » موضوع لكلّ مفرد مذكر. (١)

وهذا التقرير لا غبار عليه ، وعلى ذلك يمكن أن يمثل له بأسماء الإشارة ، فلفظ « هذا » وضع لكلّ مفرد مذكر ، فقولنا : مفرد مذكر إشارة إلى الجامع ، وإذا أضيف إليه لفظة كلّ يشير إلى المصاديق ، وهذا المقدار من الحكاية يكفي لكون الموضوع له خاصاً.

إلى هنا تمّ بيان القسم الثالث ، وإليك بيان القسم الرابع :

القسم الرابع : إمكاناً ووقوعاً

ذهب المحقّق الخراساني إلى امتناع القسم الرابع واستدلّ عليه بقوله :

إنّ الخاص لا يكون مرآة للعام ، لأنّه إذا لوحظت الخصوصية فيه حين

__________________

١ ـ لاحظ بدائع الأفكار : ١ / ٣٨ ـ ٣٩.

٥٠

الوضع يكون الموضوع له كالوضع خاصاً ، وإن جرّد عن الخصوصية يكون الوضع عامّاً ويرجع إلى القسم الثالث. (١)

وحاصل كلامه : انّ الخاص لتقيده بقيود وخصوصيات لا يحكي إلاّ عن الموجود المشخص ، فكيف يمكن أن يكون مرآة للمعنى المتعرّي عن الخصوصيات؟! ولو جرّد الملحوظ عن الخصوصية يصبح حينئذ كليّاً ويصير من قبيل القسم الثالث ، لأنّ الملحوظ يكون عاماً وإن كان الموضوع له خاصاً ، هذا.

لكن لفيفاً من المحقّقين حاولوا تصحيح هذا القسم بالأمثلة التالية :

أ : إذا لاحظ الواضع فرداً خارجياً من نوع كزيد ، وهو يعلم أنّ بينه وبين سائر الأفراد جامعاً كليّاً ، فيضع اللفظ للجامع بينه وبين سائر الأفراد ، فالملحوظ خاص أعني زيداً ، لكن الموضوع له الجامع بين هذا الفرد وسائر الأفراد.

ب : ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري : إذا تصور شخصاً جزئياً خارجيّاً من دون أن يعلم تفصيلاً بالقدر المشترك بينه وبين سائر الأفراد ، ولكنّه يعلم إجمالاً باشتماله على جامع مشترك بينه وبين باقي الأفراد مثله ، كما إذا رأى جسماً من بعيد ولم يعلم أنّه حيوان أو جماد ، فوضع لفظاً بازاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع ( أي على الجامع بينه وبين غيره ) فالموضوع له لوحظ إجمالاً وبالوجه ، وليس الوجه عند هذا الشخص إلاّ الجزئي ، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقلاً عنده إلاّ بعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص. (٢)

ج : الكمّ المعروف بالمتر الذي هو وحدة قياس الطول ومقداره ١٠٠ سانتيمتر ، فالمخترع وضع لفظ المتر على الوحدة القياسية التي اخترعها وعلى كلّ

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٠.

٢ ـ درر الفوائد : ١ / ٥.

٥١

وحدة تشابهها ، فالوضع خاص ، لأنّ الموضوع هو الكمية المعيّنة ، ولكن الموضوع له هو الجامع بينه وبين غيره. (١)

فالمحقّقون حاولوا تصحيح هذا القسم كما صححوا أيضاً القسم السابق.

نظرية السيد الأُستاذ

إنّ سيدنا الأُستاذ حاول حسم النزاع بالبيان التالي :

وحاصله : القول بالتفصيل بين كون الملحوظ الخاص حاكياً عن العام ، وبين كونه سبباً للانتقال إلى العام.

فعلى الأوّل يمتنع هذا القسم ، لأنّ الملحوظ بما هو خاص لا يحكي عن العام ، ضرورة تقيّده بخصوصيات تعيقه عن حكاية العام.

وأمّا على الثاني فلا مانع من إمكان القسم الرابع ، لأنّ الخاص ربّما يكون سبباً للانتقال إلى العام ، والانتقال خفيف المؤنة لا يتوقف على أن يكون اللفظ حاكياً عن المنتقل إليه حتى يقال انّ الحكاية فرع الوضع ، بل ربّما يكون الضدّ سبباً للانتقال إلى الضدّ ، فكلّما يسمع الإنسان اسم موسى الكليم ينتقل إلى طاغوت عصره فرعون ، وهكذا. (٢)

نعم ذكر سيدنا الأُستاذ نفس هذا التفصيل في القسم الثالث ، وانّ العام لا يحكي عن الخصوصيات ولكن يوجب الانتقال إليها ، فلو كان الوضع متوقفاً على الحكاية فهذا القسم مثل القسم الرابع في الامتناع ولو كان الانتقال كافياً في الوضع فكلاهما سيان.

__________________

١ ـ حكى شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ انّه سمعه من والده عند تدريسه المنطق لجمع من الفضلاء.

٢ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ٨ ، بتلخيص.

٥٢

ولكنّك عرفت أنّ الانتقال من العام إلى الخاص يمكن أن يتمّ عن طريق ضميمة لفظ « كلّ » إلى الملحوظ حتى يكون مشيراً وحاكياً عن الخصوصيات ، بأن يضع لفظة هذا لكلّ مفرد مذكر ، فالوضع عام ، لأنّ الملحوظ عام وهو المفرد المذكر ، والموضوع له خاص وهو ما أُشير إليه بقولنا كل.

الجهة الخامسة : في المعاني الحرفية

يقع البحث في الحروف في موضعين :

١. ما هي معانيها ومضامينها.

٢. ما هي كيفية وضعها.

والنظر في كيفية الوضع وأنّه خاص أو عام يتبع اتخاذ النظر في الموضع الأوّل ، والبحثان مختلطان في كلام القوم.

ونحن نركز البحث على الموضع الأوّل ونبحث عن الموضع الثاني في الجهة السادسة.

التعريف المعروف لكلّ من الاسم والحرف ، وهو ما ذكره ابن الحاجب ( ٥٧٠ ـ ٦٤٠ هـ ) صاحب الكافية حيث قال :

« الاسم ما دلّ على معنى في نفسه ، والحرف ما دلّ على معنى في غيره ، والمراد من الموصول هو الكلمة ، والضمير في كلّ من « نفسه » و « غيره » يرجع إلى المعنى. وأنّه في حدّ ذاته على قسمين ، قسم يكون مفهوماً محصلاً في نفسه ، لا يحتاج في تحصيله في الذهن إلى معنى آخر ، وقسم يكون مفهوماً متحقّقاً في الذهن يتبع غيره ». (١)

__________________

١ ـ شرح الكافية : ٥ ، في معنى الحرف.

٥٣

ثمّ إنّه ظهرت بعد ابن الحاجب آراء في معنى الحروف وهي بين الإفراط والتفريط ، وإليك دراسة هذه الآراء :

١. نظرية المحقّق الرضي ( المتوفّى ٦٦٨ هـ )

إنّ الشيخ الرضي اختار في تفسير التعريف المذكور بأنّ الضمير في كلّ من نفسه وغيره يرجع إلى الموصول الذي أُريدت منه الكلمة ، وانتهى إلى أنّ معنى الاسم ( الابتداء ) مضمون نفسه ، ولكن معنى الحرف ( من ) مضمون لفظ آخر ، يضاف ذلك المعنى ( مضمون من ) إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي ، وإليك نصّه.

قال الرضي : انّ معنى « من » الابتداء ، فمعنى « من » ومعنى لفظة « الابتداء » سواء ، إلاّ أنّ الفرق بينهما انّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر ، بل مدلوله معناه الذي في نفسه مطابقة ، ومعنى « من » مضمون لفظ آخر يضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي ، فلهذا جاز الاخبار عن لفظ الابتداء في قولك « الابتداء خير من الانتهاء » ولم يجز الاخبار عن لفظ « من » لأنّ الابتداء الذي هو مدلولها ، في لفظ آخر ، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه ، بل في لفظ غيره ، وإنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الذي في نفسه مطابقة ، فالحرف وحده لا معنى له أصلاً ، إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدل على أنّ في ذلك الشيء فائدة ما ، فإذا أفرد من ذلك الشيء بقي غير دال على معنى في شيء أصلاً ، فظهر بهذا انّ المعنى الافرادي للاسم والفعل في أنفسهما وللحرف في غيره. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : وجود التناقض بين الصدر والذيل ، فانّ صدر كلامه يوحي إلى أنّ لفظة « من » موضوعة لنفس ما وصفت له كلمة الابتداء ، حيث

__________________

١ ـ شرح الرضي لمقدمة ابن الحاجب ( الكافية ) : ٤.

٥٤

يقول : فمعنى « من » ومعنى « لفظة الابتداء » سواء. فينطبق على نظرية المحقّق الخراساني الآتية.

لكن الذيل يشير إلى نظرية غير معروفة ، هي انّ وزان الحروف وزان الأعاريب في أواخر الكلم ، فكما أنّ التنوين يشير إلى كون اللفظ فاعلاً ، ومفعولاً من دون أن يكون له معنى خاص فهكذا الحروف.

وثانياً : أنّ الميزان في كون اللفظ ذا معنى أو غيره إنّما هو التبادر ، ولا شكّ انّه يتبادر من الحروف معاني خاصة مندكة في معاني متعلقاتها لا انّها خالية من المعنى.

والفرق بين الحروف والاعراب واضح فانّ الحروف ممّا ينطق بها مستقلاً فيليق أن يكون لها وضع خاص دون الاعراب.

٢. نظرية المحقّق الخراساني

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المعاني الحرفية والاسمية متحدة جوهراً فلا فرق بينهما ، وانّ الاستقلال والآلية خارجان عن حريم المعنى وحقيقته وإنّما يعرضان عند الاستعمال. فيكون الوضع عاماً والموضوع له عاماً. (١)

وإنّما ذهب إلى هذا القول تخلصاً من المضاعفات الموجودة في القول بأنّها موضوعة للمعاني الآلية من الابتداء والانتهاء ، لأنّ أخذ الآلية جزء للمعنى يوجب كون الموضوع له خاصاً؟ وعندئذ يعود السؤال بأنّه ما هو المراد من كونه خاصاً؟ فإن أُريد منه الجزئي الخارجي ، فربما يكون المستعمل فيه عاماً كما إذا قال : سر من البصرة إلى الكوفة ، وإن أُريد منه الجزء الذهني بحيث يكون لحاظ الآلية قيداً له فيترتب عليه عدّة أُمور :

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٥.

٥٥

١. لزوم تعدد اللحاظين عند الاستعمال ، لاستلزامه لحاظ المعنى ، مضافاً إلى اللحاظ الموجود فيه عن طريق الوضع.

٢. عدم انطباقه على الخارج لكون جزء الموضوع أمراً ذهنياً.

٣. لزوم كون لحاظ الاستقلالية جزءاً للمعاني الاسمية فيُصبح المعنى الاسمي خاصاً ، وهو خلاف ما اتّفقوا عليه.

وحاصل تلك النظرية انّ الأسماء والحروف موضوعة لمعنى واحد معرّى عن كلّ قيد ، أعني : الاستقلالية والآلية ، لكنّ تعرضهما تلك الخصوصية عند الاستعمال فليستا جزء الموضوع ولا جزء المستعمل فيه ، بل من طوارئ الاستعمال وعوارضه.

والفرق بين تلك النظرية وما هو المشهور واضح جدّاً ، إذ المعنى على مبنى المحقّق الخراساني خال عن كلا القيدين : لحاظ الاستقلال ولحاظ الآلية ، وكلاهما يعرضان على المعنى في درجة متأخرة عن الوضع ، وهذا بخلاف ما عليه المشهور من أنّ الاستقلال من صميم المعنى الاسمي وجوهره ، كما أنّ الآلية والتدلّي والقيام بالغير مقوم للمعنى الحرفي بحيث لو حذفت التبعية لما يبقى للمعنى الحرفي أثر.

هذا مذهبه فهلم معي لتحليله ونقده.

يلاحظ عليه : أوّلاً : انّ لتبيين معاني الألفاظ وتشخيص الموضوع له عن غيره طرقاً مألوفة عند العقلاء والاخصائيين في ذلك العلم وما سلكه قدس‌سره من إقامة البراهين العقلية في ذلك الموضوع نهج غير مألوف ولا مفيد ، فإنّ لكلّ علم مبادئ ومقدمات خاصة يجب التطرق من تلك المبادئ إلى النتائج ، فإثبات اللغة بالبرهان الفلسفي أشبه باصطياد المعاني الفلسفية واقتناصها من الاعتبارات العرفية ، وممن نبّه على هذه النكتة أساتذتي الكرام لا سيما السيّد الأُستاذ والعلاّمة الطباطبائي ـ قدّس سرّهما ـ.

٥٦

وثانياً : إذا كانت المعاني في الخارج ، مستقلة وغير مستقلة ، قائمة بنفسها ومتدلّية بغيرها. فلماذا يترك الواضع هذين المعنيين ولم يُعْرِ لهما أهمية فانّ تعلّق الغرض ببيان هذين المعنيين بنفس خصوصياتهما أكثر من تعلّق غرضه بالجامع بينهما.

وثالثاً : إذا فرضنا انّ الخصوصيتين ـ أعني : الاستقلالية والآلية ـ غير داخلتين في الموضوع له وإنّما تعرضان للمعنى عند الاستعمال فما هو الدليل المفهم لتلك الخصوصية فانّ المفروض انّ الدالّ هو اللفظ ، واللفظ دالّ على المعنى الجامع ، فكيف تفهم الخصوصية عند الاستعمال مع أنّها غير داخلة لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه؟!

ورابعاً : انّ لازم ما ذكره جواز استعمال كلّ من الاسم والحرف مكان الآخر ، مع أنّه غير جائز ، وما ذكره من أنّ هذا النوع من الاستعمال على خلاف شرط الواضع ، غير تام ، لعدم لزوم اتّباع شرطه ، حتى وإن شرطه في ضمن الوضع.

وخامساً : ماذا يريد من خروج الاستقلالية والتبعية من صميم المعنى الاسمي والحرفي؟ فإن كان يريد خروجهما عن مفهومهما واقعاً ، فهذا نفس القول بارتفاع النقيضين ، فانّ المعنى في حدّ الذات إمّا مستقل أو غير مستقل.

وإن أراد خروج لحاظ الاستقلالية والآلية لا نفسهما عن صميم المعنى كما هو ظاهر كلامه ، فيرد عليه انّ مقوم المعنى الحرفي ليس لحاظ الآلية حتى يلزم من خروجه عن صميم المعنى ، وحدة المعاني الحرفية والاسمية ، بل المعيار في كون المعنى حرفياً هو كون جوهره وحقيقته قائماً بالغير متدلّياً به في مقابل خلافه.

ولو كان الملاك للمعنى الاسمي والحرفي هو لحاظ الاستقلال في الأوّل ولحاظه الآلية في الثاني كان لما ذكره وجه حيث يصحّ ردّه بالبراهين الثلاثة على

٥٧

خروجها ، فنخرج بالنتيجة التالية : وحدة المعاني الاسمية والحرفية حقيقة واختلافاً عند الاستعمال.

وأمّا إذا كان ملاك التمييز بينهما هو جوهر معانيهما على نحو يكون أحدهما مستقلاً بالذات ، وإن لم يلاحظ الاستقلال ، ويكون ثانيهما متدلّياً بالذات وقائماً بالغير ، وإن لم يلاحظ التدلّـي والقيام بالغير ، لم يكن لما ذكر وجه ، ولأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ التفاوت بين المعنيين لا يمتّ إلى اللحاظ بصلة ، بل يمتّ إلى جوهرهما وواقعهما ، وإليك شرح هذه النظرية.

النظرية الثالثة : تمايزهما بنفس الذات

هذه النظرية هي النظرية المعروفة من عصر ابن الحاجب إلى يومنا هذا ، فقد تقدّم تعريف المعنى الاسمي والحرفي عنه. وشرحه الشريف الجرجاني في تعليقته على شرح الكافية للشيخ الرضي ، ونقله عبد الرحمن الجامي في شرحه على الكافية تارة باسم الحاصل وأُخرى باسم المحصول.

وأوّل من شرحه بأمانة ودقة صدر الدين الشيرازي ، وتبعه شيخنا المحقّق الاصفهاني في تعليقته على الكفاية ، والسيد الطباطبائي في تعليقته عليها ، والسيد الإمام الخميني في محاضراته ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ ، ونحن نذكر النظرية بأوضح العبارات وأبينها.

إنّ الغاية من وضع الألفاظ سواء أكان بالوضع التعييني أو التعيّني هو رفع الحاجة وإظهار ما يقوم بالنفس من المفاهيم والمعاني التي ينتقل إليها الذهن من طرف الحواس وغيرها من أدوات المعرفة.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ الوجود في النشأة الخارجية على أقسام ثلاثة :

٥٨

١. ما هو مستقل ذاتاً وماهية كما هو مستقل خارجاً ووجوداً.

وبعبارة أُخرى : مستقل في كلتا النشأتين : الذهنية والخارجية ، فله استقلال في صحيفة الذهن كما له استقلال في صحيفة الوجود ، كالجواهر بأقسامها ، وهذا ما يعبّر عنه الفلاسفة بقولهم : « في نفسه لنفسه » فكلمة « في نفسه » إشارة إلى استقلاله في مفهومه وذاته ، كما أنّ لفظة « لنفسه » إشارة إلى استقلاله في الوجود من دون أن يكون قائماً بالغير ناعتاً له.

٢. ما هو مستقل ذاتاً وماهية ، لكن غير مستقل خارجاً ووجوداً ، بل إذا وجد في الخارج وجد في موضوع ، ناعتاً لغيره واصفاً له.

وبعبارة أُخرى : مستقل في صحيفة الذهن دون صحيفة الخارج ، وذلك كالأعراض بأقسامها التسعة ، فالبياض له مفهوم مستقل يُعرف : انّه لون مفرّق لنور البصر. لكنّه إذا وجد في الخارج بحاجة إلى موضوع يقوم به. ومثله سائر الأعراض ويعبّر عنه : « في نفسه مفهوماً لغيره وجوداً ».

٣. ما هو غير مستقل في كلتا النشأتين لا في الذهن ولا في الخارج وليس له مفهوم تام كما ليس له وجود مستقل ، فهو في عالم التصوّر اندكاكيّ المعنى ، وفي عالم التحقّق اندكاكيّ الوجود ، فمفهومه فان في مفهوم آخر كما أنّ وجوده كذلك.

وهذا كالمعاني الحرفية حيث لا تتصور إلاّ تبعاً للمعاني المستقلة وفي ظلها ، كما لا تتحقق إلاّ مندكة في الغير وفانية فيه ، ويعبّر عنه في مصطلحهم بقولهم : « ما وجوده في غيره لغيره ».

فالقسم الأوّل هو الوجود النفسي ، والثاني هو الوجود الرابطي ويعبّر عنه بالاعراض أيضاً ، والثالث هو الوجود الرابط ، كما يقول الحكيم السبزواري :

انّ الوجـود رابط ورابطـي

ثمة نفسي فهناك واضبطي

٥٩

وإن أردت التوضيح فاستوضح الأمر في المثال التالي :

تقول زيد في الدار ، فهاهنا أمران مستقلان مفهوماً ومصداقاً وهو « زيد » و « دار » وهناك مفهوم ثالث وهو « كون زيد في الدار » فهو مفهوم لا يتصوّر إلاّ مضافاً إلى زيد ودار كما لا يتحقق إلاّ بهما. والاندكاكية واللااستقلالية في صميم ذاته وجوهر حقيقته على نحو لو انسلخ المعنى عن هذا الوصف ، لعدم المعنى وانقلب المعنى الحرفي معنى اسمياً ، وبذلك أصبح المعنى الحرفي أخسَّ المعاني تصوراً ووجوداً.

وقس عليه سائر الأمثلة الرائجة كقولك : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فهاهنا مفهومان مستقلان ماهية وذاتاً ، أحدهما السير ، والآخر البصرة ، وهناك مفهوم ثالث وهو كون ابتداء السير من البصرة هو غير مستقل مفهوماً إلاّ إذا أُضيف إلى سائر المعاني كالسير والبصرة ، كما هو غير مستقل وجوداً فلا يتحقّق الابتداء بهذا المعنى إلاّ قائماً بالسير من البصرة. إلى غير ذلك من الأمثلة.

وبذلك يعلم انّ الفرق بين المعاني الاسمية والحرفية جوهري ، ينبع الفرق من جوهر معانيهما وصميم ذاتهما سواء أكان هناك ملاحظ أم لا.

وبعبارة أُخرى : الاستقلالية والآلية من صميم ذاتهما على نحو لو سلختا عن هذين المعنيين لانعدما.

قال الشريف الجرجاني : كما أنّ في الخارج موجوداً قائماً بذاته ، وموجوداً قائماً بغيره ، كذلك في الذهن معقول هو مدرك قصداً ملحوظ في ذاته ، يصلح أن يحكم عليه وبه ، ومعقول هو مدرك تبعاً وآلة ، كملاحظة غيره ، فلا يصلح لشيء منهما ، فالابتداء مثلاً إذا لاحظه العقل قصداً وبالذات كان معنى مستقلاً بالمفهومية ، ملحوظاً في ذاته ، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء فقط ، ولا حاجة في الدلالة

٦٠