إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

واجبة في الشريعة ولم يتعلّق بها الأمر والطلب.

والحاصل : انّ المعيار في الواجب الغيري كون الداعي إلى الأمر هو التوصّل إلى واجب آخر دلّ الدليل على وجوبه في الشريعة ، فمثل هذا التعريف لا يشمل الصلاة والصوم ، إذ لم يكن الداعي إلى الأمر بها هو التوصّل إلى واجب ورد في الشريعة ، وكون الداعي من الأمر وإن كان هو التوصّل إلى الأغراض والغايات لكن الأغراض لما لم تقع في إطار الأمر الظاهري لا يصدق على الصلاة كون الأمر بها للتوصل إلى واجب في الشريعة ، وكون الأمر بها للتوصل إلى الغاية ليس معياراً في تحديد الواجب الغيري.

وبذلك ظهر صحّة كلا التعريفين ورجوعهما إلى تعريف واحد سواء أقلنا :

النفسي ما أمر به لنفسه لا لبعث آخر.

والغيري ما أمر به لغيره ولبعث آخر ، أو قلنا :

الغيري : ما يكون الداعي إلى الأمر ، التوصّل إلى واجب آخر.

النفسي : ما لا يكون الداعي التوصّل إلى واجب آخر ، وإن كان الداعي إلى الأمر ـ لبّاً ـ هو تحصيل الغايات والأغراض التي ليست واجبة في الشريعة الإسلامية.

فإن قلت : ينتقض التعريف بالظهر والمغرب إذ فيهما كلا الملاكين : النفسيّة والغيرية ، وبأفعال الحج ، وذلك لأنّ المتقدّم منها واجب نفسي وفي الوقت نفسه وجب لبعث آخر أو لواجب آخر على اختلاف في التعبيرين.

قلت : تقدّم أنّ المقدّمة ليس هي نفس الصلاة أو نفس العمل في أعمال الحجّ ، بل المقدّمة هو تقدّمه على العصر ، والعمل شيء والتقدّم شيء آخر ، أو الشرط تأخّر العصر عن الظهر أو تأخّر السعي عن الطواف ، وتأخّرهما لا صلة له

٥٠١

بالظهر والعمل المتقدّمين.

فإن قلت : ما هو حكم المقدّمات المفوتة ، إذ هي ليست واجباً غيريّاً لعدم وجوب ذي المقدّمة حتّى يكون البعث بها لأجل بعث آخر ، ولا نفسياً لعدم استلزام تركها العقاب ، بل العقاب في مسألة اغتسال المستحاضة على ترك الصوم.

قلت : نلتزم بأنّها واجب غيري ، فانّ البعث بها لأجل بعث آخر وإن لم يكن البعث. الثاني فعلياً وقد تقدّم أنّه يمكن فعلية وجوب المقدّمة قبل فعلية ذيها. (١)

دوران الوجوب بين النفسي والغيري

إلى هنا تمّ تعريف الواجب النفسي والغيري ، فلو تبيّن كون شيء نفسيّاً أو غيرياً فهو ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل اللفظي أوّلاً ، والأصل العملي ثانياً ، فيقع الكلام في إمكان التمسّك بالأصلين.

الأوّل : ما هو مقتضى الأصل اللفظي؟

إنّ مقتضى الأصل اللفظي كون الواجب نفسياً لعدم حاجة النفسي إلى القيد وحاجة الغيري إليه ، فالأمر بالشيء مع السكوت عن شيء آخر آية كونه نفسياً ، وأمّا الغيري فلا يكفي فيه الأمر بالشيء ، بل يتوقّف على الأمر بالشيء الآخر حتّى يكون الأمر الأوّل لأجل الأمر الثاني ، هذا ما لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة ، وإلاّ فلو قلنا بالإطلاق فمقتضاه هو النفسية ، والمتأخّرون من الأُصوليّين في المقام بين ناف لإمكان انعقاد الإطلاق

__________________

١ ـ لاحظ ص ٤٩٠ ، حول مختار السيد الأُستاذ قدس‌سره.

٥٠٢

كالشيخ الأنصاري ومثبت كالمحقّق الخراساني.

استدلّ الشيخ على عدم إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة بوجهين :

الأوّل : أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب ، فانّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبية إلاّ بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها به لا بواسطة مفهومها ، ومن المعلوم أنّ الفرد الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يقبل فيه التقييد والإطلاق ، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيرياً. (١)

وأورد عليه المحقّق الخراساني : بأنّ مفاد الهيئة ليس الفرد الحقيقي من الطلب بل مفادها هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ولا يكاد يكون مفادها ، الفرد الحقيقي من الطلب ، أعني : ما يكون بالحمل الشائع طلباً ، وإلاّ لما صحّ إنشاؤه بها ضرورة انّه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو ( الطلب الحقيقي ) هو السبب لإنشائه ، بل المنشأ هو الطلب الإنشائي والوجود الإنشائي لكلّ شيء ليس إلاّ قصد مفهومه بلفظه. (٢)

الظاهر وجود الخلط في كلام العلمين.

أمّا الأوّل : فلأنّ ما ذكره الشيخ من أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب ، أمر غير صحيح ، فانّ الأُمور التكوينية كالطلب الحقيقي الذي هو عبارة أُخرى عن الإرادة التكوينية ـ لاتحّاد الطلب والإرادة الحقيقيتين ـ غير قابلة للإنشاء ، وإنّما القابل للإنشاء هو المفهوم لا المصداق الحقيقي ، فالزوجية التكوينية كالعينين والأُذنين بما انّهما ظاهرة

__________________

١ ـ مطارح الأنظار : ٦٧.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

٥٠٣

تكوينية غير قابلة للإنشاء اللفظي ، وإنّما القابل للإنشاء الزوجية الاعتبارية فبالإنشاء يصيران زوجين رجل وامرأة اعتباراً ، وهذا ما نبّه به المحقّق الخراساني.

وأمّا الثاني : فلأنّ المحقّق الخراساني وإن أصاب في نفي كون الموضوع له هو الطلب الحقيقي ، لأنّه غير قابل للإنشاء لكنّه أخطأ في قوله في أنّ الموضوع له هو الطلب الكلي ـ أي مفهوم الطلب الذي هو مفهوم اسمي ـ لما عرفت من أنّ الموضوع له في الحروف والهيئات مصاديق الطلب الكلي ، فانّ القابل للإنشاء هو الفرد لا المفهوم الكلي بقيد انّه كليّ ، وقد أوضحنا ذلك عند البحث عن المعاني الحرفية.

وأمّا إمكان تقييد الجزئي فقد مرّ أنّ الجزئي وإن كان غير قابل للتقييد من حيث الأفراد لكنّه قابل للتقييد من حيث الأحوال ، فانّ الطلب المنشأ وإن كان جزئياً لكن لها سعة من حيث الأحوال فيقال في المقام الوجوب ثابت ، سواء أوجب شيء أم لا.

الثاني : ما أفاده المحقّق العراقي : انّ المعاني الحرفية وإن كانت كلّية إلاّ أنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها ، أعني : المعاني الاسمية لكونها قد اتخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية ، وما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه ، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق والتقييد إليه لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولاً عنه بخصوصه ، وهذاخلف. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ كون المعاني الحرفية معان آلية غير كونها مغفولاً عنها ، وقد عرفت فيما سبق أنّ الغرض ربّما يتعلّق بتفهيم المعاني الحرفية وتكون هي المقصد الأصلي في الكلام ، كما في قولك : « زيد على السطح » أو « الماء في الإناء » فالغرض

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٣٧٣.

٥٠٤

الأصلي هو كينونة زيد على السطح والماء في الإناء ، فكيف يكون مفهوماً مغفولاً عنه؟

وقد تبيّن من ذلك انّ المنشأ قابل لانعقاد الإطلاق وليست الجزئية ـ كما في كلام الشيخ ـ ولا الآلية ـ كما في كلام المحقّق العراقي ـ مانعين لانعقاد الإطلاق.

أدلّة المتمسّكين بإطلاق الهيئة

إذا كان الشيخ والمحقق العراقي ـ قدّس سرّهما ـ من نفاة إمكان انعقاد الإطلاق في الهيئة بالدليلين السابقين ، فانّ هناك من يصحح إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة وانّ نتيجة الإطلاق كون الواجب نفسيّاً مستدلّين بما يلي :

الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمهما إلاّ انّ إطلاقها يقتضي كونه نفسياً ، فانّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه على المتكلم الحكيم.

يلاحظ عليه : أنّ كلاً من الواجب الغيري والنفسي يشاركان في أصل الوجوب ويمتازان بشيء آخر ، والفصل المميّز لهما هو كون الوجوب في الأوّل « لنفسه » وفي الآخر « لغيره » فكلّ منهما يحتاج إلى بيان زائد وراء بيان أصل الوجوب ، ولو كان النفسي نفس الوجوب لزم كون القسم نفس المقسم.

الثاني : ما أفاده المحقّق البروجردي من أنّ الصيغ الإنشائية قد وضعت للبعث والتحريك نحو متعلّقاتها ، والبعث الغيري المتعلّق بالمقدّمات ليس في الحقيقة بعثاً نحوَ المتعلّق وإنّما هو تأكيد للبعث المتعلّق بذيها ، فالكلام يُحمل على ظاهره وهو البعث الحقيقي نحو ما تعلّق به. (١)

__________________

١ ـ نهاية الأُصول : ١ / ١٧٠.

٥٠٥

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا كان دليل المقدّمة إرشاداً إلى الشرطية مثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، وأمّا إذا كان بلسان الأمر المولوي بالمقدّمة فلا وجه لإنكار البعث نحوها كما في الآيتين التاليتين :

١. ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيديَكُمْ إِلَى المَرافِق ). (١)

٢. ( يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْركُمْ فانْفِروا ثُبات أَوِ انْفِرُوا جَميعاً ) (٢). (٣)

والآية الأُولى تؤكد على الوضوء وتبيّـن كيفيته ، ومعه كيف يقال : ليس فيه بعث نحوه ، كما أنّ الآية الثانية تأمر بحفظ الحذر وتبيّـن كيفية النفر ، ومعه كيف يقال : ليس في الأمر الغيري بعث إلى المقدّمة؟

وكون البعث إلى المقدّمة لأجل ذيها شيء ، وعدم البعث إلى المقدّمة شيء آخر ، والصحيح هو الأوّل دون الثاني.

وممّا يدلّ على وجود البعث الأكيد إلى المقدّمة في الآية الثانية قوله سبحانه في سورة أُخرى :

( يا أَيّها الّذين آمنوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُـمُ انْفِرُوا فـي سَبيـلِ اللّهِ اثّاقَلْتُـمْ إِلَى الأرْض أَرَضيتُمْ بِالحَياة الدُّنيا مِنَ الآخِرَة ). (٤)

الثالث : ما اخترناه وحاصله : انّ هناك فرقاً بين الثبوت والإثبات ، فالواجبان : النفسي والغيري يشاركان في أصل الوجوب ويتميّزان بفصل قوله :

__________________

١ ـ المائدة : ٦.

٢ ـ النساء : ٧١.

٣ ـ والحذر الآلة التي بها يتقى الحذر وهو كناية عن السلاح ، والثبات جمع « ثبة » جماعات في تفرقة ( مجمع البيان : ٢ / ٧٣ ).

٤ ـ التوبة : ٣٨.

٥٠٦

« لنفسه » و « لغيره ».

وأمّا في مقام الإثبات فكأنّ أحد القسمين في نظر العرف يحتاج إلى بيان زائد دون الآخر ، فالأمر بالشيء والسكوت عن القيد ( لنفسه أو لغيره ) كاف في بيان الأمر النفسي ، ولا منافاة بين كون الشيء مركباً في عالم الثبوت وبسيطاً في عالم الإثبات ، وقد مرّ توضيح ذلك في أوائل الأوامر عند البحث في حمل الأمر على الوجوب.

الرابع : بناء العقلاء على حمل الواجب على كونه نفسياً والقيام به وإلغاء احتمال كونه غيرياً الذي لو اعتمدنا عليه لا يجب القيام بالفعل ، وذلك لأنّ الأمر عند العقلاء يحتاج إلى جواب فلا يصحّ للعبد ترك المأمور به باحتمال انّه غيري ولم يثبت وجوب ذيه بعد فلا يصحّ تقاعس العبد عن الامتثال باحتمال كونه غيرياً.

الخامس : التمسّك بإطلاق دليل الواجب كالصلاة ، إذ لو كان الأمر بالوضوء واجباً غيرياً يلزم تقييد الواجب ـ أعني : الصلاة ـ به ، بخلاف ما إذا كان نفسياً فإطلاق دليل الواجب ـ أعني : الصلاة ـ يثبت كون الوضوء واجباً نفسياً بناء على حجّية الأُصول المثبتة اللفظية.

والفرق بين هذا الوجه والوجوه الأربعة السابقة هو أنّ التمسّك فيها بإطلاق هيئة الأمر المشكوك كونه نفسياً أو غيرياً ، وأمّا المقام فالتمسّك هنا بمادة الأمر الغيري الذي نحتمل أن يكون الأمر المشكوك ، مقدمة له.

يلاحظ على ذلك الوجه : أنّ كون الأمر غيرياً لا يستلزم تقييد الواجب النفسي مطلقاً وإنّما يقتضيه إذا كان الأمر الغيري قيداً للواجب النفسي ومأخوذاً فيه تقيّده به كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، وأمّا نصب السلّم وسائر المعدّات التي هي واجبات غيرية فليست مأخوذة في متعلّق الأمر النفسي.

٥٠٧

فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّ مقتضى الأُصول اللفظية كون الأمر المشكوك نفسياً أو غيرياً هو النفسية ، فلو اقتنع المجتهد بأحد هذه الوجوه لما تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وأمّا لو افترضنا أنّ الهيئة غير قابلة لانعقاد الإطلاق فيها كما عليه العلمان : الأنصاري والعراقي ، فلابدّمن الرجوع إلى الأُصول العملية ، وهذا ما نذكره في البحث التالي :

المقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي

وقبل أن نذكر مقتضى الأصل العملي نشير إلى الصور الثلاث المذكورة في « الكفاية » منطوقاً ومفهوماً.

١. الشكّ في النفسية والغيرية مع العلم بوجوب الغير.

٢. الشكّ في النفسية والغيرية مع الشكّ في وجوب الغير.

٣. الشكّ في النفسية والغيرية مع العلم بعدم وجوب الغير.

وإليك تفاصيل هذه الصور :

الأُولى : إذا تردد وجوب الوضوء أنّه نفسي لأجل النذر أو غيري لأجل الصلاة الواجبة ، فلا شكّ أنّ مقتضى الأصل هو الإتيان به للعلم بوجوبه فعلاً وإن لم نعلم جهة وجوبه.

هذا ما ذكره المحقّق الخراساني ، ولكنّه لم يركّز على المقصود الأصلي في هذا الفرع إذ لا شكّ في وجوب الإتيان بالوضوء ، إنّما الكلام في تعيين محلّه ، فهل هو مختار بين الإتيان به قبل الصلاة وبعدها كما هو مقتضى النفسية ، أو انّه يأتي به قبل الصلاة قطعاً لا بعدها كما هو مقتضى النفسية؟ مقتضى الاشتغال اليقيني هو الإتيان به قبل الصلاة ، لأنّ الإتيان به بعدها يلازم الشكّ في الامتثال ،

٥٠٨

فالاشتغال اليقيني بوجوب الإتيان بالوضوء ، امّا قبل الصلاة متعيّناً أو قبل الصلاة وبعدها متخيراً يقتضي الإتيان به على نحو يعلم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به وليس هو إلاّ الإتيان قبلها.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني ذهب إلى أنّ المرجع في المقام هو البراءة وانّه يكون مختاراً بين الوقتين قائلاً : بأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في تقييد الصلاة بالوضوء وانّه شرط لصحتها ، فيرجع الشك بالنسبة إلى الصلاة إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، وأصالة البراءة تقتضي عدم شرطية الوضوء للصلاة ، فتكون النتيجة ، النفسية. (١)

يلاحظ عليه بوجهين :

أوّلاً : أنّ الأصل مثبت حيث إنّ إجراء البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء لا يثبت كون الأمر المشكوك واجباً نفسياً إلاّ بالقول بالأصل المثبت فانّ كون الأمر المشكوك نفسياً لازم عقلي لعدم تقييد الصلاة بالوضوء.

ثانياً : انّ اجراء الأصل في ناحية المتعلّق ( الصلاة ) لا يؤثر في انحلال العلم الإجمالي فانّه يعلم بوجوب الوضوء إمّا غيرياً أو نفسياً ، ولكلّ من الغيرية والنفسية أثر شرعي ، إذ على الغيري يجب تقديمه ، وعلى النفسي مخيّر بين الأمرين. فمقتضى هذا العلم الإجمالي هو لزوم الامتثال اليقيني وهو فرع الإتيان بالعمل قبل الصلاة.

الثانية : إذا دار أمر وجوب الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لكن وجوب الغير بعدُ لم يثبت فما هو مقتضى الأصل؟ والظاهر أنّ مقتضاه هو البراءة ، إذ لو كان وجوبه غيرياً لم يجب الآن لعدم وجوب ذيه فبقي كونه واجباً نفسياً وهو

__________________

١ ـ فوائد الأُصول : ١ / ٢٢٣.

٥٠٩

مشكوك ، وإلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني حيث قال : « وإلاّ فلا ، لصيرورة الشكّ فيه بدوياً » (١) ، إذ لو كان وجوبه غيرياً لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضى البراءة فيصير كونه واجباً نفسياً مشكوكاً مجرى للبراءة.

وأورد عليه المحقّق النائيني قائلاً : بأنّ الأقوى وجوبه ، لأنّ المقام من قبيل العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ، إذ كما أنّ العلم بوجوب ماعدا السورة مع الشكّ في وجوبها يقتضي امتثال ما علم ولا يجوز البراءة فيه ، مع أنّه يحتمل كون ما عدا السورة واجباً غيرياً ومقدّمة للصلاة مع السورة فكذلك المقام ، من غير فرق بينهما سوى تعلّق العلم بمعظم الواجب في مثل الصلاة بلا سورة ، وفي المقام تعلّق بمقدار من الواجب كالوضوء فقط ، وهذا لا يصلح لأن يكون فارقاً. (٢)

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ العلم التفصيلي بأنّ الأقل واجب على كلّ تقدير معلول العلم الإجمالي بأنّ الأقلّ إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ، وعند ذلك كيف يمكن الأخذ بالأقل بادّعاء أنّه معلوم الوجوب تفصيلاً ، مع إجراء البراءة عن وجوب الأكثر ( الصلاة مع السورة ) والقول بانحلال العلم الإجمالي إلى تفصيلي وبدوي وليس هذا إلاّ نظير الأخذ بالمعلول مع اعدام العلة؟

ونظيره المقام فانّ الجمع بين القول بوجوب الوضوء وإجراء البراءة عن وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء يشبه بالأخذ بالمعلول مع نفي علّته ، وذلك لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء رهن العلم الإجمالي بكونه واجباً إمّا نفسياً أو غيريّاً ، فكيف يمكن القول بوجوبه تفصيلاً مع إجراء البراءة عن الوجوب الغيري « وجوب الصلاة المقيدة بالوضوء » ، مع أنّ حفظ العلم التفصيلي رهن حفظ العلم الإجمالي بكلا طرفيه لا حفظ طرف واحد؟!

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٧٥.

٢ ـ فوائد الأُصول : ١ / ٢٢٣.

٥١٠

وثانياً : وجود الفرق بين المقام والأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك لأنّ الأقل في الارتباطي واجب بالوجوب النفسي لما سيوافيك أنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي غير أنّ الشكّ يدور بين كون وجوبه قصيراً لقلة أجزائه أو طويلاً لكثرة أجزائه ، وعلى كلّ تقدير فقد أحرز وجوب الأقل نفسياً.

وهذا بخلاف الوضوء في المقام فانّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ، وعلى فرض كونه قيداً للصلاة يصبح وجوبه غيرياً لا نفسياً لكونه خارجاً عن ماهيّة الصلاة ، ويعُد من المقدّمات الخارجة عنها.

الثالثة : إذا تردد أمر الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لواجب يعلم قطعاً بعدم وجوبه ، كما هو الحال في الحائض إذا دار حكم الوضوء بين كونه واجباً نفسيّاً أو غيرياً للصلاة التي تعلم أنّها غير واجبة في حقّها ، فلا شكّ أنّه لا يجب عليها التوضّؤ بل هو مجرى للبراءة لكون الشكّ في وجوبه بدوي ، فتلخص انّ المرجع في الفرع الأوّل هو الاحتياط ، وقد عرفت أنّ معناه تقديم الوضوء على الصلاة وفي الأخيرين هو البراءة.

وينبغي التنبيه على أُمور :

الأوّل : في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري

لا شكّ في ترتّب الثواب على امتثال الواجب النفسي إذا قصد به القربة ، كما أنّه لا شكّ في ترتّب العقاب على ترك الواجب النفسي ، لأنّه يعدّ تمرّداً على المولى وخروجاً عن رسم العبودية وزيّ الرقية.

هذا كلّه في الواجب النفسي ، وأمّا الواجب الغيري فلا شكّ أنّ تركه بما هو هو لا يوجب العقاب ، نعم لما كان تركه منتهياً إلى ترك الواجب النفسي

٥١١

فالعقاب على ترك ذيه لا على نفسه.

هذا كلّه لاكلام فيه وإنّما الكلام في أمر رابع وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدم ترتبه ، وقبل الخوض في صلب الموضوع نشير إلى مسألة كلامية وهي هل الثواب في مطلق الواجبات من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل؟

ذهب المحقّق الطوسي في « التجريد » وتبعه شارحه العلاّمة في « كشف المراد » إلى أنّ ترتّب الثواب على امتثال الواجبات من باب الاستحقاق ، وذهب الشيخ المفيد إلى أنّه من باب التفضّل ، فلندرس أدلّة القولين :

أدلّة القائلين بالاستحقاق

استدلّ القائل بالاستحقاق بوجهين :

الأوّل : انّ التكليف مشقّة ، وكلّ مشقة بلا عوض ظلم ، فينتج أنّ التكليف بلا عوض ظلم. (١)

ويظهر من المحقّق الخراساني ارتضاؤه حيث قال : لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلاً. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الصغرى والكبرى مخدوشتان.

أمّا الصغرى ، وهو انّ التكليف مشقة فلا يخلو من ضعف ، فانّ التكاليف الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، ومعها كيف يمكن وصف التكليف بالمشقة ،

__________________

١ ـ كشف المراد : ٢٦٢ ، المقصد السادس في المعاد ، المسألة الخامسة ، في الوعد والوعيد.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٧٥.

٥١٢

فانّ التكاليف الشاقة وإن كان بظاهرها شاقة لكن وراء التكاليف مصالح لازمة التحصيل ، أو مفاسد واجبة التحرّز ، ومثل التكاليف الشاقة كشرب الدواء المر أو تحمّل الكي بالنار ، فانّ الجميع بظاهرها شاق ولكنّها في الباطن تعدّ من أسباب السعادة والسلامة.

وأمّا الكبرى ، فنمنع كلّيتها فانّه إنّما يُعد قبيحاً إذا لم يكن الغير مملوكاً للآمر والمفروض أنّه مملوك له.

وبذلك تبيّن أنّ القول بالتفضّل أوضح من القول بالاستحقاق ، وذلك لأنّ كلّ ما يملكه العبد من حول وقوّة وما يصرفه في طريق الطاعة كلّه ملك للّه سبحانه وليس للعبد دور سوى صرف نعمه سبحانه في موارد يرتضيها ، وعندئذ كيف يكون مستحقاً للأجر مع أنّه لم يبذل في طريق الطاعة شيئاً إلاّ ما أعطاه المولى ، يقـول سبحانـه : ( يأَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَميد ). (١)

قال العلاّمة الطباطبائي : وما يعطيه تعالى من الثواب للعبد تفضّل منه من غير استحقاق من العبد ، فإنّ العبد وما يأتيه من عمل ، ملك طلق له سبحانه ملكاً لا يقبل النقل والانتقال ، غير أنّه اعتبر اعتباراً تشريعيّاً ، العبدَ مالكاً وملّكه عمله ، وهو المالك لما ملّكه وهو تفضّل آخر ثمّ اختار ما أحبّه من عمله فوعده ثواباً على عمله وسمّاه أجراً وجزاء وهو تفضّل آخر ، ولا ينتفع به في الدنيا والآخرة إلاّ العبد. قال تعالى : ( للّذينَ أَحسنُوا مِنهُم واتّقَوا أجرٌ عَظِيم ) (٢) ، وقال : ( إِنَّ الّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ) (٣) ، وقال بعد وصف الجنّة

__________________

١ ـ فاطر : ١٥.

٢ ـ آل عمران : ١٧٢.

٣ ـ فصّلت : ٨.

٥١٣

ونعيمها : ( إِنّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكوراً ) (١) ، وما وعده من الشكر وعدم المنّ عند إيتاء الثواب تمام التفضّل. (٢)

فالقول بالتفضّل أوضح برهاناً وأوفق بالقرآن الكريم كما سيوافيك.

الدليل الثاني : ما تكرر في الذكر الحكيم من التعبير عن الثواب ، بالأجر للعمل وهو آية الاستحقاق ، كاستحقاق العامل لراتبه في آخر الشهر ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرةٌ وأَجرٌ كَبير ). (٣)

وقال تعالى : ( وَاصْبر فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنين ) (٤) إلى غير ذلك ممّا يعدّ الثواب أجراً وهو تعبير آخر عن الاستحقاق.

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ التعبير بالأجر فيها كالتعبير بالاستقراض في قوله سبحانه : ( منْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرضاً حَسناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيم ) (٥) فانّ التعبير بالاستقراض لغاية الحثّ على ما ندب إليه القرآن من الإنفاق حتّى شبّه إنفاقه بأنّه قرض يقرضه اللّه سبحانه وعليه ان يردّه ، ونظيره التعبير بما يتفضّل بالأجر ، فانّه لإيجاد الرغبة إلى الإنفاق وانّه لايذهب سدى ، بل يقابل بالأجر الكريم على اللّه العزيز الذي لا يبخس أحداً.

وثانياً : أنّ هنا آيات تدلّ على أنّ الثواب إنّما هو بالوعد والمواضعة كقوله : ( وَكُلاً وعدَ اللّهُ الحُسْنى ) (٦) وقوله سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالحات لَهُمْ مَغْفِرةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم ) (٧) فلو كان هناك استحاق في الثواب ، لما كان هناك حاجة بالجعل ، وهذا كاشف عن الثواب ليس إلاّ تفضّلاً منه سبحانه.

__________________

١ ـ الإنسان : ٢٢.

٢ ـ الميزان : ١٩ / ١٧٦.

٣ ـ فاطر : ٧.

٤ ـ هود : ١١٥.

٥ ـ الحديد : ١١.

٦ ـ النساء : ٩٥.

٧ ـ المائدة : ٩.

٥١٤

نعم لا يصحّ له أن يتخلّف بعدما وعد ، لاستلزامه الكذب لو أخبر عن الثواب ، أو لاستلزامه تخلّف الوعد ، لو أنشأه ، وكلا الأمرين قبيح.

الثواب والعقاب من لوازم الأعمال التكوينية

قد عرفت اختلاف المتكلّمين في أنّ ترتّب الثواب على العمل من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل ، وعلى كلا الأمرين فالثواب فعله سبحانه وعطاء منه بالنسبة إلى المطيعين من عباده استحقاقاً أو تفضّلاً ، وهناك من يقول بأنّ الثواب والعقاب من لوازم الأعمال بوجوه ثلاثة :

١. الصلة بين العمل والثواب توليدية

إنّ الصلة بين العمل والثواب صلة توليدية ، وانّ العمل الدنيوي يزرع في الدنيا ويحصد نتائجه في الآخرة ، فالعمل علّة ، والثواب والعقاب ثمار العمل يترتّب عليه ترتّب الفرع على الأصل ، وربما يستظهر من قوله عليه‌السلام : « العمل الصالح حرث الآخرة ». (١)

٢. الثواب تمثّل العمل بوجوده الأُخروي

إنّ صاحب القول الأوّل كان يتبنّى الاثنينية ، وانّ هناك عملاً وثواباً ، والعمل بذر ينمو ويتبدّل إلى الثمر سواء أكان حلواً أو مرّاً ، لكن صاحب هذا القول ينكر الاثنينية ويقول : إنّ الثواب هو نفس العمل ، غير أنّ للعمل ظهورين : ظهوراً دنيوياً وهو ما نراه من العمل الحسن والسيء ، وظهوراً أُخرويّاً وهو الثواب

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢ ، ط عبده.

٥١٥

والعقاب ، وهذا هو القول المعروف بتجسّم الأعمال وتمثّلها ، ويستظهر ذلك المعنى من بعض الآيات :

١. قوله سبحانه : ( يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُون ). (١)

فقوله سبحانه : ( هذا ما كنزتم ) يشير إلى الجزاء الذي يُواجَه به الإنسان في الآخرة ، وأنّ هذا الجزاء ليس شيئاً سوى نفس العمل الدنيوي ولذلك وصفه بقوله : ( هذا ما كنزتم لأنفسكم ) ، فالكنز له وجودان : وجود دنيوي وهو الدنانير الصفراء التي تسرّ الناظرين ، ولكنه في الآخرة نفس الدينار المحمّر الذي بها تكوى الجباه والجنوب وغير ذلك.

٢. قوله سبحانه : ( ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ولا يظْلِمُ ربُّكَ أحَداً ) (٢) فما يحضر في الآخرة هو نفس ما عمله في الدنيا.

٣. قوله سبحانه : ( يَومَ تَجِدُ كُلُّ نفس ما عَمِلتْ مِنْ خَير مُحْضَراً ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الجزاء هو التمثّل الملكوتي وانّ رابطة الثواب والعقاب مع العمل ليست رابطة توليدية كما في القول الأوّل بل من قبيل ظهور الشيء في كلّ ظرف بثوبه المناسب.

٣. الثواب فعل النفس

إنّ كلا من القولين الأوّلين يتبنّى للعمل أصالة ، فتارة يُتصوّر أنّ الصلة بين الفعل والثواب من مقولة التوليد والانتاج ، وأُخرى أنّ الصلة بينهما صلة ظهور

__________________

١ ـ التوبة : ٣٥.

٢ ـ الكهف : ٤٩.

٣ ـ آل عمران : ٣٠.

٥١٦

الشيء بوجودين حسب اختلاف ظروف العمل ، إلاّ أنّ هذا القول يتبنّى أنّ الثواب والعقاب من أفعال النفس فهي بما اكتسبت من العقائد الصحيحة أو الفاسدة وما أتت من الأعمال الحسنة والقبيحة تكتسب استعداداً وملكة خاصة تقدر معها على إنشاء صور مناسبة لتلك الملكة فهي إمّا تتنعّم بالصور أو تتأذّى بها.

وبالجملة : الإنسان في ظل العقائد الصحيحة والفاسدة والأعمال الحسنة والسيئة يكتسب ملكة خاصّة تكون مع الإنسان ، خلاّقة للصور التي تناسبها ، وهذا ليس أمراً بعيداً ، فمن يتملّك ملكة العدالة في هذه النشأة لم يزل يتصوّر أُموراً تناسبها ، ومن يمتلك ملكة الفسق والجور لم يزل يتصوّر صوراً تناسبها ، فنفس هذه الملكة فعّالة في يوم القيامة فتخلق الصور البهية أو الصور الموحشة ، ويعبّر عن الأوّل بالجنة وعن الثاني بالجحيم.

وهذه الآراء الثلاثة لعرفاء الإسلام ، والتسليم بها رهن دراستها صحّة وفساداً في محلّها ، غير أنّ القول الثالث إذا كان بصدد حصر الجنة والجحيم بالصور المخلوقة للنفس فتعارضها الآيات والأخبار القطعية على أنّ الجنة أمر منفصل عن النفس وكذلك الجحيم. ولو لم يكن بصدد الحصر فلا مانع من القول بالجنتين المتصلة بالنفس والمنفصلة عنها ، وإن كان الظاهر من القائل هو الحصر. (١)

إلى هنا تمّت الآراء في كيفية ترتّب الثواب والعقاب. فلندخل في صلب الموضوع وهو :

__________________

١ ـ الأسفار الأربعة : ٩ / ١٣١ ، فصل « في الشقاوة التي بازاء السعادة ».

٥١٧
ترتّب الثواب على الواجب الغيري

هل يترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري أو لا؟ فيه أقوال :

١. يترتّب الثواب على النفسي دون الغيري ، وهو خيرة المحقّق الخراساني والسيد الإمام الخميني ـ قدّس سرّهما ـ.

٢. يترتّب الثواب على الغيري كالنفسي ، لكن إذا كان واجباً أصلياً لا تبعياً أي مدلولاً لخطاب مستقل ، لا ما إذا فهم وجوبه على نحو التبعية بإحدى الدلالات : الالتزامية الإيماء والاقتضاء ، وهو خيرة المحقّق القمي.

٣. يترتّب الثواب على الواجب الغيري بشرط قصد التوصّل به إلى ذيها ، وهو خيرة المحقّق النائيني وتبعه صاحب المحاضرات.

٤. يترتّب عليه الثواب ـ مضافاً إلى قصد التوصّل ـ كون المقدّمة موصلة بأن تنتهي إلى الإتيان بذيها.

وهذه الأقوال مبنيّة على القول بأنّ الثواب من باب الاستحقاق فيبحث عن حدود الاستحقاق ، وانّها هل تعمّ الغيري أو تنحصر بالنفسي؟ وأمّا على القول المختار من أنّ الثواب في الواجب النفسي من باب التفضّل ، فعندئذ يجب أن تتفحّص في الكتاب والسنّة هل هناك ما يدلّ على ترتّب الثواب على الواجب الغيري أو لا؟ إذ ليس عندئذ لكشف الثواب طريق وراء النقل.

إذا عرفت ذلك فلندرس أدلّة الأقوال الأربعة ، وإن كان الأساس مرفوضاً.

الاستدلال على القول الأوّل

استدلّ للقول الأوّل بوجهين :

٥١٨

الأوّل : ما استدلّ به المحقّق الخراساني على عدم ترتّب الثواب على الواجب الغيري باستقلال العقل بعدم الاستحقاق إلاّ لعقاب واحد أو لثواب كذلك فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها ، أو وافقه وأتى به بماله من المقدمات. (١)

يلاحظ عليه : كيف يستقلّ العقل بوحدة الثواب مع أنّ الموضوع لترتّب الثواب هو إطاعة المولى والمفروض وجود ذلك الملاك في امتثال الواجب الغيري أيضاً ولا يقاس الثواب بالعقاب ، لأنّ الثواب على الطاعة والمفروض انّها متعدّدة حيث إنّه أطاع أمر المولى في مورد الغيري ثمّ أطاع أمره في مورد النفسي ، فالطاعتان مختلفتان ويتبع تعدّدَ الطاعة ، تعدّدُ الثواب ، وأمّا العقاب فهو مترتب على التمرّد والخروج عن رسم العبودية وزيّ الرقية. وليس في ترك الواجب إلاّ تمرّد واحد حسب العقل.

فإن قلت : إنّ الثواب فرع كون العمل مقرِّباً من المولى ، وهو فرع كون المتعلّق محبوباً وحسناً بالذات ، والمفروض أنّ الواجب الغيري ليس محبوباً بالذات ، بل محبوب بالعرض فكيف يترتب عليه الثواب؟

قلت : إنّ الثواب يترتّب على إطاعة أمر المولى سواء أكان المتعلّق محبوباً بالذات أو محبوباً بالعرض.

وإن شئت قلت : إنّ الثواب يترتّب على كون حركة العبد حركة إلهية وعملاً يُتطلب به امتثالُ أمر المولى سواء أكان المتعلّق محبوباً بالذات أو لا ، وعلى ضوء ذلك يكفي في ترتّب الثواب انصباغ العمل بصبغة إلهية ، وعندئذ يستقل العقل بترتّب الثواب عليها على القول بالاستحقاق.

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٧٤.

٥١٩

الثاني : ما استدلّ به السيد الأُستاذ ، فقال : إنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة ، ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيرية ، لأنّها بمعزل عن الباعثية ، لأنّ المكلّف إمّا أن يكون قاصداً لامتثال الأمر النفسي أو لا. فعلى الأوّل فالأمر النفسي داع وباعث إلى الإتيان بالمقدّمة من دون حاجة إلى باعثية الأمر الغيري ، وعلى الثاني فلا يكون الأمر الغيري باعثاً لأنّ المفروض أنّه راغب عن ذي المقدّمة ، فكيف يكون الأمر الغيري باعثاً؟

والحاصل : انّ ملاك الاستحقاق هو الطاعة ، وهي فرع كون أمره داعياً وباعثاً والمفروض انّه ليس بباعث في حالة من الحالات. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الأمر النفسي والغيري في الباعثية وعدمها سيّان ، فإن أُريد بها الباعثية التكوينية فليس واحد منهما باعثاً تكوينياً ، بل الباعث إلى الطاعة هو رجاء الثواب والخوف من العقاب.

وإن أُريد الباعثية الإنشائية فكلّ من الأمرين صالح لذلك. وما ذكره من الاستدلال إنّما يتمُّ إذا أُريد من الباعثية ، القسم التكويني منها ، وقد عرفت انتفاءها فيهما معاً.

إلى هنا تبيّن أنّ القول الأّوّل ـ على القول بالاستحقاق ـ غير تام برهاناً.

وأمّا القول الثاني (٢) : وهو التفصيل بين امتثال الأمر الغيري الأصلي وامتثال الأمر الغيري التبعي ، فليس له دليل صالح بعد قيام الدليل على حجية خطابات المولى ، أصلياً كان الخطاب أو تبعياً ، وسيمرّ في باب المفاهيم أنّ دلالة الاقتضاء والإيماء من الدلالات الصالحة للاحتجاج.

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ٢٤٩.

٢ ـ مرّ القول الأوّل ، ص ٥١٨.

٥٢٠