إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

العضلات.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات فسّر إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقبالي بأنّه إن كان المراد من الإرادة هو الشوق فلا شكّ في تعلّقها بأمر استقبالي كتعلّقها بأمر حالي ، وهذا لا يحتاج إلى إقامة برهان ، بل هو أمر وجداني ، وإن أُريد منها الاختيار وإعمال القدرة فهي لا تتعلّق بفعل الإنسان نفسه إذا كان في زمن متأخّر فضلاً عن فعل غيره ، ولذا لا يمكن تعلّقها بالمركب من أجزاء طولية كالصلاة دفعة واحدة. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الإرادة ليست نفس الشوق بشهادة أنّ الإنسان يريد شرب الدواء المرّ مع عدم الشوق ، ولا إعمال القدرة ، فانّه من آثار الإرادة ونتائجها ، بل هي عبارة عن إجماع النفس وتصميمها وجزمها بحيث لا يرى المريد في نفسه أيَّ تردد في الإتيان بالعمل ، فحينئذ إذا كان المقتضي موجوداً والمانع مفقوداً ، تتعقبها إرادة أُخرى بتحريك العضلات ، وإن كانت هناك موانع لا تكون هناك إلاّ إرادة واحدة متعلّقة بالمطلوب بالذات إلى أن يرتفع المانع ، فتنقدح إرادة أُخرى بتحريك العضلات.

وأمّا ما استشهد به في ذيل كلامه على مدّعاه ( الإرادة لا تتعلّق بأمر استقبالي ) بعدم تعلّقها بالمركّب من أجزاء طولية كالصلاة دفعة واحدة ، فغير تام ، لأنّ عدم تعلّقها به لأجل أنّه مستلزم لاجتماع النقيضين ، لأنّ كون الشيء تدريجياً يستلزم التعاقب في الوجود ، وكونه دفعياً يستلزم خلافه. وهذا بخلاف ما إذا تعلّقت بالمركب من أجزاء طولية على نحو التدريج فانّه في غاية الإمكان ، بل لا محيص عنه ، وإلاّ يلزم تعدّد الإرادة حسب تعدّد الأجزاء الكثيرة وهو كما ترى.

__________________

١ ـ المحاضرات : ٢ / ٣٥٢.

٤٨١

الإشكال الرابع

ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري من أنّ إطلاق الوجوب وكون القيد راجعاً إلى الواجب ، يقتضي ايجاب الفعل مع القيد وهذا إنّما يتصوّر في القيود الاختيارية ، وأمّا القيود الخارجة عن قدرة المكلّف فيستحيل تعلّق الطلب بما ليس تحت قدرة المكلّف ، فلا محيص عن إرجاع القيد إلى الهيئة ، فيكون الطلب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان من أقسام الطلب المشروط. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الشيء تارة يلاحظ جزءاً للواجب وأُخرى شرطاً له ، ففي الأوّل يكون القيد والتقيّد داخلين في الواجب ، وأمّا على الثاني فيكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً.

إذا عرفت ذلك فانّ الإشكال إنّما يرد إذا كان الوقت جزءاً للواجب فيجب إيجاده بحكم إطلاق الوجوب مع أنّه خارج عن اختيار الإنسان.

وأمّا إذا كان شرطاً على نحو يكون ذات القيد خارجاً والتقيّد داخلاً فامتثاله أمر ممكن ، مثلاً انّ الزمان والسماء خارجان عن اختيار المكلّف ، إلاّ انّ إيجاد الصلاة تحت السماء مقدور وإتيانها في الوقت المزبور أمر ممكن.

الخامس : ما حكاه المحقق الخراساني من عدم القدرة على المكلّف به في حال البعث مع أنّها من الشرائط العامة.

والإجابة عنه واضحة حيث إنّ الشرط كما ذكره المحقّق الخراساني القدرة على الواجب في زمان لا في زمان الإيجاب والتكليف. (٢)

__________________

١ ـ درر الفوائد : ١ / ٧٦.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦٤.

٤٨٢

السادس : ما ذكره المحقّق النائيني في كلام مفصّل كما جاء في تقريراته ويتألف كلامه من أُمور ثلاثة :

١. كلّ القيود ترجع إلى الموضوع

إنّ الأحكام الشرعية موضوعة على نهج القضايا الحقيقية ، وهي عبارة عن وضع الحكم على العنوان الكلي الصادق على الأفراد المتحقّقة أو المقدرة عبر الزمان على نحو يكون الإنشاء أزلياً وفعلية الحكم مشروطة بتحقّق الموضوع ، فقوله سبحانه : ( وَللّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البيتِ مَن استطاعَ إِليهِ سَبيلاً ) (١) ، بمنزلة قولنا : « الإنسان العاقل البالغ المستطيع يجب عليه الحجّ » فالحكم مترتب على موضوع كلي لا تنحصر مصاديقه بالموجودين وقت التشريع بل يشمل مصاديقه عبر الزمان.

فإذا كانت القيود راجعة إلى الموضوع فلا معنى لاستثناء قيد الزمان فهو أيضاً راجع إلى الموضوع كسائر الشروط ، فكأنّه يقول : الإنسان البالغ العاقل المستطيع المدرك لزمان الحج يجب عليه الحجّ ، ومن المعلوم أنّ كلّ حكم مشروط بوجود الموضوع فيكون الموضوع بعامّة شروطه قيداً للحكم أي الوجوب ، من غير فرق بين الاستطاعة والزمان ، فكما أنّه لولا الاستطاعة لا وجوب فهكذا لولا الزمان لا بعث فعلي.

__________________

١ ـ آل عمران : ٩٧.

٤٨٣
٢. لا فرق بين الاستطاعة والزمان

يقول قدس‌سره : نحن نسأل القائل بالواجب المعلّق ، أيّة خصوصية في الوقت حتى يتقدّم الوجوب عليه؟ مع أنّا لم نقل بذلك في سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك الكلّ في كونه مأخوذاً قيداً للموضوع ، فأيّ فرق بين الوقت والاستطاعة ، بحيث يتقدم الوجوب على الأوّل دون الثاني؟

٣. الزمان أولى أن يكون قيداً للوجوب

ثمّ إنّه قدس‌سره أفاض الكلام وقال : إنّ الأمر في الوقت أوضح ، لأنّه لا يمكن أخذه إلاّ مفروض الوجود ، لأنّه أمر غير اختياري ينشأ من حركة الفلك ، ويكون فوق دائرة الطلب ، ويكون التكليف بالنسبة إليه مشروطاً ، وإلاّ يلزم تكليف العاجز. (١)

يلاحظ على الأوّل : أنّ إرجاع عامّة القيود إلى الموضوع غير تام ، وذلك لما عرفت عند البحث في الواجب المطلق والمشروط انّ القيود ثبوتاً على قسمين :

قسم لها دور أساسي في ظهور الإرادة وانقداحها في النفس على نحو لولاه لما أراده المولى ـ وإن كان المتعلق ذا مصلحة ـ وهذا كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ ، فانّ الحجّ مطلقاً ذو مصلحة من غير فرق بين المستطيع والمتسكع ، لكن إيجابه على نحو الإطلاق مستلزم للحرج ، ولذلك قيّد المولى الوجوب بالاستطاعة لئلا يكون حرج بالنسبة إلى غير المستطيع ، فهذا القسم من القيود يرجع إلى الوجوب. وبعبارة أُخرى يرجع إلى الموضوع ، ويصحّ قوله : إنّ الموضوع البالغ العاقل المستطيع.

__________________

١ ـ لاحظ فوائد الكاظمي : ١ / ١٨٧ ؛ أجود التقريرات : ١ / ١٤١.

٤٨٤

وقسم منه يرجع إلى المتعلّق بمعنى أنّه لولا القيد لما كان فيه أيّة مصلحة ، وهذا كما في الطواف بالبيت والصلاة مع الوضوء ، فلولا البيت لا يوصف الطواف بالصلاح ، كما أنّه لولا الوضوء لا توصف الصلاة بالمصلحة ، ففي هذا النوع من القيود لا محيص من القول برجوعها إلى المتعلق دون الوجوب وبالتالي دون الموضوع.

فإذا كانت القيود ثبوتاً على قسمين فكيف جعلها قسماً واحداً؟!

ويلاحظ على الثاني : بوجود الفرق بين الاستطاعة والزمان فانّ للاستطاعة دوراً في ظهور الإرادة وانقداحها في لوح النفس ولذلك يكون قيداً للوجوب وبالتالي جزء الموضوع ، وأمّا الزمان فليس له مدخلية في انقداح الإرادة ، بل له دور في ترتب المصلحة على الأعمال التي يقوم بها الحاج في أيّام الحج ، فالأعمال إنّما تكون ذات مصلحة إذا أتى بها الحاج في الأراضي المقدّسة والأزمنة المحددة ، ولو كان له دور في ظهور الإرادة فإنّما هو بتبع تأثيره في المتعلّق ، ولأجل ذلك صارت الاستطاعة قيداً للوجوب ، وهذا ( الزمان ) قيداً للواجب.

ويلاحظ على الثالث بأنّ ما ذكره مبني على عدم الفرق بين كون الزمان جزءاً وشرطاً ، والإشكال إنّما يرد إذا كان الزمان جزءاً وهو عبارة عن كون القيد والتقيّد داخلين في المتعلّق مع أنّ الزمان فوق دائرة الطلب فكيف يقع مورد الطلب؟!

وأمّا إذا قلنا إنّ الزمان شرط لا جزء ، فالجزء وإن كان خارجاً عن حيّز القدرة ولكن التقيّد داخل في إطار الاختيار فللمكلّف الإتيان بالأفعال في ذلك المقطع من الزمان كما أنّ له الاختيار في الإتيان بها في غير ذلك المقطع. وهذا نظير

٤٨٥

استقبال الكعبة فانّ الكعبة خارجة عن اختيار المكلّف لكن إيقاع الصلاة نحوها داخل في اختياره.

وبالجملة ، هذه الإشكالات لا تورد أيَّ خدشة على تقسيم الواجب المطلق إلى معلّق ومنجّز ، ومن أوضح الأدلّة على إمكان القسمين هو وجود المعلّق والمنجّز بين العقلاء.

بقي هنا إشكال آخر وإن شئت فاجعله سابع الإشكالات ، فنقول :

السابع : ما ذكره المحقّق الخوئي من أنّ الواجب المعلّق ليس من أقسام الواجب المطلق في مقابل المشروط بل هو قسم منه ، وذلك لأنّ وجوب الحجّ مثلاً إمّا مشروط بيوم عرفة أو مطلق ، وبما أنّ التكليف لم يتعلّق بذات الفعل على الإطلاق وإنّما تعلّق بإيقاعه في زمن خاص ، فعلم من ذلك أنّ للزمان دخلاً في ملاكه وإلاّ فلا مقتضى لأخذه في موضوعه ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الوجوب مشروطاً به غاية الأمر على نحو الشرط المتأخر. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره مبني على عدم التفريق ثبوتاً بين القيود الراجعة إلى الإرادة والوجوب والقيود الراجعة إلى المتعلّق ، وعلى وفق ما ذكرنا من الضابطة ، فالزمان بما له مدخلية في ترتّب المصلحة على المتعلّق على نحو لولا إيقاع الفعل في تلك الفترة لما ترتب على الفعل أي مصلحة ، ـ فالزمان ـ قيد للمادة.

وما ذكره من أنّ وجوب الحجّ إمّا مشروط بيوم عرفة أو مطلق ، لا يثبت مرامه ، لأنّا نختار أنّ وجوبه مطلق وله مدخلية في ملاك الواجب ، وما رتّب عليه من أنّه إذا كان دخيلاً في الملاك يكون الوجوب مشروطاً به ، غير تام لما فيه :

أوّلاً : بالنقض فانّ الوضوء له مدخلية تامّة في الصلاة ، مع أنّ الوجوب غير

__________________

١ ـ المحاضرات : ٢ / ٣٤٨.

٤٨٦

مشروط به.

وثانياً : انّ عدم تعلّق الوجوب بغير ما فيه الملاك ، ليس بمعنى اشتراط الوجوب به ، بل بمعنى عدم تعلّق الوجوب بما ليس فيه الملاك وتضيّقه ذاتاً لا اشتراطه بالقيد ، وهذا كتضيق كلّ حكم بالنسبة إلى موضوعه ، إذ ليس كلّ حكم مشروطاً بموضوعه ، ومع ذلك ليس له دعوة إلاّ إلى موضوعه.

٤٨٧

المقدمات المفوتة

أو

ثمرات الواجب المعلّق

إنّ الغاية من تقسيم الواجب المطلق إلى منجّز ومعلّق هو رفع الإشكال في قسم من المقدمات الوجودية التي أفتى المشهور بوجوب المقدّمة مع عدم وجوب ذيها ، وعندئذ أشكل عليهم بأنّ وجوب المقدّمة نابع عن وجوب ذيها ، ومعه كيف وجد المعلول دون العلة ، وذلك في الموارد التالية :

١. وجوب الاحتفاظ بالماء قبل الوقت لواجده إذا علم عدم تمكّنه منه بعد دخول الوقت.

٢. وجوب الغسل للمستحاضة قبل الفجر في الصيام الواجب.

٣. وجوب تحصيل المقدّمات الوجودية للحج قبل وقته.

٤. تعلّم الأحكام للبالغ قبل مجيء وقت وجوب العمل ، إذا ترتب على تركه فوت الواجب.

إلى غير ذلك من الموارد التي يتقدّم فيها وجوب المقدّمة على وجوب ذيها ، وهو بمنزلة تقدّم المعلول على العلة.

فقد اختار كلّ مهرباً نشير إليه.

٤٨٨

١. ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ القيد في الواجب المشروط يرجع إلى المادة ، والوجوب مطلق والواجب مقيّد بقيد اختياري أو غير اختياري ، ففي الموارد المذكورة وجوب المقدّمة رافق وجوب ذيها ، لإطلاق الوجوب وعدم تقيّده بقيد ، حتّى لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّقه والمفروض عدم تحقّقه.

٢. تخلّص صاحب الفصول بجعل هذه الموارد من قبيل الواجب المعلّق حيث إنّ الوجوب حاليّ والواجب استقباليّ ، وما اختاره من المعلّق هو نفس ما اختاره الشيخ الأنصاري في تفسير الواجب المشروط ، غير أنّ صاحب الفصول ، قسّم المطلق إلى منجّز ومعلّق ، مع تسليمه تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط فهو مع القول بالواجب المشروط ، أبدى ذلك التقسيم.

٣. ما اختاره المحقّق الخراساني من جعل الشرط في هذه الموارد من قبيل الشرط المتأخّر الذي مرجعه عنده إلى الشرط المقارن فيكون وجوب ذيها فعلياً ، ولا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها ، وإنّما اللازم الإتيان بها قبل الإتيان به ، قال قدس‌سره : لا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه في الموارد الثلاثة :

١. فيما إذا كان منجزاً وكان الوجوب والواجب حاليّين.

٢. فيما إذا كان معلّقاً وكان الوجوب حالياً دون الواجب.

٣. أو مشروطاً بشرط متأخّر كان معلوم الوجود فيما بعد ضرورة فعلية وجوبه وتنجّزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدّمة فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة ، ولا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها وإنّما اللازم الإتيان بها قبل الإتيان به. (١)

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

٤٨٩

٤. ما اختاره المحقّق الأردبيلي في خصوص مسألة خصوص التعلّم قبل الوقت وهو القول بالوجوب النفسي التهيئي للجاهل البالغ الذي يعلم عدم تمكّنه من التعلّم بعد دخول الوقت فهو واجب نفسي لكن يُهيّئ الإنسان لواجب آخر.

٥. ما اختاره شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في سالف الزمان وهو أنّ الوجوب هنا وجوب عقلي إرشادي إلى حفظ غرض المولى ، لأنّ العقل لا يفرق في القبح بين مخالفة التكليف الشرعي وبين مخالفة التكليف العقلي حيث إنّ العقل يستقل بلزوم الإتيان بالمقدّمات المفوّتة قبل وجوب ذيها ، لأنّ في ترك الإتيان تفويت للملاك والغرض اللازم وإلى هذا الجواب أشار المحقّق الخراساني حيث قال : بل لزوم الإتيان بها عقلاً ولو لم نقل بالملازمة.

٦. ما اختاره السيّد الأُستاذ وهو القول بوجوب المقدّمة غير المترشحة من وجوب ذيها ، ومحصله : انّه لا مانع من فعلية وجوب المقدّمة دون فعلية وجوب ذيها ، فانّ الإشكال ينشأ من توهم أنّ وجوب المقدّمة ناشئ ونابع عن وجوب ذيها. وعندئذ كيف يتصوّر وجود المعلول قبل وجود العلّة ، وأمّا إذا قلنا بأنّ لكلّ من الوجوبين مبادئ مستقلة في نفس الأمر ، فكما أنّ لذيها مبادئ من تصوّر الفائدة والشوق ثمّ التصميم والجزم ، فهكذا في جانب المقدّمة حيث إنّ المولى يتصوّر فائدة المقدّمة ويشتاق إليها ثمّ يريدها بالطلب والإيجاب وعندئذ لا مانع من إيجاب المقدّمة قبل إيجاب ذيها.

وبذلك يعلم معنى الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، فإن أُريد الملازمة في مقام الفعلية فهي غير صحيحة ، وإن أُريد منها انّ وجوب المقدّمة لا يفارق وجوب ذيها ولو في موطنه ومحلّه ، لأنّ وجوبها غيري ومثله لا ينفك عن الوجوب النفسي ولو بعد فترة فهذا صحيح.

٤٩٠

وبذلك يعلم عدم تمامية ما أفاده المحقّق الخراساني من تصوير أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها ، ولذلك يكشف وجوبها آناً عن وجوب ذيها حيث قال : إنّ وجوب المقدّمة إنّما يكشف بطريق الإنّ عن سبق وجوب ذيها ، لو كان وجوبها ناشئاً عن وجوبه ، وإرادتها ناشئة من إرادته.

ولكنّك عرفت خلافه ، وإنّ وجوب ذيها أو إرادته بمنزلة العلّة الغائية التي لا يعتبر إلاّ تقدّمها ذهناً لا خارجاً ، ويكفي في المقام العلم بأنّه سوف يأمر به المولى.

وإن شئت قلت : إنّ وجوب المقدّمة إنّما يكشف عن وجوب ذيها إنّاً ، لو كان وجوبها مترشحاً من وجوبها وإرادتها مترشحة من إرادته ، وأمّا إذا كان وجوب ذيها علّة غائية لا علة فاعلية فيمكن أن يتقدّم وجوب المقدّمة على وجوب ذيها ، فالخلط حصل من تصوّر أنّ وجوب ذيها علّة فاعلية مع أنّها علّة غائية.

تطبيقات

لقد عرفت انقسام الواجب إلى المطلق والمشروط ، والمطلق إلى المعلّق والمنجّز ، فحان البحث عن سرد تطبيقات في هذا المجال.

١. قال سبحانه : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ). (١)

قال المفسرون : المراد من شهود الشهر هو رؤية الهلال أو كون المكلّف حاضراً لا مسافراً ، والآية ظاهرة في الوجوب المعلّق حيث أوجب على الشاهد في أوّل الشهر وجوبَ صيام الشهر كلّه ، فالوجوب حالي والواجب استقبالي.

٢. قال سبحانه : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً ). (٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٥.

٢ ـ آل عمران : ٩٧.

٤٩١

فالظاهر من الآية أنّ وجوب الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة واجب مشروط ولكنّه بالنسبة إلى زمان الحجّ واجب معلق ، لأنّه إذا تمكن المكلّف من الزاد والراحلة وجب عليه الحجّ لانقلاب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى المطلق فيصير الوجوب فعلياً ، لكن الواجب متأخر عن زمان الوجوب فلا مانع من أن يكون وجوب الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة واجباً مشروطاً وبالنسبة إلى زمان الحجّ واجباً معلقاً.

٣. روى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام انّه قال : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، ولا صلاة إلاّ بطهور ». (١)

والرواية ظاهرة في كون وجوب الصلاة مشروطاً بالوقت والواجب ، واجب مشروط.

إلى غير ذلك من التطبيقات التي في وسع الباحث أن يتدبر فيها.

سؤال وإجابة

أمّا السؤال : أيّ فرق بين إراقة الماء قبل الوقت مع العلم بعدم إمكان تحصيله بعده ، وإجناب الرجل نفسه اختياراً بمواقعة أهله قبل الوقت ، مع علمه بعدم تمكّنه من الطهارة المائية بعده ، حيث أفتوا بعدم جواز الأوّل وجواز الثاني. فهذا التفريق لا يصحّ على أيّ وجه من الوجوه المذكورة.

وأمّا الجواب : فهو ما أفاده المحقّق الخراساني بما هذا حاصله : أنّ الواجبات الشرعية مختلفة من ناحية المقدّمة ، فقد تكون القدرة المعتبرة قدرة مطلقة ، فعندئذ

__________________

١ ـ الوسائل : ١ ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٤٩٢

يجب تحصيلها أوحفظها ، وقد يكون الواجب قدرة خاصّة وهي القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية إذا لم يقدم على مواقعة أهله. فالتجويز من الفقهاء كاشف عن كون المعتبر هو القدرة الخاصّة لا العامة. (١)

إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة

إنّ هنا بحثين : أحدهما ما مرّ من حكم المقدّمات المفوِّتة ، والثاني انّه إذا لم يكن دليل الطرفين مقنعاً لإثبات أحد القولين فما هو المرجع؟ وقبل الخوض في البحث نذكر أُموراً :

١. ليس البحث بحثاً علمياً صرفاً ، بل له ثمرة عملية ، وذلك لأنّه إن دلّ الدليل على رجوع القيد إلى الهيئة يكون من قبيل الواجب المشروط فلا يجب تحصيل الشرط ، وإن رجع إلى المادة فإنّ إطلاق الوجوب يقتضي وجوب تحصيل القيد إذا كان أمراً اختيارياً ، إلاّ إذا دلّ الدليل على أنّ المطلوب حصول القيد لا تحصيله.

نعم لا تظهر الثمرة في القيود الخارجة عن الاختيار كطلوع الفجر وزوال الشمس.

٢. انّ عقد هذا البحث يصحّ ممّن يرى كلاًمن الهيئة والمادة صالحة للتقييد ، وامّا من يرى تقييد الهيئة أمراً محالاً فلا يصلح له البحث في هذا الموضوع ، والعجب من الشيخ مع اعتقاده بالامتناع ، طرح هذا البحث.

٣. إنّ محط البحث ما إذا كان القيد منفصلاً ، وأمّا إذا كان القيد متّصلاً ودار الأمر بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة ، يصير الكلام مجملاً شأن كلّ كلام محتف

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦٧.

٤٩٣

بما يصلح للقرينية مع عدم وجود ظهور لغوي أو انصراف أو قرينة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقتضى الأُصول اللفظية وأُخرى في مقتضى الأُصول العملية ، وإليك بيان الأمرين :

مقتضى الأصل اللفظي عند الترديد

استدلّ الشيخ على أنّه إذا دار الأمر بين تقييد الهيئة وتقييد المادّة ، فمقتضى الأصل اللفظي إرجاع القيد إلى المادة دون الهيئة بوجهين :

الأوّل : تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي

وحاصل هذا الوجه : انّ مفاد الهيئة إطلاق شمولي ، وإطلاق المادة إطلاق بدلي ، وإذا دار الأمر بين تقييد أحد الإطلاقين فتقييد البدلي أولى من تقييد الشمولي.

إنّ الدليل مؤلف من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى فهي أنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادة بدلي.

وأمّا الكبرى فهي أنّه إذا دار الأمر بين تقييد أحدهما ، فتقييد البدلي أولى من تقييد الشمولي ، وإليك توضيح الأمرين :

أمّا الصغرى فلانّه إذا قال : أكرم زيداً ( ولم يقيّده ) فمقتضى إطلاق الهيئة ، وجوب الإكرام على كلّ التقادير سواء أسلّم أم لا ، سواء أجاء أم لم يجئ.

وهذا بخلاف المادّة فانّ المطلوب هو الإتيان بفرد من الطبيعة ، وقد اشتهر أنّ الطبيعة توجد بفرد واحد وتنعدم بعامّة الأفراد. هذا هو بيان الصغرى.

وأمّا الكبرى فهو تقديم الإطلاق البدلي على الشمولي ، لأنّ الدلالة الثانية أقوى من الدلالة الأُولى.

٤٩٤

وقد أورد عليه المحقّق الخراساني بما هذا حاصله : وهو انّ المقرر عند الأُصوليّين وحتّى الشيخ نفسه في باب التعادل والترجيح (١) هو تقديم العام الشمولي على الإطلاق البدلي لا تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، وذلك لأنّه إذا كان الشمول بالدلالة اللفظية الوضعية ( العام الشمولي ) تكون دلالته تامّة غير معلقة بشيء ، بخلاف ما إذا كان الإطلاق البدلي مستفاداً من الإطلاق فدلالته معلّقة على عدم ورود البيان بخلافها ، والمفروض أنّ العام الشمولي الذي دلالته وضعية يصلح لأن يكون قرينة وبياناً للقيد في جانب الإطلاق البدلي.

وإن شئت قلت : إنّ الميزان في حفظ أحد المدلولين : الشمولي والبدلي وإيراد القيد على الآخر ليس هو الشمولية أو البدلية ، بل الميزان هو قوّة الدلالة وهو يرجع إلى كون أحدهما مدلولاً بالدلالة اللفظية والآخر مدلولاً بالدلالة العقلية ، فاللفظية مقدّمة على العقلية ، سواء كانت في جانب الشمولي أو في جانب البدلي ، فإذا قال : أكرم كل العلماء ، ثمّ قال : أهن فاسقاً ، وبما انّ النسبة بين الدليلين عموم وخصوص من وجه يتعارضان في العالم الفاسق ، فيقدّم العام الوضعي وهو الشمولي على الإطلاق وهو البدلي ، وذلك لأنّ دلالة العام دلالة تامّة ودلالة الإطلاق معلّقة على عدم القرينة على خلافه ، والمفروض أنّ العام يصلح أن يكون قرينة على الإطلاق ، ففي هذا المثال يقدّم الشمولي على البدلي لا بملاكهما ، بل ملاك أنّ الأوّل مدلول لفظي والآخر مدلول عقلي ، ولو عُكِس ، عُكِس ، مثلاً إذا قال : أكرم أي واحد من العلماء ، بصورة العام البدلي ثمّ قال : ولا تكرم فاسقاً ، وبما أنّ بين الدليلين عموماً من وجه ، يتعارضان في العالم الفاسق ،

__________________

١ ـ الفرائد مبحث التعادل والترجيح ص ٤٥٧ طبعة رحمة اللّه عند قوله : « ومنها تعارض الإطلاق والعموم ».

٤٩٥

فيقدّم البدلي على الشمولي بحكم أنّ دلالة البدلي دلالة وضعية ودلالة الشمولي دلالة عقلية. فدلالة اللفظ على البدل غير معلّقة على شيء بخلاف دلالته على الشمولي فانّها معلّقة على عدم ما يصلح أن يكون قرينة للخلاف.

فقد علم بذلك أنّ الميزان هو تقدّم الدلالة الوضعية على الدلالة الإطلاقية من غير فرق بين الشمولي والبدلي ، وأمّا المقام فالمفروض أنّ المدلولين على شاكلة واحدة ، حيث إنّ كلاً من الشمولي والبدلي مفهومان من الإطلاق ، فهما سيّان في الأقوائية ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

إلى هنا تمّ الوجه الأوّل لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة ، وإليك بيان الوجه الثاني.

الوجه الثاني : تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة أيضاً ولا عكس

وحاصله : أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة ويرتفع به مورده ، بخلاف العكس ، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك ، كان التقييد الذي لايوجب بطلان الآخر أولى.

توضيحه : أنّ هذا الوجه كالوجه السابق مؤلّف من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى فلأنّ تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة ولا عكس.

أمّا الكبرى فلأنّ الأمر إذا دار بين تقييدين أو تقييد واحد فالثاني مقدّم.

أقول : الظاهر أنّ الكبرى أمر لا سترة عليه ، إنّما المهم هو بيان الصغرى. فنقول : إذا فرض أنّ المولى قال : أكرم زيداً إن جاءك يوم الجمعة ، فلو فرضنا أنّ القيد يرجع إلى الوجوب الذي هو مفاد الهيئة ، فبما أنّه لا وجوب قبل مجيء يوم الجمعة ، يكون الواجب أيضاً هو الإكرام التوأم مع مجيء زيد ، وهذا بخلاف ما

٤٩٦

إذا كان القيد راجعاً إلى المادة حيث يكون الإكرام المقيّد بالمجيء يومئذ واجباً ، فلا يسري التقيد إلى مفاد الهيئة ـ أعني : الوجوب ـ لجواز أن يكون الوجوب حالياً قبل يوم الجمعة والمطلوب استقبالياً.

وأورد عليه المحقّق الخراساني : بأنّه إنّما يتمّ إذا كان القيد منفصلاً ، بحيث ينعقد لكلّ من الهيئة والمادة إطلاق ، فيدور الأمر بين التصرّفين والتصرّف الواحد ، وأمّا إذا كان القيد متّصلاً فبما أنّه لم ينعقد للكلام أي ظهور وإطلاق ، فلو رجع القيد إلى الهيئة فهو لا يستلزم تقييد المادة ، بل يستلزم إبطال محلّ الإطلاق وإلغاء القابلية في المادة ، وهو ليس أمراً مخالفاً للأصل.

فلو دار الأمر بين تقييد واحد كالمادة ، وتقييد واحد وإبطال محلّ الإطلاق في الآخر ، بمعنى أنّه لا ينعقد الإطلاق فيه من أوّل الأمر فلا دليل على الترجيح. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خروج عن موضع النزاع لما عرفت من أنّ النزاع فيما إذا كان القيد منفصلاً ، وأمّا إذا كان متّصلاً فيعود الكلام مجملاً لا يعتبر كلّ من الظهورين.

والأولى أن يجاب بأنّ ما ذكره الشيخ وجه عقلي لا ينعقد به الظهور حتّى يكون موجباً لتقديم ما هو الأقوى دلالة وظهوراً على الأضعف كذلك ، وقد مرّ منّا القول عند البحث في تعارض الأحوال أنّ ما ذكروه من الوجوه لتقديم بعض الأحوال على بعض كالنقل المجاز مثلاً وجوه استحسانية لا يلتفت إليها العرف ولا ينعقد بها الظهور.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق النائيني لا يخلو من نكتة حيث قال :

إنّا لو فرضنا ثبوت أقوائية الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، فلا

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

٤٩٧

يوجب ذلك تقديمه عليه ، لأنّ الأقوائية إنّما توجب التقديم ، لو كان التخالف والتكاذب بينها بالذات ، كما في المثالين : « لا تكرم فاسقاً » ، « أكرم عالماً » والأوّل يفيد الشمول ، والثاني يفيد البدلية ، فانّ كلّ واحد منها يكذّب الآخر ، إذ لا تجتمع حرمة إكرام الفاسق على إطلاقه ولو كان عالماً مع وجوب إكرام مطلق العالم ولو كان فاسقاً ، ففي مثله يقدّم الأقوى على الأضعف ، وهذا هو محل الكلام في مبحث التعادل والترجيح ، لا في المقام إذ ليس بين إطلاق الهيئة والمادة في أنفسهما تكاذب في المقام إذ لا مانع من كونهما مطلقين غير مقيدين ، وإنّما جاء التعارض لأجل علم إجمالي بطروء القيد على أحدهما مع تساويه بالنسبة إلى الأقوى والأضعف ، وفي مثله ، لا وجه لتقديم الأقوى على الأضعف لما ذكرناه من تساوي العلم الإجمالي. (١)

مقتضى الأصل العملي

قد عرفت أنّه لا أصلَ لفظي في المقام يعتمد عليه ، وانّ القيد إذا كان متصلاً يلزم منه الإجمال في الكلام ، وإن كان منفصلاً فالعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين يمنع عن الأخذ بواحد منهما ، فلابدّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

وأمّا مقتضاه فلانّ الشكّ في كون القيد راجعاً إلـى الهيئـة ( فلا يجب تحصيله ) وإلى المادة ( فيجب تحصيلـه ) شكّ في وجـوب تحصيـل القيـد والمرجع فيه البراءة.

نعم الأصل العملي ، أعني : البراءة لا يثبت أحد الظهورين أي كون القيد قيداً للهيئة أو المادة.

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

٤٩٨

التقسيم الثالث (١)

تقسيمه إلى نفسي وغيري

عرّف القوم الواجب النفسي والغيري بالتعريف التالي :

النفسي ما أُمر به لنفسه.

والغيري ما أمر به لغيره.

وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ تعريف النفسي غير جامع ، كما أنّ تعريف الغيري غير مانع.

أمّا الأوّل : فلأنّ النفسي ينحصر بمعرفة اللّه تعالى التي أمر بها لنفسها ، وأمّا سائر الواجبات النفسية كالصلاة والصوم والزكاة فتخرج عن التعريف ، لأنّها لم يؤمر بها لأنفسها ، بل أمر بها لغاياتها المعلومة من النهي عن الفحشاء وكونه جُنّة من النار واختباراً للأغنياء إلى غير ذلك من الغايات.

وأمّا الثاني : فقد علم ممّا ذكر ، لأنّ غير المعرفة إذا خرج عن تحت الواجب النفسي يدخل في الواجب الغيري ، لأنّه أمر به لغيره ، أعني : المصالح والغايات. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّ المراد من كلمة « لنفسه » هو ما أمر به لا لبعث آخر ، كما أنّ المراد من لفظة « لغيره » ما أمر به لبعث آخر ، فالمقيس عليه في تسمية الأمر

__________________

١ ـ مرّ التقسيم الثاني ، ص٤٧٤.

٢ ـ مطارح الأنظار : ٦٦.

٤٩٩

نفسياً أو غيرياً هو ملاحظة كون البعث لأجل بعث آخر وعدمه ، فالأوّل هو الغيري ، والثاني هو النفسي.

وبعبارة أُخرى : الملاك في كون الواجب نفسياً أن يتعلّق به البعث في ملاك فيه لا لأجل بعث آخر ، كما أنّ الملاك في كون الواجب غيرياً أن يتعلّق به البعث لأجل بعث آخر ، وعندئذ تدخل الواجبات النفسية المعلومة كونها نفسية في التعريف الأوّل ولا يعمّه التعريف الثاني.

تعريف ثان للنفسي والغيري

ثمّ إنّ الشيخ لما لم يرتض بالتعريف المتقدّم حاول التعريف بوجه آخر نقله المحقّق الخراساني في « الكفاية » ، قال : فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد يمكن التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري ، وإلاّ فهو نفسي ، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة باللّه أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات. (١)

وبما أنّ الشيخ عمّم الواجب النفسي إلى ما إذا كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة أو محبوبيته بما له من الغايات ، أورد عليه في الكفاية ، بأنّه لو كان الداعي هو اشتماله على الفائدة المترتبة عليه كان الواجب غيريّاً ، فانّه لو لم تكن هذه الفائدة لازمة ، لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الإشكال نابع من عدم الإمعان في كلام الشيخ حيث إنّه جعل المعيار كون الداعي إلى الأمر التوصّل إلى واجب آخر وعدمه ، لا التوصّل إلى الغايات والأغراض وعدمها ، والأغراض وإن كانت محبوبة بالذات ولكنها ليست

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٧١.

٢ ـ المصدر نفسه.

٥٠٠