إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

قُرآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (١) « الدلوك » بمعنى الزوال ، ولفظة « اللام » في قوله « لدلوك » بمعنى « عند » أي أقم الصلاة عند دلوك الشمس ، فلو قلنا بأنّ غسق الليل هو وسط الليل فالآية متضمنة لأوقات الصلوات الخمسة ، فتدلّ على أوقات الأربعة قوله : ( أَقِمِ الصَّلوة ... إلى غسق الليل ) ، وعلى وقت صلاة الفجر قوله : ( وَقرآنَ الفَجْر ) ولو قلنا إنّ المراد من غسق الليل هو ابتداء الليل ، فتدلّ على أوقات الفرائض الثلاثة : الظهر والعصر والفجر.

وعلى كلّ حال فالقيد في الآية ، أعني قوله : ( لِدُلُوكِ الشَّمْس ) إمّا إلى قوله : ( أَقِم ) كما عليه المشهور أو إلى ( الصَّلوة ) كما عليه الشيخ الأنصاري ، ولنستوضح المقام بمثال آخر.

إذا قال القائل : أكرم زيداً إن سلّم ، فالتسليم إمّا قيد للوجوب المستفاد من هيئة أكرم ، أو قيد للإكرام الحامل للهيئة.

فعلى الأوّل : يكون المعنى يجب إن سلّم على وجه لولا التسليم لا وجوب.

وعلى الثاني يكون المعنى يجب إكرام زيد إكراماً مقيداً بتسليمه ، فالوجوب على إطلاقه وإن كان الإكرام مقيّداً بالتسليم.

وبعبارة أُخرى : الوجوب حالي وإن كان ظرف العمل استقبالياً.

تحليل واقع القيود ثبوتاً

وقبل أن ندرس أدلّة الطرفين نحلل واقع القيود ثبوتاً ، فانّ القيود حسب الواقع على قسمين :

__________________

١ ـ الاسراء : ٧٨.

٤٦١

فقسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للمتعلّق ، وقسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً لمفاد الهيئة.

أمّا الأوّل : فلو افترضنا أنّ المصلحة قائمة بإقامة الصلاة جماعة ، أو إقامتها في المسجد ، أو الطواف بالبيت على نحو تكون الصلاة والطواف مجرّدتين عن القيود فاقدتين للمصلحة ، ففي هذا الظرف يكون القيد راجعاً إلى الواجب ، فإذا قال : صلّ في المسجد ، أو صلِّ صلاة الجمعة جماعة ، أو طف بالبيت ، فجميع تلك القيود من محصلات المصلحة في الصلاة والطواف ، فهذا النوع من القيد لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للواجب لا للوجوب.

وأمّا الثاني : فكما إذا افترضنا انّ الصوم بما هو هو ذو مصلحة أو انّ العتق بما هو هو أمر راجح ، ولكن مثل هذه المصلحة غير كافية ، لانقداح الارادة في نفس المولى وبالتالي انشاء البعث إليه ، إلاّ إذا صدر منه فعل لا يغتفر إلاّ بالتكفير من الصوم والعتق ، ففي هذا المورد يكون القيد راجعاً إلى مفاد الهيئة أي البعث ، ويقول : إن أفطرت فكفّر ، وإن ظاهرت فأعتق. فالإفطار والظهار من قيود الإرادة والبعث ، ونظيره الحج متسكعاً فانّ الحجّ ذو مصلحة كافية ولكنّه غير كاف في انقداح الإرادة في لوح النفس وبعث العبد إليه ، لاستلزامه الحرج ، وإنّما يبعث إذا استطاع العبد ، فتكون الاستطاعة قيداً لظهور الإرادة ، وبالتالي لبعث المولى ، ومثل الموردين الأُمور العامّة ، فانّ العقل والقدرة من شروط الإيجاب ، فلولاهما لما ظهرت الإرادة في لوح النفس ولا البعث إلى العمل.

وبذلك ظهر أنّ القيود ثبوتاً على قسمين ، فقسم يرجع إلى المادة ولا يصلح أن يكون قيداً للوجوب والبعث ، وقسم على العكس. فإذا كانت القيود حسب الثبوت على قسمين فلا وجه لجعلهما قسماً واحداً كما عليه العلمان حيث جعل

٤٦٢

المحقّق الخراساني كلّ القيود راجعة إلى الهيئة وجعل الشيخ الأنصاري كلّها راجعة إلى المادة ، بل لابدّ من التفصيل بين القيود.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى دراسة أدلّة الشيخ.

أدلّة رجوع القيد إلى المادة

استدلّ الشيخ على رجوع القيد إلى المادة بوجوه أربعة :

الأوّل : انّ هيئة الأمر موضوعة « بالوضع النوعي العام والموضوع له الخاص » لخصوصيات أفراد الطلب والإرادة الحتمية الإلزامية التي يوقعها الآمر ويوجدها ، فالموضوع له والمستعمل فيه ، فرد خاص من الطلب ، وهو غير قابل للتقييد.

وإن شئت قلت : إنّ الهيئة موضوعة بالوضع العام للموضوع له الخاص ، فيكون مفادها إيجاد البعث ، وهو أمر جزئي لمساواة الإيجاد بالجزئية ، والجزئي لا يقبل التقييد. (١)

يلاحظ عليه : ما مرّ سابقاً من أنّ الجزئي فاقد للسعة والإطلاق من حيث الأفراد ، وأمّا من حيث الحالات فهو قابل للتقييد ، فانّ الوجوب المنشأ ، له مصداق واحد ولكنّه من حيث الحالات ينقسم إلى حالتين :

أ. الوجوب المقرون بالتسليم.

ب : الوجوب المجرّد عن التسليم.

فالقيد إذا رجع إلى المقيّد يخص البعث بحالة خاصّة وهو حالة التسليم.

الثاني : ما لخصه المحقّق الخراساني في « الكفاية » ، بقوله : إنّ العاقل إذا توجّه

__________________

١ ـ لاحظ مطارح الأنظار : ٤٦.

٤٦٣

إلى شيء والتفت إليه ، فإمّا أن يتعلّق طلبه به أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً ، لا كلام في الثاني.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك الشيء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً ، على اختلاف أطواره ، أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير تارة يكون من الأُمور الاختيارية ، وأُخرى لا يكون كذلك ، وما يكون من الأُمور الاختيارية قد يكون مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف ، وقد لا يكون كذلك على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه جعل المقسم من أوّل الأمر هو المطلوب وذكر له أقساماً ، ولنا أن نجعل المقسم هو الطلب ، فنقول : إذا أطلّ الإنسان بنظره إلى شيء ، فإمّا أن يطلبه أو لا يطلبه ، وعلى الثاني إمّا أن يتعلّق طلبه به على وجه الإطلاق ، وأُخرى على وجه التقييد ، ثمّ القيد إمّا أن يكون أمراً اختيارياً أو خارجاً عنه ، والقيد الاختياري إمّا أن يكون مطلوباً حصوله أو مطلوباً تحصيله.

الثالث : انّ المقصود من الإنشاء ليس مفهوم الطلب الاسمي ، بل إيجاد مصداقه في الخارج إنشاء واعتباراً ، ومثله غير ملحوظ مستقلاً ، بل ملحوظ على نحو الاندكاك في ضمن لحاظ متعلّقه ، أعني : المطلوب ، والشيء ما لم يلحظ مستقلاً ولم يقع في أُفق النفس كذلك يمتنع تقييده ، إذ التقييد عبارة عن لحاظ شيء مستقلاً ، ثمّ تقييده ثانياً.

وعلى هذا الوجه اعتمد المحقّق النائيني حيث قال : إنّ النسبة حيث إنّها مدلولة للهيئة فهي ملحوظة آلة ومعنى حرفياً ، والإطلاق والتقييد من شؤون

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٥٣.

٤٦٤

المفاهيم الاسمية الاستقلالية. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ النسب التي هي من المعاني الحرفية من المقاصد الأصلية للمتكلّم ، والقيد يرجع إلى المقاصد الأصلية.

توضيحه : أنّ الغرض الأصلي من التكلّم غالباً هو افادة النسب التي هي قسم من المعاني الحرفية كالهوهوية في قولنا : « زيد قائم » ، والظرفية في قولنا : « زيد في الدار » ، والتقييد يرجع إلى المقاصد الأصلية.

وإن شئت قلت : إنّ الإثبات تابع للثبوت وقد عرفت أنّ القيد تارة يرجع إلى الطلب وأُخرى إلى المطلوب ، فإذا كان الثبوت على قسمين فكيف يمكن لنا جعله في الإثبات قسماً واحداً؟

وثانياً : ما أفاده المحقّق الخراساني من أنّه لو سلّمنا امتناع تقييد المعاني الملحوظة آلية ، فانّه إنّما يمنع عن التقييد لو أنشأ أوّلاً غير مقيّد ، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً غاية الأمر قد دلّ بدالّين وهو غير إنشائه أوّلاً ثمّ تقييده ثانياً.

الرابع : انّ تقييد مفاد الهيئة يستلزم تعليق الإنشاء وهو أمر محال ، لأنّ الإنشاء من مقولة الإيجاد وهو لا يقبل التقييد ، بل أمره دائر بين الوجود والعدم ، فامّا أن يكون الإيجاد محقّقاً أو غير محقّق ، ولا معنى للإيجاد المعلّق من غير فرق بين الإيجاد التكويني والإنشائي.

يلاحظ عليه : بأنّ ما أُفيد من أنّ الإنشاء لا يقبل التعليق ، فهو كالإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم غير أنّ القيد يرجع إلى المنشأ فهاهنا انشاء وهاهنا منشأ ، والأوّل غير مقيّد والثاني وهو الطلب مقيد.

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ١٣١.

٤٦٥

توضيحه : انّ الانشاء عبارة عن استعمال اللفظ في معناه الإيجادي والاستعمال لا يقبل التعليق ، فانّه إمّا يُستعمل اللفظ في معناه الإيجادي أو لا يستعمل.

ثمّ إنّ استعمال اللفظ لغاية إيجاد معناه تارة يكون المستعمل فيه الطلب المطلق كما إذا قال : أقم الصلاة ، وأُخرى يكون مفاده الطلب المقيّد كما إذا قال : ( أَقم الصلاة لدلوك الشمس ) ومعناه الطلب والبعث على تقدير ، فلو كان هناك تعليق فإنّما هو في المنشأ لا في الإنشاء.

فإن قلت : بأنّ المنشأ ـ الطلب المعلّق ـ من مقولة الوجود ، وهو لا يقبل التعليق ، لأنّ النبي امّا موجود أو معدوم وليس هنا قسم ثالث أي الوجود المعلق.

قلت : إنّما ذكرته إنّما يتم في الأُمور التكوينية فالوجود التكويني لا يقبل التعليق ، وأمّا الوجود الاعتباري أعني الطلب فلا مانع من تعليقه فتارة يكون المنشأ فلا مانع من الطلب المطلق ، وأُخرى الطلب المشروط بشرط الاستطاعة ، والاشتباه حصل من قياس الأُمور الاعتبارية بالتكوينية.

الخامس : إذا كان رجوع القيد إلى الهيئة مستلزماً لرجوع القيد إلى المنشأ يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ ، حيث إنّ الإنشاء قد تمّ ، مع أنّ المنشأ أعني الطلب غير موجود ، للاتفاق على عدم حصول الطلب قبل تحقّق الشرط ، وهذا نظير القول بتحقّق الإيجاد من دون أن يتحقّق الوجود وهو محال.

يلاحظ عليه : بأنّ المنشأ غير منفك عن الإنشاء ، وذلك لأنّ المنشأ لو كان هو الطلب المطلق لكان لما ذكر وجه ، وأمّا إذا كان المنشأ الطلب على تقدير حصول الشرط فهذا النوع من الطلب موجود قبل حصول الشرط.

فإذا قال : أقم الصلاة عند دلوك الشمس ، فالطلب على تقدير الدلوك

٤٦٦

موجود وإن لم يكن هناك دلوك وينقلب إلى الطلب المطلق بعد دلوكها.

والحاصل : انّ الأُمور الاعتبارية رهن شيئين :

الأوّل : ترتّب الأثر عليه.

الثاني : عدم التناقض في الاعتبار.

وعلى ضوء هذين الأمرين لا مانع من إنشاء الطلب المطلق كما لا مانع من انشاء الطلب المقيّد ، وذلك لأنّ المولى ينظر إلى أحوال المكلّفين فيرى بعضهم واجداً للشرط فعلاً ، كما يرى البعض الآخر فاقداً له لكنّه سوف يحصله أو يحصل له ، فعندئذ ينشئ الوجوب المقيّد ليكون حجّة في حقّ الحائزين للشرط بالفعل وللحائزين له عند حصول الشرط.

وبكلمة قصيرة انّ الاستدلال الرابع كان مبنياً على أنّ رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم تعليق الإنشاء ، وهو لا يقبل التعليق ، كما أنّ لب الدليل الخامس هو أنّ رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم تفكيك المنشأ عن الإنشاء حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

والجواب عن كلا الاستدلالين بماعرفت.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإنشاء غير معلّق وإنّما المعلّق هو المنشأ ، وهو غير قابل للتعليق في التكوين دون عالم الاعتبار ، فيمتنع إيجاد الوجود المعلق على شيء لم يحصل ، لكنّه يجوز إنشاء طلب معلّق بشرط غير حاصل.

وأمّا الثاني : فالمنشأ غير منفك عن الإنشاء ، بل هو يلازم الطلب المعلّق في مقابل عدم الطلب أصلاً أو الطلب المنجز.

وممّا يرشدك إلى إمكان المنشأ ( الملك ) المعلق صحّة الوصية التمليكية فيما إذا قال المولى : هذه الدار لزيد بعد وفاتي ، فالإنشاء فعلي مع أنّ المنشأ معلّق ، وهو

٤٦٧

حصول الملكية للموصى له بعد وفاته أو بعد قبوله ، وفائدة هذا الإنشاء انّ الدار تكون ملكاً منجّزاً له بعد الموت.

ثمّ إنّ الظاهر من متاجر الشيخ تصوّر رجوع القيد إلى الهيئة وقد صرّح بأنّه لا مانع من إنشاء الملكية المعلّقة لكن الإجماع قام على بطلان التعليق ، فما أُفيد هنا يخالف ما صرّح به في متاجره. (١)

سؤال وإجابة

أمّا السؤال وهو انّه إذا كان الطلب فعلياً مطلقاً وكان القيد قيداً للواجب عند الشيخ فيجب ـ بحكم إطلاق الوجوب ـ تحصيل تمام قيود الواجب من غير فرق بين الوضوء والاستطاعة ، لأنّ الوجوب مطلق والواجب مقيد وإطلاق الوجوب يدعو إلى تحصيل الواجب بعامة قيوده مع انّ الشيخ لا يقول بوجوب تحصيل الشرط في الواجب المشروط بل يعتقد بشرطية حصوله لا تحصيله.

أمّا الجواب : فقد أجاب الشيخ عن هذا السؤال بقوله : إنّ الفعل المقيّد قد يكون ذا مصلحة ملزمة على وجه يكون الفعل والقيد مورداً للإلزام ، وقد يكون متعلّق التكليف ذا مصلحة ، لكن على تقدير وقوع القيد ، لا على وجه التكليف ، ففي كلّ هذه الصور ينبغي للحاكم أن يعبّر عن المقصود بلفظ يكون وافياً بمقصوده. (٢)

وإلى ذلك ينظر قول المحقّق الخراساني في تقرير رجوع القيد إلى المادة لبّاً : قد يكون القيد مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف ، وقد لا يكون كذلك

__________________

١ ـ المتاجر ، كتاب البيع ، ص ١٠٠.

٢ ـ مطارح الأنظار : ٤٩.

٤٦٨

على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به. (١)

وقوله أيضاً : فانّه جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشرط ، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب؟ (٢)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ثبوتاً حيث إنّ المصلحة تارة تكون قائمة بالفعل المقيد على وجه يكون القيد مورداً للإلزام والتحصيل ، وأُخرى تكون قائمة بالفعل المقيّد على وجه لا يكون القيد مورداً للإلزام بل يرجى حصوله ، وامّا إثباتاً فظاهر إطلاق الوجوب تحصيل عامة القيود ، لأنّ الوجوب مطلق والفعل مع قيده واقعان تحت دائرة الطلب ، فكما تعلّق الطلب بنفس الفعل تعلّق بغيره ، فيكون الكلّ مورداً للإلزام.

اللّهمّ إلاّ أن يدلّ دليل من خارج على أنّ القيد مطلوب الحصول لا مطلوب التحصيل.

مسائل ثلاث :

المسألة الأُولى : هل الوجوب في الواجب المشروط فعلي أو إنشائي؟

المسألة الثانية : إذا كان الوجوب إنشائياً فما فائدته؟

المسألة الثالثة : إذا شكّ في كون القيد راجعاً إلى الهيئة أو المادة فما هو المرجع؟ وإليك البحث فيها تباعاً.

المسألة الأُولى : الوجوب فعلي أو انشائي

هل الوجوب على فرض رجوع القيد إلى الهيئة فعلي أو إنشائي؟ والمراد من

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٥٣.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٥٨.

٤٦٩

الفعل هو البعث على كلّ تقدير ومن الانشائي هو البعث على تقدير دون تقدير ، فإذا كان هذا هو المراد من الفعلي والإنشائي ، فالوجوب في الواجب المشروط ، إنشائي ، إذ ليس هناك بعث على كلّ تقدير بل بعث على تقدير ، والمفروض عدم حصول المعلّق عليه فلا يكون هناك بعث فعلي إلاّ إنشاء البعث.

نعم لو قلنا بأنّ المراد من الفعلي كلّ حكم بيّنه الشارع على لسان نبيّه أو وصيّه من غير فرق بين الواجب المطلق والواجب المشروط ، فيكون الجميـع فعلياً فـي مقابل الإنشائي وهو الحكـم الـذي يكـون مخزوناً عنـد النبي والوصي غيـر مبيـّن لمصلحـة فـي عدم البيان كالأحكام المخـزونة عنـد صاحب الأمـر صلوات اللّه عليه.

ولكن هذا المصطلح صحيح بالنسبة إلى كلّ الأحكام ، فهي بين مبيّنة ومخزونة ، فالمبيّنة هي الفعلية والمخزونة هي الشأنية.

وأمّا إذا لوحظ الحكم بشخصه فيعبر بالفعلي عمّا فيه البعث والتحريك فعلاً وبالإنشائي ما ليس كذلك ، وعلى هذا الغرار فالوجوب في الواجب المشروط إنشائي لا غير.

لكن المحقّق العراقي مع اعترافه برجوع القيد إلى الهيئة دون المادة زعم كون الوجوب في الواجب المشروط فعلياً وأفاد في هذا الصدد بمايلي :

إنّ الآمر إذا التفت إلى كون فعل غيره ذا مصلحة على تقدير خاص أراده منه على ذاك التقدير ، فإن لم يجد مانعاً من إظهار إرادته المذكورة أظهرها بما يجده مظهراً من قول أو فعل ، فإذا أظهر إرادته التشريعية ، اعتبر العرف هذا الإظهار حكماً وطلباً ، وقالوا : حكم الشارع مثلاً على كذا بكذا ، لأنّ جميع ما يمكن أن يصدر ويتأتى من الأمر قد حصل منه من شوقه وإرادته وإظهاره إرادته المتعلّقة

٤٧٠

بالفعل ، الذي علم اشتماله على المصلحة إمّا مطلقاً أو على تقدير دون تقدير.

فالوجوب مطلقاً ـ في المشروط والمطلق ـ حكم فعلي حصل شرطه أم لم يحصل ، ولا يعقل أن يكون للحكم نحوان من الوجود ليكون إنشائياً قبل تحقق شرطه وفعلياً بعده. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : انّ ما ذكره من أنّ الإرادة المظهرة بنحو من الأنحاء يعتبره العرف حكماً وطلباً له ، ليس بتام ، لأنّ الإرادة من مبادئ الحكم ومقدماته وليس نفس الحكم ولا جزءاً منه وإنّما الحكم هو الإنشاء النابع عن الإرادة.

والدليل على ذلك انّه ربّما يبعث المولى عبده وينتزع منه الحكم مع الغفلة عن الإرادة الكامنة في ذهن المولى التي نجم منها الحكم.

ويوضح ذلك : انّا ننتزع الحكم من الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية المنشأتين بالإنشاء اللفظي أو الفعلي من دون ملاحظة انّ إنشاءهما نابع عن إرادة سابقة ، فما أفاده من أنّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة ، أمر لا يساعده الاعتبار.

وثانياً : لو سلّمنا انّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة بفعل أو قول ، ولكن يوصف الحكم بالفعلي إذا تعلق البعث بالشيء على كلّ تقدير لا إذا تعلّق به على تقدير خاص ، والمفروض عدم حصول المعلّق عليه.

فإن قلت : إذا كان الحكم نابعاً عن الإرادة فهل الإرادة فعلية أو تقديرية؟ فعلى الأوّل كيف تكون المبادئ فعلية مع عدم كون الحكم فعلياً ، وعلى الفرض الثاني يلزم التعليق في الوجود التكويني أي الإرادة والتعليق في التكوين أمر محال؟

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٣٤٠.

٤٧١

قلت : لا شكّ أنّ الإرادة فعلية ولكن إرادة المولى لا تتعلق بفعل الغير لما عرفت من امتناع تعلّق الإرادة بفعل الغير ، لأنّ فعل الغير خارج عن اختيار المريد فكيف تتعلّق به الإرادة ، بل متعلّق بفعل المريد وهو ليس إلاّ « إنشاء الحكم فالإرادة فعلية ، لفعلية متعلّقه وهو إنشاء الحكم » ولكنّه لا ينافي أن يكون الحكم غير فعلي ، لأنّه يكفي في فعلية الإرادة ، هو فعلية نفس الإنشاء ، لا فعلية متعلّقه.

وبعبارة أُخرى : الإرادة فعلية وما تعلّقت به الإرادة ، أعني : إنشاء البعث أيضاً فعلي ، لأنّ المفروض أنّ المولى انشأ البعث لكن إنشاء البعث لا يلازم كون البعث فعلياً ، لأنّ المفروض تعلّق البعث المنشأ على تحصيل شيء على تعدّيه.

المسألة الثانية : ما فائدة الوجوب المشروط؟

ربّما يقال بانّه إذا كان الوجوب انشائياً غير فعلي فما فائدة هذا الإنشاء؟

هذا هو الذي ذكره صاحب الكفاية بصورة السؤال والجواب ، فقال :

فإن قلت : فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلباً فعلياً وبعثاً حالياً؟

فأجاب عنه بقوله : كفى فائدة له أنّه يصير بعثاً فعلياً بعد حصول الشرط بلا حاجة إلى خطاب آخر بحيث لولاه لما كان حينذاك متمكّناً من الخطاب ، هذا مع شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط فيكون بعثاً فعلياً بالإضافة إليه وتقديرياً بالنسبة إلى الفاقد له.

وأورد عليه المحقّق العراقي : بأنّ إنشاء التكليف من المقدّمات التي يتوصّل بها المولى إلى تحصيل المكلّف به في الخارج ، والواجب المشروط على مبنى المشهور ليس بمراد المولى قبل تحقّق شرطه في الخارج ، فكيف يتصوّر أن يتوصّل

٤٧٢

العاقل إلى تحصيل ما لا يريده فعلاً؟ فلابدّ أن يلتزم المشهور في دفع هذا الإشكال بوجود غرض في نفس إنشاء التكليف المشروط قبل تحقّق شرطه وهو كما ترى. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه لم يتوصّل بكلامه إلى طلب الإيجاد فعلاً حتّى يقال كيف يتوصّل بكلام ما لا يريد إيجاده فعلاً ، بل توصّل به إلى طلب الإيجاد على تقدير حصول الشرط وكم فرق بينهما.

ثمّ إنّ هذا السؤال يوجّه إلى الخطابات الشخصية القائمة بمخاطب واحد ، فيقال ما فائدة هذا الخطاب بالنسبة إلى شخص ليس واجداً للشرط؟ وأمّا الخطابات القانونية الكلّية المتعلّقة بعنوان كالمؤمنين أو الناس فيكفي في تشريع الحكم الكلّي المشروط وجود عدّة من المكلّفين الواجدين للشرط وإن لم يكن الجميع واجداً له ، فعندئذ ينشأ الحكم الكلي القانوني فيكون باعثاً فعلياً في حق الواجد وباعثاً ، إنشائياً بالنسبة إلى غير الواجد وإنّما يصير فعلياً عند حصول الشرط.

المسألة الثالثة : ما هو الأصل عند الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة؟

إذا لم تكن أدلّة الطرفين مقنعة وشكّ في رجوع القيد ، فما هو مقتضى الأصل؟ وقد طرحها السيّد الأُستاذ تبعاً للمحقّق العراقي في هذا المقام ، ولكن طرحها المحقّق الخراساني في التقسيم الثاني للواجب ، أعني : تقسيمه إلى منجّز ومعلّق ، ونحن نرجئ البحث فيها إلى المسألة الثانية ، كما نرجئ البحث عن المقدّمات المفوتة إلى ذلك البحث.

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٣٤٦.

٤٧٣

التقسيم الثاني

تقسيم الواجب المطلق

إلى منجّز ومعلَّق

ربّما يقسم الواجب المطلق إلى منجّز ومعلّق بالبيان التالي :

إنّ الوجوب إذا تعلّق بالمكلّف به ، ولم يتوقّف حصول الواجب على أمر غير مقدور ، كالمعرفة يسمّى منجّزاً ، وإن تعلّق به وتوقّف حصول الواجب في الخارج على أمر غير مقدور ، كالوقت في الحج يسمّى معلقاً ، فانّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ، ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور. (١)

وحاصل مرامه : إذا لم يكن وجوب الواجب ولا نفس الواجب متوقّفين على حصول أمر غير مقدور فهو الواجب المنجز كالمعرفة ، وإن كان وجوبه غير متوقّف على شيء لكن كان الواجب متوقّفاً على حصول أمر غير مقدور فهو الواجب المعلّق أي علق الإتيان به على مجيء زمنه ، وعلى ذلك فالوجوب والواجب في المنجّز حاليّان ، وفي المعلّق الوجوب حاليّ والواجب استقبالي.

وفي الحقيقة أنّ ما اختاره صاحب الفصول في تفسير المعلّق هو نفس ما

__________________

١ ـ الفصول : ٨١ بتلخيص.

٤٧٤

فسّر به الشيخ الواجبَ المشروط حيث إنّ الوجوب في الواجب المشروط لدى الشيخ مطلق والواجب مقيّد ، غير انّ صاحب الفصول خصّ القيد في كلامه المتقدّم بغير المقدور وهو عمّمه إلى المقدور وغير المقدور. وبالتالي المعلّق قسم من الواجب المشروط لدى الشيخ.

ثمّ إنّه أورد على هذا التقسيم إشكالات ستة نذكرها تباعاً مع ما فيها من الانظار.

الأوّل : ما أورده المحقّق الخراساني قائلاً : بأنّه لاوجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور ، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر أخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف ويترشح عليه الوجوب من الواجب. (١)

يلاحظ عليه : أنّ صاحب الفصول لم يخصّه بغير المقدور بشهادة أنّه قال بعد العبارة المتقدمة : واعلم انّه كما يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر غير مقدور ، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير أمر مقدور ، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله. (٢)

الثاني : ما أورده هو أيضاً بقوله : لا وقع لهذا التقسيم ، لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصية كون الواجب حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم ، ولا اختلاف فيه ، فإنّ ما رتبه عليه من وجوب المقدّمة فعلاً كما يأتي إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته لا من استقبالية الواجب. (٣)

توضيحه : انّ الداعي إلى تصوير الواجب المعلّق إنّما هو دفع الإشكال عن

____________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦٤.

٢ ـ الفصول : ٨١.

٣ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦١.

٤٧٥

المقدّمات المفوتة ، حيث أطبق القوم على وجوب الغُسل على الجنب الصائم قبل طلوع الفجر ، وقطع المسافة على المستطيع قبل زمان الحجّ ، ولا يتعلّق الوجوب بهما إلاّ بجعل الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً ، فعندئذ وجوب المقدّمة إنّما هو من آثار إطلاق الوجوب وحاليته لا من استقبالية الواجب ، فلا ثمرة لهذا التقسيم ، لأنّ الذي يميّز المعلّق عن المنجّز إنّما هو استقبالية الواجب في الأوّل دون الثاني وليس لذلك القيد أثر عملي. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه لم يرتب الثمرة على المعلّق في مقابل المنجّز حتّى يقال بأنّ الثمرة مشتركة بينهما ، بل على المعلق في مقابل الواجب المشروط ـ على مذهب المشهورـ ، فالواجب المشروط بما انّ الوجوب غير حالي لا تجب مقدّماته بخلاف الواجب المعلّق فبما أنّ وجوبه حالي تجب مقدماته المفوتة.

الثالث : ما أورده المحقّق ملا علي النهاوندي وربّما ينسب إلى السيد العلاّمة الفشاركي وقد نقله المحقّق الخراساني بتلخيص مخل ، وقال :

إنّ الطلب والإيجاب إنّما يكون بأزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد ، فكما لا يكاد تكون الارادة منفكة عن المراد فليكن الإيجاب غير منفك عمّا تتعلّق به ، فكيف يتعلّق بأمر استقبالي فلا يكاد يصحّ الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخّر. (٢)

وحاصل هذا الإشكال : انّ تجويز الواجب المعلّق يستلزم تفكيك الإرادة عن المراد وهو محال ، بتوضيح أنّ وزان الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية ، غير أنّ الثانية تتعلق بفعل النفس والأُولى بفعل الغير ، فكما أنّ الإرادة في

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦١.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٦٢.

٤٧٦

التكوينية لا تنفك عن المراد فهكذا الثانية.

أمّا ّ التكوينية فإذا ظهرت الإرادة في لوح النفس ، استعقبت حركة العضلات التي يستتبعها المراد ، فهناك أُمور ثلاثة : إرادة ، وتحريك للعضلات ، وإيجاد للمراد.

فهكذا الأمر في الإرادة التشريعية فهناك إرادة تشريعية التي تستعقب الإيجاب على المكلّف ، وهو لا ينفك عن حركة العبد وإطاعته إذا كان مطيعاً.

ولازم ذلك استحالة الواجب المعلّق ، لأنّه يستلزم انفكاك الإيجاب عن حركة العبد ، وهو مستحيل ، فالإيجاب بمنزلة تحريك العضلات ، وحركة العبد نحو المراد بمنزلة حركة الشخص نحو المراد كلمة بكلمة.

أقول : ما ذكره يتركّب من أمرين :

١. الفرق بين الإرادتين هو أنّ التكوينية تتعلّق بفعل النفس والتشريعية بفعل الغير.

٢. الوجه المشترك بين الإرادتين هو امتناع انفكاك الإرادة عن المراد ، فاستنتج من المقدمتين أنّ الإرادة لا تتعلّق بأمر استقبالي في التكوين والتشريع.

أقول : أمّا الوجه الأوّل وهو بيان الفرق بين الإرادتين فهو غير صحيح ، لما سمعت منّا مراراً من أنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري ، والفعل الاختياري هو فعل النفس ، فينتج أنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بفعل النفس ، وأمّا فعل الغير فهو خارج عن سلطان المريد ، فكيف يريده مع أنّه ليس تحت قدرته؟ ولذلك ربّما يعصي ولا يطيع ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ التشريعية كوزان التكوينية تتعلّق بأمر اختياري غير أنّ متعلّقها في التشريعية هو إنشاء البعث وفي غيرها تحريك

٤٧٧

الأعضاء أو انجاز المراد الخارجي كما سيوافيك.

وأمّا الوجه الثاني ، أعني : تفكيك المراد عن الإرادة فنبحث عنه في مقامين :

الأوّل : في الإرادة التشريعية.

والثاني : في الإرادة التكوينية.

أمّا الأوّل : سواء أجاز تفكيك المراد عن الإرادة أم لم يجز ، فالإرادة في التشريعية مطلقاً غير منفكّة عن المراد ، وذلك لأنّ المراد فيها هو إنشاء الطلب والبعث أو إنشاء الزجر ، والمفروض تحقّق الإنشاء بعد الإرادة ، وكون المراد حالياً أو استقبالياً لا يضر بفعلية المراد في الإرادة التشريعية ، لما عرفت من أنّ المراد فيها هو فعل المريد وهو نفس إنشاء البعث.

وأمّا فعل المكلّف فهو خارج عن حيطة الإرادة التشريعية.

فظهر من ذلك أنّ الإرادة غير منفكّة عن المراد في هذا القسم.

وأمّا المقام الثاني ، أعني : عدم تفكيك المراد عن الإرادة التكوينية أو تفكيكه عنها ، فهو بحث فلسفي لا يمت إلى المسائل الأُصولية بصلة ، غير انّا نبحث فيه بمقدار الحاجة.

قد عرفت استدلال المحقّق النهاوندي حيث إنّه سلّم عدم الإنفكاك في الإرادة التكوينية ولم يقم عليه دليلاً ، غير انّ المحقّق الإصفهاني قد أقام عليه دليلاً في تعليقته على الكفاية حيث قال : إنّ النفس في وحدتها كل القوى ، وفي كلّ مرتبة عينها ، فإذا أدركت في مرتبة العاقلة فائدة الفعل تجد في مرتبة القوة الشوقية شوقاً إليه ، وإذا لم تجد مزاحماً تخرج منها إلى حدّ الكمال الذي يعبّر عنه بالقصد والإرادة وينبعث منها هيجان في القوة العاملة ويحرك العضلات ، ومن

٤٧٨

الواضح أنّ الشوق وإن أمكن تعلّقه بأمر استقبالي ، إلاّ انّ الإرادة لا يمكن تعلّقها بأمر استقبالي ، وإلاّ يلزم تفكيك العلّة التامة عن معلولها ، أعني : انبعاث القوة العاملة المنبثَّة في العضلات ، وأمّا الشوق المتعلّق بالمقدّمات بما هي مقدّمات فإنّما يحصل من الشوق إلى ذيها ، لكنّه فيها يحصل إلى حد الباعثية لعدم المزاحمة ، دون ذي المقدّمة فانّه فيه يبقى بحاله إلى أن يرفع المانع. (١)

وحاصل ما أفاد : انّ الإرادة علّة تامّة لتحريك العضلات ، فلو كان المراد فعليّاً صارت الإرادة سبباً لتحريك العضلات ، لأنّ تعلق الإرادة بالمراد الفعلي دليل على عدم الحوائل والموانع لنيل المراد فتتعلق الإرادة بمعلولها ، أي تحريك العضلات ، وأمّا إذا كان المراد استقبالياً فبما أنّ هناك حوائل بين النفس المريد والمراد بشهادة كون المراد استقبالياً فلا تستعقب الإرادة تحريك العضلات مع أنّ الإرادة علّة تامة لتحريكها وهو بمنزلة تفكيك المعلول ( تحريك العضلات ) عن علته و ( الإرادة ).

هذا توضيح مرامه.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ في الأفعال الإرادية إرادة واحدة وهي تستمدّ وجودها من العلم بالفائدة إلى الشوق ومنه إلى حصول القصد والإرادة الذي يستعقب تحريك العضلات نحو الفعل الإرادي ، فلو صحّ ذلك لصحّ ما ذكره من أنّ تعلّق الإرادة بأمر استقبالي يستلزم تفكيك العلة التامة ( الإرادة ) عن معلولها أي تحريك العضلات ، لأنّ في مثل المقام لا تستعقب الإرادةُ تحريك العضلات ، لعلمها بوجود حوائل بين النفس والمراد ، فلا فائدة في مثله لتحريك العضلات.

__________________

١ ـ نهاية الدراية : ٢ / ٧٢ طبعة آل البيت.

٤٧٩

وأمّا لو قلنا بأنّ في كلّ فعل خارجي إرادي إرادتين إحداهما تتعلّق بتحريك العضلات والأُخرى بإنجاز العمل الخارجي.

فلو كان متعلّق الإرادة الثانية أمراً فعلياً تستعقب ذلك ظهور إرادة أُخرى متعلّقة بتحريك العضلات لاستشعار النفس بعدم الموانع بشهادة أنّ الإرادة تعلّقت بأمر فعلي.

وأمّا لو كان متعلّق الإرادة الثانية أمراً استقبالياً ، ففي مثله لا تحدث إرادة متعلّقة بتحريك العضلات ، لأنّ تعلّقها بأمر استقبالي قرينة على وجود الحائل بين النفس والمراد ، وبالتالي لا تظهر في لوح النفس إرادة محرّكة للعضلات حتى يقال : يلزم تفكيك العلة عن المعلول.

والذي يدلّ على تعدّد الإرادة هو أنّه لو كان هناك إرادة واحدة ، متعلّقة بتحريك العضلات كان الفعل الخارجي فعلاً غير إرادي لعدم تعلّق الإرادة به ، وتصوّر انّ إرادة واحدة تتعلّق بتحريك العضلات وإنجاز العمل بالفعل الخارجي ، أمر مرفوض ، وذلك لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد ، فإذا تعدّد المراد ( تحريك العضلات وإنجاز العمل ) فلا محالة تتعدد الإرادة.

والذي يدعم تعلّق الإرادة بأمر استقبالي هو أنّ إرادته سبحانه إرادة بسيطة قديمة تعلّقت بخلق الأشياء حسب التدريج في عالم المادة فالإرادة قديمة والمراد أمر حادث.

وبذلك يعلم أنّ ما اشتهر بين الأعاظم من أنّ الإرادة علّة تامّة لا تتخلّف عن المراد بين صحيح وغير صحيح ، فإن أُريد الإرادة المتعلّقة بتحريك العضلات فهو صحيح ، وإن أُريد تعلّقها بالعمل الخارجي فليس بصحيح ، لأنّها ليست علّة تامة فيمكن تخلّفها عن المراد إلاّ إذا كانت هناك إرادة ثانية متعلّقة بتحريك

٤٨٠