إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

الصلاة لدُلوكِ الشمس ) وكانت الصلاة موضوعة للصلاة التامّة التي من أجزائها السورة الكاملة.

ثمّ قال : إذا شككت في وجوب شيء من أجزاء الصلاة ، فهو مرفوع ، ( وليس المراد الرفع الواقعي لاستلزامه التصويب ، بل المراد الرفع الظاهري ، وهو الرفع في ظرف الشكّ ) تكون نتيجة الدليلين انّ المولى قد اكتفى في امتثال اغراضه ومقاصده بما أدّت إليه الأُصول في ظرف الشكّ ، وبما أنّ مؤداها يوافق الواقع في أكثر الموارد ويخالفه في أقلّها اقتصر بالأكثر ورفع اليد عن الأقل.

وهذه هي الملازمة العرفية التي اعتمدنا عليها في غير مرّة.

وأمّا القول بالإجزاء من طريق حكومة الأُصول على أدلّة الأجزاء والشرائط فإنّما يتصوّر في الشبهات الموضوعية ، وأمّا الشبهات الحكمية فلا يعقل حكومة الأُصول على الأدلّة الاجتهادية حيث إنّ الأصل دليل حيث لا دليل.

نعم لو كان مجرى البراءة هو الشبهة الموضوعية فهذا المانع غير موجود ، إنّما الكلام في كون لسان حديث الرفع لسان الحكومة. فانّ لسانه لسان النفي ( رفع ) لا جعل المصداق والإثبات.

٥. قاعدة التجاوز والإجزاء

الظاهر من الروايات الدالّة على عدم الاعتداد بالشكّ عند التجاوز أنّه أصل عقلائي أمضاه الشارع ، فقد ورد في غير مورد قوله : « فشكك ليس بشيء » (١) وقوله : « فليمض ». (٢) فهذان التعبيران يعبّران عن تجويز الإتيان بالمأمور به بهذه الكيفية ، وهو يلازم عرفاً باقتصار الشارع في تأمين مقاصده وأغراضه بما أدّت إليه

__________________

١ ـ الوسائل : ٥ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

٢ ـ الوسائل : ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

٤٠١

قاعدة التجاوز تسهيلاً للعباد ، فبحكم الملازمة يحكم بالإجزاء.

أضف إلى ذلك ما نقلناه من المحقّق البروجردي بأنّه بعد ما امتثل المأمور به في ظلّ القاعدة ينطبق عليه عنوان الصلاة ، لأنّها وإن وضعت للصلاة الصحيحة لكن لها عرضاً عريضاً ومصاديق مختلفة ، فإذا انطبق عليه عنوان المأمور به يسقط الأمر لزوماً وإيجاب الإعادة والقضاء يكون بلا ملاك ، مضافاً إلى الإجماع على عدم وجوب صلاتين من نوع واحد في يوم واحد.

وأما الحكم بالإجزاء عن طريق الحكومة فهو فرع أن يكون اللسان لسان الحكومة بجعل المصداق.

٦. انكشاف الخلاف بدليل قطعي

قد عرفت أنّ مقتضى العمل بالأُصول في استكشاف الأجزاء والشرائط هو الإجزاء من غير فرق بين انكشاف الخلاف على وجه الظن أو على وجه القطع ، فلو صلّى صلاة الظهر بلا سورة أو مع سورة ناقصة اعتماداً على الأُصول ، أو صلّى في ثوب مشكوك محكوم بالطهارة ، وقام الدليل المفيد للعلم بوجوب السورة ، أو وجوب السورة الكاملة ، لكان ما أتى به مجزياً لما عرفت من حديث الحكومة ، أو حديث انطباق عنوان الصلاة ، أو الملازمة ، وكون الدليل الثاني قطعياً وحجّية القطع ذاتية لا يضرُّ بالمقام لأنّ القطع يكشف عن الحكم الواقعي ويهدم الحكم الظاهري عند وجوده لا الحكم الظاهري في ظرفه ، كما أنّه لا فرق بين العبادات والمعاملات تكليفاً وجزءاً وشرطاً ومانعاً ، فالأعمال المنطبقة على الأمارات والأُصول أو فتوى المجتهد مجزية وان تبيّن الخلاف بقيام حجج قطعية على خلافها.

٤٠٢

٧. تبدّل رأي المجتهد

إذا تبدّل رأي المجتهد إلى رأي آخر أو مات المقلَّد وقلّد مجتهداً آخر ، يخالف رأيه ، رأي الميت يكفي ما أتى به سابقاً ، وذلك لقصور أدلّة حجّية الاجتهاد الثاني ، عن شموله لما مضى ، بل القدر المتيقّن هو لزوم تطبيق العمل عليه في المستقبل.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالات على حكومة الأُصول العملية على أدلّة الأجزاء والشرائط وقد تعرّضنا لها في الدورات السابقة وبيّنا انّها غير تامّة ، فمن أراد فليرجع إلى المحصول. (١)

__________________

١ ـ المحصول : ١ / ٤٤٠ ـ ٤٤٥.

٤٠٣

تنبيهات ثلاثة

الأوّل : الامتثال اعتماداً على القطع بالأمر

كان الكلام في السابق هو امتثال أمر المولى اعتماداً على دليل شرعي كالأمارة والأُصول ، وأمّا إذا امتثل أمره اعتماداً على قطعه ويقينه فقطع بعدم وجوب السورة الكاملة ، أو قطع بطهارة ثوبه فصلى ثمّ بدا خلافه ، فهل يكون مجزياً أو لا؟

الجواب : لا يكون مجزياً إذ لا دليل عليه.

لأنّ الدليل المهم على الإجزاء أحد الأمرين :

أ : ادعاء الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة والأصل واكتفاء المولى في دائرة المولوية والعبودية بما أتى ، وهو إنّما يجري إذا كان هناك أمر من الشارع لكيفية الامتثال ، والمفروض انتفاؤه ، بل اتبع المكلف حكم العقل بأنّه يجب العمل بالقطع ، ونتيجة حكمه عبارة عن التنجّز إذا أصاب والتعذير إذا أخطأ ، وهذا غير الإجزاء.

ب : حكومة دليل الأمر الظاهري على الأدلّة الواقعية ، كما هو الحال في بعض الأُصول ، وهو أيضاً فرع وجود أمر من الشارع والمفروض انتفاؤه.

الثاني : القول بالإجزاء لا يلازم التصويب

ربّما يتهم القائل بالإجزاء بالقول بالتصويب مع أنّه لا ملازمة بين القولين ، سواء كان الدليل رافعاً للحكم أو موسّعاً لدائرة الشرط.

٤٠٤

فالأوّل : كما إذا قامت الأمارة على عدم وجوب السورة الكاملة ثمّ بان الخلاف.

والثاني : كما إذا أثبت الأصل طهارة شيء وحليته.

أمّا عدم لزوم التصويب في الصورة الأُولى ـ أي إذا كان الدليل رافعاً لوجوب الشيء ـ فلأنّ مورد توهّم التصويب أحد الأُمور التالية :

أ : القول بالإجزاء بمعنى إنكار حكم اللّه المشترك بين العالم والجاهل ، فحكم العالم هو وجوب الصلاة مع السورة الكاملة ، وحكم الجاهل وجوبها بلا سورة ، فالحكم المشترك بينهما منتف.

يلاحظ عليه : أنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل في مرحلة الإنشاء محفوظ ، فما شرعه اللّه سبحانه وبلغه إلى النبي حكم مشترك بين الطائفتين بلا فرق بين العالم والجاهل.

ب : القول بالإجزاء يلازم عدم فعلية الحكم في حقّ الجاهل ، وفعليته في حقّ العالم ، وهذا أيضاً نوع إنكار لحكم اللّه المشترك.

يلاحظ عليه : أنّ تخصيص الفعلية بالعالم وإخراج الجاهل عنها أمر مشترك بين القائل بالإجزاء والنافي له ، وذلك لقبح خطاب الجاهل فعلاً.

ج : القول بالإجزاء يلازم قبول الناقص مكان الكامل.

يلاحظ عليه : بأنّه ليس أمراً بديعاً ، فقد اتّفق الكل على سقوط بعض الأجزاء والشرائط عن المطلوبية بعد الإتيان بالفرد الناقص من الصلاة ، لحديث « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة » (١) فلو أتى بالصلاة بلا سورة جهلاً أو نسياناً فصلاته صحيحة بلا إشكال.

__________________

١ ـ الوسائل : ٤ ، كتاب الصلاة ، الباب ١٠ ، من أبواب الركوع ، الحديث ٥.

٤٠٥

أمّا عدم لزوم التصويب في الصورة الثانية ، أعني : فيما إذا قام الأصل على طهارة ثوب وكان الواقع على خلافه ، فالأصل الثاني يكون مبيّناً لموضوع دليل الجزئية ومبسّطاً له ، وأين هذا من التصويب؟! فإذا قال المولى : « صل في طاهر » فدليل أصالة الطهارة بالنسبة إليه بمنزلة المفسّر للدليل الأوّل ولا معنى لتصور التصويب عند تفسير أحد الدليلين الدليلَ الآخر.

نعم دليل الأصل يخصص دليل الجزئية والشرطية ، لا دليل نجاسة البول إذا كان الثوب متنجّساً بالبول.

فقوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) فيفهم منه نجاسة هذه الأبوال مطلقاً لا في حالة العلم ، فدليل الأصل لا صلة له بأدلّة النجاسات.

فتلخّص انّ حديث التخصيص بالنسبة إلى أدلّة النجاسات منتف ، وأمّا توسيع شرط الصلاة من الظاهرية إلى الأعم من الواقعية والظاهرية فليس بتصويب ، بل حكومة دليل على دليل.

التنبيه الثالث : في مسائل تترتّب على الاجزاء

إنّ هنا مسائل فقهية تترتب على مختار الفقيه في باب الإجزاء وهذه المسائل مبثوثة في أبواب الفقه ، نختار منها ما يلي :

المسألة الأُولى : إذا اختلفت فتوى السابق مع اللاحق

قال السيد الطباطبائي في العروة الوثقى :

المسألة ٥٣ : إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلاً في التسبيحات الأربع واكتفى

____________

١ ـ الوسائل : ٢ ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

٤٠٦

بها ، أو قلّد من يكتفي في التيمم بضربة واحدة ، ثمّ مات ذلك المجتهد ، فقلّد من يقول بوجوب التعدد ، لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات وقلّد من يقول بالبطلان ، يجوز له البناء على الصحّة. نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني.

وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء ـ كالغسالة ـ ثمّ مات وقلّد من يقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحّة وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء ، وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته.

وكذا في الحلية والحرمة ، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً ، فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته ، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل ، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ، ولا أكله ، وهكذا. (١)

وهذه المسألة صارت محلاً للنقاش والجدل وقد علّق عليها العلماء تعاليق وافقوا المتن في بعض الموارد وخالفوه في بعض آخر ، ونحن نذكر ما هو المختار عندنا ، نقول :

يقع الكلام تارة في عبادات المكلّف ، وأُخرى في معاملاته بالمعنى الأعم كحلية الحيوان المذبوح ، وطهارة الثوب والبدن ، وثالثة في الموضوعات التي تعد أثراً خارجاً عن إطار فعل المكلّف كالكحول والفقاع إذا أفتى المجتهد الأوّل بطهارتهما والآخر بنجاستهما ، وهما موجودان في وعائهما في كلتا الحالتين ، وإليك الكلام في الموارد الثلاثة.

__________________

١ ـ العروة الوثقى ، فصل التقليد ، المسألة ٥٣.

٤٠٧
١. حكم العبادات

الظاهر أنّ كلّ ما أتى به من العبادات يُعد أمراً صحيحاً ، وإن كان يجب عليه تطبيق العمل ـ في المستقبل ـ على قول المجتهد الثاني ، فما صدر منه من الأفعال وكان صحيحاً حسب الحجّة الأُولى يحكم عليها بالصحة حتّى بعد تقليد المجتهد الثاني لوجوه :

الأوّل : أنّ الحجة الثانية تُسقط الحجة السابقة عن الاعتبار في المستقبل مع بقائها على وصف الحجّية بالنسبة إلى ما سبق ، لا أنّ الحجّة الثانية تكشف عن عدم حجّية السابقة في ظرفها ، فالأُولى حجّة فيما سبق حتى الآن ، وإن كانت الحجّة الثانية تسقط الأُولى عن الحجّية فيما يأتي من الزمان ، وعلى ذلك فالأعمال التي أتى بها حسب الحجة الأُولى محكومة بالصحّة حتى بعد قيام الحجة الثانية ، لما عرفت من أنّها لا تكشف عن عدم الحجّية فيما مضى وإنّما تسقطها عن الحجّية فيما يأتي. وذلك لأنّ الحجّة الثانية ليست وحياً إلهياً كاشفاً عن بطلان الأُولى ، بل هي اجتهاد كالاجتهاد الأوّل وإن كان المتعيّن الرجوع إليها فمقتضى الجمع بين الحجتين كون كلّ حجّة بالنحو المذكور.

الثاني : التمسك بالملازمة العرفية ، فانّ الشارع إذا أمر بمركب كالصلاة والحجّ ثمّ جعل فتوى المفتي حجّة في تشخيص الواجب عن غيره ، فمعنى ذلك أنّه اكتفى في أغراضه بما أدّت إليه فتوى ذلك المجتهد على التفصيل الذي عرفت فاقتضت المصلحةُ التسهيلية إضفاءَ الاعتبار على قوله مطلقاً حتّى فيما خالف الواقع.

الثالث : انّ الفتوى الأُولى كانت حجّة في الأعمال السابقة ، ونشك في سقوط حجّيتها بالنسبة إلى ما مضى ، فيحكم ببقائها بالنسبة إلى ما مضى ، وأمّا

٤٠٨

الفتوى الثانية فلا شكّ أنّها حجّة بالنسبة إلى الحوادث التالية : وأمّا الحوادث السابقة فنشكّ في حجّيتها بالنسبة إليها فيؤخذ بالاستصحاب من دون معارض.

وبالجملة : فالقدر المتيقّن في قوله : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا » أو ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة هو حجّية قول الفقيه بالنسبة إلى ما يأتي من الحوادث ، وأمّا بالنسبة إلى السابق فلا إطلاق في الأدلّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ممّن ذهب إلى لزوم تطبيق العمل على الاجتهاد الثاني من غير فرق بين ما مضى وما يأتي واستدلّ على ذلك بالوجه التالي :

أنّ قيام الحجّة الثانية وإن كان لا يستكشف به عن عدم حجّية الاجتهاد الأوّل ـ مثلاً ـ في ظرفه إلاّ أنّ مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء لعدم اختصاصه بعصر دون عصر ، إذاً العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل ، لأنّه مقتضى الحجّة الثانية ، ومعه لا بدّ من إعادته أو قضائه.

واحتمال مخالفة الواقع ، وإن كانت تشترك فيه الحجتان ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال يلغى في الحجّة الثانية حسب أدلّة اعتبارها ، ولا يلغى في الأُولى ، لسقوطها عن الاعتبار ، ومجرد احتمال المخالفة يكفي في الحكم بالإعادة أو القضاء ، لأنّه لا مؤمِّن معه من العقاب. وحيث إنّ العقل مستقل بلزوم تحصيل المؤمن ، فلا مناص من الحكم بوجوب الاعادة على طبق الحجّة الثانية ، لأنّ بها يندفع احتمال الضرر بمعنى العقاب.

وأمّا القضاء فهو أيضاً كذلك ، لأنّ مقتضى الحجّة الثانية أنّ ما أتى به المكلّف على طبق الحجّة السابقة ، غير مطابق للواقع فلا مناص من الحكم ببطلانه ، ومعه يصدق فوت الفريضةوهو يقتضي وجوب القضاء. (١)

__________________

١ ـ التنقيح ، قسم الاجتهاد والتقليد : ١ / ٥٤.

٤٠٩

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ مدلول الحجّة الثانية هو ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء وإن كان أمراً صحيحاً ، إلاّ أنّ الكلام في مقدار حجّية هذا الكشف ، فانّه لما كان ظنياً يمكن تخصيص حجّيته بالحوادث التي يواجهها المكلّف في المستقبل ، وقد علمت أنّ القدر المتيقّن من حجّية قول المفتي هو حجّيتها فيما سيرد من الحوادث ، وأمّا ما مضى من الحوادث فالحجة الأُولى حجّة بالفعل بالنسبة إليها.

وإن شئت قلت : إنّ الحجّة الثانية لما كانت ظنية لا تكشف عن بطلان الحجّة الأُولى ، غاية الأمر ورد التعبّد بالأخذ بها دون الأُولى والقدر المتيقن من التعبد هو ما سيرد من الحوادث لا ما مضى وبذلك يعلم وجود المؤمِّن بالنسبة إلى الأعمال السابقة وليس هو إلاّ الحجّة الأُولى.

وأمّا القضاء فهو وإن كان مترتباً على فوت الفريضة لكن إثبات فوت الفريضة بالنسبة إلى ما مضى أوّل الكلام لما عرفت من أنّ القدر المتيقن من حجّيتها إنّما هو فيما يرد من الحوادث لا فيما مضى فلا يثبت بها فوت الفريضة حتّى يعمّه قوله : ما فاتته فريضة فليقض كما فاتته.

٢. حكم المعاملات

قد عرفت أنّ السيد الطباطبائي ذهب إلى البناء على الصحّة فيما إذا أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم عليه بالصحّة ثمّ مات وقلّد من يقول بالبطلان.

وكذا إذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً فَذُبِح حيوان كذلك فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل.

٤١٠

هذا ممّا لا غبار عليه ، وما ذكرنا من الأدلّة في العبادات يجري في المعاملات طابق النعل بالنعل.

لكنّه قدس‌سره حكم بنجاسة الغسالة ، وقال : وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثمّ مات ، وقلّد من يقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحّة ، وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء ، وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته. ومثله إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله.

وأمّا ما هو الحقّ في المقام فيعلم بالبيان التالي فانّ مصب الإجزاء هو صدور عمل من المكلّف أمضاه الشارع حسب فتوى المجتهد الأوّل ، فلو كان ذلك العمل سبباً لأثر ، فمعنى إمضاء السبب هو ثبوت أثره حدوثاً وبقاءً ، والتفصيل بين الحدوث والبقاء نقض لسببية ذلك السبب.

وعلى ذلك فبما أنّ الشارع أمضى نفس الفعل بمعنى الذبح فيترتب أثره من غير تقيّد بزمان دون زمن ، فيجوز أكل الذبيحة وبيعها حتى بعد موت المجتهد الأول.

ومثله غسل الثوب بالغسالة فانّ العمل الصادر من المكلّف هو الغسل ، وقد أمضاه الشارع بأنّه مطهر فيترتب عليه أثره حدوثاً وبقاءً فيحكم بطهارة الثوب ، وأمّا نفس الغسالة فبما انّه جسم خارجي لا يعد عملاً للمكلّف فيرجع في حكمها إلى المجتهد الثاني فالمعيار هو إمضاء العمل.

٣. الموضوعات الخارجية

وأمّا الموضوعات الخارجية التي تختلف فيها أنظار المجتهدين نظير طهارة

٤١١

الفقاع مثلاً ، فلو كان رأي المجتهد الأوّل على الطهارة على خلاف المجتهد الثاني فإنّه يرجع في مثله إلى الثاني ، وذلك لأنّه لم يكن هناك فعل صادر من المكلّف حتّى يقع في إطار الإمضاء ، بل غاية ما كان هناك موضوع خارجي كان الأوّل يحكم بطهارته ، ويحكم الثاني الآن بنجاسته ، فبما أنّ الفقاع موضوع مستقل في كلّ آن ، وليست طهارته أو نجاسته في الآن اللاحق استمراراً لهما في الآن السابق ، بل تنسبان إلى ذات الفقاع من دون أن يتقيّد بيوم دون يوم ، فيكون محكوماً بالنجاسة ، هذا.

المسألة الثانية : لو دخل الصبي في الصلاة وهو غير بالغ فبلغ في أثنائها ، فهناك احتمالات :

١. إكمال الصلاة والاجتزاء بها.

٢. وجوب الإعادة بعد الإكمال.

٣. قطع الصلاة والابتداء بها.

لا سبيل إلى الثالث والأقوى هو الأوّل ، ووجهه وحدة الأمر المتوجّه إلى الصبي والبالغ وكلاهما مأموران بأمر واحد ، أعني قوله سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس إِلى غَسَقِ اللَّيْل ). (١)

غير أنّ الدليل الخارجي دلّ على قوّة الطلب في الأوّل وضعفه في الثاني ، وليس الوجوب والندب من مداليل الأمر حتى يكون الأمر المتوجّه إلى البالغ غير المتوجه إلى غيره ، فإذا اتحد الأمر فقد امتثله ، غاية الأمر كان الطلب في النصف الأوّل من العمل غير مقرون بالشدة ومقروناً بها في النصف الآخر ، لكنّه لا يؤثر في تعدد الأمر ، خلافاً لصاحب الجواهر حيث ذهب إلى لزوم الإعادة زاعماً تعدد

__________________

١ ـ الإسراء : ٧٨.

٤١٢

الأمر. (١)

المسألة الثالثة : إذا انحصر الثوب في النجس ولم يتمكن من غسله ونزعه لبرد وصلّى فيه ، ثمّ تمكّن من أحدهما أو كليهما والوقت باق ، يجزي إذا كان في دليل رفع الاضطرار إطلاق ، ولو كان في دليل المبدل أي طهارة الساتر إطلاق ، يعيد ، ولو شكّ فعلى المختار من وحدة الأمر ، فالمرجع هو الاحتياط ، لأنّه من قبيل الشكّ في سقوط الأمر الواحد ، وعلى القول بتعدّده ـ كما عليه المحقّق الخراساني ـ فالمرجع هو البراءة كما عرفت. (٢)

إلى غير ذلك من المسائل التي جاء تفصيلها في المحصول. (٣)

__________________

١ ـ الجواهر : ٧ / ٢٣٩ ، ولاحظ كتاب الصلاة للشيخ الحائري ، ص ٢٥.

٢ ـ الجواهر : ٦ / ٢٤٨ ـ ٢٥٢.

٣ ـ راجع المحصول : ١ / ٤٥٦ ـ ٤٥٨.

٤١٣
٤١٤

الفصل الرابع

مقدّمة الواجب

خصّص المحقّق الخراساني هذا الفصل بالبحث في الأُمور التالية :

الأوّل : تحرير محلّ النزاع.

الثاني : كون المسألة عقلية أُصولية.

الثالث : تقسيمات المقدّمة إلى داخلية وخارجية ، وعقلية وشرعية وعادية ، إلى غيرها من المقدّمات.

الرابع : في تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط ومنجّز ومعلّق.

الخامس : وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها.

السادس : ما هو الواجب من المقدّمة؟

السابع : في ثمرات القول بوجوب المقدّمة.

الثامن : ما هو الأصل عند الشكّ في وجوب المقدّمة.

إذا عرفت ذلك فلندرس تلك الأُمور واحداً تلو الآخر.

الأوّل : في تحرير محلّ النزاع

إنّ محلّ النزاع يحتمل أن يكون أحد الأُمور التالية :

١. الوجوب العقلي الذي يدركه العقل ويعبّر عنه باللابدية ، ولكنّه ليس

٤١٥

موضع النزاع قطعاً لحكمه بالوجوب بالبداهة أوّلاً ، واتّفاق العقلاء على وجوبها ثانياً لمن أراد الوصول إلى ذيها.

٢. الوجوب العرضي ، بمعنى أنّ هنا وجوباً واحداً ينسب إلى ذيها حقيقة وإلى مقدمته مجازاً ، كنسبة الجريان إلى الماء بالحقيقة وإلـى الميزاب بالمجاز ، وهـذا أيضاً خارج عن محط البحث لأنّه يصبح بحثاً أدبياً خارجاً عـن غـرض الأُصولي.

٣. الوجوب الشرعي الغيري الأصلي.

٤. الوجوب الشرعي الغيري التبعي.

فالنزاع على هذين الاحتمالين مركز على عروض وجوب شرعي للمقدّمة بما انّها مقدّمة ولذلك يوصف الوجوب بالغيري ، غاية الأمر إذا كانت المقدمة مورداً لتوجه الآمر يوصف بالأصلي ، وإذا لم يكن كذلك يوصف بالتبعي. (١)

يلاحظ على ذينك الاحتمالين : بأنّه تكون المسألة عندئذ فقهية ، ولما عرفت أنّ محمول المسألة إذا كان أحد الأحكام الشرعية ، فالمسألة فقهية.

٥. وجوب الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فعلى هذا تكون المسألة أُصولية كسائر الملازمات المبحوث عنها في علم الأُصول ، فانّ المسائل التي يبحث فيها عن الملازمات كلّها مسائل أُصولية نظير البحث عن وجود الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده وكالبحث عن الملازمة بين ثبوت الحكم عند وجود قيده ، وارتفاعه عند ارتفاعه ( أبواب المفاهيم ).

البحث عن الملازمة بين حرمة العبادات وفسادها.

البحث عن الملازمة بين المعاملات وفسادها.

__________________

١ ـ سيوافيك الفرق بين الأصلي والتبعي في محله فلو تعلقت الإرادة بالشيء على وجه التفصيل فهو أصلي وإلاّ فهو تبعي.لاحظ ص ٥٣٥ من هذا الجزء.

٤١٦

فالبحث في هذه المسائل كما في المقام أيضاً عن وجود الملازمة بين الأمرين وعدمها ، فالقائل بالوجوب يدّعي الملازمة ، والقائل بالعدم ينكر الملازمة.

فإن قلت : هل الملازمة في المقام من المستقلات العقلية أو من غير المستقلات العقلية؟

قلت : هي من القسم الثاني ، وذلك لأنّ الفرق بينها هو لو كانت الصغرى والكبرى عقليتين تعدّ المسألة من المستقلات العقلية ، كما في حسن العدل وقبح الظلم ، وحسن العمل بالميثاق وقبح التخلّف عنه ، وحسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالإساءة ، فالصغرى والكبرى كلاهما ممّا يدركهما العقل.

وأمّا إذا كانت الصغرى شرعية والكبرى عقلية فتكون المسألة من الأحكام العقلية غير المستقلة ، كما في المقام حيث إنّ الصغرى في باب المقدمة مأخوذة إمّا من الشارع أو من العرف والعادة ، فإذا قال الشارع : الوضوء مقدمة. يحكم العقل بوجود الملازمة بين الوجوبين ، أو قال : إزالة النجاسة عن المسجد واجبة ، يحكم العقل بوجود الملازمة بين وجوبها وحرمة ضدّها أعني الصلاة.

فإن قلت : إذا كان البحث في هذه المسائل الخمس مركزاً على وجود الملازمة وعدمها ، فلماذا يبحث عنها في الجزء الأوّل المختص بمباحث الألفاظ ، أليس الأولى البحث عنها في الجزء الثاني المخصص بالمباحث العقلية؟

قلت : الحقّ انّها من المباحث العقلية ، غير أنّ المقدمة لما كانت متوقفة على السماع من الشرع صار ذلك مسوغاً للبحث عنها في الجزء الأوّل المخصَّص بالمباحث اللفظية.

على أنّ هناك من الأُصوليين من قال بدلالة الأمر بذي المقدّمة على وجوب المقدّمة بالدلالة الوضعية الالتزامية ، وهي عند المنطقيين دلالة لفظية لا عقلية كما

٤١٧

سيوافيك تفصيله في الأمر الثاني ، ولذلك جاء ذكر المسألة في المباحث اللفظية.

فإن قلت : هل الملازمة بين وجوب ذيها ووجوب المقدّمة الواقعية ، أو بين وجوب ذيها وما يراه المولى مقدّمة؟

قلت : ذهب السيّد الأُستاذ إلى القول الثاني ، قائلاً : بأنّ الإرادة من الفاعل إنّما تتعلّق بالشيء بعد تصوّره والإذعان بفائدته ، ويمتنع تعلّق الإرادة بما هو مقدّمة في نفس الأمر إذا كان غافلاً عنها. وعلى ذلك فالملازمة هي بين إرادة ذيها وإرادة ما يراه مقدّمة.

والحاصل : انّ الإرادة وليدة العلم ، ولا يعقل تعلّقها بشيء إلاّ بعد العلم به وعرفانه مقدمة للشيء. (١)

قلت : الظاهر أنّه يكفي كون المقدمة مورداً للتوجّه ومتعلّقة بالإرادة حسب الإجمال ، كما إذا أمر المولى بصنع دواء سائل من عقاقير مختلفة ولا يعلم تفصيلها وخصوصياتها ، فتتعلّق الإرادة بوجوب ما هو مقدمة لتحضير هذا الدواء ، فالظاهر أنّ الملازمة على فرض ثبوتها بين وجوب الشيء ووجوب ما هو مقدمة في الواقع سواء وقف عليه المولى بالتفصيل أم لا ، ولعلّ ما ذكرناه هو مراد السيّد الأُستاذ.

نعم لو لم يكن مورداً للالتفات لا تفصيلاً ولا إجمالاً لما يكون طرفاً للملازمة.

الأمر الثاني : المسألة عقلية أُصولية

هل البحث في المسألة لفظي أو عقلي ، فقهي أو أُصولي ، الظاهر انّ المسألة

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ١٥٣.

٤١٨

عقلية أُصولية.

أمّا كونها عقلية : فلما عرفت أنّ محور البحث هو وجود الملازمة بين الإرادتين ثبوتاً ، والوجوبين إثباتاً ، وعدمها ، وهو بحث عقلي.

والظاهر أنّ وصف القدماء بكون المسألة لفظية لأجل قولهم بدلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته دلالة التزامية وهي عندهم دلالة لفظية لا عقلية ، تبعاً للمنطقيين حيث إنّهم يعدون الدلالة التضمّنية والالتزامية من الدلالات اللفظية ، قال السبزواري في منظومته :

دلالة اللفظ بدت مطابقة

حيث على تمام معنى وافقه

وما على الجـزء تضمناً وسم

وخارج المعنى ، التزام ، إن لزم (١)

وفي مقابلهم علماء البيان حيث جعلوا كلتا الدلالتين ( التضمنية والالتزامية ) من الدلالات العقلية فلاحظ. (٢)

وأمّا كونها مسألة أُصولية فلوجود ملاكها فيها وهو كونها صالحة لاستنباط الحكم الشرعي منها بوقوعها كبرى للدليل ، فيقال : الوضوء مقدمة ، ومقدمة الواجب واجب لأجل الملازمة بين الوجوبين ، فينتج : الوضوء واجب ، ومنه يظهر أيضاً انّ الملازمات كلّها من المسائل الأُصولية حيث يستنبط من الملازمة ، الحكمُ الشرعي.

المسألة من مبادئ الأحكام أيضاً

إنّ للفقهاء مصطلحاً خاصّاً في باب الأحكام الخمسة باسم مبادئ الأحكام ، ويراد بها ما يبحث عن عوارض الأحكام الخمسة من ملازماتها

__________________

١ ـ شرح المنظومة ، قسم المنطق : ١٣.

٢ ـ لاحظ مفتاح العلوم للسكاكي : ١٤٠ ـ ١٤١.

٤١٩

ومعانداتها إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يعرض الحكم الشرعي بما هو هو ، مثلاً يقال : وجوب الشيء يلازم وجوب مقدمته ، أو وجوب الشيء يلازم حرمة ضدّه ، هذا في باب الملازمة ، وأمّا المعاندة فيقال وجوب الشيء يعاند حرمته فلا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً وحراماً ، ولأجل ذلك منعوا من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو بعنوانين ، وهذا مصطلح خاص بالفقهاء حول الأحكام الخمسة.

وعلى ضوء ذلك ذهب سيد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى أنّ هذه المسألة من مبادئ الأحكام ، قائلاً : بأنّ القدماء كانوا يبحثون عن معاندات الأحكام وملازماتها ويسمّونها بالمبادئ الأحكامية ، ومنها هذه المسألة ، والمراد منها المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الأحكام التكليفية أو الوضعية من التلازم والتضاد. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه لامانع من أن تكون مسألة واحدة من مبادئ الأحكام في علم ، ومن المسائل في علم آخر ، نظير المقام فانّه بالنسبة إلى علم الفقه يعد من مبادئ الأحكام ، وبالنسبة إلى أُصول الفقه يعدّ من المسائل.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات ردّ على كون المسألة من مبادئ الأحكام بقوله : إنّ المبادئ لا تخلو إمّا أن تكون تصوّرية أو تصديقية ولا ثالث لهما ، والمبادئ التصوّرية هي لحاظ ذات الموضوع والمحمول وذاتياتهما في كلّ علم ، ومن البديهي أنّ البحث عن مسألة مقدّمة الواجب لا يرجع إلى ذلك ، والمبادئ التصديقية هي المقدّمات التي يتوقّف عليها تشكيل القياس ، ومنها المسائل الأُصولية ، فانّها مبادئ تصديقية بالإضافة إلى المسائل الفقهية.

ثمّ قال : ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصوّرية

__________________

١ ـ نهاية الأُصول : ١ / ١٤٢.

٤٢٠