إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

مع الطهارة المائية ، فيرجع الشكّ إلى حدوث التكليف لا إلى سقوطه بعد العلم به. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يصحّ بعد الإتيان بالأمر الاضطراري المحتمل ، فيقال : الأوّل قطعي الارتفاع والثاني مشكوك الحدوث ، وأمّا إذا لوحظ التكليف أوّل الوقت قبل الإتيان بالفرد الاضطراري فانّه عندئذ يعلم بتوجه أحد الأمرين :

١. التخيير بين امتثال الأمر الظاهري أو الأمر الواقعي.

٢. تعيّن امتثال الأمر الواقعي فقط.

ومن المعلوم أنّ المرجع في مثله ، هو الأمر التعييني المحتمل ، لأنّ فيه البراءة القطعية من التكليف دون الأوّل.

المقام الثاني : في العذر المستوعب

والصور المتصوّرة فيه اثنتان :

١. أن يكون لدليل البدل إطلاق.

٢. أن يكون كلّ من دليلي البدل والمبدل مهملين.

ولا يتصور هناك عكس الصورة الأُولى بأن يكون لدليل المبدل إطلاق دون البدل ، لأنّ لازم شرطية الطهارة المائية في الصلاة في العذر المستوعب هو جواز ترك الصلاة بتاتاً ، وهو غير جائز لعدم جواز ترك الصلاة على كلّ حال.

أمّا الصورة الأُولى فلا شكّ في الإجزاء ، لأنّ المفروض انّ لدليل البدل إطلاقاً يعمُّ العذر المستوعب ، ولم يرد فيه الأمر بالقضاء خارج الوقت ، من غير فرق بين القول بوحدة الأمر كما هو واضح ، وبين تعدده كما عليه القوم.

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ١٨٨.

٣٨١

أمّا الأوّل فلأنّ الواجب هو الجامع المتحقّق بالفرد الاضطراري ، ومن المعلوم أنّه يسقط التكليف عندئذ لفرض تحقّق الطبيعة في فرد واحد.

وأمّا على القول بتعدد الأمر فالأصل أيضاً هو البراءة ، لأنّ البحث على أساس أنّ القضاء بأمر جديد مستفاد من قوله عليه‌السلام : « من فاتته فريضة يقضي ما فاته كما فاته ». (١) فإيجاب القضاء يحتاج إلى صدق عنوان الفوت وهو مردّد بين العناوين التالية :

١. فوت الواجب بالأمر الظاهري ، والمفروض أنّه لم يفت.

٢. فوت الفريضة الواقعية الفعلية ، وهو خلاف المفروض ، إذ لا فعلية لأمر الصلاة بالطهارة المائية حتى يصدق على المورد فوت الفريضة الواقعية الفعلية.

٣. فوت الملاك الواقعي ، وهو مشكوك ، لاحتمال قيام الطهارة الترابية مكان الطهارة المائية في هذه الحالة ، فلا علم بفوت الملاك.

فتلخّص من ذلك أنّه لا محيص من القول بالبراءة في العذر المستوعب على كلا المبنيين ، سواء كان هناك أمر واحد أو أمران.

أمّا الأمر الواحد فقد امتثله ، وأمّا الأمران فالثاني منهما مشكوك الحدوث لأنّ حدوثه فرع صدق الفوت وهو دائر بين فوت الفريضة الظاهرية الفعلية أو فوت الفريضة الواقعية الفعلية أو فوت الملاك.

أمّا الأوّل فقد امتثله ، وأمّا الثاني والثالث فهما مشكوكا الحدوث.

__________________

١ ـ الوسائل : ٥ ، الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث ١.

٣٨٢

الموضع الثالث

إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أمراً :

إنّ العمل بالأمارات والأُصول تارة يكون لأجل استكشاف أصل التكليف ؛ كما إذا قامت الأمارة على أنّ الواجب هو صلاة الجمعة ، وتبين أنّ الواجب هو الظهر ، فلا معنى للبحث في الإجزاء ، أي إجزاء امتثال أمر موهوم عن امتثال أمر واقعي ، فلأجل ذلك نضرب الصفح عنه في كلا الموردين : الأمارات والأُصول.

وأُخرى يكون لغاية استكشاف خصوصيات المكلّف به من كون شيء جزءاً أو شرطاً أو مانعاً أو عدم كونه كذلك ، فالنزاع منصبّ على هذا القسم.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موردين :

الأوّل : العمل بالأمارة لاستكشاف كيفية التكليف

إذا عمل بالأمارة لاستكشاف خصوصيات المكلّف به ، مثلاً : إذا صلّى إنسان أو توضأ أو اغتسل أو حجّ على وفق ما أخبر به الثقة اعتماداً على قول الشارع بحجّية خبره ثمّ بان الخلاف ، فهل يكون مجزياً أو لا؟

ذهب المتأخرون من الأُصوليين ، منهم : المحقّق الخراساني والسيد الأُستاذ ، إلى عدم الإجزاء عند ظهور الخلاف ، سواء انكشف الخلاف بعلم وجداني أو

٣٨٣

بأمارة شرعية ، وذلك :

لأنّ لسان الأمارات لسان ما هو الشرط واقعاً ، فانّ دليل حجّيتها حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك بل كان شرطه فاقداً. (١)

وبعبارة أُخرى : انّ لسان دليل التعبد بالأمارات هو التعبّد بها بما انّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه وانّ الواقع متحقّق هنا ، فإذا تعبّدنا الشارع بالعمل بالأمارة لأجل هذه الحيثية ثمّ تبيّن الخلاف وانّه لم يكن طريقاً ولا كاشفاً ولا الواقع متحقّقاً ، يتبين أنّه لم يكن هنا تعبد بالعمل بها في هذا المورد ، ومعه كيف يمكن القول بالإجزاء؟

وبعبارة ثالثة : انّ العمل بالأمارات لأجل الكشف عن الواقع دون تصرّف فيه ولا انقلاب الواقع عنه إلى مدلول الأمارة ، فعندئذ فالذي تعلق به الأمر لم يحصل ، لتخلّف الأمارة ، والذي حصل لم يتعلق به الأمر. (٢)

هذا هو الظاهر من كلّ من قال بعدم الإجزاء في العمل بالأمارات والبيّنات.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ المعيار في حجيّة الأمارة وإن كان هو الكشف عن الواقع غير أنّ المراد من الكشف هو الكشف النوعي الغالبي لا الكشف الدائمي ، وذلك واضح لمن لاحظ الأمارة ، فانّ الثقة ليس بمعصوم وإنّما يُصيب قوله الواقع في أكثر الموارد لا جميعها ، فمن اعتبره حجّة فإنّما اعتبره بهذا الملاك أي كونه كاشفاً عن الواقع في غالب الموارد ، فإذا كان هذا هو الملاك فهو موجود في عامّة الموارد حتّى فيما خالف الواقع.

__________________

١ ـ الكفاية : ١ / ١٣٣.

٢ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ١٤٧.

٣٨٤

ثانياً : أنّ بين الأمر بالعمل بالأمارة ـ حتّى على القول بالطريقية ـ والاكتفاء بمدلول الأمارة في مقام الامتثال ملازمة واضحة ، وتعد هذه الملازمة من المداليل العرفية التي هي حجّة عندهم وتكون حجّة على العبد ، ونوضح الملازمة بالمثالين التاليين :

أ. إذا أمر المولى عبده بأن يهيئ له دواء ليتداوى به ، وأمره بأن يسأل صيدلياً بالخصوص عن نوعية اجزائه وكميته وكيفية تركيبه ، فاتّبع العبد إرشادات الصيدليّ الذي جعل قوله حجّة في هذا الباب ، ثمّ ظهر أنّ الصيدلي كان قد أخطأ في مورد أو موردين ، فانّ العرف يعدّون العبد ممتثلاً لأمر مولاه ، ويرون عمله مسقطاً للتكليف ، من دون إيجابه بالقيام مجدّداً بتهيئة الدواء ، اللّهمّ إلاّ أن يأمره المولى مجدداً.

ب : إذا أمر عبده ببناء بيت ، وأمره أن يرجع في كلّ ما يتعلّق بالبناء إلى مهندس متخصص ومعمار ماهر ، واتبع العبد أوامره فبنى البيت ، لكن تبيّن خطأ المهندس أو المعمار ، فانّ العبد معذور ، والعمل مجز ، اللّهمّ إلاّ أن يأمره بالإعادة.

والإنسان المتشرع إذا خوطب بهذه الارتكازات ، بوجوب العمل بقول الثقة ينتقل منه إلى أنّ الشارع قد اكتفى في تحصيل مقاصده بما تؤدي إليه الأمارة تسهيلاً للأمر على العباد ، فانّ الشارع واقف على أنّ إلزام المكلّف بتحصيل العلم يوجب العسر والحرج ورغبة الناس عن الدين. هذا من جانب ، ومن جانب آخر وقف على أنّ العمل بالأمارة يؤدّي إلى تحصيل مصلحة المولى بنسبة عالية أي تسعين بالمائة ، ولذلك أمر بالعمل بها مكتفياً في تحصيل مقاصده ومصالحه بهذا المقدار لما أنّ في الأمر بتحصيل العلم عسراً وحرجاً.

وهذا البيان يقتضي كون العمل بالأمارة موجباً للاجزاء عند كشف الخلاف

٣٨٥

مطلقاً ، سواء انكشف بدليل قطعي أو بأمارة.

فإن قلت : إنّ لسان دليل حجّية الأمارة هو الطريقية ، لأنّ الشارع تعبّدنا بالأمارة بحيثية خاصة وهي كونها طريقاً إلى الواقع كاشفة عنه ، وتحقّق الواقع في موردها ، والمفروض عدم تحقّق هذه الحيثية فينتج عدم وجود التعبّد في ذلك الموضع وإنّما تخيلنا التعبد.

قلت : إنّ الملاك للتعبّد هو الكشف النوعي ، والملاك بهذا المعنى متحقّق في العمل بالأمارات.

والمستدل تصوّر أنّ الملاك هو كونه كاشفاً في عامّة الموارد ، وهو كما ترى! لأنّ الأمارات توافق الواقع غالباً لا دائماً فالخلط بين كون التعبّد بملاك الكشف الدائم أو الكشف الغالب صار سبباً لاختيار القول بعدم الإجزاء.

والأوّل وإن كان غير موجود لكنّه ليس بملاك ، والثاني موجود وهو الملاك.

أسئلة وأجوبة

إن قلت : إنّ الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة ، والإجزاء غير مختصة بالعمل بها لأجل استكشاف الأجزاء والشرائط ، بل يعمّ ما إذا عمل بها عند استكشاف أصل التكليف وعلى ضوء ذلك يلزم القول بالإجزاء في كلتا الصورتين.

قلت : فرق واضح بين عدم امتثال أمر المولى أصلاً ، وبين امتثاله على وجه غير تام ، ففي مجال استكشاف أصل التكليف ـ إذا تخلفت الأمارة عن الواقع ـ لم يُمتثل أمر المولى ، أصلاً ، فكيف يحكم بالإجزاء؟! بخلاف التخلف في استكشاف الأجزاء والشرائط فقد قصد الأمر المتوجّه إلى صلاة الظهر ، مثلاً ، غاية الأمر أتى بالمأمور به ناقصاً فبانسحاب الأمر عن الأجزاء العشرة إلى الأجزاء التسعة ، كما هو

٣٨٦

مقتضى جريان البراءة عند الشكّ في الجزئية والشرطية ، يكون المأتي به متعلّقاً للأمر الواقعي لأجل انسحاب الأمر عن الجزء المجهول واستقراره على ما سواه.

فإن قلت : إنّ القول بالإجزاء يستلزم التصويب ، لأنّ رفع اليد عن جزئية السورة في حقّ من قامت عنده الأمارة على عدم الجزئية يوجب اختصاص الحكم بالعالم دون الجاهل وهكذا سائر الموارد.

قلت : إنّ التصويب عبارة عن إنكار الحكم المشترك الإنشائي بين العالم والجاهل ، وهو موجود ، وانّ المرتفع هو فعلية الحكم أو تنجزه ، وهو ليس بمحذور ، وليس للقائل بعدم الاجزاء أيضاً القول بفعلية الحكم أو تنجزه في حقّ الجاهل.

فإن قلت : إنّ لازم إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة هو عدم الإجزاء ، لأنّ لازم الكشف كون الواقع هو الميزان دون مؤدّى الأمارة وهو يناقض القول بالإجزاء الذي مقتضاه كون المحور مؤدى الأمارة. (١)

قلت : هذا ما استند إليه السيّد الأُستاذ في القول بعدم الإجزاء ، ولكنّه غير تام ، لأنّ إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة غالباً لا دائماً ، ومثل هذا لا يستلزم أن يكون الملاك هو الواقع ، بل يستلزم كون الملاك هو الواقع الغالب وهو متحقّق ، فلا يلزم من القول بالكاشفية والإجزاء الجمع بين النقيضين.

وحصيلة الكلام : انّ الأمارات حجّة من باب الكاشفية النوعية ، والتعبّد بها لأجل هذا الملاك ، وهذا الملاك موجود في عامة الموارد هذا من جانب ، ومن جانب آخر وجود الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل على وفق الأمارة وبين اجتزاء المولى بما أدّت إليه الأمارة وإن خالفت في بعض الموارد.

ولذلك قوّى شيخنا الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ في كافة دوراته الأُصولية كون

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ١٩١.

٣٨٧

العمل بالأمارات في إثبات الجزئية والشرطية والمانعية أو نفيها موجباً للإجزاء وإن خالف الواقع. وليس هذا القول ملازماً للقول بالتصويب لثبوت الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، كما ليس القول بالإجزاء مضاداً للقول باعتبار الأمارة من باب الكاشفية ، لأنّ الكاشفية الغالبية لاتزاحم القول بالاجزاء ، وانّما تزاحمه إذا كان الملاك هو الكاشفية الدائمية.

الاستدلال على الإجزاء بوجه آخر

ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي قدس‌سره ممّن تفرّد بين معاصريه في القول بالإجزاء عند تخلّف الأمارة ، واستدلّ على ما رامه بما هذا حاصله : انّ دليل حجّية الأمارة حاكم على دليل الشرائط والاجزاء والموانع ـ فيما إذا كانت الشبهة موضوعية ـ فإذا قال الشارع : صلّ في طاهر ، كان المتبادر من لفظ « طاهر » هو الطهارة الواقعية ، وكان الشرط ـ لولا الدليل الحاكم ـ لصحّة الصلاة هو الطهارة الواقعية ، ولكن لما جعل الشارع قول الثقة حجّة وأخبر هو عن طهارة الثوب المعيّن تصير نتيجة الجمع بين الدليلين هو توسعة المأمور به ـ الصلاة في الثوب الطاهر ـ وانّه تجوز الصلاة في ثوب طاهر واقعاً أو محكوم بالطهارة ظاهراً ، فلو صلّى مع ثوب هذا شأنه ، فقد حازت صلاته شرط الصلاة واقعاً ، لأنّ الشرط واقعاً أعمّ من الواقعي والظاهري ، وتخلّف الأمارة يوجب ارتفاع الشرط من حين التخلّف. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح في أدلة الأُصول العملية كقاعدتي الطهارة والحلية اللتين للشارع دور تأسيسي في حجيّتهما.

__________________

١ ـ نهاية الأُصول : ١ / ١٢٩.

٣٨٨

فإذا قال الشارع صلّ في طاهر ، ثمّ قال : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » ، فاقتران الثاني بالأوّل يوجب حكومته عليه ، بمعنى أنّ الشرط للصلاة واقعاً هو الطهارة الأعم من الواقعية والظاهرية ، وأمّا أدلّة حجّية الأمارات فليس للشارع هناك دور لا تأسيساً ولا إمضاءً ، بل غاية الأمر هو عدم الردع ، ومن المعلوم أنّ الحكومة تقوم باللفظ ، والمفروض سكوت الشارع في مقابل عمل العقلاء بقول الثقة ، وكون سكوته كاشفاً عن الرضا ، فما هذا حاله كيف يكون حاكماً على دليل الشرائط والاجزاء؟! مع أنّه لم يرد منه في مورد حجّيتها دليل لفظي ، وسيوافيك عند البحث في حجّية خبر الواحد أنّ ما استدل به القوم على الحجّية ناظر إلى بيان الصغرى لا إلى الكبرى ، وكأنّ الكبرى كانت عندهم أمراً مسلماً وإنّما حاولوا إحراز الصغرى وانّ فلاناً هل هو ثقة أو لا ، وفي مثل هذا المورد الذي ليس هناك دليل لفظي حول الحجّية كيف يمكن استظهار الحكومة التي هي قائمة باللفظ؟

والأولى التمسّك بما ذكرنا من الملازمة في دائرة المولوية والعبودية بين صحّة العمل بقول الثقة والاكتفاء في مجال الطاعة على ما أدّت إليه الأمارة.

تفصيل بين الانكشاف الوجداني وغيره

وربّما يفصل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني فلا يجزي ، أو بحجّة معتبرة فيجزي ، لأنّ الحجّة اللاحقة كالسابقة ، فكما يحتمل أن تكون الحجّة اللاحقة مطابقة للواقع كذلك يحتمل أن تكون الحجّة السابقة مطابقة للواقع وإن كان الواجب على من قامت عنده الحجّة الثانية العمل على مفادها.

يلاحظ عليه : أنّه لو أغمضنا النظر عن الملازمة العرفية ، فالحقّ هو عدم الإجزاء في كلتا الصورتين ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، والمفروض

٣٨٩

في كلتا الصورتين عدم تحصيل البراءة اليقينية فيهما ، فالعلم السابق بالتكليف كاف في عدم الإجزاء حتى يعلم الخروج عنه ، إمّا بعلم قطعي أو بحجّة شرعية ، فالعلم غير موجود والحجّة الشرعية الأُولى متعارضة مع الحجّة الشرعية الثانية.

التفصيل بين الطريقية والسببية

وقد فصّل صاحب المحاضرات بين الطريقية والسببية ، وأنّ الحقّ على الأولى هو عدم الإجزاء ، لأنّ ما أُتي به ليس بمأمور به ، والمأمور به ليس بمأتي به. والمفروض أنّ الصحّة إنّما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج ، الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت ، والقضاء في خارجه ، كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقة المأتي به للمأمور به. (١)

يلاحظ عليه : بمنع عدم مطابقة المأتي به للمأمور به ، فانّ الملازمة العرفية تكشف عن انسحاب الوجوب عن الجزء أو الشرط الذي قام الدليل الاجتهادي على عدم وجوبه فعلاً ، فيكون الواجب الفعلي في حقّه ما أتى به ، فيكون المأتي به مأموراً به.

بقي الكلام في الإجزاء على القول بحجّيتها من باب السببية فقبل الخوض في المقصود نذكر أقسام السببية.

أقسام السببية

إنّ للسببية تفاسير ثلاثة :

الأوّل : ما ينسب إلى الأشاعرة ، وهو إنكار الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، وانّ أحكامه سبحانه تابعة لآراء المجتهدين أو الأمارات والأُصول

__________________

١ ـ المحاضرات : ٢ / ٢٦٠.

٣٩٠

القائمة في المورد ، وهذا النوع من التصويب يستلزم الدور ، لأنّ البحث والتفحّص والاجتهاد آية وجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، فيبحث عن العثور عليه ، فلو فرض تحقّق وجوده تابعاً للفحص والبحث يلزم الدور لكن لا أظن انّ الأشاعرة تقول بالسببية بهذا المعنى ، وقد أثبتنا في رسالة الاجتهاد والتقليد أنّهم لا يقولون بالتصويب إلاّ فيما لا نصّ فيه من الأحكام التي فوّض تشريعها في نظرهم إلى الحكام والمجتهدين ، وامّا المشرَّع من الأحكام فالحكم الواقعي غير تابع لآراء المجتهدين وقيام الأمارة ، فلو كان للسببية مفهوم عند الأشاعرة فإنّما هو بهذا المعنى.

الثاني : ما هو منسوب إلى المعتزلة ، وحاصله : تسليم الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، غير أنّه إذا طابقت الأمارة الواقع تنجزه ، وإن خالفت الأمارة الواقع ينقلب الواقع إلى مضمون الأمارة ، فيكون مضمونها هو الحكم الواقعي عند من قامت الأمارة على وفقه.

وهذا القول وإن كان يسلّم وجود الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل ، ولكنّه يخصّه بالعالم دون من قامت الأمارة عنده على خلاف الواقع ، وإلاّينقلب الواقع إلى مضمون الأمارة.

الثالث : ما اختاره بعض علمائنا الإمامية وعلى رأسهم الشيخ الأنصاري حيث ذهب إلى أنّ الأمارة إذا طابقت الواقع تجزي بلا إشكال.

وأمّا إذا خالفت الواقع فبما أنّ العمل بها مفوت لمصلحة الواقع يجب أن يكون هناك ما يجبر به تلك المصلحة الفائتة.

وليس هنا شيء سوى القول بالمصلحة السلوكية ، وانّ في تطبيق العمل على مفاد الأمارة مصلحة ، فهذه المصلحة القائمة بنفس السلوك ـ لا بمؤدى الأمارة ـ

٣٩١

جابرة للمصلحة الفائتة القائمة بالمؤدّى.

وقد اعترض المحقّق الخوئي على هذا النوع من السببية وقال : بأنّ المصلحة الواقعية إذا كانت حاصلة بأحد أمرين :

الأوّل : الإتيان بالواقع كصلاة الظهر مثلاً.

الثاني : سلوك الأمارة الدالّة على وجوب الجمعة في تمام الوقت من دون كشف الخلاف ، فيمتنع عندئذ تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر ، لقبح الترجيح من دون مرجح ، ومعه كيف يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم والجاهل؟! بل يكون الحكم الواقعي تعيينياً في حقّ العالم ، وتخييرياً في حقّ الجاهل. (١)

يلاحظ عليه : انّ المطلوب بالذات هو المصلحة القائمة بالمتعلّق وأمّا المصلحة السلوكية فهي في طول الاولى تحدث لأجل جبر ما فات ، فإذا كان لها تلك المكانة فكيف يمكن أن يؤمر بها على وجه التخيير؟

حكم الإجزاء على التفاسير الثلاثة

إذا عرفت أنّ السببية على أقسام ثلاثة فلا شكّ أنّ العمل بالأمارة موجب للإجزاء على القولين الأوّلين ، إذ لا واقع للحكم الشرعي ـ فيما لا نصّ فيه ـ سوى مفاد الأمارة من أوّل الأمر على القول الأوّل ، وانقلاب الواقع إلى مفادها عند المخالفة على القول الثاني فلا يتصوّر فيه التخلّف.

إنّما الكلام في الإجزاء على القول بالسببية بالمعنى الثالث ، ويختلف حكم الإجزاء حسب اختلاف الفائت ، فإن كان الفائت فضيلةَ أوّل الوقت ، كما إذا بان

__________________

١ ـ المحاضرات : ٢ / ٢٧٢.

٣٩٢

الخلاف قبل خروج الوقت ، فالمتدارَك هي الفضيلة لا مصلحة أصل الوقت ولا الصلاة فتجب الإعادة ، وأمّا إذا كان الفائت مصلحة الوقت وبالتالي مصلحة الصلاة فلابدّ أن تكون المصلحة الفائتة متداركة بالسلوكية كما هو المفروض ، فلا يجب القضاء.

هذا كلّه إذا كان وجه الحجّية معلوماً وانّ الأمارة حجّة من باب الطريقية المحضة أو السببية المحضة ، وأمّا إذا لم يعلم وجه الحجّية بل صار وجهها مردداً بين الطريقية والسببية ، وهذا هو الذي أفاض فيه الكلام المحقّق الخراساني قرابة صفحة واحدة مع غاية الإيجاز ، فخرج بالنتيجة التالية : أنّه تجب الإعادة دون القضاء ، وبما انّ هذا الموضع من الكفاية معقد جدّاً نشرحه على النحو التالي :

إذا كان وجه الحجّية غير معلوم

ذكر المحقّق الخراساني ما هذا حاصله :

إذا بان الخلف والوقت باق ، تجب عليه الإعادة ، للأصل وهو أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، فهذا الأصل يقتضي الإعادة في الوقت.

لا يقال : انّ هنا أصلاً آخر يعارضه وهو استصحاب عدم كون التكليف في الواقع فعلياً في الوقت.

وبعبارة أُخرى : لم يكن الواقع فعلياً قبل الزوال وبعده مع قيام الأمارة على خلاف الواقع ونشكّ في فعليته ، فالأصل بقاؤه على ما كان عليه من عدم الفعلية.

لأنّا نقول : إنّ الواجب على المكلّف احراز إنّ ما أتى به مسقط للتكليف ، وقد علم اشتغال ذمته وشكّ في فراغها بالمأتي. وما أُشير إليه من الأصل أي عدم فعلية الواقع لا يثبت أنّ المأتي به مسقط إلاّ على القول بالأصل المثبت.

٣٩٣

والحاصل : انّ المطلوب بعد العلم باشتغال الذمة هو العلم بالمسقط أو قيام الحجّة عليه ، والأصل الثاني لا يثبت كون المأتي به مسقطاً ، وإنّما يدلّ على عدم فعلية الواقع في حقّه ، ولازم ذلك وإن كان مسقطية المأتي به لكنّه أصل مثبت.

فإن قلت : ما الفرق بين المقام وبين المقامين الآخرين :

١. الأوامر الاضطرارية ، إذا فقد الماء في أوّل الوقت ووجده في آخره.

٢. الأوامر الظاهرية ، إذا أحرزت انّ الحجّية من باب السببية ، حيث مرّ عدم وجوب الإعادة في هاتين الصورتين عند ارتفاع الاضطرار أو تبين الخلاف؟

قلت : الفرق بينهما واضح وهو وجود العلم بوجوب الفرد الاضطراري أو الفرد المأمور به بالأمر الظاهري ( لأجل القول بالسببية ) فيهما ، وقد امتثل ما علم به وبعد ارتفاع الاضطرار أو الجهل في الوقت يشك في حدوث وجوب آخر يتعلّق بإتيان الفرد الاختياري أو الفرد الواقعي والأصل عدم حدوثه.

وأمّا المقام فليس هناك أيّ علم بوجوب الفرد الظاهري ، وذلك لأنّ الأمارة لو كانت حجّة من باب السببية فالفرد مأمور به ، وإن كانت حجّة من باب الطريقية فليس بمأمور به ، فينتج أنّه ليس لنا علم قطعي بوجوب الفرد المأتي به حتى يقال : انّ ما علم قد امتثل وما لم يمتثل ( الفرد الواقعي ) يُشك في حدوث الوجوب المتعلق به ، فيكون المرجع هو أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف وهي تقتضي الإعادة في الوقت.

وقد أشار المحقّق الخراساني إلى السؤال والجواب من دون طرح السؤال بقوله : « وهذا بخلاف ما إذا علم أنّه مأمور به واقعاً وشكّ في أنّه يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأوّلي ، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناءً على أنّ

٣٩٤

الحجّية على نحو السببية ». فهذه العبارة تشتمل على سؤال مقدر مفاده أي فرق بين المقام وتينك الصورتين؟ كما تشتمل على جواب وهو وجود العلم بالتكليف قبل رفع العذر والجهل وقد امتثله والشكّ في حدوث تكليف آخر في الصورتين ، بخلاف المقام فانّ الشكّ فيه في أصل سقوط التكليف.

هذا كلّه حول الأداء وأمّا القضاء فقد بنى الحكم بالقضاء على ما اختاره في الإعادة من أنّ المحكم هو عدم الإتيان بالمسقط ، فهنا صور ثلاث :

١. إذا قلنا إنّ القضاء بالأمر الجديد ، أعني « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » وانّ الفوت الذي هو موضوع لهذا الأمر ، أمر وجودي لا يحرز بالأصل أي أصالة عدم الإتيان بالواقع.

٢. تلك الصورة ، لكن الفوت الذي هو موضوع للأمر الجديد ، أمر عدمي قابل للإثبات بالأصل.

٣. انّ القضاء بنفس الأمر الأوّل من دون حاجة إلى الأمر بالقضاء فكان إتيان الطبيعة مطلوباً وإتيانه في الوقت مطلوباً ثانياً.

فعلى الأوّل لا يجب القضاء لعدم ثبوت الموضوع حتّى يثبت التكليف الجديد بخلاف الصورتين الأخيرتين ، فيجب القضاء امّا لثبوت الموضوع بالأصل ، إذا كان بأمر جديد ، أو لكفاية نفس الأمر الأوّل في إثبات القضاء.

هذا إيضاح ما أفاده في « الكفاية ».

يلاحظ على ما ذكره في أمر الإعادة : أنّ الظاهر عدم وجوب الإعادة في المقام كالصورتين الأخيرتين لعدم العلم بثبوت التكليف أزيد ممّا أتى ، وذلك لأنّه لو كانت الأمارات حجّة من باب الطريقية ، أو السببية السلوكية فالواجب هو الواقع دون ما أدّت إليه الأمارة ، غاية الأمر تكون المصلحة السلوكية جابرة

٣٩٥

لفضيلة الوقت ، دون مصلحة أصل الوقت والفعل ، فتجب الإعادة.

وإن كانت الأمارات حجّة من باب السببية بالمعنيين الأوّليين ، فقد أتى بما اشتغلت به ذمّته ، وعند ذلك ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، لأنّه يعلم بتوجّه الوجوب إليه وهو متعلّق إمّا بالصلاة التي صلاّها أو الصلاة التي لم يصلها ، ومثل هذا العلم لا يؤثر ، لأنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، وليس هذا النوع من العلم كذلك ، لأنّه على فرض لا يحدث تكليفاً ، لأنّ المفروض أنّه امتثله ، وعلى الفرض الثاني وإن كان محدثاً للتكليف لكنّه مشكوك ، وهذا نظير ما إذا علم بعد إقامة صلاة الجمعة بأنّ الواجب إمّا الصلاة التي صلاّها أو صلاة الظهر التي لم يصلّها ، فلا يؤثر ذلك العلم الإجمالي ، نعم لو كان ذلك العلم قبل إقامة صلاة الجمعة يكون مؤثراً.

هذا كلّه حول الإعادة ، وأمّا ما أفاده حول القضاء ، فالظاهر عدم القضاء على جميع المباني حتى على القول بأنّ القضاء بالأمر الأوّل ، أو الأمر الثاني لكن الفوت أمر عدمي يثبت بالأصل ، وذلك لأنّ القضاء معلّق في لسان الدليل على الفوت الذي هو عبارة أُخرى عن عدم الإتيان بالواجب في الوقت ، والمفروض أنّ الموضوع ـ عدم الإتيان بالواجب في الوقت ـ بعد لم يثبت لأنّه على القول بحجّية الأمارة من باب السببية فقد أتى بالواجب ، فلم يحرز عدم الإتيان به حتى يتبعه الأمر بالقضاء. نعم لو كان ملاكها هو الطريقيّة وجب القضاء لكنّ الملاك مشكوك.

٣٩٦

المورد الثاني

العمل بالأُصول العملية

لاستكشاف كيفية التكليف

قد عرفت حكم الامتثال بالأمارات في مجالي استكشاف أصل التكليف ، واستكشاف الأجزاء والشرائط عند ظهور المخالفة ، فحان البحث في حكم الامتثال بالأُصول العملية عند ظهور المخالفة.

وبما انّه قد مرّ أنّ التخلّف في أصل الحكم لا يوجب الإجزاء ، من غير فرق بين الأمارة والأصل ، نخص البحث بما إذا عمل بالأُصول لاستكشاف أجزاء المكلّف به وشرائطه وموانعه وقواطعه.

واللازم بالبحث في المقام هي الأُمور التالية :

١. أصالة الطهارة.

٢. أصالة الحلّية.

٣. الاستصحاب.

٤. أصالة البراءة.

٥. قاعدة التجاوز.

٦. تبدل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله وأعمال مقلّديه.

وإليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر.

٣٩٧
١. أصالة الطهارة والإجزاء

ذهب أعلام المتأخرين إلى أنّ امتثال قاعدة الطهارة موجب للإجزاء وإن بان التخلّف ، معتمدين في ذلك على ما ذكره المحقّق الخراساني ، وحاصله :

انّ دليل أصالة الطهارة حاكمة على أدلّة الأجزاء والشرائط ، بتوسعة الموضوع ، مثلاً إذا قال الشارع : « صلّ في طاهر ». فالظاهر منه أنّه يشترط أن يكون اللباس طاهراً واقعياً ، فإذا قال بعده : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » فبالمقارنة نستكشف أنّ الثاني بصدد توسعة الموضوع وأنّ الطهارة التي هي شرط صحّة الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية.

وعلى ضوء ذلك : إذا تبيّن أنّ الثوب نجس فانكشاف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى نفس الطهارة والنجاسة حيث تبين انّ الثوب نجس ، وأمّا بالنسبة إلى شرط الصلاة فالانكشاف من حينه لامن أصله ، لما عرفت من أنّ شرط الصحّة هو الشرط الأعمّ من الظاهري والواقعي لا الشرط الواقعي فقط حتّى تصحّ نسبة انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الشرط.

وهذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية في المقام حيث قال :

والتحقيق أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه وكان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما في وجه قوي ونحوها بالنسبة إلى كـلّ ما اشترط بالطهارة أو الحليـة ، يجزي ، فانّ دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط وانّـه أعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فانكشاف الخلاف فيـه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل بشرطه ، بل بالنسبة إليـه يكـون من قبيل

٣٩٨

ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل. (١)

وكان السيد البروجردي يعتمد في درسه الشريف على بيان آخر وهو أنّه إذا صلّى في ثوب طاهر تمسّكاً بأصالة الطهارة ، ينطبق على المأتي به عنوان الصلاة فيسقط التكليف المتعلّق به في قوله : ( أَقِمِ الصَّلاة لدُلُوك الشَّمس ) وقد قام الإجماع على عدم وجوب صلاتين من نوع واحد للمكلّف في وقت واحد.

فالحكم بالإعادة والقضاء خرق لهذا الإجماع ، ومعناه وجوب صلاتي الظهر في وقت واحد.

وهناك دليل آخر على الإجزاء وهو التمسّك بالملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بالأُصول في كيفية الامتثال واجزائه في مقام الامتثال مطلقاً ، سواء أوافق الواقع أم خالفه. وقد مرّ في مورد الأمارة.

٢. أصالة الحلية والإجزاء

يظهر حكم قاعدة الحلية ممّا ذكرناه في أصالة الطهارة بالوجوه الثلاثة ، تارة لأجل حكومة القاعدة على أدلّة الأجزاء والشرائط ، وأُخرى بانطباق عنوان الصلاة على المأتي به وسقوط وجوبه بعد الإتيان وعدم وجوب صلاتين من نوع واحد للشخص في يوم واحد وثالثة من وجود الملازمة بين الأمر بالعمل بأصالة الحلية ، والإجزاء في مقام الامتثال ، والوجوه الثلاثة واضحة لا حاجة إلى التبيين.

٣. الاستصحاب والإجزاء

ذهب المحقّقون من الأصوليّين إلى أنّ الاستصحاب أصل محرِز ، وانّ لسانه في الموضوعات كالطهارة والعدالة هو جعل المماثل عند الشكّ ، فإذا قال الشارع :

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٣٣.

٣٩٩

صلّ في طاهر ، فإذا شككنا في طهارة ثوب بعد اليقين بطهارته وقال الشارع : « لا تنقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها » فمعناه أنّ الثوب محكوم بالطهارة ، فيكون بالنسبة إلى دليل الشرطية حاكماً وجاعلاً للمصداق ، غاية الأمر مصداقاً ظاهرياً لا واقعياً ، فلو ظهر التخلّف فالتخلّف إنّما هو بالنسبة إلى طهارة الثوب ونجاسته لا بالنسبة إلى كون المكلّف واجداً للشرط ، فصلاته كانت صلاة صحيحة تامّة إلى يوم القيامة حتّى وإن ظهر بالعلم القطعي كون الثوب نجساً ، فالعلم المتأخر يؤثر في مجال الشرط بالنسبة إلى المستقبل لا بالنسبة إلى الماضي ، لأنّ الشرط إذا كان أعمّ من الواقعي والظاهري لا يتصوّر فيه التخلّف.

وهذا البيان هو الذي نقلناه من المحقّق الخراساني ، ويمكن تعضيده بما نقلناه من كلام المحقّق البروجردي ، وبما أردفناه من حديث الملازمة ، فالجميع يهدف إلى أمر واحد ، وهو أنّ الشارع اقتصر في مجال امتثال تكاليفه بما تؤدي إليه هذه الأُصول ، سواء أوافقت الواقع كما هو الحال في ٩٠% أم خالفه كما في ١٠% ، غير أنّ المصلحة التسهيلية دفعت بالشارع إلى الاكتفاء بما أدّت إليه الأُصول مطلقاً. ورفع اليد عن الجزئية والشرطية في مقام التنجيز عند المخالفة.

٤. أصالة البراءة والإجزاء

إذا شكّ في جزئية شيء كوجوب السورة التامّة شبهة حكمية وأجرى الفحص اللازم فلم يعثر على الدليل في مظانه فأجرى البراءة عن الوجوب وصلّى صلاة بلا سورة تامّة ، ثمّ بدا خلافه وأنّ الواجب هو السورة التامّة ، فهل يجزي ما أتى به من العمل الناقص أو لا؟ الأقوى هو الإجزاء.

والدليل على ذلك ما ذكرنا من حديث الملازمة ، فإذا قال الشارع : ( أَقم

٤٠٠