إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

يلاحظ عليه بأمرين :

الأوّل : انّه إنّما يصحّ إذا لم يكن للخصوصية الموجودة في موضوع المسألة مدخلية في عروض المحمول. فيكون محمول المسألة عارضاً على موضوع العلم ، دون ما إذا كان له مدخلية كما في المقام فانّ للإمكان مدخلية في عروض التركب ، كما أنّ للفاعلية مثل هذا الشرط ، ونظيره قولنا : « زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين » فانّ للمثلّثية مدخلية في التساوي ، وعندئذ لا يمكن أن يعد محمول المسألة من عوارض موضوع العلم بحجّة أنّ التغاير مفهومي لا مصداقي.

الثاني : انّ الإشكال إنّما يرد على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض لموضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو ، لا على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض الموضوع بلا واسطة في العروض كما عليه المحقّق الخراساني تبعاً للحكيم السبزواري ، فوجود الواسطة لا تضر ما لم تكن واسطة في العروض ، كما هو كذلك في المقام ، فانّ الكم المتصل يتصف حقيقة بالمساواة إذا كان متّحداً مع المثلث ، كما أنّ الجسم الطبيعي ، يتصف بالحرارة والبرودة إذا كان متّحداً مع النار والماء وغير ذلك.

هذا وقد أورد السيّد الأُستاذ قدس‌سره على المحقّق الخراساني بانتقاضه بعلمي الهيئة والجغرافية فانّ النسبة بين الموضوعين فيهما إلى موضوعات مسائلهما نسبة الجزء إلى الكل. (١)

يلاحظ عليه : بعدم انتقاض الضابطة فيهما ، وذلك لأنّ الموضوع في علم الهيئة ليس هو ذوات الكواكب حتى يكون البحث عن كوكب خاص بحثاً في جزء الموضوع ، بل الموضوع هو أوضاع الكواكب وطبائعها ، وهو أمر كلي ، وأوضاع كوكب خاص يكون فرداً من هذا الكلي ، ويؤيّد ذلك انّه عرّف علم الهيئة بقولهم

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ٧.

٢١

هو علم يعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها ومقاديرها وأبعادها ، وموضوعه الأجرام المذكورة من الحيثية المذكورة. (١)

وهكذا الحال في علم الجغرافية فانّ موضوعه أحوال القارّات والبحار المختلفة ، فالبحث عن كلّ واحد من هذه القارّات بحثاً عن مصاديق هذا الفرد الكلي لا عن أجزائه.

ويؤيد ذلك أنّه عُرِّف علم الجغرافية بقولهم : علم يتعرّف به على أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الرُبْع المسكون من كرة الأرض وعروض البلدان الواقعة فيها وأطوالها وعدد مدنها وجبالها وبراريها وبحارها وأنهارها ، إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور. (٢)

هذا كلّه على مبنى المحقّق الخراساني ، وأمّا على مذهب القدماء فالتساوي بين محمول المسألة وموضوع العلم متحقّق لما عرفت أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يكون الموضوع مأخوذاً في حدّ العرض ، كما في قولنا : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، فالموجود مأخوذ في حدّ الواجب كما هو مأخوذ في حدّ الممكن ، وهكذا إذا أخذنا الواجب أو الممكن موضوعاً وبحثنا عن عوارضها وقلنا الواجب بسيط والممكن مركب ، فقد أخذ الموجود في حدّ البسيط كما أخذ في حدّ المركب ، لأنّ البسيط من جميع الجهات هو الموجود الواجب ، كما أنّ المركّب من ماهية ووجود هو الموجود الممكن ، وهكذا.

ومهما تنزلنا وبحثنا عن محمول المحمول فلم يزل موضوع العلم سارياً في حدِّ المحمولات وعند ذلك يتبين معنى التساوي ، وهو تساوي المحمول مع

__________________

١ ـ أبجد العلوم : ٢ / ٥٧٦.

٢ ـ أبجد العلوم : ٢ / ٢١٢ ـ ٢١٣ ولفظة جغرافيا كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض وربّما يقال جغراويا.

٢٢

الموجود المتحصص ، كتساوي البسيط مع الموجود الواجب ( لا مطلق الوجود ) وتساوي التركب من ماهية ووجود مع الموجود المركب لا مطلق الموجود.

وإلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الطباطبائي في كلامه السابق ، أعني : انّ كلاًّ منهما ( الواجب والممكن ) ذاتي لحصة خاصّة من الأعم المذكور ، لأنّ المأخوذ في حد كلّ منهما هو الحصة الخاصة به.

إجابة المحقق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر ، وقال : إنّ الموضوع لعلم النحو ليس هو الكلمة من حيث لابشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لأنّ الموضوع في قولنا : « كلّ فاعل مرفوع » هو الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء لها ، والمفروض أنّها من هذه الحيثية تكون موضوعاً لعلم النحو ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لأنّ كلاًّ من موضوع العلم مع موضوعات المسائل ملحوظ بشرط شيء وهو قيد الحيثية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ القيد المأخوذ في ناحية موضوع العلم غير القيد المأخوذ في ناحية موضوع المسائل ، فالمأخوذ في الأوّل هو القابلية للحوق الإعراب والبناء ، وأين هو من قيد الفاعلية والمفعولية المأخوذة في ناحية موضوع المسألة وادّعاء الوحدة بينها أمر عجيب؟!

نعم ما ذكرناه وحقّقناه إنّما هو جار في العلوم الحقيقية ، وأمّا الالتزام به في العلوم الاعتبارية فهو التزام بما لا يجب الالتزام به كما ذكرنا ذلك أيضاً عند البحث في المقام الأوّل.

__________________

١ ـ فوائد الأُصول للكاظمي : ١ / ٢٣ ـ ٢٤ ، بتلخيص.

٢٣

الجهة الثالثة : في لزوم وجود موضوع لكلّ علم

هل يجب أن يكون لكلّ علم موضوع خاص يبحث عن عوارضه الذاتية أو لا؟ فيه أقوال :

١. لزوم وجود الموضوع ، وهو الظاهر من القدماء من تعريفهم موضوع العلم.

٢. عدم لزوم وجود الموضوع لكلّ علم ، وذلك لأنّ كلّ علم عبارة عن عدّة مسائل متشتتة يجمعها اشتراكها في حصول غرض واحد ، ولا يحتاج وراء ذلك إلى وجود موضوع يبحث عن أعراضه الذاتية.

قال المحقّق الإصفهاني : إنّ العلم عبارة عن مركب اعتباري من قضايا متعددة يجمعها غرض واحد. (١)

٣. القول بالتفصيل بين العلوم الحقيقية والاعتبارية بلزوم وجود الموضوع في الأُولى دون الثانية ، وهو خيرة العلاّمة الطباطبائي. (٢)

استدلّ للقول الأوّل بقاعدة « الواحد لا يصدر إلاّ من واحد » ببيان أنّ الغرض الواحد المترتب على مجموع المسائل يتوقف على وجود جامع بينها وإلاّ يلزم صدور الواحد عن الكثير.

يلاحظ عليه : أنّ القاعدة على فرض صحّتها مختصة بالواحد البسيط الذي ليس فيه رائحة التركيب ، كالعقل الأوّل ، بناء على أنّه إنيُّ الوجود ، فهو لا يصدر إلاّ عن الواحد ، وذلك لأنّه يجب أن يكون بين العلة والمعلول رابطة بها يصدر المعلول عن العلة ، وإلاّ فلو صدر من دون وجود صلة بينهما يلزم أن يصدر كلّ

__________________

١ ـ نهاية الدراية : ١ / ٧.

٢ ـ لاحظ الأسفار ، قسم التعليقة : ١ / ٣٠ ـ ٣١.

٢٤

شيء عن كلّ شيء ، فعلى ذلك فلو صدر المعلول الواحد من اثنين يجب أن يجتمع فيه حيثيتان مختلفتان تصحح كلّ واحدة صدوره عن العلة ، فعندئذ ما فرضناه واحداً عاد كثيراً ، وهو خلف.

ولذلك قالوا : الواحد مع فرض كونه واحداً من جميع الجهات لا يمكن أن يصدر تارة من علّة وأُخرى من علة أُخرى. وهذا كما ترى يخصص برهان القاعدة وموردها بالبسيط من جميع الجهات وليس له مصداق في جانب العلة إلاّ اللّه سبحانه ولا في جانب المعلول إلاّ العقل.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القاعدة لا تجدي نفعاً في المقام ، لأنّ الغرض المترتّب على المسائل ليس غرضاً واحداً شخصيّاً بسيطاً حتى يتوقف صدوره على تصوير جامع بين المسائل الكثيرة ، بل هو غرض واحد نوعيّ يتكثّر بتكثّر المسائل ، فالغرض المترتب على مسألة حجّية خبر الواحد غير الغرض المترتب على مسألة دلالة الأمر على الوجوب وعدمه ، والغرض المترتب على أبواب النواسخ ، غير الغرض المترتب على باب الفاعل والمفاعيل ، ومثل هذا لا يلزم أن يصدر من الواحد ، بل قد يصدر من الكثير لأنّه أيضاً كثير.

هذا كلّه حول القول الأوّل.

وأمّا القول الثاني ، فبيانه أنّ المحمول في العلوم عرض ذاتي لموضوع العلم فالموضوع من علل وجوده ، فكيف يمكن أن يكون هناك عرض بلا موضوع سواء أكان العرض عرضاً فلسفياً أم منطقياً.

وبعبارة أُخرى : قد عرفت أنّ العرض الذاتي ما يؤخذ موضوعه في حدّه وهو الضابط في تمييزه ، فإذا فرض للمحمول محمول ، ولمحموله محمول ، وجب أن يؤخذ الموضوع الأوّل في حدّ الجميع حتى ينتهي إلى آخر محمول مفروض ، فوجود

٢٥

الموضوع من صميم كون العرض ذاتياً. (١)

وأمّا القول الثالث ، فبرهانه هو أنّ العلوم الاعتبارية تدوّن للحصول على غرض واحد اعتباري ، وليس حصول ذلك الغرض رهن وجود موضوع شامل لعامة موضوعات مسائله ، فالمقوم للعلم الاعتباري ترتّب غرض واحد على مسائل متسانخة سواء كان الكل داخلاً تحت عنوان واحد أو لا ، بل يكفي اشتراك عدّة من المسائل في الحصول على غرض واحد ، وهذا القول هو المتعيّن من بين الأقوال.

الجهة الرابعة : في تمايز العلوم

لا شكّ في وجود التمايز بين العلوم إنّما الكلام في تعيين المميز بينها ، وهناك أقوال :

١. تمايز العلوم بتمايز الأغراض ، وهو خيرة المحقّق الخراساني.

٢. تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وهو المشهور.

٣. تمايز العلوم بالجهة الجامعة بين مسائلها المنتزعة من المحمولات.

٤. تمايز العلوم واختلاف بعضها بذاتها وجوهرها ، وهو خيرة سيدنا الأُستاذ.

فلنتناول كلّ واحد من هذه الأقوال بالبحث والتحليل.

دليل القول الأوّل

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض وقال : إنّ تمايز العلوم ، إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين لا الموضوعات ولا

__________________

١ ـ الأسفار ، قسم التعليقة : ١ / ٣١.

٢٦

المحمولات ، وإلاّ كان كلّ باب ، بل كلّ مسألة من كلّ علم ، علماً على حدة ، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد ، كما لا تكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد (١) ( إذا كان الغرض متعدّداً ).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه إذا كان بين العلمين تمايز في مرتبـة الذات كتمايز علم النفس وعلم النبات ، حيث إنّ الموضوع في الأوّل غيره في الثاني ، فلا تصل النوبة إلـى التمييز بالغرض الذي هـو أمر متأخّر عن جوهـر المسألة : موضوعها ومحمولها.

وثانياً : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ ـ ظاهراً لا واقعاً ـ في العلوم التي تتّحد موضوعاً وتختلف في المسائل ، كعلمي الصرف والنحو ، حيث إنّ الصرف يبحث عن عوارض الكلمة والكلام من حيث الصحّة والاعتلال ، والنحو يبحث عن عوارضهما من حيث الإعراب والبناء ، فعند ذلك يتصوّر انّ المائز بين العلمين هو تعدّد الغرض وهو معرفة الصحيح والمعتل ، والمعرب والمبني ، ولكنّ هناك نكتة مغفول عنها وهي أنّ تغاير الغرضين رهن أمر جوهري أضفى للعلمين صبغة التعدّد ، وهو عبارة عن اختلاف مسائل العلمين جوهراً ، فالعلمان متميّزان في مرتبة متقدّمة على الغرض ، والدليل على أنّ الجهة الجامعة لمسائل علم الصرف غير الجهة الجامعة لمسائل علم النحو ، فكلّ يجمعها جهة جامعة متغايرة فالأولى اسناد الميز إلى تلك الجهة الجامعة لا إلى الغرض العائد منها.

وثالثاً : أنّ المراد من الغرض إمّا غرض تدويني أو غرض تعليمي ، وكلاهما متأخران عن العلم ، فلابدّ أن يكون للعلم ميز جوهري قبل هذين الغرضين.

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ٥.

٢٧

دليل القول الثاني

ذهب المشهور إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وهو صحيح في الجملة ، لأنّ موضوع كلّ علم داخل تحت نوع خاص ، كعلمي الحساب والهندسة ، فانّ الموضوع في الأوّل من مقولة الكم المنفصل ، ويبحث فيه عن أحوال الأعداد ، والموضوع في الثاني من مقولة الكم المتصل ، ويبحث فيه عن أحكام الخطوط والسطوح والأجسام التعليمية ، ومع هذا المائز الذاتي لا تصل النوبة إلى المائز بالعرض.

ولكن ليس جميع العلوم كذلك ، فانّ العلوم ربّما تتحد موضوعاً وتتعدد وصفاً وتأليفاً حسب الجهات الملحوظة ، فانّ البدن الإنساني موضوع لكلّ من علم الطب والتشريح ، ووظائف الأعضاء ، فبما أنّه يبحث عنه من جهة عروض الصحّة والسقم عليه يكون موضوعاً لعلم الطب ، وبما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على أعضائه وأجزائه ، فهو موضوع لعلم التشريح ، وبما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على وظيفة كلّ عضو ، فهو موضوع لعلم وظائف الأعضاء ، فالعلوم متعددة والموضوع واحد ، فالميز هنا بالمحمولات لا بالموضوعات.

فإن قلت : التمايز في هذا النوع من العلوم أيضاً بالموضوعات ، وذلك لأنّ تمايز العلوم بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ، فإذا انضمت الحيثية إلى موضوع العلم يتميز عن العلم الآخر لاختلاف حيثيته معه.

قلت : إنّ هذه الحيثيات ليست إلاّ أُموراً منتزعة من المحمولات المختلفة في هذه العلوم الثلاثة فما هو المحمول في علم الطب غير المحمول في علم التشريح ، والمحمول فيهما غير المحمول في علم وظائف الأعضاء ، وإذا لاحظها الخبير ، يرى بينها اختلافاً ذاتياً ، وينتزع من كلّ واحد حيثية خاصة يوصف بها الموضوع في كلّ علم ، ويتخيل انّ تمايز العلوم ، بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ، غافلاً

٢٨

عن أنّ هذه الحيثية منتزعة من محمولات العلوم ، متأخرة عنها. وعلى ذلك فنسبة الميز إلى المحمولات في أمثال هذه الموارد ، أولى من نسبته إلى الحيثيات.

دليل القول الثالث

إنّ لمسائل كلّ علم جهة وخصوصية لا توجد في مسائل سائر العلوم ، وتكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل وبسببها يحصل الميز بين مسائل هذا العلم ومسائل سائر العلوم ، مثلاً : الجهة الجامعة لمسائل علم النحو هي البحث عن كيفية آخر الكلمة من المرفوعية والمنصوبية والمجرورية ، فهي خصوصية ذاتية ثابتة في جميع مسائله ، وبهذه الجهة تمتاز هذه المسائل عن مسائل سائر العلوم.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح في العلوم التي تتحد موضوعاً وتختلف محمولاً ، كما في علمي النحو والصرف أو العلوم الثلاثة الطب والتشريح ووظائف الأعضاء ، فانّ المائز هو الجهة الجامعة بين مسائل العلمين أو مسائل العلوم الثلاثة ، وأمّا إذا كان العلمان مختلفين موضوعاً فالتميز بالموضوع مقدّم رتبة وزماناً على الميز بالجهة الجامعة ، فانّ أوّل ما يقع في الذهن في هذه الموارد هو الموضوع ثمّ المحمول ثمّ الجهة الجامعة بين مسائلها.

دليل القول الرابع

ذهب السيّد الأُستاذ قدس‌سره إلى أنّ تمايز العلوم بذواتها ، وقال : إنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو تسانخ القضايا المتشتتة التي يناسب بعضها بعضاً ، فهذه السنخية موجودة في جوهر تلك القضايا وحقيقتها ، ففي مثله تمايز العلوم واختلاف بعضها يكون بذاتها ، فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميزة بذاتها عن قضايا علم آخر.

وأمّا تداخل بعض مسائل العلوم في بعض فلا يضر بما ذكرناه ، لأنّ المركب

٢٩

بما هو مركب متميز بذاته عن غيره لاختلاف أكثر أجزائه مع أجزاء المركب الآخر ، وإن اتّحدا في بعض. (١)

يلاحظ عليه : أنّه ليس قولاً آخر غير القول بأنّ التمايز إمّا بالموضوع أو بالجهة الجامعة بين محمولات المسائل ، فانّ قولنا : « كلّ فاعل مرفوع » وإن كان غير مسانخ لقولنا : « زوايا كلّ مثلث تساوي زاويتين قائمتين » غير انّ عدم التسانخ إمّا لأجل الاختلاف في الموضوع ، أو المحمول ، أو النسبة بينهما ، وليس في المقام وراء هذه الصور الثلاث أمر آخر يكون هو موجباً لعدم التسانخ ، فلاحظ.

والحقّ في المقام هو أنّ الميز بالموضوع فيما إذا كان بين الموضوعين تباين نوعي كعلمي الهندسة والحساب ، وبالجهة المشتركة بين محمولات المسائل ، فيما إذا كان الموضوع واحداً كعلمي الصرف والنحو وعلوم الطب والتشريح ووظائف الأعضاء.

وأمّا التمايز بالأغراض فقد عرفت تأخّره عن الميز الجوهري الموجود بين المسائل ، إذ ترتّب غرض واحد على عدّة من المسائل دون الآخر كاشف عن تمايز جوهري بين العلمين فلا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض مع وجود التمايز الجوهري.

الجهة الخامسة : ما هو موضوع علم الأُصول؟

قد اختلفت أنظار علماء الأُصول في تعيين موضوع علم الأُصول ، وهناك عدّة أقوال :

١. إنّ موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة وهو خيرة القدماء.

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ٤.

٣٠

٢. إنّ موضوع علم الأُصول هي الجهة الجامعة بين موضوعات مسائل ذلك العلم ، وهو خيرة المحقّق الخراساني.

٣. إنّ الموضوع هو الحجّة في الفقه ، وهو خيرة المحقّق البروجردي.

٤. لا حاجة لوجود موضوع لعلم الأُصول ، وهو مختار سيّدنا الأُستاذ ، وهو الأقوى.

وإليك دراسة الأقوال واحداً تلو الآخر.

تحليل القول الأوّل ونقده

ذهب القدماء إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة ، وربّما يحذف الوصف ، ويقال : نفس الأدلّة.

وأورد عليه : بأنّه إذا كان الموضوع هي الأدلة الأربعة بقيد الدليلية تخرج أكثر المباحث الأُصولية عن كونها مسألة أُصولية وتُصبح من مبادئ ذلك العلم ، لوجود الفرق الواضح بين مبادئ العلم وعوارضه. فالأوّل يبحث في وجود موضوع العلم ، والثاني يبحث عن عوارضه بعد تسليم وجوده ، فإذا كان موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة يكون البحث عن حجّية الخبر الواحد وكونه دليلاً أو لا ، بحثاً عن وجود مصاديق هذه الأدلّة الأربعة ، والبحث عن مصاديق الموضوع بحث عن المبادئ لا عن العوارض.

وقد أجاب عنه الشيخ عند البحث عن حجّية الخبر الواحد ، بقوله : « إنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السنة ـ أعني : قول الحجّة أو فعله أو تقريره ـ هل يثبت بخبر الواحد ، أو لا يثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر والقرينة؟ ومن هنا يتّضح

٣١

دخولها في مسائل أُصول الفقه الباحث عن أحوال الأدلّة ». (١)

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ المراد من السنة إمّا المحكي ـ أعني : قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره ـ أو ما يعمّ الحاكي ، أعني : خبر الواحد الحاكي عنها.

فعلى الأوّل ، فالمراد من الثبوت ، إمّا الثبوت الواقعي أي وجود السنّة الذي هو مفاد كان التامة ، فهو بحث عن وجود الموضوع لا عن عوارضه.

أو الثبوت التعبّدي ، أي وجوب العمل على طبق الخبر ، فهو وإن كان بحثاً عن العوارض لكنّه بحث عن عوارض الحاكي لا المحكي ، ومرجع البحث إلى أنّ الحاكي هل له هذا الشأن أو لا؟

وعلى الثاني ، أي كون المراد من السنّة ما يعمّ حاكيها ، فالإشكال وإن كان مرتفعاً ، وذلك لأنّ البحث في تلك المباحث يكون عن أحوال السنّة بهذا المعنى ، إلاّ أنّ البحث في غير واحد من مسائل هذا العلم لا يخصّ الأدلّة ، بل يعمّ غيرها كالبحث عن مفاد الأمر والنهي وأنّهما ظاهران في المعنى الكذائي أو لا. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّا نختار الشق الثاني ، ولكن البحث عن ظهور الأمر في الوجوب والفور وإن كان لا يختصّ بالسنّة ، بل يعمّ مطلق الأمر في اللغة العربية لكن إذا ثبت ظهوره في الوجوب لمطلق الأمر ، يثبت ظهوره في الأمر الوارد في السنّة ، وذلك لأنّ الأمر الوارد في السنّة مصداق جزئي من مصاديق مطلق الأمر ، والعارض بواسطة أمر أعم يعدّ عرضاً ذاتياً بالنسبة إلى الأخص إذا لم تكن الواسطة ، واسطة في العروض كما في المقام.

__________________

١ ـ الفرائد : ٣٧ ، طبعة رحمة اللّه.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ٦ ـ ٩.

٣٢

تحليل القول الثاني ونقده

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة من دون أن نعلم ذاك الموضوع بخصوصه.

يلاحظ عليه : أنّه نوع فرار عن بيان الحقيقة ، لأنّ المشاكل التي تكتنفها ، صدّته عن بيان ما هو الموضوع لذلك العلم.

تحليل القول الثالث ونقده

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه ، ومسائله عبارة عن التعيّنات العارضة لها والمحدّدة إيّاها.

توضيح ذلك : انّ العرض على قسمين : خارجي وتحليلي.

فالبحث عن عوارض الجسم من حيث الحركة والسكون والألوان والطعوم بحث عن عوارض خارجية محسوسة.

ولكن البحث عن تعيّن الوجود المطلق بإحدى التعيّنات التالية ككونه عقلاً ونفساً وصورة وهيولى وجسم بحث عن العوارض التحليلية.

فالموضوع في العلم الإلهي عبارة عن الوجود المطلق بما هو هو وعوارضه عبارة عن حدوده وتعيّناته. فالحكيم الإلهي يبحث عن تعيّنات الوجود بكونه واجباً أو ممكناً ، والممكن جوهراً أوعرضاً ، والجوهر عقلاً ونفساً وجسماً وهكذا ، فروح البحث في جميع الأقسام ليس ثبوت الوجود وتحقّقه ، لأنّ الواقعية أمر مسلّم عند الحكيم وإنّما الهدف بيان أقسامه وأنواعه وحدوده وتعيّناته.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفقيه يعلم أنّ بينه وبين ربّه حججاً قاطعة للعذر ولكن لا يعرف خصوصياتها وحدودها مع العلم بأصل الموضوع ، فيطرح

٣٣

الحجّة المقطوعة على بساط البحث ، ويبحث عن تعيّناتها وحدودها وأشكالها وألوانها ، بأنّها هل هي خبر الواحد أو الشهرة الفتوائية أو الإجماع المنقول وهكذا؟ فالبحث عندئذ يكون بحثاً عن عوارض الموضوع بعد التسليم بأصل وجوده.

فتلخّص من ذلك أنّ الموضوع هو الحجّة في الفقه ، والعوارض العارضة عليها هي العوارض التحليلية كما لا يخفى.

وقد استشكل السيّد الأُستاذ قدس‌سره على هذا التقرير في درس المحقّق البروجردي قدس‌سره وقال : لو كان الموضوع هو الحجّة في الفقه ، فالواجب أن يقال : الحجّة خبر الواحد مع أنّ المتعارف هو العكس.

فأجاب المحقّق البروجردي : بأنّ هذا نظير مسائل الفن الأعلى ، فإنّ الموضوع فيه بالاتفاق هو الموجود من حيث هو موجود ، مع أنّه يقع محمولاً لا موضوعاً ، فلا يقال : الموجود عقل ، بل يقال العقل موجود ، وهكذا ، ووجه ذلك ما أشار إليه الحكيم السبزواري في أوّل الطبيعيات حيث قال :

إن قلت : كيف يكون الجسم هناك عرضاً ذاتياً للموضوع ، والمسألة الجسم موجود؟

قلت : بل المسألة « الموجود جسم » ولا سيما على أصالة الوجود واعتبارية الماهية. (١)

وقد أورد عليه شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة بأنّ لازم هذا خروج أكثر المسائل عن كونها مسألة أُصولية ، كالبحث عن ظهورات الأمر والنهي في الوجوب والتحريم ، والفور والتراخي ، والوحدة والكثرة ، ممّا يتطلب فيه إثبات أصل الظهور لا بحثاً عن تعيّنات الحجّة وتطوراتها ، ولكنّه عدل عن

__________________

١ ـ السبزواري : شرح المنظومة : ٢٠١.

٣٤

الإشكال في هذه الدورة قائلاً بأنّ عنوان المسألة شيء وروحها شيء آخر ، فليس الأُصولي عالماً لغوياً يتطلب إثبات أصل الظهور ، وإنّما هو يتطلّب إثبات أصل الظهور حتى يكون ذريعة لإقامة الحجّة على واحد من الطرفين. ولأجل ذلك يكون مرجع البحث في هذه المسائل إلى طلب الحجّة على الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الفورية وعدمها وهكذا.

ما هو المختار؟

فالأولى أن يقال : انّ كلّ قاعدة تكون ممهدة لتشخيص الأحكام والوظائف الكلية للمكلفين ، فهي مسألة أُصولية ، سواء أكان لهذه القواعد موضوع واحد أم لا ، وسواء أكان البحث عن عوارض الأدلّة الأربعة أو تعيّنات الحجّة أم لا ، بل يكفي كون القاعدة ممهدة لتشخيص الوظائف الكلية.

الجهة السادسة : ما هو تعريف علم الأُصول؟

عرّف علم الأُصول قديماً وحديثاً بتعاريف لا يخلو أكثرها من مناقشة :

١.تعريف القدماء : هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.

يلاحظ عليه : أنّ المستنبَط ربّما لا يكون حكماً شرعياً بل وظيفة عملية وعذراً عقلياً بين العبد والمولى كالأُصول العقلية ، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بمعنى معذورية العبد في مخالفة الواقع ، وأمّا ما هو الحكم الشرعي الفرعي فلا يستنبط من حكم العقل.

فإن قلت : على القول بالملازمة بين حكم العقل والشرع يكون المستنبَط حكماً شرعياً.

٣٥

قلت : إنّ غاية ما يَثبت بالملازمة هو إمضاء الشارع معذورية العبد في هذه الحالة وهي ليست حكماً شرعياً فرعياً ، ولأجل هذا الإشكال عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بوجه آخر.

٢. تعريف المحقّق الخراساني : صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي تنتهي إليها في مقام العمل.

ويردّ عليه أوّلاً : أنّ لازم ما اختاره في تمايز العلوم أن يعد علم الأُصول علمين لغرضين مختلفين ، وتصوّر وجود الجامع بين الغرضين لا يدفع الإشكال ، وإلاّ تلزم وحدة علم الصرف والنحو لوحدة الغرض وهو صيانة اللسان عن الخطأ.

وثانياً : أنّ الظاهر انّ علم الأُصول هو نفس القواعد ، وأمّا الصناعة فإنّما هي من المبادئ لا نفس العلم.

٣. تعريف المحقّق النائيني : هو العلم بالكبريات التي لو انضمَّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي. (١)

ويرد عليه : ما أوردناه على تعريف القدماء أنّه ربّما لا يكون المستنتج حكماً فرعياً كليّاً ، بل تكون وظيفة عملية.

٤. تعريف السيّد الأُستاذ : القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى لاستنباط الأحكام الفرعية الإلهية ، أو الوظيفة العملية.

وهذا التعريف يحتوي على نقطتين هامتين :

النقطة الأُولى : توصيف القواعد بالآلية ، كالمنطق الذي هو قواعد آلية للتفكير الصحيح. فخرجت القواعد الفقهية حيث إنّها مطلوبة بنفسها وليست مطلوبة لغيرها.

__________________

١ ـ فوائد الأُصول : ١ / ١٩.

٣٦

وبعبارة أُخرى : انّ القواعد الأُصولية ما ينظر بها إلى الفقه ، وأمّا القواعد الفقهية فهي ما ينظر فيها ، وكم فرق بين النظر إلى الشيء بعنوان الآلية والوسيلة والنظر فيه بعنوان بما هو هو.

وثمة حديث منقول عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام حيث قال في بيان نظر الإسلام إلى الدنيا : « من أبصر بها بصّـرته ، ومن أبصر إليها أعمته ». (١)

فلو طلب الدنيا لغاية نيل رضا اللّه سبحانه فهو طلب مرغوب ، وأمّا لو طلبها لنفسها دون أن تكون ذريعة إلى كسب الآخرة فهو طلب مرغوب عنه ، فالمطلوب من القواعد الأُصولية وقوعها في طريق الاستنباط لا أنّها مطلوبة في حدّ ذاتها ، وهذا ما يدفعنا إلى القول بتهذيب علم الأُصول والأخذ بما هو مقدمة للاستنباط ورفض ما ليس كذلك.

النقطة الثانية : وصفها بإمكان الوقوع لا حتميته ، وذلك ليدخل في التعريف الظنون غير المعتبرة كالقياس والاستحسان والظن الانسدادي عامّة ، فالجميع يمكن أن تقع في طريقه ، وإن لم يقع ، للنهي عن بعضها.

وهناك تعريف خامس ذكره ـ شخينا الأُستاذ ـ مدّ ظله في الدورة السابقة. فمن أراد فليرجع إلى المحصول.

الجهة السابعة : الفرق بين المسائل الأُصولية والقواعد الفقهية

وقد ذكرتْ بين المسائل الأُصولية والقواعد الفقهية فروق عديدة نقتصر على أهمها :

الفرق الأوّل : انّ المسائل الأُصولية لا تتضمن حكماً شرعيّاً ، خلافاً للقواعد

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٨٢.

٣٧

الفقهية التي تتضمن حكماً شرعيّاً ، وتوضيح ذلك :

إنّ المسائل الأُصولية تدور حول محاور أربعة :

١. تعيين الظهورات ومداليل الألفاظ التي يعبّر عنها بمباحث الألفاظ ، كالبحث عن ظهور الأمر في الوجوب والنهي في الحرمة.

٢. المباحث العقلية أو ما يعبّر عنها بالملازمات العقلية ، كالبحث عن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، أو وجوب الشيء وحرمة ضده.

٣. مباحث الحجج والأمارات ، كالبحث عن حجّية خبر الواحد.

٤. الأُصول العملية التي يراد بها تعيين وظيفة الشاك.

وأنت إذا لاحظت هذه المحاور تقف على أنّ المحمول في جميعها ليس حكماً شرعياً فرعياً ، بل هو إمّا حكم عقلي أمضاه الشارع كباب الملازمات ، أو حكم وضعي كالحجّية ، فهي وإن كانت حكماً شرعياً لكن ليس فرعياً ، وهكذا الحال في تعيين الظهورات والوظائف العملية فالجميع بين حكم عقلي أو شرعي غير فرعي.

وهذا بخلاف القواعد الفقهية فانّها تتضمن حكماً شرعيّاً فرعياً كقوله : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس » ، وقوله : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » ، وقوله : « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ». فانّ القاعدة وإن لم ترد بلفظها في الشرع ولكنّها قاعدة مقتبسة من الأحكام الشرعية الفرعية في موردها. فللفقيه أن يقتبس من هذه الموارد قاعدة كليّة باسم « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ».

هذا هو الفرق الأوّل بين المسائل الأُصولية والقواعد الفقهية.

الفرق الثاني : انّ المسائل الأُصولية تجري في كلّ باب من أبواب الفقه ، بخلاف القواعد الفقهية فانّ الغالب فيها هو اختصاصها بباب دون باب

٣٨

كالأمثلة المذكورة. نعم ربّما يجري بعضها في جميع الأبواب كقاعدة لا ضرر ولا حرج.

الفرق الثالث : انّ نتائج المسائل الأُصولية أحكام ووظائف كلّية ، بخلاف القواعد الفقهية فانّه ربّما تكون نتيجتها حكماً جزئياً كجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية كاستصحاب طهارة الثوب المعيّن ، ونظيره أصالة البراءة والاحتياط في الموضوعات ، فانّ المترتب عليهما هو الوظيفة الشخصية لمن تم عنده أركان البراءة والاحتياط.

ومن هنا يعلم أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسألة أُصولية بخلافه في الشبهات الموضوعية فانّه قاعدة فقهية ، ولا بأس أن يختلف حال المسألة باختلاف موارد تطبيقها ، ونظيره البراءة والاحتياط فانّها في الشبهات الحكمية مسألة أُصولية وفي الشبهات الموضوعية قواعد فقهية.

إلى هنا تمّ ما هو المهم عندنا في بيان الفرق بين المسائل الأُصولية والقواعد الفقهية ، غير أنّ للشيخ الأنصاري بياناً آخر في المقام وهو :

انّ إجراء المسألة الأُصولية في موردها يختص بالمجتهد بخلاف الفقهية فانّ إجراءها في مواردها جائز للمقلّد أيضاً.

والظاهر عدم تماميّة هذا الفرق فانّ كثيراً من القواعد الفقهية كالمسائل الأُصولية يختص العمل بها بالمجتهد إذ هو القادر على تشخيص « ما يضمن عمّا لا يضمن » ، وتمييز الأصل الحاكم عن الأصل المحكوم في الشبهات الموضوعية ، والشرط المخالف للكتاب والسنّة عن موافقهما.

إلى هنا تمّ الفرق بين المسائل الأُصولية والقواعد الفقهية ، بقي الكلام في تمييز المسألة الفقهية من القواعد الفقهية والمسائل الأُصولية ، فنقول :

٣٩

المسألة الفقهية : ما يبحث فيها عن أحكام الموضوعات الخاصّة ، تكليفية كانت ـ كالبحث عن وجوب الصلاة والصوم ـ أم وضعية كالبحث عن طهارة الماء ونجاسة الدم ، بل يمكن أن يقال انّ المسائل الفقهية لا تختص بالبحث عن أحكام الموضوعات بل تشمل أيضاً البحث عن ماهية الموضوعات التي تتعلّق بها الأحكام ، كالبحث عن ماهية الصلاة والصوم وأجزائها وموانعها وشرائطها إذ لا وجه لكون البحث عنها استطرادياً.

ومن هنا يعلم الفرق بينها وبين المسائل الأُصولية والقواعد الفقهية فلا نطيل.

إلى هنا تمّ ما أفاده المحقّق الخراساني في الأمر الأوّل ، وإليك الكلام في الأمر الثاني :

٤٠