إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

الوجه الأوّل : الحمل مقتضى الإطلاق

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الحمل مقتضى إطلاق الصيغة قال : مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً ، تعيينيّاً ، عينياً ، لأنّ الوجوب في مقابلاتها مقيّد بقيد ، ومضيقة دائرته به ، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه ، فالحكمة تقتضي كون الوجوب مطلقاً ، وجب هناك شيء آخر أو لا ، أتى بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا. (١)

وحاصله : انّ الوجوب في الثلاثة الأول ، مطلق ، وفي مقابلاتها مقيّد ، فإذا لم يأت بالقيد مع كونه في مقام البيان ، يؤخذ بإطلاقه ويحمل على كونه نفسياً تعيينياً ، عينيّاً.

وأورد عليه السيّد الأُستاذ : بأنّ كلاً من القسمين ، من أقسام الوجوب ، يمتاز عن المقسم بقيد ، ولا معنى لأن يكون أحد القسمين مقيّداً دون الآخر ، وإلاّ يلزم أن يكون القسم عين المقسم ، وإليك بيان قيد كلّ واحد من القسمين :

الواجب النفسي ما وجب لنفسه.

والغيري ما وجب لغيره.

الواجب التعييني ما وجب وإن أتى بشيء آخر.

والتخييري ما وجب إذا لم يأت بشيء آخر.

الواجب العيني ، ما وجب وإن أتى به شخص آخر.

والكفائي ما وجب إذا لم يأت به شخص آخر.

وعلى ضوء ذلك يكون كلّ واحد منهما في مقام التحديد مشتملاً على قيد زائد على نفس البعث ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود ، وعليه تصير النفسية

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١١٦.

٣٤١

مبائنة للغيرية ، لا تتعين إلاّ بدال آخر ، فلو كان هناك قرينة على أحد الطرفين فهو ، وإلاّ يصير الكلام من هذه الجهة مجملاً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح إذا لوحظ كلّ من القسمين برؤية عقلية ، فلكلّ ، قيد يمتاز به عن المقسم والقسم الآخر ، وأمّا إذا لوحظ برؤية عرفية فالعرف يرى الوجوب النفسي ، نفس الوجوب بلا قيد ، وهكذا الآخران ، من دون أن يزيد على الوجوب بشيء ، وذلك لأنّ القيد في الواجب النفسي ، أعني قوله : « ما وجب لذاته أو لنفسه » ليس شيئاً زائداً على أصل الأمر ، بل هو تأكيد له ، فلا يتلقّاه العرف أمراً زائداً على أصل الوجوب وإن كان في نظر العقل قيداً زائداً.

وبه يتبين حال الأمرين الآخرين ، فانّ تفسير التعييني « بما وجب وإن أتى بشيء آخر » ، وتفسير العيني « بما وجب وإن أتى به آخر » ، ليس قيداً زائداً على الوجوب ، بل هو تفسير لإطلاق الوجوب وسعته وانّه غير محدد ولا مقيّد ، وواجب في كلتا الحالتين ، وعليه يكفي في بيانه السكوت بخلاف القيد في الأقسام الثلاثة ، فانّه تحديد للوجوب وتضييق له فلا يكفي في بيانه السكوت ، بل لابدّ من التكلّم به ، فإذا سكت يحمل على الفرد الذي يكون إطلاق الوجوب كافياً في بيانه وإفادته.

وبعبارة أُخرى : انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم ، ويكون وافياً بإفادة المقصود ، فلو أُريد النفسي ونظيره ، فالوجوب المطلق من غير قيد باللفظ واف بإفادة المراد ، وإن أُريد المقيّد ، فالتعبير غير واف ، وقد عرفت انّ النفسي والتعييني والعيني ، نفس الوجوب المطلق في منظر العرف لا تزيد عليه بشيء في ذهنه. وكأن العرف يتلقى السكوت وافياً ببيان الثلاثة الأول ، دون الثلاثة الأُخر.

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ١٦٧.

٣٤٢

الوجه الثاني : الحمل مقتضى حكم العقل في مجال العبودية

قد عرفت أنّ أمر المولى ، تمام الموضوع لوجوب الطاعة والعلم بالخروج عن العهدة ، ولا يصحّ له ترك المأمور به باحتمال كونه مندوباً ، فلا يترك أمر المولى بلا جواب ، والجواب إمّا العلم بكونه مندوباً وإمّا الإتيان بالمأمور.

وعلى ضوء ذلك يجب أن يحمل على كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً ، إذ على هذا الفرض يقوم بامتثال الأمر في جميع الأحوال ولا يترك أمر المولى بلا جواب بخلاف ما إذا حمل على مقابلاتها فحينئذ يصحّ له ترك المأمور به باحتمال انّه واجب مقدّمي بشيء لم يجب بعد ، أو واجب تخييري أتى بعدله ، أو كفائي أتى آخر به ، ومن المعلوم أنّ ترك المأمور به بهذه الاحتمالات ترك بلا عذر قاطع وجواب حاسم.

الوجه الثالث : المختص بمورد التعييني والعيني

إنّ الوجوب في الواجب التخييري متعلّق بعنوان انتزاعي وهو أحد الفعلين أو الأفعال كما أنّه في الواجب الكفائي متعلّق بأحد المكلّفين ، فلو أتى المكلّف بأحد الأعدال أو قام به أحد المكلّفين فقد امتثل الحكم ، لكون المأتي به موافقاً للمأمور به ، وعلى هذا فمقتضى الإطلاق كون الواجب تعيينياً عينياً ، وذلك لأجل أنّ الفرق بين الواجب التعييني والتخييري هو أنّ الواجب في الأوّل هو الجامع الحقيقي والعنوان المتأصّل المنطبق على مصاديقه انطباقاً ذاتياً ويكون لنفس العنوان مدخلية في الحكم ، مثل قوله : « صلّ » ويكون المكلّف مخيّراً بين مصاديقه الذاتية في مقام الامتثال ، وأمّا الواجب في الثاني ، فالواجب فيه هو العنوان الانتزاعي والجامع غير المتأصّل ، والمكلّف مخيّر بين مصاديقه كعنوان أحد

٣٤٣

الفعلين أو أحد الأفعال ، ولا مدخلية للعنوان في ثبوت الحكم ، إلاّ أنّه اتخذ وسيلة لبيان ما هو الواجب ، وتعلّق الإرادة والعلم بهذه العناوين ، بمكان من الإمكان فضلاً عن تعلّق الحكم الذي ليس إلاّ أمراً اعتبارياً.

فإذا قال المولى : « أطعم » فظاهر البيان مدخلية ذاك العنوان ، بما هو هو ، في الحكم ، لا بما أنّه أحد أفراد العنوان الانتزاعي ، ولو كان المتكلّم في مقام البيان ، وكان الواجب تعيينياً لكفى البيان المزبور ، بخلاف ما إذا كان تخييرياً ، فانّه يكون البيان ناقصاً غير واف.

وبذلك يعلم حال التردد بين العيني والكفائي ، فانّ مردّ التردد إلى أنّ التكليف توجّه إلى نفسه أو إلى عنوان أحد المكلّفين ، فانّ ظاهر الخطاب أنّه متوجّه إلى شخصه أو إلى عنوان ذاتي كالمستطيع الذي هو من مصاديقه ، وهذا بخلاف ما إذا كان واجباً كفائياً فالخطاب فيه ليس متوجّهاً إلى شخص المكلّف ولا إلى عنوان ذاتي ، بل إلى عنوان انتزاعي كأحد المكلّفين.

يلاحظ عليه : انّ ما ذكره مبني على تفسير الفرق بين التعييني والتخييري أو العيني والكفائي بما ذكر ، وسيوافيك عدم صحّته وانّ التعلق في الجميع بنحو واحد. وإنّما الاختلاف في سنخ الوجوب ، لا في متعلقه على النحو الذي مرّ.

هذا كلّه حول الأصل اللفظي ، وأمّا مقتضى الأصل العملي فقد فرّقه الأُصوليون المتأخرون فبحثوا عن مقتضى الأصل فيما إذا دار بين النفسي والغيري في مبحث وجوب المقدمة ، وعن الأمرين الأخيرين في مبحث البراءة والاشتغال.

٣٤٤

المبحث السادس

الأمر عقيب الحظر أو توهمه

لو قلنا بإفادة صيغة الأمر الوجوب وضعاً أو إطلاقاً أو لأجل حكم العقل ، فهل الأمر كذلك إذا وقع عقيب الحظر أو توهمه؟ وإليك بعض الأمثلة :

١. قال سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحيض قُلْ هُوَ أَذىً فاعْتَزِلُوا النّساء فِي الْمَحيضِ وَلا تَقْربُوهُنّ ) وقال بعد النهي ( فإِذا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه ) (١) فالحظر والنهي في آية واحدة.

٢. قال سبحانه : ( أُحِلّت لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعام إِلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْر مُحِلِّي الصيدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُريد ) (٢) أي غير مستحلّين اصطيادها في حال إحرامها.

وجاءت الآية الثانية بالأمر بالاصطياد بعد الاحلال ، وقال : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ). (٣)

فما هو مفاد الأمر بعد النهي أو توهمه؟ وهناك أقوال :

أ. فمن قائل بظهورها في الاباحة.

ب. إلى آخر قائل بظهورها في الوجوب.

ج. إلى ثالث بتبعية حكم الموضوع لما قبل النهي إذا علّق الأمر بزوال علّة

__________________

١ ـ البقرة : ٢٢٢.

٢ ـ المائدة : ١.

٣ ـ المائدة : ٢.

٣٤٥

النهي ، كما قال : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا ).

د. إلى رابع بإجمال الكلام لاكتنافه بما يصلح للقرينية ، فالمرجع بعد الإجمال هو الأُصول العملية كما هو مختار المحقّق الخراساني وهو الأقوى.

وجه ذلك : هو ما عرفت من أنّ دلالة الأمر على الوجوب تدور على أحد محاور ثلاثة :

١. دلالة الصيغة على الوجوب بالدلالة اللفظية.

٢. دلالتها على الوجوب من باب الإطلاق ، وهو أنّ البعث المطلق يساوق الوجوب ، بخلاف الندب ، فانّه يحتاج في إفادته ـ وراء البعث ـ إلى قيد زائد ، وقد مرّ نظير ذلك في دوران الأمر بين النفسية والغيريّة فلو أراد الوجوب ، يكون اللفظ وافياً ببيانه ، بخلاف الندب.

٣. دلالتها على الوجوب ، من باب حكم العقل والعقلاء ، بأنّ أمر المولى لا يُترك بلا جواب ، وليس للعبد ترك المأمور به باحتمال كون الطلب مندوباً.

وعلى أيّ وجه من هذه الوجوه الثلاثة ، اعتمد في استفادة الوجوب ، فهو غير جار في المقام.

أمّا على الوجه الأوّل ، فانّ استعماله في الوجوب حقيقة وفي غيره مجاز ، فإذا دار مفاد الصيغة في قوله ( فأْتوهنّ من حيث أمركم ) بين الحقيقة والمجاز فلا يمكن التمسّك بأصالة الحقيقة لأنّها إنّما تجري إذا لم يكتنف الكلام بمحتمل القرينية كما في المقام حيث إنّ تقدّم النهي ربّما يصلح أن يكون قرينة على أنّ الأمر لبيان الترخيص ورفع الحظر ، لا لزوم الامتثال.

ومنه يظهر حال الوجه الثاني ، فانّ الأخذ بالإطلاق رهن تمامية مقدّمات الحكمة أعني كون المتكلّم في مقام البيان ، وعدم القدر المتيقن في مقام التخاطب ،

٣٤٦

وفقد ما يصلح للقرينية ، فثبوت الإطلاق ، المساوق للوجوب ، فرع عدم وجود ما يصلح للقرينية ، لكن النهي المتقدّم يصلح لها وانّ المراد من الأمر ، هو نقض النهي والحظر لا البعث الجدّي إلى المتعلّق.

أمّا على المذهب المختار فهو أيضاً كذلك ، لأنّ الموضوع لوجوب الطاعة ، هو الأمر ، غير المكتنف بما يصلح لأن يصرفه إلى أنّ المقصود رفع الحظر المحقق ، أو المتوهم وليس هذا الاحتمال ، نظير احتمال إرادة الندب من الأمر المطلق ، غير المكتنف بما يصلح للقرينية ، إذ لا إجمال فيه ، ولا يكون الاحتمال المجرّد عذراً في ترك المأمور به ، بخلاف المقام.

ومن ذلك يعلم ، أنّ أقوى الأقوال هو القول بالإجمال والرجوع إلى الأُصول العملية إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي فوقهما وإلاّ فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي وهذا كما في مورد المرأة الحائض.

فقد ورد مفاد النهي في قوله سبحانه ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحيض ).

وورد الأمر بعده عند زوال ملاك النهي وقال : ( فإذا تَطَهّرْنَ فأتُوهُنَّ مِن حَيثُ أمرَكُمُ اللّه ) ولاحتفاف الأمر بما يصلح للقرينة ، يصبح الأمر مجملاً غير دال إلاّ على حكم شرعي مردد بين الأحكام الأربعة.

ولكن لما كان في المقام تشريع فوقاني دال بإطلاقه الأحوالي على حكم الزمان الذي ورد فيه الأمر ، يكون هو المرجع ، أعني قوله سبحانه : ( نساؤكُمْ حَرثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حرثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) (١) فهو بإطلاقه يعم حال المحيض والطهارة ، خرج عنه الأوّل ، وبقي الباقي تحته ، ويكون الحكم الشرعي هو الإباحة الشرعية.

__________________

١ ـ البقرة : ٢٢٣.

٣٤٧

المبحث السابع

دلالة الأمر على المرّة والتكرار

ولنقدّم أمام البحث أُموراً :

الأوّل : فيما إذا كانت هناك قرينة على أحد الأمرين

إنّ البحث في دلالة الأمر على المرّة والتكرار مركّز فيما إذا لم يدل دليل خارجي على أحد الأمرين كالتكرار في قوله سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمس ) (١) أو المرّة في الأمر الوارد في الحج في الروايات الذي يعبر عنه قوله سبحانه : ( للّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْت ). (٢)

الثاني : في تحرير محلّ النزاع

هل النزاع في دلالة المادة ، أو الهيئة أو مجموعهما على أحد الأمرين؟ وجوه ، ذهب صاحب الفصول إلى أنّ محلّ النزاع في دلالة الهيئة لا في المادة ، لإجماع أهل الأدب على أنّ المصدر المجرّد من اللام والتنوين لا يدلّ إلاّ على صرف الطبيعة.

وأورد عليه المحقّق الخراساني : بأنّه إنّما يتم إذا كان المصدر هو مبدأ المشتقات ، وليس كذلك ، بل هو أحد المشتقات ، فعدم دلالته لا يدل على عدم

__________________

١ ـ الإسراء : ٧٨.

٢ ـ آل عمران : ٩٧.

٣٤٨

دلالة مبدأ المشتقات عليهما.

يلاحظ عليه : أنّ عدم دلالة المصدر ، يكشف عن عدم دلالة مادة المشتقات على أحدهما ، لاشتراك المصدر مع سائر المشتقات في مادتها ، فإذا كان المصدر مادة وهيئة غير دالّ إلاّ على نفس الطبيعة فينتج أنّ مادة المشتقات مطلقاً ـ في أي واحد منها ـ لا تدل على أحدهما لوجود مادتها في المصدر بلا تغيير.

الثالث : الفرق بين الدفعة والمرة و ...

الفرق بين الدفعة والدفعات والمرّة والتكرار ، هو أنّ الملاك في الدفعة والدفعات ، هو وحدة الحركة وتعددها ، ولكن الملاك في الثاني ، هو وحدة المصداق للطبيعة وكثرته.

وعلى ضوء ذلك ربّما يجتمع الدفعة مع التكرار كما إذا أتى العبد بإناءين مملوءين من الماء فقد امتثل دفعة ، ولكن بفردين مكررين ، وعلى كلّ تقدير فكلّ من المعنيين قابل لأن يقع محلّ النزاع.

وتظهر الثمرة فيما لو قلنا بدلالته على المرّة بمعنى الدفعة ، إذ يكون الإتيان بفردين دفعة ، مجزياً وواقعاً ، تحت الأمر بخلاف ما لو فُسرت بالفرد ، فيضرّ تعدد الفرد وإن كانت الحركة واحدة.

ثمّ إنّ صاحب الفصول أصرّ على أنّ المراد من المرّة والتكرار هو الدفعة والدفعات لا الفرد والأفراد ، قائلاً بأنّه لو كان المراد ، هو الفرد والأفراد ، لكان الأنسب جعله ذيلاً للبحث الآتي في تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد ، فلو قلنا بالثاني ، يلزم أن يبحث بأنّ المدلول هل هو الفرد الواحد أو الأكثر أو لا واحد منهما؟

وأمّا لو أُريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين.

٣٤٩

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا علقة بين المسألتين سواء أُريد من المرّة والتكرار ، الدفعة والدفعات ، أو أُريد منهما ، الفرد والافراد.

وذلك لأنّه إنّما يصحّ جعل هذه المسألة ذيلاً لمسألة تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد ، إذا أُريد من الطبيعة في عنوان المسألة الثانية : تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد ، الطبيعة بما هي هي ، فبما انّه لا يتصوّر في الطبيعة بهذا المعنى ، الفرد والأفراد ، فتصبح دلالة الأمر على الفرد والأفراد ، ذيلاً للشق الثاني من تلك المسألة ويقال : فعلى القول بتعلّقها بالفرد ، فهل يتعلّق بفرد واحد ، أو أفراد؟

ولكن تفسير الطبيعة بالمعنى المذكور في عنوان المسألة الثانية ، خاطئ جداً ، لأنّها بما هي هي ليست محبوبة ولا مبغوضة ، فكيف يتعلّق بها الأمر؟ بل المراد منها في عنوان المسألة الوجود السعي بلا لحاظ المشخصات ، وعندئذ وقع النزاع في أنّ متعلّق الأمر ، هل وجود الطبيعة بوجودها السعي من دون أن يكون للمشخصات دور في المطلوب أو انّ متعلقها وجود الطبيعة مع مشخّصاتها الفرديّة ، مثلاً إذا قال : اسقني بالماء فجاء بالماء في إناء بلّور ، فهل المتعلق إحضار الماء بوجوده السعي ، سواء أكان في إناء بلور أو نحاس أو غيره من دون نظر إلى تلك الخصوصيات ، أو أنّ المتعلّق هو تلك المشخصات مضافاً إلى وجود الطبيعة.

فإذا كان هذا معنى النزاع في تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد ، يصحّ النزاع في أنّ الأمر يدل على المرّة والتكرار بمعنى الفرد والافراد على كلا القولين ، وأمّا على القول الأوّل أي تعلقه بالطبيعة بمعنى الوجود السعي ، فيقع النزاع في دلالة الأمر على الوجود الواحد لها أو الوجودات الكثيرة ، وأمّا على القول الثاني فواضح لا يحتاج إلى بيان.

فاتضح أنّ البحث عن المرّة والتكرار سواء فسّرنا بالدفعة أو الدفعات أو

٣٥٠

بالفرد والافراد ، مسألة مستقلة فيصحّ النزاع في دلالة الأمر على المرّة والتكرار بكلا المعنيين ، فليست المسألة ، ذيلاً للقول الثاني في مسألة متعلق الأمر ، فلاحظ.

* * *

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الحقّ عدم دلالة الصيغة على واحد من الأمرين ، لأنّ الدالّ إمّا الهيئة فهي موضوعة للبعث والاغراء ، أو المادة وهي موضوعة للطبيعة بما هي هي من دون تقيّد بالوحدة أو الكرة ، فأين الدال؟!

وأمّا الاكتفاء بالمرة فلأجل حصول الامتثال بها عقلاً ، لا من باب دلالة الصيغة عليها لفظاً.

نعم يمكن القول بأنّ المرّة مقتضى الإطلاق بالبيان الذي مرّ في كون الوجوب أو النفسية مقتضى إطلاق الأمر ، فلاحظ.

بقي هنا شيء وهو انّه ـ على المختار ـ من عدم الدلالة على واحد من المرّة والتكرار ، لو امتثل المكلّف بالاتيان بعدة افراد من الطبيعة دفعة واحدة ، كما إذا قال المولى : أكرم عالماً فأكرم عدّة منهم دفعة ، فهل هو يعد امتثالاً واحداً أو متعدّداًً؟

ذهب سيد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى القول الثاني قائلاً بأنّ الطبيعة تتكثر بتكثر أفرادها ، وكلّ فرد من الأفراد محقّق للطبيعة ، ولما كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة والتكرار فحينئذ إذا أتى المكلف بأفراد متعددة فقد أوجد المطلوب ـ أي الطبيعة ـ بايجاد كلّ فرد ، ويكون كلّ فرد امتثالاً برأسه ـ كما أنّه موجود برأسه.

ومن هذا القبيل الواجب الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة ويكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها فلو أتى واحد منهم بها سقطت عن

٣٥١

الباقي ولا مجال للامتثال ثانياً ، ولو أتى عدّة منهم بها دفعة يكون كلّ واحد منهم ممتثلاً وتتحقق امتثالات لا امتثال واحد من الجميع. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ فيه خلطاً بين تعدد الطبيعة وتعدد الامتثال ، أمّا الأوّل فلا شكّ فيه ، لأنّ كلّ واحد من المصاديق والافراد ، محقق للطبيعة فزيد إنسان تام ، وعمرو إنسان تام آخر كما أفاده الشيخ الرئيس في تحقيق أنّ وجود الطبيعة في الخارج بمعنى وجود أفرادها.

وأمّا الثاني : انّ تعدد الامتثال فهو رهن تعدد الطلب والبعث ، حتّى يعدّ امتثال كلّ بعث امتثالاً مستقلاً ، لكن المفروض عدمه حيث إنّ هنا بعثاً واحداً متعلقاً بالطبيعة غير المقيّد بالمرة والتكرار ، ومعه كيف يتعدد الامتثال؟ وليس الأمر بإكرام العالم ، كالأمر بإكرام العلماء ، حيث إنّ الأمر في الثاني ينحلّ إلى أوامر حسب عدد المصاديق ولكلّ امتثال ، بخلاف الأوّل ، فهو أمر واحد ، متعلّق بالطبيعة المطلقة غير المقيّدة ، ومعها يكون البعث مثلها واحداً ، كما يكون الامتثال أيضاً واحداً.

وبما ذكرنا يعلم الفرق بين المقام والواجب الكفائي حيث إنّ البعث هناك متعدد حسب تعدد الأفراد ، فالكلّ مأمور بتجهيز الميت ومواراته لكن لو أتى به فرد منهم سقط عن الباقي لارتفاع الموضوع أو غيره وعلى ضوئه لو أتى به عدّة دفعة واحدة يعد الجميع ممتثلاً ، لقيام الكلّ بالخطاب الموجَّه إليه.

__________________

١ ـ لمحات الأُصول : ٨٤

٣٥٢

في دلالة الأمر على الفور أو التراخي وعدمها

إنّ الواجب ينقسم إلى قسمين : موسّع ومضيّق. فالأوّل ما لا يكون مقيّداً بالزمان ، كأداء الدين غير المؤجّل بأجل ، أو يكون الزمان المضروب على الفعل أوسع منه ، ويكون المكلّف مخيّراً في امتثاله بين الزمن الأوّل والثاني. كصلاة الظهر بالنسبة إلى وقتها.

وأمّا الثاني ، فعلى أقسام :

الأوّل : ما يكون محدوداً من حيث الزمان ، لا يجوز تقديمه ولا تأخيره ، كالصوم الواجب في شهر رمضان.

الثاني : ما يجب فوراً ، ويسقط وجوبه فضلاً عن فوريته لو أخّر. كردّ السلام ، فلو لم يردّ ، عصى ، وسقط الوجوب.

الثالث : ما يجب فوراً ، ولو عصى لسقطت فوريته لا أصله ، كصلاة الزلزلة : فلو عصى وأخّر ، سقطت فوريتها لا أصل وجوبها.

الرابع : ما لا يسقط أصل وجوبه ولا فوريته إذا عصى ، ولكن يجب عليه الإتيان به فوراً ففوراً ، كقضاء الفوائت.

وهذا التقسيم حسبَ الثبوت. وإليك الكلام حسب الإثبات. فهل الأمر يدلّ على كونه مضيّقاً أو موسّعاً أو لا يدلّ على واحد منهما؟

استدلّ القائل بعدم الدلالة على واحد منهما بالدليل الماضي في مبحث المرّة والتكرار ، وحاصله : أنّ الأمر مركّب من هيئة ومادة ، والثانية دالة على الطبيعة

٣٥٣

المطلقة ، والهيئة موضوعة للبعث ، فأين الدالّ على الفورية أو التراخي؟!

هذا حسب الدلالة اللفظية وقد عرفت عدم دلالتها على واحد منهما.

إنّما الكلام في مقتضى الإطلاق فقال المحقّق الخراساني بأنّ قضية إطلاق الصيغة جواز التراخي.

ويمكن أن يقال انّ مقتضى الإطلاق هو الفور ، وذلك لما مرّ في وجه حمل الأمر على الوجوب دون الندب ، أو النفسية دون الغيرية ، فيقال في المقام انّ كلا من الفور والتراخي خارج عن مفهوم البعث ، وقسمان له ، وإرادة كلّ قسم يحتاج إلى بيان زائد وراء بيان البعث ، غير أنّ متلقّى العرف أنّ البعث يلازم الانبعاث فكأنّهما متلازمان فلو أراد الآمر ذاك الفرد ، فهو غني عن البيان ، وإن أراد التراخي فهو رهن بيان زائد.

هذا إذا كان المولى في مقام البيان ، وأمّا إذا كان في مقام الإجمال والإهمال فالمرجع هو البراءة عن الكلفة الزائدة على أصل التكليف وهي الفورية.

أدلة القائل بالفورية

استدل على القول بالفورية تارة بأنّها مقتضى صيغة الأمر ، وأُخرى بأنّها مقتضى الأدلّة الخارجية.

أمّا الأوّل : فهو خيرة شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري حيث نزّل العلل التشريعية منزلة العلل التكوينية فكما أنّ مقتضى الثانية عدم انفكاك معاليلها عنها ، فهكذا الأُولى قال في قضاء الفوائت : إنّ الفورية وإن كانت غير ملحوظة قيداً في المتعلق ، إلاّ أنّها من لوازم الأمر المتعلق به فانّ الأمر تحريك إلى العمل وعلة تشريعية ، وكما أنّ العلة التكوينية لا تنفك عن معلولها في الخارج ، كذلك

٣٥٤

العلة التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج. (١)

وضعفه ظاهر ، فانّ عدم الانفكاك في التكوين ، لا يكون دليلاً على عدم انفكاكه في التشريع ، فانّ نظام العلّة والمعلول ، نظام الضرورة فوجود المعلول بعد العلة أمر ضروريّ لا محيص عنه ، وهذا بخلاف نظام التشريع فانّه نظام الاعتبار والفرض فيتبع كيفية الاعتبار ، فلو اعتبر البعث غير منفك عن الانبعاث التشريعي ، فلا محيص عن الفورية ، وإن اعتبره منفكاً عنه فلا محيص عن التأخير ، وإن اطلق ، يحتمل الأمران ، فوزان الزمان كوزان المكان وسائر القيود ، لا يتكفّل لبيانها نفس البعث بل لابدّ من دليل آخر.

وما ذكرناه لا ينافي ما تقدّم من أنّ الإطلاق يساوق الفورية وانّ التراخي رهن البيان الزائد ، وذلك لأنّ ما ذكرناه مبني على أنّ الفورية هو متلقى العرف في دائرة المولوية والعبودية ، من دون حاجة إلى قياس علل التشريع ـ كالأمر ـ بالعلل التكوينية كما عليه هذا البيان.

وأمّا الثاني أي الاستدلال بالأدلة الخارجية فقد استدلّوا بآيتين :

الأُولى : آية المسارعة

قال سبحانه : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنّة عَرْضُهَا السَّموات وَالأَرضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقين ). (٢)

والدلالة مبنية على بيان أمرين :

١. انّ الأمر في « سارعوا » للوجوب فتكون المسارعة واجبة.

٢. انّ المغفرة من أفعاله سبحانه ولا يمكن التسارع إليها فيكون قرينة على

__________________

١ ـ كتاب الصلاة ، باب قضاء الفوائت : ٣٩٢ ، ط١٣٥٢ هـ.

٢ ـ آل عمران : ١٣٣.

٣٥٥

انّ المراد بها ، هو أسبابها أعني الواجبات فينتج وجوب المسارعة إلى الإتيان بالواجبات.

يلاحظ عليه : أنّ سبب المغفرة بين المتشرعة هو الاستغفار بشرائطه ، وعليه كتاب اللّه العزيز يقول سبحانه : ( وَالّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون * أُولئكَ جَزاؤهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ خالِدينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ العامِلين ). (١)

فلو تمت دلالة الآية ، لدلّت على المبادرة إلى الاستغفار ، لا إلى سائر الواجبات.

الآية الثانية : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُل جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتيكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعاً فَيُنَّبِئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفُونَ ). (٢)

وجه الاستدلال أنّ ظاهر الآية وجوب الاستباق إلى الخيرات التي من أظهر مصاديقها هو فعل الواجبات فلو عصى ، يجب عليه الإتيان في الآن الثاني وهكذا.

يلاحظ عليه : أنّ مفهوم الآية هو وجوب تسابق العباد ـ في ميدان المباراة ـ نحو عمل الخير ، على نحو لو بادر أحد لم يبق موضوع للآخر ، وأين هذا من وجوب مبادرة كلّ إلى واجبه وإن لم يكن في جانبه أيّ مكلف؟!

__________________

١ ـ آل عمران : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢ ـ المائدة : ٤٨.

٣٥٦

والآية نظير قوله سبحانه ( وَاسْتَبَقا الباب ) (١) حيث تسابق كل من يوسف وامرأة العزيز نحو الباب فحاول يوسف فتحه والأُخرى غلقه والمنع عن خروجه.

أضف إلى ذلك أنّ الإمعان في الآية يعطي انّ المراد منها هو الحكم بما أنزل اللّه وعدم اتّباع الأهواء ، ويدل عليه قوله سبحانه : ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَل اللّه وَلا تَتَّبع أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرعَة وَمِنْهاجاً ). (٢)

إكمال : لو قلنا بدلالة الصيغة على الفور امّا بالدلالة اللفظية أو لكونه مقتضى الإطلاق ، فلو عصى المكلّف فهل يجب عليه الإتيان بالمأمور به ثانياً أو لا؟ فيه تفصيل بين كون المقام من قبيل وحدة المطلوب كما في السلام فيسقط عصياناً ، أو تعدده ، كما في قضاء الفوائت بناء على المضايقة. ولا يمكن استظهار واحد منهما من صيغة الأمر فالمرجع أحد الأمرين :

١. الإطلاق القاضي بعدم الوجوب في الآن الثاني لو تمّت مقدّمات الحكمة.

٢. الأصل العملي من الاستصحاب أو البراءة ، فلو جرى استصحاب الوجوب لأجل القول بأنّ الفورية ليست قيداً للموضوع ، وإلاّ فالمرجع البراءة من الإتيان ثانياً.

__________________

١ ـ يوسف : ٢٥.

٢ ـ المائدة : ٤٨.

٣٥٧

الفصل الثالث

في الاجزاء

وقبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : في عنوان المسألة

اختلفت كلمة الأُصوليين في عنوان المسألة ، فعنونه المرتضى في « الذريعة » (١) بقوله : هل الأمر يقتضي الإجزاء أو لا؟ وتبعه صاحب الفصول. (٢)

وعنونه الشيخ في « مطارح الأنظار » (٣) بقوله : إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء أو لا؟

والفرق بين العنوانين واضح ، فالنزاع على الأوّل لفظي ، منصبٌّ على دلالة لفظ الأمر على الإجزاء ، كما أنّه على الثاني ، عقلي منصبٌّ على وجود الملازمة بين الإتيان بالشيء على وجهه والإجزاء.

الثاني : ما هو المراد من لفظة « على وجهه »؟

قد جاء في العنوان الذي طرحه الشيخ في المطارح لفظة « على وجهه » فما هو المراد منه؟ هناك احتمالات :

__________________

١ ـ الذريعة إلى أُصول الشريعة : ١ / ١٢١.

٢ ـ الفصول الغروية : ١١٦.

٣ ـ مطارح الأنظار : ١٨.

٣٥٨

١. المراد منه قصد الوجه ، أعني : قصد الوجوب أو الندب.

يلاحظ عليه : بعدم اعتبار قصد الوجه عند الأصحاب إلاّ من شذّ منهم كابن إدريس ، فلا وجه لأخذه في العنوان.

٢. المراد منه الكيفيات الشرعية المعتبرة في المأمور به من الأجزاء والشرائط الشرعية.

يلاحظ عليه : باستلزامه أن يكون القيد زائداً لدخولها في قوله : « المأمور به » فلا وجه للتعبير بلفظ آخر.

٣. المراد منه الكيفية التي لا يمكن أخذها في المأمور به ، ويعدّ من القيود الواقعة فوق دائرة الطلب دون تحتها ، أعني قصد الأمر حيث إنّه من الأُمور التي تتحقّق بعد تعلّق الأمر.

يلاحظ عليه : أنّ تقسيم القيود إلى ما يقع تحت دائرة الطلب وما لا يقع ، من التقسيمات التي ظهرت من عصر الشيخ الأنصاري إلى يومنا هذا ، وقد عرفت أنّ القيود عند القدماء كانت على وزان واحد ، فقصد الأمر كالسورة والقنوت فالجميع يتعلّق بها الأمر ، وعند ذلك يدخل قصد الأمر في قولهم « إتيان المأمور به ».

نعم على خيرة الشيخ والمحقّق الخراساني يكون قصد الأمر خارجاً عنه ويحتاج إلى التعبير عنه بلفظ آخر ، لكن العنوان ليس للشيخ نفسه بل لغيره.

ويمكن أن يقال : أنّ المراد من قوله « على وجهه » التنبيه على بعض صور المسألة ممّا يعد موافقاً للشرع حسب الظاهر دون الواقع ، كما إذا صلّى بالطهارة الاستصحابية ثمّ بان كونه محدثاً فقد صلّى وأتى بالمأمور به لا على وجهه الواقعي ، لما قرر في محله من أنّ الطهارة شرط واقعي لا ظاهري والقيد على هذا وإن أصبح

٣٥٩

توضيحياً لكن أتي به لغرض التنبيه على هذا النوع من الموارد الذي ربما يغفل عنه بعض الأفراد.

الثالث : ما هو المراد من الاقتضاء؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الاقتضاء في العنوان ( الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء ) بمعنى العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة ، بشهادة أنّه نسب إلى الإتيان لا إلى صيغة الأمر. (١)

ثمّ استشكل على نفسه بقوله : هذا إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره ، وأمّا بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الإجزاء أو بنحو آخر لا يفيده. (٢)

وبعبارة أُخرى : أنّ الإتيان إنّما يكون علّة ومؤثراً لسقوط الأمر المتعلّق بالمأتي به ، وأمّا بالنسبة إلى الأمر الآخر الذي لم يمتثل بعدُ : أعني الأمر الواقعي فلا معنى لكون الامتثال بالأمر الاضطراري أو الظاهري علّة لسقوط الأمر الواقعي ، فلا محيص في تصحيح النزاع من تفسير الاقتضاء بالدلالة والكشف ، بأن يكون مصب النزاع في دلالة الدليل على اشتمال المأتي به بالمصلحة الجابرة للمصلحة الفائتة فيجزي وإلاّ فلا. مثلاً انّ قوله : « إنّ التيمّم أحد الطهورين » (٣) وقوله : « ويكفيك الصعيد عشر سنين » (٤) دالّ على اشتمال المورد على المصلحة

__________________

١ ـ بخلاف العنوان الأوّل فقد عرفت أنّ الاقتضاء فيه نسب إلى الأمر.

٢ ـ الكفاية : ١ / ١٢٥.

٣ ـ الوسائل : ٢ ، كتاب الطهارة ، الباب ٢٣ من أبواب التيمم ، الحديث ٥.

٤ ـ الوسائل : ٢ ، كتاب الطهارة ، الباب ٢٤من أبواب التيمم ، الحديث ١٢.

٣٦٠