إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

شطراً ، وإلاّ فيوصف كلّ جزء بالوجوب.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أبطل هذا البيان باستلزامه التسلسل ، وذلك لما اختاره في باب اختيارية الشيء حيث ذهب إلى أنّ ملاك الاختيارية كون الشيء مسبوقاً بالإرادة ، وعلى ضوء هذا فكلّ شيء اختياري إذا صدر عن إرادة ، وأمّا الإرادة فليست اختيارية لعدم صدورها عن إرادة.

وعلى ضوء ذلك فالصلاة اختيارية ، وقصد الأمر الذي هو عبارة أُخرى عن إرادة الأمر غير اختيارية ، ولو قلنا بأنّ الجزء الثاني اختياري أيضاً يجب أن يسبق بإرادة ثالثة وهلم جراً.

وإلى هذا الدليل أشار المحقّق الخراساني بقوله :

« فانّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري ، فانّ الفعل وإن كان بالارادة اختيارياً ، إلاّ أنّ إرادته ـ حيث لا تكون بإرادة أُخرى وإلاّ لتسلسلت ـ ليست باختيارية. (١)

يلاحظ عليه : عدم تمامية المبنى ، فانّ الملاك في اختيارية الفعل أحد أمرين : إمّا أن يكون مسبوقاً بالإرادة كما هو الملاك في الأفعال الصادرة عن الجوارح.

وإمّا أن يكون صادراً عن فاعل مختار بالذات وإن لم يكن مسبوقاً بالارادة وهذا كالأفعال الصادرة عن الجوانح مثل الإرادة ، فانّها فعل اختياري لصدورها عن نفس المختار بالذات.

ثمّ إنّ الإرادة لو كانت غير اختيارية لزم عدم صحّة جعلها قيداً أيضاً مع أنّ المحقّق الخراساني خصّ الإشكال بكون الإرادة شطراً لا شرطاً.

أضف إلى ذلك انّه لو كان قصد الأمر غير اختياري كيف يحكم العقل

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١١٠.

٣٢١

بوجوب تحصيله مع أنّ تعلق التكليف بغير المقدور أمر ممتنع سواء كان الحاكم هو الشرع أو العقل؟

إلى هنا تمّت الأدلة الثلاثة التي أوردها المحقّق الخراساني دليلاً لامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق وهي :

١. استلزام التكليف بغير المقدور.

٢. داعوية الأمر إلى نفسه.

٣. استلزامه التسلسل.

وقد عرفت وهن الجميع.

وهناك أدلّة أُخرى ذكرها غير المحقّق الخراساني ، وإليك تفصيلها :

الرابع : استلزام الدور

إنّ الأمر يتوقف على موضوعه توقّفَ العرض على موضوعه ، فلو كان قصد الأمر مأخوذاً في الموضوع ، لزم الدور ، لعدم تحقّق جزء الموضوع إلاّ بالأمر.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر الصادر من المولى يتوقف على تصور « الصلاة في الذهن مع قصد الأمر » وهذا لا يتوقف على صدور الأمر من المولى ، بل يمكن تصوّر الصلاة مع قصد الأمر وإن لم يكن هناك أمر ، وعندئذ فلا دور.

الخامس : تقدّم الشيء على نفسه

ويلوح من هذا الدليل أنّ في القول بالأخذ مفسدة الدور ، والفرق بين الرابع والخامس ، أنّ الأوّل يصر على نفس « الأمر » وانّه عرض ، وهذا الدليل يصر على عنوان « القصد » في قصد الأمر ويقول :

إنّ الأخذ في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء ( أي القصد ) على نفسه برتبتين ،

٣٢٢

وذلك لأنّ قصد الأمر متأخر عن الأمر ، والأمر متأخر عن الموضوع ، فينتج انّ القصد متأخر عن الموضوع برتبتين. وأخذه في الموضوع يستلزم تقدّم الشيء ( القصد ) على نفسه.

يلاحظ عليه : أنّه نفس الإشكال السابق ، لكن ببيان آخر ، وهو بيان مفسدة الدور ، والجواب أنّ المتأخر عن الموضوع هو القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى ، فهما ( الأمر والقصد ) متأخران عن الموضوع ، إمّا برتبة ( كما هو الحال في الأمر ) ، أو برتبتين ( كما هو الحال في قصده ).

والمأخوذ في الموضوع هو مفهوم « قصد الأمر » الكلي لا القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى ، فما هو المتأخر ليس جزء الموضوع ، وما هو جزء الموضوع ليس متأخراً.

وبعبارة أُخرى : ما هو المتأخر عبارة عن قصد الأمر بالحمل الشائع الصناعي ، وما هو المتقدّم عبارة عن مفهومه الكلي الذي ينطبق عليه قصد الأمر بالحمل الأوّلي ، فالموقوف والموقوف عليه مختلفان.

السادس : لزوم اتحاد الحكم والموضوع

انّ ما لا يوجد إلاّ بنفس انشائه كيف يعقل أخذه مفروض الوجود في موضوع نفسه ، فانّ مرجعه إلى اتحاد الحكم والموضوع ، والأمر في « قصد الأمر » ممّا لا يوجد إلاّ بالإنشاء ، وكيف يصحّ أخذه في المتعلّق. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المأخوذ في الموضوع ليس نفس الحكم الخارجيّ ، بل المأخوذ

__________________

١ ـ هذا ، هو الوجه الذي يظهر من المحقّق الخوئي في أثناء تقرير برهان أُستاذه ، ولكن لا صلة له ببرهانه وإنّما هو وجه مستقل ( لاحظ المحاضرات : ٢ / ١٥٦ ).

٣٢٣

مفهوم كلي ، وما هو الحكم مصداق له ، والفرق بينهما هو الفرق بين الحمل الأوّلي والشائع الصناعي.

السابع : لزوم تقدّم الشيء على نفسه في المراحل الثلاث

وحاصله : انّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء على نفسه في مقام الإنشاء والفعلية والامتثال.

أمّا في مقام الإنشاء فلأنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لابدّ وأن يكون مفروض الوجود في الخارج في مقام أخذه موضوعاً ، سواء أكان خارجاً عن اختيار المكلّف كالوقت أم داخلاً تحت اختياره كما في قوله ( أُوفُوا بالعُقُود ) فانّ معناه انّه إذا فرض حصول عقد في الخارج يجب الوفاء به ، وحينئذ لو أخذ قصد امتثال الأمر قيداً للمأمور به ، يكون الأمر موضوعاً للتكليف ومفروض الوجود في الإنشاء ، فيكون وجود التكليف مشروطاً بفرض وجود نفسه فرضاً مطابقاً للواقع ، ويستلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه ، وهو بعينه محذور الدور.

وأمّا في مقام الفعلية فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية موضوعه ، أعني : متعلقات متعلّق التكليف ، وحيث إنّ المفروض انّ نفسه هو الموضوع لنفسه ومتعلّق لمتعلّقه فطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه.

وبعبارة أُخرى : إذا أمر المولى بواجب مقيد بداعي أمره ، ففعلية خطابه تتوقّف على فعلية موضوعه والمفروض انّ الأمر لنفسه ، جزء الموضوع وعليه تتوقّف فعلية الأمر على فعلية نفسه.

وأمّا في مقام الامتثال فانّ قصد امتثال الأمر متأخر عن الإتيان بتمام أجزاء المأمور به وقيوده ، وحيث إنّ من جملة الأجزاء والقيود حسب الفرض نفس قصد

٣٢٤

الامتثال الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذاك الأمر فلابدّ وأن يكون المكلّف في مقام امتثاله قاصداً للامتثال قبل قصد امتثاله ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه بما هو جزء المأمور به مقدّم ، وبما أنّ ماهية قصد امتثال الأمر عبارة عن الإتيان بالأجزاء بقصد الأمر متأخر عن الاجزاء. (١)

يلاحظ على الأوّل : بأنّ أقصى ما يلزم هو فرض وجود الشيء ( قصد الأمر ) قبل تحقّقه وهو ليس بمحال ، وإنّما المحال وجوده واقعاً قبل تحقّقه ، فما عبّر بقوله « يلزم كونه مفروض الوجود قبل وجوده وهو بعينه محذور الدور » غير تام فانّ محذور الدور هو وجوده واقعاً قبل تحقّقه لا فرض وجوده قبل تحقّقه ، وشتان بينهما.

وعلى الثاني : فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية الموضوع لا بمعنى وجوده خارجاً بل بمعنى قدرة المكلّف على الإيجاد والامتثال ، والمفروض أنّ المكلّف قادر على الصلاة بقصد أمرها ، وأمّا القدرة على إيجاد المتعلّق والصلاة ( بقصد الأمر ) فهي موقوفة على صدور الأمر الإنشائي قبل فعلية الموضوع لا على الأمر الفعلي.

فينتج : الأمر الفعلي موقوف على القدرة على إيجاد الصلاة بأمرها ، والقدرة الكذائية ليست موقوفة على الأمر الفعلي ، بل على الأمر الإنشائي السابق.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أجاب عن الإشكال بوجه آخر ، وقال : إنّ فعلية الحكم لا تتوقف على فعلية الموضوع توقّف المعلول على علته ، بل لابدّ في حال فعلية الحكم من فعلية الموضوع ولو صار فعلياً بنفس فعلية الحكم ، لأنّ الممتنع هو التكليف الفعلي بشيء لم يكن متحقّقاً بالفعل ، وأمّا التكليف الفعلي بشيء يصير فعلياً بنفس فعلية الحكم فالضرورة قاضية بجوازه.

وعلى الثالث : فلأنّ قصد الامتثال الذي هو متأخر عن إتيان المأمور به

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨ وأوضحه تلميذه المحقّق الخوئي في المحاضرات : ٢ / ١٥٧.

٣٢٥

المركب من الصلاة وقصد الأمر إنّما هو قصد بالحمل الشائع الصناعي ، فهو بهذا المعنى متأخر عن المتعلّق وجزئه ، وأمّا المتقدّم الذي يجب على المكلف قصد امتثاله فإنّما هو قصد الأمر بمفهومه الكلي الذي يقال انّه قصد الأمر بالحمل الأوّلي.

الثامن : استلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي

إنّ التكليف بالصلاة بقصد أمرها مستلزم للجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، لأنّ الموضوع بقيوده لابدّ وأن يكون ملحوظاً استقلالاً ، والأمر بما أنّه آلة البعث ملحوظ باللحاظ الآلي ، فكون شيء مأخوذاً في ناحية الأمر والمأمور به يستلزم كونه ملحوظاً بلحاظين مختلفين. (١)

يلاحظ عليه : بما سبق من أنّ الملحوظ استقلالاً هو قصد الأمر المأخوذ في المتعلّق وهو أمر بالحمل الأوّلي ، والملحوظ آلياً هو الأمر الجزئي المتعلّق بالمتعلّق الكلي.

والحاصل : انّ الأمر الخارجي الذي هو بعث بالحمل الشائع ملحوظ آلياً والمأخوذ في المتعلّق هو الصورة الكلية للأمر الذي لا يقال انّه حمل بالشائع الصناعي.

التاسع : التهافت في اللحاظ

لو أخذ قصد الأمر في متعلّق متعلقه يلزم منه التهافت في اللحاظ والتناقض في العلم ، لأنّ موضوع الحكم متقدّم عليه في اللحاظ ، وقصد الأمر متأخر عنه في

__________________

١ ـ راجع نهاية الأُصول : ٩٩.

٣٢٦

اللحاظ ، كما أنّه متأخر عنه في الوجود فيكون متأخراً عن موضوع الأمر برتبتين ، فإذا أخذه جزءاً من موضوع الأمر أو قيداً فيه لزم أن يكون الشيء الواحد في اللحاظ الواحد متقدّماً في اللحاظ ومتأخراً فيه ، وهو في نفسه غير معقول وجداناً امّا للخلف أو لغيره. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ الملحوظ متقدّماً غير الملحوظ متأخراً ، فالملحوظ متقدّماً هو قصد الأمر بمفهومه الكلي ، والملحوظ متأخراً هو الأمر بالحمل الشائع ، فهناك لحاظان وملحوظان ، لا انّ هناك لحاظاً واحداً لشيء واحد متقدّم ومتأخر.

وثانياً : انّ أقصى ما يترتّب عليه لحاظ الشيئين المترتبين في رتبة واحدة وهو ليس بمحال كلحاظ العلة والمعلول المترتبين في رتبة واحدة واللحاظ خفيف المؤونة ، وإنّما المحال كون المترتبين في رتبة واحدة في عالم الوجود.

العاشر : وجود التسلسل في المدعو إليه

هذا الوجه ، نقله المحقّق البروجردي عن أُستاذه المحقّق الخراساني ، وحاصله : إذا تعلّق الأمر بالصلاة بداعي الأمر ، فيسأل عن داعي الأمر وانّه إلى مَ يدعو؟ فإن دعا إلى ذات الصلاة ، فهو خلف ، إذ ليس له أمر وإن دعا إلى المركب أي ( الصلاة بداعي الأمر ) ننقل الكلام إلى هذا الداعي الثالث وهلم جراً.

والجواب : نختار الأمر الأوّل ، وانّه يدعو إلى نفس الصلاة ، والقول بأنّه فاقد للأمر قد مرّ جوابه بأنّ الأجزاء مأمور بها بالأمر النفسي ، وانّ من شرع في الصلاة فقد شرع بامتثال الأمر النفسي.

ثمّ نختار الأمر الثاني بأنّه يدعو إلى الصلاة بداعي الأمر ، ولكن ليس معناه

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ٢٣٠.

٣٢٧

هو الإتيان بكلّ من الجزءين بداعيه ، أي الاتيان بالصلاة بداعي الأمر والإتيان بداعي الأمر بداعي أمره ، وذلك لأنّ الجزء الثاني لما لم يكن مقصوداً بالذات ، بل كان المقصود هو إتيان الجزء الأوّل بداعي أمره ، فإذا أتي بالجزء الأوّل بداعي الأمر ، يسقط امتثال الجزء الثاني ، لأنّه لم يؤخذ على وجه الموضوعية ، بل لأجل الطريقية إلى الجزء الأوّل وبيان كيفية امتثاله.

ولعمر القارئ انّ ما ذكروه من الوجوه العشرة مغالطات ظهر وجهها ممّا ذكرنا ، ومقام الشيخ الأنصاري وتلاميذه وتلامذة تلاميذه أرفع من أن يعتمدوا على هذه الوجوه ، خصوصاً وانّ المقام من قبيل الاعتباريات والاعتبار سهل المؤونة ، فكيف يدعى فيها الاستحالة والامتناع؟!

تصحيح الأخذ بأمرين

ثمّ إنّ من قال بامتناع قصد الأمر في المتعلّق بأمر واحد حاول أن يصحح الأخذ في المتعلّق بأمرين :

أحدهما يتعلق بنفس الطبيعة ويقول : أقم الصلاة ، والأمر الثاني يتعلّق بالإتيان بها بداعي أمرها كما إذا قال : امتثل أمر الصلاة بقصد أمرها.

وعلى هذا فيكون الأصل في الأوامر التوصلية ، فانّ الأخذ في متعلّق الأمر الأوّل وإن كان محالاً ولكن لما كان الأخذ في المتعلق بالأمر الثاني جائزاً فعدم وجود الأمر الثاني يكشف عن عدم مدخليته فيه. (١)

وأورد المحقّق الخراساني على هذا الوجه بأنّ الأمر الأوّل إن كان يسقط

__________________

١ ـ مطارح الأنظار : ٦٠.

٣٢٨

بمجرّد موافقته ، ولو لم يقصد به الامتثال كما هو قضية الأمر الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا يتوصل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة وإن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد يكون له وجه إلاّ عدم حصول غرضه بذلك من أمره لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله وإلاّ لما كان موجباً لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر ، لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر ، بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره.(١)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان للمكلّف إحدى الحالتين ، إمّا عالماً بالتوصلية ، أو شاكّاً فيها وفي التعبدية ، فعلى الأوّل يسقط البحث ، وعلى الثاني يعمل بقاعدة الاشتغال ، وأمّا إذا كان المكلّف قاطعاً بأنّه توصلي قطعاً مخالفاً للواقع ، أو غير ملتفت إلى أنّه تعبدي أو توصلي ، فعندئذ يحتاج المولى في استيفاء غرضه إلى التوصل بالأمر الثاني فلا يكون لغواً.

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أورد على تصحيح الأخذ بإشكالين :

الأوّل : إذا كانت المصلحة قائمة بالمركّب من الصلاة وقصد الأمر ، فكيف يبعث المولى عبده إلى الجزء ( الصلاة ) الفاقد للمصلحة؟

الثاني : انّ الأمر الأوّل لما تعلّق بالفاقد للمصلحة لا يكون إلاّ أمراً صورياً ، ولا يكون قصد الأمر الكذائي مصحّحاً لكون الشيء عبادة. (٢)

والظاهر عدم تماميتهما أمّا الأوّل ، فلأنّ الصلاة بما هي هي ، ليست مجرّدة عن المصلحة ، بل هي حاملة لبعضها.

وإن شئت قلت : تعدّمقتضياً بالنسبة إليها ، ولأجل ذلك يصحّ الأمر بها.

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١١١.

٢ ـ نهاية الأُصول : ١١٥.

٣٢٩

نعم إنّما يمتنع إذا بعث إليها واكتفى بالأمر الأوّل.

ومنه يظهر حال الجواب الثاني ، إذ ليس الأمر الأوّل صورياً بل أمر جدّي غاية الأمر على نحو الأمر بالمقتضي كما مرّ.

نعم يمكن أن يؤاخذ على تصحيح الأخذ بالأمرين بأنّ الأخذ لا يتوقف على الأمرين بل يصحّ بأمر واحد ولكن بوجهين :

الأوّل : أخذه في المتعلّق بصورة جملة خبرية بأن يقول : أقم الصلاة ويجب أن تُقيمها بقصد أمرها ، فانّ أكثر الإشكالات غير متوجهة على هذه الصورة.

الثاني : أن ينهى عن الضد حتى يتعيّن الضد الآخر بأن يقول : « أقم الصلاة لا بداع نفساني » فإذا كان أحد الضدين اللّذين لا ثالث لهما منهياً عنه يتعيّن الضد الآخر أي بداع إلهي.

الإطلاق المقامي

إذا قلنا بامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق فالإطلاق اللفظي يكون منتفياً بانتفاء موضوعه ، إذ ليس للمولى إمكان الأخذ للمتعلّق حتى يُستدل بعدم الأخذ على عدم الوجوب ، ولكن هناك أصلاً آخر باسم الإطلاق المقامي فيتمسّك به ويستدل به على التوصلية.

والفرق بين الإطلاقين هو أنّ الإطلاق اللفظي عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في متعلّق الحكم ، فإذا سكت نستكشف عن عدم مدخليته ، بخلاف الإطلاق المقامي فانّه عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في غرضه وإن لم يكن له دخل في المتعلّق فإذا سكت نستكشف عن عدم وجوبه.

وعلى ضوء ذلك فيمكن أن يتمسّك بالإطلاق المقامي على عدم مدخلية

٣٣٠

قصد الأمر ، وحتى قصد الوجه والتمييز في الغرض ، إذ لو كان له مدخلية لوجب على المولى التنبيه على مدخليته ولو ببيان خارج عن الخطاب كأن يقول بعد الأمر بالصلاة أيّها المكلّف ، الواجب الذي أمرت به واجب تعبّدي لا توصّلي ، فسكوته في كلّ مورد مشكوك كاشف عن عدم مدخليته في غرض المولى وعدم مدخليته في المتعلّق.

وبهذا ظهر أنّ الأصل في التعبّدية والتوصّلية هو التوصّلية ، وذلك من وجوه شتى :

أ. إمكان أخذه في المتعلّق ، وقد عرفت عدم تمامية الوجوه التي استدلّوا بها على الامتناع.

ب. إمكان أخذه في المتعلّق بأمر ثان.

ج. إمكان أخذه في المتعلّق مقيّداً بجملة خبرية.

د. إمكان تفهيمه بالنهي عن ضده بعد الأمر بالشيء.

هـ. إمكان التمسّك بالإطلاق المقامي وانّه لو كان له مدخلية لكان على المولى البيان.

بقي الكلام في أدلّة القائلين في أنّ الأصل هو التعبديّة.

أدلّة القائلين بأنّ مقتضى الأصل هو التعبديّة

استدلّ القائلون بانّ الأصل هو التعبّدية بوجوه :

الأوّل : ما نقله المحقّق النائيني عن العلاّمة الكلباسي : أنّ المولى إنّما يأمر عبده بشيء ويطلبه منه ليجعل أمره محرّكاً إيّاه نحو العمل وباعثاً له نحو المراد.

وإن شئت قلت : إنّ الغرض من الأمر ، كون الأمر داعياً ، فحينئذ إن أتى

٣٣١

المكلّف به بداعي أمره ، فقد حصل الغرض وسقط الأمر ، وإلاّ فلا. (١)

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين كون الغرض من الأمر أن يكون داعياً للمكلّف إلى المأمور به ، وبين كون الغرض منه هو الإتيان به بذاك القصد. والمسلّم إنّما هو الأوّل ، وأمّا الثاني فيفتقر إلى دليل.

وبعبارة أُخرى : انّ الغرض من الأمر هو تعيين موضوع الطاعة حتّى يقف المكلّف على واجبه ، وأمّا الإتيان لأجل أمر المولى فلم يعلم أنّه غرض الأمر.

الثاني : قوله سبحانه : ( وَما أُمِرُوا إِلاّ ليَعبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاة وَذلِكَ دينَ القَيّمة ). (٢)

وهو يدل على حصر الأوامر الصادرة منه سبحانه في التعبّدية ، حيث جاءت غاية للأمر ، في قوله ( وما أُمروا إِلاّ ليعبدوا اللّه ) أي ما أُمروا بشيء في مورد من الموارد من الطهارة إلى الديات إلاّ لأجل عبادة اللّه ، فكانت الغاية للأمر في جميع الموارد هي عبادة اللّه ، وعليه فكلّ أمر ورد في الشريعة ، عباديّ ، إلاّ ما قام الدليل على كونه غير عبادي ، وهذا العموم متّبع إلى أن يدلّ دليل على خلافه.

يلاحظ عليه : بأنّ الآية بصدد بيان حصر العبادة والطاعة في اللّه سبحانه ، لا حصر عامة أوامره في التعبّدية ، وعلى ذلك فمعنى قوله ( وما أُمروا ) أي ما أُمروا ( في مجال العبادة ) إلاّ بالعبادة الخالصة. وليس معناه انّهم ما أمروا بشيء مطلقاً إلاّ ليعبدوا اللّه به حتى تكون الغاية من الأمر مطلقاً في تمام الموارد عبادة اللّه سبحانه ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( اتّخذوا أَحبارهُمْ وَرُهبانَهُمْ أَرباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَما أُمِروا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُون ) (٣) فالآية ظاهرة في أنّهم ما أمروا في مجال العبادة إلاّ عبادة إله واحد لا

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ١١٢ ـ ١١٣.

٢ ـ البينة : ٥.

٣ ـ التوبة : ٣١.

٣٣٢

عبادة الآلهة ولا اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دُون اللّه.

الثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لامرئ ما نوى » (١) أي واقعية كلّ عمل بنيّة القربة وإيجاده للّه سبحانه ، فيكون المراد من النيّة ، نيّة القربة ، فكلّ عمل خلا عن نيّة القربة لا يُعدّ عملاً ، فلا يحصل الامتثال.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على تفسير النيّة في الحديث بنيّة القربة ، مع أنّه لا دليل عليه ، بل المراد منه قصد العناوين التي ربّما ينطبق على العمل ، كضرب اليتيم للأدب أو للإيذاء ، وعليه لا يكون للروايتين مساس بالمقام.

وإن شئت قلت : إنّ اتّصاف العمل بالحسن والقبح ، أو بكونه مقرّباً وغير مقرّب منوط بكيفية النيّة.

وأنّ كلّ عمل أتاه المكلّف بنيّة صالحة ، يوصف بالحسن والقربة ، وإلاّ فلا ، وأمّا أنّ سقوط كلّ أمر يتوقّف على نيّة التقرّب إلى اللّه ، وأنّه لولاها لفسد العمل فلا يدل عليه.

وفي بعض الروايات : انّ اللّه لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم.

إلى هنا تبيّن أنّ مقتضى الأصل اللفظي هو التوصّلية إلاّ أن يدلّ دليل على كون الواجب قربياً.

مقتضى الأصل العقلي

لو افترضنا أنّه لم نخرج بنتيجة قطعية حسب الأدلة الاجتهادية فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العقلي أوّلاً والشرعي ثانياً ، فما هو مقتضى الأصل العقلي؟

__________________

١ ـ الوسائل : ١ ، الباب ٥ من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث ٧.

٣٣٣

إنّ مقتضاه هو البراءة ، سواء أقلنا بإمكان أخذه في المتعلّق أم لا؟ أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ المولى وإن كان غير متمكّن من الأخذ في المتعلّق لكن يمكن أن ينبه على شرطيته بالأمر الثاني أو بالطرق التي تعرفت عليها.

لكن المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ الأصل الجاري في المقام عند الشكّ هو الاشتغال ، قائلاً :

بأنّ الشكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب ـ مع الشكّ وعدم إحراز الخروج ـ عقاباً بلا بيان ، ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف ، تصحّ المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة ، وهكذا الحال في كلّ ما شكّ دخله في الطاعة ، والخروج به عن العهدة ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به ، كالوجه والتمييز. (١)

توضيحه : أنّه قدس‌سره بصدد بيان الفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، والمقام بأنّ الشكّ في الثاني يرجع إلى الشكّ في السقوط دون الأوّل فانّ الشكّ فيه يرجع إلى سعة المتعلّق وضيقه.

وأساس الفرق هو التمكّن من أخذ القيد في المتعلّق في الارتباطيين ، دون المقام حيث إنّ الأخذ فيه مستلزم للمحال ، وعلى ضوء ذلك لا ملازمة بين القول بالبراءة فيهما والقول بالبراءة في المقام ـ مضافاً ـ إلى أنّه قدس‌سره يعول بالاشتغال في كلا المقامين كما سيوافيك في مبحث الاشتغال.

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ ما ذكره مبني على تقسيم الجزء إلى ما يمكن أن يكون

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١١٣ ـ ١١٤.

٣٣٤

مأخوذاً في المتعلّق وما لا يمكن ، فتجري البراءة في الأوّل دون الثاني.

وأمّا على المختار من أنّ جميع الشروط والأجزاء على سنخ واحد ، وانّ الكلّ يرجع إلى المتعلّق ، وانّ للمولى أن يأخذ قصد الأمر جزءاً للمأمور به كالقنوت وجلسة الاستراحة ، فلا يصحّ الفرق بين المقام والأقل والأكثر الارتباطيين.

وثانياً : أنّ ما ذكره من الدليل على الاشتغال في المقام ليس أمراً جديداً ، بل هو دليل القائلين بالاشتغال في الأقل والأكثر الارتباطيين في ذلك المبحث حيث قالوا : بأنّ الأمر بالأقل معلوم ونشك في سقوطه لأجل ارتباطية الأجزاء ، وانّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم ونشك في سقوطه بإتيان الأقل ، فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض.

فإذا كان روح الدليل في المقامين هو الشكّ في السقوط وحصول الغرض ، فنقول :

إنّ تحصيل غرض المولى واجب لكن في المقدار الذي قام الدليل عليه ، وأمّا ما لم يقم عليه الدليل فليس بواجب تحصيله ، كما في المقام.

وبعبارة أُخرى : فالعبد مسؤول أمام اللّه حسب ما أعطي من الحجة لا ما شك فيه ، والشكّ في سقوط الأمر في المقامين لاحتمال عدم حصول الغرض لا يؤثر في الاشتغال ، وقد نبّه ببعض ما ذكرنا المحقّق العراقي في تقريراته ، فقال :

إنّ التقريب المذكور ليس موجباً للفرق بين المقام والأقل والأكثر الارتباطيين ، بل هو أحد الوجوه التي ذكرت للدلالة على لزوم الاحتياط فيهما. (١)

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٢٤٠.

٣٣٥
حكم الأصل الشرعي

قد عرفت أنّ حكم الأصل العقلي هو البراءة ، وأمّا حكم الأصل الشرعي فهو أيضاً كالعقلي على ما اخترنا من إمكان أخذه في المتعلّق بطرق مختلفة ، فإذا شككنا في جزئيته أو شرطيته فيكون ممّا لا يعلمون ، فيرفع بحديث الرفع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما بنى على عدم إمكان أخذه في المتعلّق ذهب في المقام إلى عدم جريان البراءة الشرعية قائلاً :

بأنّه لابدّ في عمومها لشيء من كونه قابلاً للرفع والوضع ، وليس المقام كذلك ، فانّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي ، بل واقعي ، ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك ، إلاّ أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً. فبدليل الرفع ـ ولو كان أصلاً ـ يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه الشكوك ، يجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام ، فانّه علم بثبوت الأمر الفعلي وشكّ في كيفية الخروج. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره مبني على امتناع أخذه في المتعلّق مطلقاً ، فعندئذ يكون دخله في الغرض تكوينياً لا جعلياً ، والأمر التكويني غير قابل للوضع والرفع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى وجود الفرق بين المقام والشكّ في الجزئية والشرطية ، بعد اشتراكهما في أنّ مدخلية الجزء والشرط أمر عقلي ، ولكنّه في غير قصد الوجه قابل للرفع والوضع ، فلأجل ذلك يشمله حديث الرفع بخلاف المقام.

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١١٤ ـ ١١٦.

٣٣٦
نقل كلام عن المحقّق العراقي

إنّ المحقّق العراقي تابع المحقّق الخراساني في عدم جريان البراءة الشرعية ، وأيّده بوجهين ، لكن مبنى الوجه الأوّل غير مبنى الوجه الثاني.

فالأوّل منهما مبني على عدم جريان البراءة العقلية.

كما أنّ الوجه الثاني مبني على القول بعدم إمكان أخذه فيه بأمر واحد وإمكان أخذه بأمرين ، ولولا التوجّه إلى أنّ لكلّ وجه مبنى خاصاً لانقلب كلامه إلى ألغاز.

أمّا الأوّل فقال :

أمّا الوجه الأوّل فمحصّله أنّ ملاك البراءة النقلية هو كون الأمر المشكوك فيه إذا لم يبينه المولى كان ناقضاً لغرضه ، ومورد الكلام ليس كذلك ، فانّ القيد المزبور على فرض كونه مراداً للمولى لا يكون ناقضاً لغرضه إذا لم يبينه لكفاية حكم العقل بلزوم الإتيان به في مورد الشكّ ، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض ، وإذا كان المورد كذلك لا يكون مجرى للبراءة النقلية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ حكم العقل بالاشتغال حكم في مقام الشكّ ، وليس حكماً واقعياً ، فكم فرق بين الحكم بحسن العدل وقبح الظلم فلا يمكن للشارع نقضه وبين حكمه بالاشتغال في المقام في مقام الشكّ ، فعندئذ يكون حكم الشارع بالبراءة النقلية بما انّه حكم مولوي رافعاً لحكم العقل.

وأمّا الوجه الثاني : انّ جريان البراءة النقلية عن وجوب قيد الدعوة بنحو الأمر الثاني ، لا يثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل هو تمام المطلوب إلاّ على القول بحجّية

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٢٤٣.

٣٣٧

الأصل المثبت ، ضرورة أنّ نفي الوجوب من متمم الجعل ، وإثبات انّ الباقي واف بالغرض بالأصل المذكور من أظهر مصاديق الأصل المثبت ، بخلاف ما لو قلنا بإمكان أخذ قيد الدعوة ونحوه في متعلّق الأمر الأوّل فانّه عليه يرجع الشكّ إلى انبساط الأمر على الجزء أو القيد المشكوك في دخله ، فإذا جرت البراءة في انبساط الأمر عليه وتعلقه به استفدنا أنّ باقي الأجزاء هو تمام المأمور به في نظر العرف وليس ذلك من المثبت لخفاء مثل هذه الواسطة في نظر العرف. (١)

وحاصله : انّه لو قيل بإمكان الأخذ بأمر واحد تثبت أصالة البراءة الشرعية انّ المأتي به تمام الموضوع ، وأمّا على القول بعدم إمكان أخذه بأمر واحد وإنّما يمكن بأمر ثان ، فنفي الأمر الثاني بالبراءة وبالتالي نفي التعبدية لا يثبت كون المأتي به تمام الواجب.

يلاحظ عليه : بأنّ الالتزام بوجوب العلم بكون المأتي به تمام المأمور به من قبيل الالتزام بما لا يجب الالتزام به ، إذ ليس الواجب إلاّ عنوان الصلاة لا عنوان تمام المطلوب حتى يجب إحرازه ، بل يجب إحراز ما قامت عليه الحجّة سواء أكان تمام المأمور به أو لا.

إلى هنا خرجنا عن هذا البحث الضافي بالنتائج التالية :

١. انّ مقتضى الأصل اللفظي في التوصلية والتعبدية هو التوصلية.

٢. انّ مقتضى الأصل العقلي والشرعي عند عدم الدليل كالإطلاق وغيره على التوصلية ، هو التوصلية.

٣. انّ المعتبر في صحّة الواجب هو الإتيان به للّه سبحانه ، ولا يعتبر الإتيان به لأمره سبحانه.

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٢٤٤.

٣٣٨

إنّ هذا البحث مبنيّ على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان لأمره ، وأمّا على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان للّه سبحانه فالبحث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

٣٣٩

المبحث الخامس

في دوران صيغة الأمر

بين كونه

نفسياً ، تعيينياً ، عينياً ، وما يقابلها

إذا دار أمر الصيغة بين كونه نفسياً أو غيرياً ، كما إذا قال : اغتسل للجنابة ، واحتمل كونه واجباً بنفسه أو غيرياً واجباً للغير كالصلاة والصوم.

أو دار أمرها بين كونه تعيينياً أو تخييرياً ، كما إذا قال : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّه ) (١) ودار بين كونه واجباً تعيينياً لا يسقط بالإتيان بشيء آخر ، أو تخييرياً ساقطاً بفعل الظهر أيضاً.

أو دار أمرها بين كونه عينيّاً أو كفائياً ـ كما إذا قال : قاتل في سبيل اللّه ، ودار أمره بين كونه واجباً عينياً وواجباً عليه في جميع الحالات قام به الآخر أو لا ، أو كفائياً ساقطاً إذا قام به الآخر.

فالمعروف في جميع الصور الثلاث هو الحمل على النفسي التعييني العيني ، غير أنّهم اختلفوا في وجه ذلك بعد الاتفاق على أصل الحمل ، وقد ذكروا في المقام وجوهاً.

__________________

١ ـ الجمعة : ٩.

٣٤٠