إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

اللفظ في غير ما وضع له ، والمفروض أنّ صيغة « افعل » مستعملة في عامّة الموارد فيما وضع له ـ أعني : إنشاء الطلب ـ وإنّما الاختلاف في المبادي والبواعث فلا ينطبق عليه حدّالمجاز ، وإنّما ينطبق عليه حدّ الغلط ، لأنّ وضع الهيئة للطلب الإنشائي إذا كان مقيّداً بكون الداعي هو التحريك ، يكون استعماله في الطلب الإنشائي لكن بداعي التعجيز ، خارجاً عما رخّصه الواضع فيكون الاستعمال ـ مع وحدة المستعمل فيه ـ غلطاً نظير استعمال الابتداء الاسمي في المعنى الحرفي وبالعكس ، حيث ذهب المحقّق الخراساني إلى وحدة المعنيين وانّ الاختلاف في شرط الوضع حيث شرط الواضع استعمال كلّ في الابتداء الاسمي أو الحرفي ، فلو عكس يكون الاستعمال غلطاً.

وأمّا على المذهب المختار في المجاز فقد بنى شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة (١) على أنّه مجاز حيث إنّ المجاز يشارك الحقيقة في أنّه استعمال اللفظ فيما وضع له ويختلف عنه بادّعاء الفردية للمعنى الموضوع من المجاز دون الحقيقة مثل المقام حيث يدّعي المشابهة والفردية ، بين الطلب الإنشائي ، والتعجيز ، والتحقير ، والتمنّي.

ولكنّه ـ مدّ ظله ـ عدل عنه في هذه الدورة فبنى على أنّه من قبيل الكنايات بداهة عدم وجود ادّعاء الفردية أو المشابهة بين البعث الإنشائي ، والتعجيز وما عطف عليه. نعم ينطبق عليه حدّ الكناية ، حيث طلب من الليل ، الانجلاء ومن الكافر الإتيان بسورة ، وأريد منه لازمه في هذه الموارد ، وهو التمنّي ، والتعجيز ، والإهانة وغير ذلك. وسيوافيك نظيره في الجمل الاخبارية التي أُريد منها إنشاء الحكم ، كقوله : « ولدي يصلّي » ونقول إنّه من باب الكناية.

تمّ الكلام في المبحث الأوّل.

____________

١ ـ لاحظ المحصول : ١ / ٣٣٢.

٣٠١

المبحث الثاني

في أنّ الأمر بلا قرينة يدل على الوجوب

هل يتبادر من صيغة الأمر ، الوجوب بالوجوه الأربعة التالية أو لا؟

ويقع الكلام في مقامين :

الأوّل : تبيين حقيقة الوجوب والندب ثبوتاً وإثباتاً.

الثاني : في حمل الأمر الفاقد للقرينة على أحد المعنيين ، على الوجوب بأحد الوجوه وإليك البيان :

الأوّل : تبيين حقيقة الوجوب والندب ثبوتاً وإثباتاً

انّ الوجوب والندب من أقسام البعث الإنشائي ، وإنّما الكلام فيما يميّز أحدهما عن الآخر فهناك وجوه مذكورة في كتب القوم.

١. الوجوب والندب مشتركان في الطلب الإنشائي غير أنّ أحدهما مقيّد بالمنع عن الترك والآخر مقيّد مع عدم المنع من الترك. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره معنى تحليلي لهما والمطلوب تبيين المعنى المطابقي ، وهذا كالماء له معنى مطابقي ومعنى تحليلي يذكره علماء الكيمياء حيث يفسرونه

__________________

١ ـ معالم الدين : ٦٣ ، ط منشورات الرضيّ.

٣٠٢

بأنّه سائل مركب من عنصري الأُوكسجين والهيدروجين.

٢. الوجوب هو الطلب المترتب عليه العقوبة عند المخالفة بخلاف الندب ، فالاستحقاق وعدم الاستحقاق يميّز الوجوب عن الندب.

يلاحظ عليه : أنّ الاستحقاق وعدمه من آثار الوجوب والندب ، والكلام في تبيين واقع المؤثر مع قطع النظر عن الأثر.

٣. الوجوب والندب يشتركان في البعث المسبوق بالإرادة ويختلفان في شدّة الإرادة في الأوّل وضعفها في الثاني.

وإن شئت قلت : البعث الإنشائي فعل اختياري للنفس ولابدّ من سبق إرادة تكوينية ، فالإرادة التكوينية إذا كانت شديدة والأغراض والمصالح لازمة الاستيفاء ينتزع عنه الوجوب ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فينتزع منه الندب.

وعلى ذلك فالوجوب والندب من المفاهيم البسيطة تنتزعان من طلب نابع من إرادة شديدة أو نابع من إرادة ضعيفة.

هذا كلّه هو الفرق المفهومي من حيث الثبوت ، وأمّا من حيث الإثبات وانعقاد الظهور في أحد الأمرين ، فيمكن استظهاره بالقرائن التالية :

١. كيفية أداء المطلب بشدّة وصلابة أو رخوة وفتور.

٢. علو الصوت وانخفاضه.

٣. اشتمال الأمر على نون التوكيد وعدمه.

٤. الوعيد على الترك وعدمه.

هذا كلّه فيما إذا علم أحد الأمرين ، وأمّا إذا كان الكلام غير مقرون بهذه القرائن ، فهل يمكن أن يستفاد منها الوجوب أو الندب أو لا يستفاد واحد منهما؟

٣٠٣

الثاني : حمل الأمر على الوجوب إذا لم يكن قرينة

ذهب الأكثر إلى أنّها ظاهرة في الوجوب واختلفوا في منشأ هذا الظهور إلى وجوه.

الأوّل : دلالة الهيئة على الوجوب بالدلالة اللفظية الوضعية.

يلاحظ عليه : بأنّ الموضوع له لصيغة الأمر كما مرّ هو البعث الإنشائي وليس الوجوب داخلاً في حقيقته ولا الندب ، وقد عرفت أنّها من المفاهيم الانتزاعية من الطلب المقرون بالإرادة الشديدة أو الضعيفة. وعندئذ فكيف تدل الصيغة بالدلالة اللفظية على الوجوب؟

الثاني : انصراف الصيغة إلى الوجوب.

يلاحظ عليه : بأنّ الانصراف إمّا لكثرة الوجود ، أو كثرة الاستعمال ، والوجوب والندب متساويان في هذين الأمرين فقد استعملت صيغة الأمر في الندب كثيراً كما أنّ مصاديقه أيضاً متوفرة.

الثالث : انّ الوجوب مقتضى مقدّمات الحكمة ، وهو خيرة المحقّق العراقي في « بدائع الأفكار ». (١)

وحاصل مرامه بتوضيح منّا : انّه إذا كان لحقيقة واحدة فردان يتوقّف تفهيم أحدهما على بيان زائد دون الفرد الآخر فيحمل بمقتضى كون المتكلّم حكيماً على الفرد الذي لا يحتاج بيانه إلى أمر زائد ، مثلاً : الرقبة لها قسمان :

أ. مطلق الرقبة سواء كانت كافرة أو مؤمنة.

ب. الرقبة المؤمنة.

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٢١٤.

٣٠٤

فإذا قيل : اعتق رقبة من دون أن يقيّد بالإيمان يحمل على القسم الأوّل ، لأنّه لو كان الأوّل هو المراد لكان اللفظ وافياً بالمراد ، بخلاف ما إذا كان المراد هوالثاني فاللفظ قاصر عن إفادته ، فلا يكون اللفظ وافياً بالمراد ، وهو خلاف مقتضى الحكمة.

ومثله المقام فانّ الوجوب هو نفس الإرادة بلا قيد ، وأمّا الندب فهي الإرادة المحدودة بحدّ خاص به تكون إرادة ندبية ، وعليه يكون إطلاق الكلام كافياً في الدلالة على كونها وجوبية إذ لا حدّ لها ليفتقر المتكلّم في مقام إفادته إلى بيان ذلك الحد ، وهذا بخلاف ما لو كانت الإرادة ندبية فانّها محدودة بحدّ خاص ليس من سنخ المحدود ، ولهذا يفتقر المتكلّم في مقام بيانه إلى تقييد الكلام بما يدل عليه. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه غير تام ثبوتاً ولا إثباتاً.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ الوجوب والندب ينتزعان من البعث الإنشائي النابع عن إرادة شديدة أو إرادة لينة ، فكلّ منهما يشتركان في البعث الإنشائي ويتميزان بقيدين ، فالإرادة في الأوّل مقيدة بالشدّة ، وفي الثاني بالضعف ، فإن قيل انّ الشدّة ليست شيئاً سوى الإرادة قلنا هكذا الضعف ليس شيئاً سوى الإرادة كما حقّق في محلّه.

وأمّا الثاني : فإذا كان كلّ واحد قسمين من مقسم واحد ـ أي البعث الإنشائي ـ فكلّ يتميز في مقام الإثبات بقيد وانّ العرف يتلقّى الأمر بلا قيد مساوياً للوجوب ، فالوجوب هو الأمر المطلق ، بخلاف الندب فهو الأمر المقيّد بجواز الترك زائد على المقسم ، وإلاّ فلو اشتمل أحدهما على القيد دون الآخر لزم أن يكون القسم عين المقسم.

__________________

١ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٢١٤.

٣٠٥

نعم يمكن تصحيحه ببيان يأتي عند البحث في أنّ الأمر يحمل على النفسي العيني التعييني لا على مقابلاتها ، فانتظر.

الرابع : انّ دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل بمعنى أنّ العقل يرى مطلق الأمر موضوعاً لوجوب الطاعة ولاستحقاق العقوبة عند الترك ما لم يحرز كون الأمر ندباً ، وهذا معنى كون الأمر ظاهراً في الوجوب.

وإن شئت قلت : إذا صدر عن المولى أمر يحكم العقل بتحصيل المؤمّن لوجوب دفع الضرر المحتمل وهو امّا الطاعة وإمّا تحصيل الحجّة على كون الأمر بالندب.

وإن شئت قلت : وظيفة المولى هي إنشاء البعث وإصدار الأمر ، وأمّا بيان أنّه للوجوب أو الندب فهو ليس من وظائفه ، بل على العبد السعي ، فإن تبيّن له أحدهما عمل على طبق ما تبين ، وإلاّعمل على مقتضى حكم العقل وهو أنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب.

فعلى هذا يحمل الأمر المجرّد عن القرينة على الوجوب ما لم يدل الدليل على كونه للندب.

إيضاح

قال صاحب المعالم : يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها في اللفظ ، لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المـرجِّح الخارجي ، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر ، بمجرّد ورود الأمر به

٣٠٦

منهم عليهم‌السلام. (١) وقد أجاب المحقّق الخراساني بالنقض تارة والحل أُخرى.

أمّا النقض : فبالعمومات الواردة في لسان الشرع حيث إنّ أكثرها خُصِّصت حتى قيل : ما من عام إلاّ وقد خصّ ، مع أنّه لا يمنع من حمل العام على العموم عند عدم المخصص.

وأمّا الحل فلأنّ الاستعمال في الندب وإن كان كثيراً لكن الاستعمال لما كان مصحوباً بالقرينة فلا يوجب صيرورته مجازاً مشهوراً حتى يوجب التوقّف في حمله على الوجوب أو يرجح المجاز ، الندب عليه.

يلاحظ عليه : بعدم تمامية كلا الوجهين :

أمّا النقض فلأنّ المدعى استعمال الأمر ابتداءً في المعنى المجازي أي الندب ، وهذا لا ينطبق على العام المخصص ، لأنّ العام قبل التخصيص وبعده مستعمل في المعنى الموضوع له ، والتخصيص إنّما يرد على الإرادة الجدية لا الاستعمالية ، والمقياس في المجاز كون اللفظ مستعملاً في غير الموضوع له بالإرادة الاستعمالية ، فكيف يقاس الأمر المستعمل في الندب ، بالعام المستعمل في العموم قبل التخصيص وبعده ، وأمّا الحلّ فلأنّ صاحب المعالم يدّعي استعمال الأمر في الندب بلا قرينة ، فأين هذا من الردّ عليه بأنّ الاستعمال كان مصحوباً مع القرينة.

والأولى في الجواب أن يقال : انّ الوجوب والندب ليس من المداليل اللفظية وإنّما هما من المفاهيم المنتزعة من البعث الإنشائي النابع عن إرادة شديدة ثبوتاً ، وأمّا إثباتاً فقد عرفت أنّ لكلّ ، أمارة وعلامة في مقام الدلالة.

وأمّا إذا كان الكلام مجرّداً عن القرينة فقد عرفت أنّ الأمر على وجه الإطلاق موضوع لوجوب الطاعة عند العقل ما لم يعلم الإذن في الترك فليس للمكلّف ترك

__________________

١ ـ المعالم : ٤٨ ـ ٤٩ ، قوله « فائدة » الطبعة الحجرية.

٣٠٧

المأمور به باحتمال وجود الإذن في الترك ، فأئمّة أهل البيت استعملوا الأمر في عامّة الموارد في البعث الإنشائي ، غير أنّه دلّت القرائن تارة على الوجوب وأُخرى على الندب وإن كان أكثر ، وثالثة تجرّدت عن القرينة فيجب بحكم العقل الطاعة ما لم يدل دليل على الإذن في الترك.

وحاصل الردّ : انّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان الوجوب والندب من مداليل الأمر لا من أحكام العقل ، وعلى الثاني لا يترك أمر المولى بلا دليل إلاّ إذا كان هناك دليل على الترك.

٣٠٨

المبحث الثالث

دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

ربّما تستعمل الجملة الخبرية في مقام الطلب والبعث يقول سبحانه : ( والمطلّقاتُ يَتربصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (١) وقال سبحانه : ( وللْمُطَلّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلى المُتَّقِين ) (٢) وقال سبحانه : ( والوالِداتُ يُرضِعنَ أَولادهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْن ) (٣) وقد تضافرت في الروايات عنهم عليهم‌السلام في أبواب الطهارة والصلاة وغيرهما « يغتسل » ، « يعيد الصلاة » ، « يستقبل القبلة » ، إلى غير ذلك ، فالجمل الخبرية في هذه الموارد استعملت لداعي الطلب أو البعث ، والكلام يقع في أُمور أربعة :

أ. هل الاستعمال مجاز أو حقيقة أو كناية؟

ب. هل يلزم الكذب إذا لم يمتثل العبد؟

ج. هل الجملة ظاهرة في الوجوب؟

د. هل الجملة آكد في إفادة الوجوب من الجمل الإنشائية؟

وإليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر :

أمّا الأوّل : فلا شكّ انّها ليست بمجاز لا على مذهب المشهور ولا على المختار.

__________________

١ ـ البقرة : ٢٢٨.

٢ ـ البقرة : ٢٤١.

٣ ـ البقرة : ٢٣٣.

٣٠٩

أمّا مذهب المشهور فلأنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ ابتداءً في غير ما وضع له ، وأمّا المقام فالجملة الخبرية استعملت في الإخبار لا في الإنشاء فلا يكون مجازاً.

وأمّا على المختار من أنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في نفس ما وضع له لكن بادّعاء المشابهة وادّعاء أنّ المورد من مصاديق الموضوع له. فليست الجملة الخبرية موصوفة بالمجاز ، إذ ليس هناك مشابهة بين الإخبار والانشاء ، كما ليس هناك ادّعاء أنّ الانشاء من مصاديق الاخبار ، والنتيجة أنّه لا ينطبق تعريف المجاز على مثل هذه الموارد ، كما قلنا نظير ذلك في استعمال الإنشاء بداعي الإخبار بأنّ المستعمل فيه وإن كان البعث الإنشائي ، لكنّه ليس بمجاز لا على مذهب المشهور لكون الاستعمال فيما وضع له ، ولا على المختار لعدم وجود المشابهة والادّعاء.

وأمّا كونه حقيقة فذهب المحقّق الخراساني إلى كونها حقيقة قائلاً بأنّ الجمل الخبرية في هذا المقام مستعملة في معناها ، إلاّ أنّه ليس بداعي الاعلام بل بداعي البعث كما هو الحال في الصيغ الإنشائية على ما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعية لكن بدواع أُخر.

يلاحظ عليه : بأنّ استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ليس تعريفاً تامّاً للحقيقة ، بل يحتاج إلى قيد آخر وهو أن يكون الموضوع له متعلقاً للإرادة الاستعمالية والجدية معاً ، وإلاّ فلو كان المعنى الحقيقي موضوعاً للإرادة الاستعمالية فقط دون الجديّة ، بل صار المعنى الحقيقي جسراً وواسطة لتفهيم المعنى الآخر فهذا ليس بحقيقة ، بل يسمّى في الاصطلاح كناية ، فإذا قال : زيد جبان الكلب ، أو كثير الرماد ، أو طويل النجاد ، فالجمل الثلاثة مستعملة فيما وضعت له ولكن الموضوع له مراد بالإرادة الاستعمالية ، وأمّا المراد الجدي فهو

٣١٠

وصفه بالسخاء والشجاعة ، والدليل على ذلك أنّه لو لم يكن في بيته أيُّ كلب ولا رماد ولا طول النجاد لا توصف الجمل بالكذب ، لعدم استقرار الذهن على المعنى الموضوع له ، بل يستقر على المعنى الثاني اللازم للمعنى الموضوع له.

وقد قلنا (١) نظير ذلك في الجمل الإنشائية المستعملة بداعي التعجيز والتمنّي والإهانة ، فهي وإن استعملت في البعث الإنشائي لكن المراد الجدّي شيء آخر وهو التعجيز والتمنّي والإهانة ، فيعد اللفظ كناية ، أي ذكر الملزوم وإرادة اللازم.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل أي كونه مجازاً أو حقيقة أو كناية.

وأمّا الأمر الثاني : أي عدم لزوم الكذب فلما أفاده المحقّق الخراساني بأنّه إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام لا لداعي البعث ، كيف؟ وإلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل زيد كثير الرماد ، أو مهزول الفصيل ، لا يكون كذباً إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً ، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد.

وأمّا الثالث : أي دلالته على الوجوب فالأظهر أنّه كذلك بشهادة أنّ الجملة تكشف عن شدة رغبته بالموضوع حتى يراه في الخارج مجسّماً موجوداً ، وهذا يكشف عن شدّة الرغبة وكثرة العناية بالموضوع ، مثلاً انّ الرجل في مقام دعوة ابنه إلى الصلاة يقول في مجمع : إنّ ولدي هذا يصلِّي ، فرغبته إلى إقامة الصلاة كانت على درجة يرى الصلاة بعينها في مستقبل أيّام الولد.

ومنه يظهر الأمر الرابع من أنّه آكد كما هو واضح.

إلى هنا تمّ الكلام في المباحث الثلاثة من الفصل الثاني ، وأمّا المبحث الرابع الذي عقده المحقّق الخراساني ، فنحن في غنى عنه ، لأنّنا أدرجنا مطالب هذا المبحث في المبحث الثالث.

__________________

١ ـ لاحظ ص ٣٠١ من هذا الجزء.

٣١١

المبحث الرابع

التوصلي والتعبدي

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً تسلّط أضواءً على المسألة.

الأوّل : ماذا يقصد من التوصلي؟

يستعمل التوصّلي في موارد كلّها مصاديق من مفهوم واحد.

١. ما لا يعتبر فيه المباشرة ، بل يكفي تبرّع الغير كأداء الدين ، فلو قام متبرّع بأداء دين الغير كفى ، ويقابله ما يشترط فيه المباشرة ، كما إذا سلَّم شخص على شخص خاص فلا يسقط بجواب شخص آخر.

٢. ما لا يعتبر في سقوطه الاختيار والالتفات كتطهير البدن والثوب من الخبث ، فلو غمست الأُمّ يد الطفل في الماء لطهرت وإن كان الطفل غير مختار بل غير ملتفت ، ويقابله ما يشترط فيه قصد العنوان ، كعناوين المعاملات كالبيع وغيره ، فلا يتحقّق البيع بلا قصد عنوانه.

٣. ما لا يشترط في سقوطه تحقّقه في ضمن فرد سائغ بل يسقط في ضمن فرد محرّم ، كما إذا وجب قتل الحية فيسقط الواجب ولو بقتلها بآلة مغصوبة.

وهذا لا يعني أنّ الواجب هو الفرد الأعم من السائغ والمحرّم ، بل لما حصل الغرض بقتل الحية بآلة مغصوبة سقط الوجوب لانتفاء الموضوع أو

٣١٢

لحصول الغرض وإلاّ فالواجب هو الكلي المتحقق في ضمن السائغ.

٤. ما يحصل الغرض بمجرّد ايجاد الواجب بأيّ داع كان ، ويقابله ما لا يسقط بايجاده ، بل لابدّ من إتيانه لأمره سبحانه أو لأجله ، والأوّل كدفن الميت ، والثاني كالواجبات العباديّة.

هذه الموارد الأربع يستعمل فيها كلمة التوصل فله معنى عام يشمل هذه الموارد.

والمقصود من التوصلي في المقام هو المورد الرابع ، أي ما لا يشترط في سقوطه الإتيان به لأجل أمره سبحانه.

الثاني : ماذا يقصد من التعبّدي؟

يطلق التعبّدي ويراد منه أحد الأُمور التالية :

أ. الإتيان بالواجب بقصد أمره سبحانه.

ب. الإتيان بالواجب للّه تبارك وتعالى.

ج. الإتيان بداعي التقرّب إليه سبحانه.

د. الإتيان بداعي كونه تعظيماً وتقديساً له.

هـ. الإتيان بداعي المحبوبية للمولى ، فيكون الداعي إلى العمل كونه محبوباً ومطلوباً للّه لا سائر الدواعي.

و. الإتيان بقصد المصلحة المعنوية المترتبة على العمل ، كالتقوى في الصوم ، والانتهاء عن الفحشاء في الصلاة ، قال سبحانه : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) (١) وقال : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحشاءِ وَالْمُنْكَر ). (٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٣.

٢ ـ العنكبوت : ٤٥.

٣١٣

نعم لا يكفي الإتيان بالعمل لأجل المصالح الدنيوية كالصحة في الصوم والتجارة في الحجّ والرياضة في الصلاة ، لأنّ الإتيان لأجل هذه الغايات لا يضفي للعمل عنوان العبادة.

وعلى ضوء ذلك فالعبادة عبارة عن إتيان العمل بواحد من هذه الغايات.

الثالث : هل هناك عبادة ذاتية؟

ثمّ إنّه ربّما يتصور أنّ هناك أُموراً تعد من العبادات الذاتية ، وهي التي تعدّ من مظاهر التعظيم والتقديس بين عامّة الشعوب.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ السجود لو كان عبادة ذاتية ، فكيف أمر اللّه سبحانه الملائكة بالسجود لآدم ، أو كيف سجد يعقوب وأولاده لولده يوسف ، قال سبحانه : ( فَإِذا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدين ) (١) وقال أيضاً : ( وَخَرُّوا لَهُ سُجّداً ). (٢)

وثانياً : انّ كونهما من مظاهر التقديس والتعظيم إنّما هو بالجعل والاعتبار بشهادة انّه يمكن أن يجعل الركوع أمام الشخص آية التحقير والإهانة.

الرابع : ما هو حدّ العبادة؟

العبادة عبارة عن الخضوع بالجوارح نابعاً عن الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له ، أو ربوبيته ، والمراد من الأُلوهية هو الاعتقاد بأنّ المخضوع له إله العالم أو يملك شيئاً من أفعاله من الإمطار والغفران و ... ، وعلى ذلك فالعبادة متقوّمة بعنصرين : عنصر ظاهري وهو الخضوع عملاً ، وعنصر باطني وهو الاعتقاد بكون المخضوع له إلهاً أو ربّاً. (٣)

__________________

١ ـ الحجر : ٢٩.

٢ ـ يوسف : ١٠٠.

٣ ـ لاحظ للمزيد من التفصيل كتاب مفاهيم القرآن : ١ ، فصل التوحيد في العبادة.

٣١٤

وبذلك يعلم انّ مجرد الخضوع لا يعدّ عبادة ما لم ينبع من الاعتقاد الخاص ، وهو كون المخضوع له إله العالم أو ربّه.

والشاهد على ذلك أنّ عبادة المسلمين للّه سبحانه ، وعبادة المشركين للأصنام والأوثان واجدة لهذا الشرط ، فالمسلمون يعبدون اللّه تعالى بما أنّه إله العالم وربّ العالمين وربّ الإنسان ، كما أنّ المشركين يعبدون الأوثان والأصنام بما انّها آلهـة وأرباب ، ولذلك يقول سبحانه ردّاً عليهم : ( لَوْ كانَ فِيهما آلهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (١) وقال سبحانه : ( أَجعلَ الآلهةَ إِلهاً واحداً إنّ هذا لشيءٌ عُجاب ) (٢) وقول يوسف لصاحبيه في السجن : ( أأربابٌ مُتفرِّقُونَ خيرٌ أَمِ اللّهُ الواحدُ القَهّار ). (٣)

ومن هنا يعلم أنّ كلّ خضوع وخشوع أمام الأنبياء والأولياء لا تعدّ عبادة ما لم يعتبرهم الخاضع أرباباً وآلهة ، بل اتّخذهم عباداً مكرمين.

والكلام الحاسم مع من يرى كلّ تعظيم وتقديس للأنبياء والأولياء عبادة أو دعوتهم شركاً هو أن يحدد ذلك القائل العبادة بحد منطقي فما لم تحدد به لا يمكن القضاء الحاسم ، وقد علمت الحد المنطقي لها.

الخامس : التقسيم ثنائي لا ثلاثي

المعروف أنّ الواجب إمّا توصلي أو تعبّدي ، وذهب السيّد الأُستاذ إلى أنّ التقسيم ثلاثي ، وذلك أنّ ما يعتبر في ثبوته قصد القربة ينقسم إلى قسمين تعبّدي وتقرّبي ، فانّ ما يؤتى به متقرّباً إلى اللّه ، إمّا ينطبق عليه عنوان العبودية للّه ، بحيث يعد العمل عبودية للّه سبحانه كالصلاة والاعتكاف والحجّ ، أو لا ينطبق عليه ذاك

__________________

١ ـ الأنبياء : ٢٢.

٢ ـ ص : ٥.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٣١٥

العنوان ، وإن كان يعد إطاعة ، كالزكاة والخمس ، ويعتبر في سقوط الواجب الإتيان به للّه سبحانه ، لكن لا يعدّ عبادة وعبودية ، أعني ما يساوق عنوان : « پرستش » في الفارسية. وعلى ذلك فالأولى تبديل عنوان البحث إلى التوصلي والتقربي ، حتّى يعم القسم الأخير.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبني على أن ترادف العبادة للفظ « پرستش » في الفارسية مع أنّه غير ثابت ، فانّ للثاني ضيقاً لا ينطبق على الفرائض المالية التي يشترط في صحّتها الإتيان بها متقرّباً إلى اللّه ، ولكن العبادة في لغة العرب أعمّ من ذلك اللفظ ، لأنّ العبادة لغة هي : الخضوع والخشوع والتذلّل ، لكن لا مطلقاً بل الخضوع النابع من اعتقاد خاص وهو الاعتقاد بما انّه إله ، أو خالق أو انّه قائم بالأفعال الإلهية ، فصلاة الموحّد وصيامه عبادة ، لأنّه قام بها لأجل انّ المعبود إله أو ربّ ، كما أنّ خضوع المشركين أمام الوثن والصنم كان عبادة لا لأنّ الأصنام خلاّق العالم ، بل لتخيّلهم أنّه سبحانه فوّض أفعاله إليها ، من المغفرة ، والشفاعة ، فإذا شفعت تقبل شفاعتها من دون حاجة إلى إذنه سبحانه في الشفيع ، وارتضائه المشفوع له.

فإذا كان هذا معنى العبادة فكلّ عمل يشعر بالخضوع ، ويعرب عن تعظيم الغير بما أنّه إله أو ربّ أو مفوّض إليه أفعاله سبحانه ، يكون عبادة من غير فرق بين الصلاة وإعطاء الخمس والزكاة. والوقوف في عرفات والمشعر الحرام ومنى ، والذبح وحلق الرأس والسعي والطواف ، فروح العبادة عبارة عن كون المحرّك ، هو استشعار العظمة استشعاراً نابعة من الاعتقاد بكون المعبود خالقاً أو ربّاً أو ما يماثل ذلك من كونه مالكاً لبعض أفعاله سبحانه.

٣١٦

السادس : ما هو الأصل فيما شكّ أنّه توصلي أو تعبّدي؟

إذا علم أنّ الواجب تعبدي أو توصلي يعمل به حسب ما علم ، وأمّا إذا شكّ ، فهل هناك أصل لفظي يثبت كونه توصلياً أو لا؟

ثمّ إذا لم يكن هناك أصل لفظي فما هو حكم الأصل العملي في المقام.

لا شكّ أنّه إذا شككنا في قيد المتعلّق يتمسك بالإطلاق كما إذا قال : اعتق رقبة ، نتمسّك بإطلاق المتعلق ويحكم بعدم وجوب الإيمان ، وأمّا المقام فهناك خصوصية ربّما تكون مانعة عن التمسّك بإطلاق المتعلق ، فإذا قال الشارع : أقم الصلاة لدلوك الشمس ، فربّما لا يمكن التمسّك ، بإطلاق الصلاة لدفع الشك في اعتبار قصد القربة مثلاً ، وذلك لأنّ قيود المتعلق على قسمين :

قسم ما ينوع المتعلّق إلى قسمين كرقبة مؤمنة ورقبة كافرة ، فهذا ما يسمّى من القيود الواقعة تحت دائرة الطلب ، فكأنّ الطلب يقع على المتعلق مطلقة أو مقيدة.

وقسم آخر لا ينوع المتعلّق إلى قسمين ، وهو عبارة عن القيود الناشئة من جانب الأمر بالمتعلّق بحيث لولا الأمر لما يكون عن هذا القيد عين ولا أثر ، وهذا كقصد الأمر في الصلاة ، فالصلاة المقيّدة بقصد الأمر متقيّدة بقيد يأتي من قبل الأمر ، فلولا أمر الآمر لما يوصف المتعلق بقصد الأمر ، ولأجل هذا التفاوت بين القيدين صار القسم الثاني محطاً للنزاع ، وانّ إطلاق المتعلّق هل يدل على كون الواجب توصلياً أو لا؟ فمن قال بإمكان أخذ هذا القسم من القيود في المتعلق قال بأنّ الأصل هو التوصلية إلاّ أن يدلّ الدليل على خلافه ، وهذا خيرة الفقهاء من القدامى والمتأخّرين إلى عصر الشيخ الأنصاري.

وأمّا من قال بعدم جواز أخذه في المتعلّق ، فذهب إلى أنّ الأصل هو التعبدية إلاّ أن يدل دليل على التوصلية وعليه الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني.

٣١٧

واستدلّوا على امتناع الأخذ في المتعلّق بوجوه نذكرها تباعاً ، ونقدّم ما ذكره صاحب الكفاية أوّلاً ثمّ نعرّج على ما ذكره الآخرون.

الأوّل : استلزامه التكليف بغير المقدور

إنّ أخذ « قصد الأمر » في المتعلّق يستلزم التكليف بغير المقدور ، فإذا افترضنا أنّ الموضوع قبل الأمر هو « الصلاة مع قصد الأمر » فهو فعل غير مقدور قبل الأمر ، فكيف يأمر بشيء غير مقدور قبله مع أنّه يشترط تعلّقه بالمقدور؟

يلاحظ عليه : أنّه يشترط كون المتعلّق مقدوراً حين الامتثال لا حين الأمر ، والمفروض أنّه بعد الأمر يصير امتثاله أمراً ممكناً.

الثاني : استلزامه داعوية الأمر إلى نفسه

إنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلقه ، والمتعلّق هاهنا هو الشيء المقيّد بقصد الأمر ، فنفس الصلاة مثلاً لا تكون مأموراً بها حتى يقصد المأمور امتثال أمرها ، والدعوة إلى امتثال المقيّد محال ، للزوم كون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه ومحرّكاً لمحرّكية نفسه.

وإلى ذلك يشير صاحب الكفاية بقوله : لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها ، فانّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّداً بداعي الأمر ولا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره. (١)

وحاصل الاستدلال : أنّ الأمر إمّا يدعو إلى امتثال نفس الصلاة ، وهي ليست متعلّق الأمر ، وإمّا يدعو إلى امتثال المركب من الصلاة وقصد الأمر ، وهو

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ١٠٩.

٣١٨

يستلزم كون الشيء داعياً إلى نفسه.

وهذا الوجه غير تام بكلا شقّيه ، إذ لنا أن نختار كلاً من الشقين ونجيب عنه ، فنقول :

أمّا الشقّ الأوّل : فنحن نقول إنّ الصلاة بما هي هي متعلقة بالأمر وواجبة إمّا بالوجوب الغيري على القول بوجوب الأجزاء الداخلية ، أو بالوجوب الضمني حسب ما ذهب إليه المحقّق البروجردي حيث يترشح من الوجوب النفسي وجوبات متعددة حسب تعدد الأجزاء ، أو بالوجوب النفسي حسب المختار في باب الأجزاء الداخلية حيث إنّ الإنسان يأتي بكلّ جزء داخلي بنيّة امتثال الأمر النفسي ، فإذا قال المولى : ابن مسجداً ، فالمهندس أو البنّاء إنّما ينوي امتثال الأمر النفسي عند الاشتغال بالتخطيط وتهيئة مواد البناء ، وحفر الأرض لنصب الأعمدة ، فهذه الأعمال كلها نوع امتثال للأمر النفسي ، غير أنّ هذا الامتثال يتم بنحو تدريجي. وعلى جميع الأقوال فالصلاة مأمور بها.

وأمّا الشقّ الثاني : فنلتزم بأنّ الأمر يدعو إلى كلا الجزءين : الصلاة ، وقصد الأمر ، غير أنّ داعوية الأمر إلى متعلّقه ليست داعوية تكوينية حتّى يلزم محرّكية الأمر لنفسه ، بل داعوية تشريعية التي مرجعها إلى بيان موضوع الطاعة ، وعلى ذلك فالأمر يبيّـن موضوع الطاعة وهما أمران : الصلاة وقصد الأمر ، ولا ضير في ذلك.

نعم لو قلنا بأنّ الأمر محرّك تكويني بالنسبة إلى المتعلّق يلزم ما ذكر ، ويدل على ذلك أنّ الأمر لو كان محركاً لما وجد على أديم الأرض كافر أو عاص ، بل المحرّك هو الخوف من العذاب أو الطمع في الثواب.

ثمّ إنّ « الأمر بالصلاة مقيّدة بداعي أمرها » ليس بمعنى أنّه يأتي الجزء

٣١٩

الثاني « داعي أمرها » بقصد أمره ، فانّ هذا التفسير غفلة عن معنى أخذ « قصد الأمر » في متعلّق الأمر ، فانّ الهدف من أخذه ليس إلاّ لبيان كيفية امتثال الجزء الأوّل فقط ، فإذا أتى بالصلاة بقصد أمرها فقد امتثل الأمر بالمركب من الصلاة وقصد الأمر ، قهراً ، ومعه لا يبقى موضوع لامتثال الجزء الثاني.

وهذا كما إذا أمر المولى بالصلاة مع الطهارة فمن لم يكن متطهراً يكون الأمر داعياً إلى كلا الجزئين ، وأمّا من كان واجداً لها فتنحصر داعويته إلى الصلاة وحدها.

والحاصل : انّ المستدل زعم أنّ هناك واجبين يجب امتثالهما :

أ. نفس الصلاة بقصد أمرها.

ب. قصد الأمر بقصد أمره.

فيخيل إليه أنّ الإتيان بالجزء الأوّل غير كاف في صدق الامتثال ، بل لابدّ من امتثال الجزء الثاني بقصد أمره ، وعندئذ يترتب عليه محذور وهو عدم إمكان إتيان الجزء الثاني بقصد أمره ، ولكنّه غفل عن أنّ الواجب بالذات هو الجزء الأوّل وإنّما أخذ الجزء الثاني في الموضوع طريقاً إلى الصلاة وعنواناً لها ، فإذا أتى بالصلاة مع قصد الأمر فقد حصل الجزء الثاني قهراً من دون حاجة إلى إتيانه بقصد الأمر.

الثالث : استلزامه التسلسل

وبيانه يحتاج إلى بيان مقدمة وهي :

كان المبنى في الدليل الثاني على أنّ الصلاة فاقدة للأمر ، والمجموع وإن كان واجداً للأمر لكن الأمر لا يمكن أن يدعو إلى المركب لاستلزامه داعوية الأمر إلى نفسه كما تقدّم.

ولقائل أن يقول : إنّ الصلاة إنّما تفقد الأمر إذا كان الجزء الثاني شرطاً لا

٣٢٠