إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

الثالث : ما اختاره صاحب الفصول من أنّه يعتبر قيام المبدأ بالذات قياماً أعم من الحلول كما في قولنا « زيد عالم » أو بالصدور كما في « زيد ضارب ومولم » أو بغير هذا النحو من القيام بالوقوع عليه كما في المفعول به أو الوقوع فيه كما في أسماء الزمان والمكان كالمضرب.

نعم لا يشترط على مختاره قيام المبدأ بالذات إذا كان المبدأ ذاتاً لا وصفاً كصفاته سبحانه بالنسبة إلى ذاته ، أو كان كمثل اللابن والتامر إذ ليس المبدأ ـ أعني : التمر واللبن ـ قائماً ببائعهما.

الرابع : ما اختاره صاحب الكفاية من لزوم قيام المبدأ بالذات وتلبّسها به ، غير أن تلبّس كلّ شيء بحسبه ، ففي صفاته الجارية عليه تعالى ، يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً ، وقائماً به عيناً بنحو من القيام لا أن يكون هناك اثنينية أو كان ما بحذائه غير ما بحذاء الذات. وعدم اطّلاع العرف على مثل هذا التلبّس من الأُمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ولو بنحو من التأمل والتعمل من العقل.

فإن قلت : إنّ مثل هذا التلبّس لا يعد عرفاً من مصاديق القيام وتلبّس الذات به.

قلت : إنّ العرف مرجع في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على مصاديقها.

يلاحظ عليه أوّلاً : إنّ المتبادر في القيام والتلبّس ، التعدّد والاثنينية ، فإذا كان المبدأ عين الذات في عامّة المراحل ، كيف يمكن أن نتصوّر قيام شيء بشيء أو تلبّسه به؟ وما ذكره من التعابير المتكررة نوع تلاعب بالألفاظ وليس له من الحقيقة نصيب.

وثانياً : أنّ ما ذكره من أنّ العرف مرجع لتحديد المفاهيم لا لتعيين

٢٦١

المصاديق أمر غير تام ، بل العرف مرجع في كلا الموردين ، ولذلك لا يعدّ لون الدم دماً واجب الاجتناب ، وذلك لأنّ لون الدم غير الدم عرفاً وإن كان حسب التحليل الطبي أو العقلي مرتبة من اللون.

والحقّ أن يقال : انّ العقيدة لا تمسّ اللغة ولا تغيّـرها ، فنحن نجري صفاته تعالى عليه بما له من المعنى من دون أي نقل وتجوّز ، وظاهره زيادة العنوان على المعنون ، أو تلبّس الذات بشيء ورائها ، أو قيامه بها ، لكن دلّ البرهان على أنّ هذا الظهور غير معتبر عقيدة ، لدلالة العقل على أنّ صفاته سبحانه عين ذاته.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « شهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه. (١)

وقوله عليه‌السلام : « لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف » إشارة إلى ما ذكرناه من المتفاهم العرفي من الصفات ، ولكن الإمام نفى الاثنينية بالبرهان ، لا بالتصرّف في معاني المشتقات ، ولا إشكال في أنّه يستعمله العامي والحكيم في معنى واحد في حقّه سبحانه إرادة استعمالية غير أنّ المراد الجدي لدى الحكيم يغاير الاستعمالي.

وأظن أنّ القوم لو فتحوا باباً خاصّاً للألفاظ ومعانيها ، وباباً آخر للعقائد ، بحيث لا يكون ظهور اللفظ مبدأً للعقيدة ، ولا العقيدة صادمة لظهور اللفظ ، لكان أحسن.

والحاصل : نحن نشاطر المحقّق الخراساني الرأي في أنّ الصفات الكمالية ، تطلق على الممكن والواجب بمعنى واحد من دون أن يكون في الإطلاق الثاني

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة الأُولى.

٢٦٢

تجوّز أو نقل لكن نختلف معه في أنّه يدّعي انّ مفهوم المشتق الذي هو التلبس والقيام صادق على الممكن والواجب ولا يتنافيان مع عينية صفاته لذاته لأن تلبّس كلّ شيء بحسبه ولا يتوقفان على أن يكون ما بحذاء أحدهما عين الآخر.

ولكنا نجري الصفات عليه تعالى بنفس المفهوم العرفي ولكن نعتقد انّ البرهان لا يوافق هذا الظهور فيكون الظهور مراداً استعمالياً ولكنّ المراد الجدي لمن التفت إلى ذلك ، غيره.

المسألة السادسة : في عدم اعتبار التلبّس الحقيقي

ربما يقال بأنّ تلبّس الذات بالمبدأ ليس شرطاً في صحّة الحمل فربّما يكون هناك حمل بلا تلبّس كما في « الميزاب جار » والجريان قائم بالماء مع أنّه حمل على الميزاب.

والجواب : انّ الجريان قائم بالماء حقيقة وبالميزاب ادّعاءً وتنزيلاً ، فلا يشترط في القيام والتلبّس ، القيام والتلبس الحقيقيّان ، بل يكفي التنزيليان منهما ، وهذا هو الحال في عامّة المجازات في الاسناد ، فلفظ الجاري مستعمل في معناه اللغوي غير أنّ اسناده إلى الميزاب اسناد مجازي لا حقيقي ولا يشترط التلبّس الحقيقي وهذا من الوضوح بمكان.

تمّ الكلام في الأُمور الأربعة عشر التي جعلها

المحقّق الخراساني كالمقدمة الواحدة لمقاصد الكتاب.

٢٦٣
٢٦٤

المقصد الأوّل

في الأوامر

وفيها فصول :

الفصل الأوّل : في مادّة الأمر وفيه جهات من البحث

الفصل الثاني : فيما يتعلّق بصيغة الأمر وفيه مباحث

الفصل الثالث : في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء

الفصل الرابع : في مقدّمة الواجب

الفصل الخامس : في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه وفيه أُمور

الفصل السادس : في جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

الفصل السابع : في تعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد

الفصل الثامن : إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز؟

الفصل التاسع : في الواجب التخييري وحلّ مشاكله

الفصل العاشر : في الواجب الكفائي

الفصل الحادي عشر : في المطلق والمؤقت ، والموسع والمضيّق

الفصل الثاني عشر : في الأمر بالأمر بفعل ، هل هو أمر بالفعل؟

الفصل الثالث عشر : الأمر بالشيء بعد الأمر به ، ظاهر في التأكيد أو التأسيس

٢٦٥
٢٦٦

الفصل الأوّل

مادة الأمر

وفيه جهات من البحث :

الجهة الأُولى : معنى لفظ الأمر لغة

قد ذكروا للفظ الأمر معان متعددة :

أ. الطلب ، كما يقال أمره بكذا.

ب. الشأن ، كما يقال شغله أمر كذا.

ج. الفعل كما في قوله : ( وَما أَمْرُ فِرعَونَ بِرَشيد ). (١)

هـ. الفعل العجيب كما في قوله : ( وَلَمّا جاءَأَمْرُنا ). (٢)

و. الغرض كما يقال : جاء زيد لأمر كذا.

ز. الحادثة كما يقال : وقع الأمر.

ولا شكّ أنّ ما ذكروه من التفاصيل من باب خلط المصداق بالمفهوم كما هو الحال في أكثر المعاجم اللغوية حيث ذكروا للفظة « القضاء » معاني عشرة مع أنّه ليس له إلاّ معنى واحد وهو إتقان الفعل ، وما ذكر من المعاني مصاديق له : كقوله سبحانه : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تعبُدُوا إِلاّّ إِيّاه ) (٣). فانّ التشريع الإلهي بما أنّه يتمتّع

__________________

١ ـ هود : ٩٧.

٢ ـ هود : ٥٨.

٣ ـ الإسراء : ٢٣.

٢٦٧

بالإتقان استعمل في حقّه القضاء أي الحكم المتقن. ومثله المقام فانّ قسماً من هذه المعاني من المصاديق وبعضها من الوضوح بمكان ، فانّ الغرض في قوله : « جاء زيد لأمر كذا » مستفاد من اللام فالمدخول مصداق الغرض لا مفهومه ، وهكذا في قوله سبحانه : ( فَلَمّا جاءَ أَمْرنا ) فالمدخول مصداق للتعجب لا مستعمل في مفهومه.

بقي الكلام في تحديد معنى الأمر ، فهناك آراء نشير إلى بعضها.

انّه موضوع لمعنيين :

الطلب

والشأن

وهو خيرة صاحب الفصول

الطلب

والشيء

وهو خيرة المحقّق الخراساني

الطلب

والفعل

وهو المختار عندنا

أمّا الأوّل : فقد استند صاحب الفصول في كون الشأن من معاني الأمر إلى قول القائل : « شغلني أمر كذا » مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو الفعل أي شغلنا فعل كذا ، كما اعتمد المحقّق الخراساني في استعماله في الشيء على قول القائل : رأيت اليوم أمراً عجيباً ، مع أنّه من المحتمل أن يكون الأمر بمعنى الفعل.

أضف إلى ذلك انّه لو كان الأمر بمعنى الشيء يلزم صحّة استعمال أحد المترادفين مكان الآخر ، فكما يقال : « اللّه شيء » و « العقل شيء » ، يجب أن يصحّ القول بأنّ اللّه أمر ، والعقل أمر ، كلّ ذلك يعرب عن عدم كون الأمر بمعنى الشيء.

هذا كلّه حول القولين ، وأمّا القول الثالث أي كون المعنى الثاني للأمر هو الفعل ، فيكفي في ذلك قولـه سبحانـه : ( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للّهِ يُخْفُـونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا

٢٦٨

لا يُبْدُونَ ). (١)

أي كلّما يجري في الكون من السنن التي هي من أفعاله سبحانه بيد اللّه ، وقوله : ( قُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُور ). (٢)

وقوله : ( وشاوِرْهُمْ فِي الأَمر ) (٣) أي شاور هؤلاء في أُمورك وأفعالك وما تفعل وما تترك.

ثمّ إنّ الأمر بمعنى الطلب بالقول المخصوص يجمع على أوامر ، كما أنّه بمعنى الفعل يجمع على أُمور.

نعم لو قلنا بأنّ الأمر هو نفس الأمر المخصوص فلا يصحّ منه الاشتقاق لكونه معنى جامداً غير قابل للسيلان ، بخلاف ما إذا قلنا إنّه حقيقة في الطلب بالقول المخصوص.

ثمّ إنّ الثمرة تظهر فيما لو ورد لفظ الأمر في الكتاب والسنّة ولم يعلم المقصود منه ، فعندئذ تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، فلو كان للحكم حالة سابقة يستصحب ، وإلاّ فلو كان الشكّ في التكليف ، يقع مجرى للبراءة وإلاّ ، يقع مجرى الاشتغال.

الجهة الثانية : في اعتبار العلو والاستعلاء

هل يعتبر العلو والاستعلاء في صدق مفهوم الأمر ، أو لا يعتبران أو فيه تفصيل؟ فيه أقوال وآراء :

الأوّل : اعتبار العلو دون الاستعلاء.

الثاني : اعتبار أحدهما.

__________________

١ ـ آل عمران : ١٥٤.

٢ ـ البقرة : ٢١٠.

٣ ـ آل عمران : ١٥٩.

٢٦٩

الثالث : اعتبار كليهما وهذا هو المختار.

الرابع : عدم اعتبار واحد منهما.

وإليك دراسة الكلّ واحداً تلو الآخر.

أمّا القول الأوّل : فهو خيرة المحقّق الخراساني ، فذهب إلى اعتبار العلو في معنى الأمر فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً ، ولو أطلق عليه الأمر ، كان بنحو من العناية.

كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمراً ولو كان مستخفضاً بجناحه.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من اعتبار العلو لا غبار عليه ، والدليل عليه هو التبادر ، فانّ في لغة العرب ألفاظاً ثلاثة لكلّ مورده :

١. الأمر ، ويرادفه في اللغة الفارسية « فرمان ».

٢. الالتماس ، وهو طلب المساوي من المساوي.

٣. السؤال ، وهو طلب السافل من العالي.

فالأوّل هو الطلب الصادر من العالي ، والثاني هو الطلب الصادر من المساوي ، والثالث هو الطلب الصادر من السافل.

وهذا يُثبت دخول العلو في مادة الأمر وأمّا عدم اعتبار الاستعلاء فلم يذكر عليه دليلاً وسيوافيك اعتباره أيضاً.

وأمّا القول الثاني : فقد نقله في « الكفاية » وضعّفه ، وحاصل استدلاله أنّه يكفي أحدهما ، أمّا العلو فلما مرّ ، وأمّا كفاية الاستعلاء فلأجل تقبيح العقلاء ، الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه لأجل أنّه يصدق عليه الأمر.

وردّه بقوله : إنّ التوبيخ ليس على الأمر ، بل على استعلائه حقيقة ، ولو أطلق

٢٧٠

عليه الأمر فإنّما هو بالمشاكلة ، أو لكونه بصورة الأمر لأنّه مقتضى استعلائه.

وأمّا القول الثالث : أعني : اعتبار كليهما ، فهذا هو المختار أمّا العلو فواضح لما عرفت من التبادر.

وأمّا الاستعلاء فنمنع صدق الأمر على طلب العالي من السافل بلسان الاستدعاء ، وذلك لأنّ مورد البحث هو ما إذا صدر الطلب بلسان المولوية والعبودية ، وفي مثله يعتبر الاستعلاء ، ولو كان الكلام خارجاً عن تلك الدائرة فلا يطلق عليه انّه الأمر بل يطلق عليه الاستدعاء حتى ولو صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشهد لذلك ما رواه ابن عباس حيث إنّ بريرة كانت زوجة للعبد فلما اعتقت كان لها الخيار ـ حسب الحكم الشرعي ـ بين البقاء على حبالة زوجها أو المفارقة ، فاختارت هي ، المفارقة ؛ فاتّصل زوجها بعمّ النبي العباس بن عبد المطلب ليكلّم النبي حتى يأمرها بالبقاء ، فلمّا كلمها النبي ، وقال لها : « إنّه زوجك » فقالت بريرة : أتأمرني يا رسول اللّه؟ فقال : لا ، إنّما أنا شافع ، قال : فخيّـرها ، فاختارت نفسها. (١)

ترى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما يخاطبها ، بقوله : « إنّه زوجك » ، الظاهر في أنّ الإبقاء مع حبالة الزوج السابق ، كان مورد رغبة النبي ، فسألته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : أتأمرني بكلامك هذا؟ فنفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمر وأثبت الشفاعة ، فلو كان وجود العلو كافياً في صدق الأمر لما كان لبريرة السؤال عن مقصود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لملازمة العلو وحده مع الأمر.

وهذا ـ أي سؤالها عن مقصود النبي ـ يدلّ على أنّ خطاب العالي على قسمين :

قسم يكون مقروناً بالاستعلاء فيكون أمراً ، وقسم آخر يكون بلسان الاستدعاء فيكون شفاعة.

__________________

١ ـ مسند أحمد : ١ / ٢١٥.

٢٧١

وأمّا القول الرابع : فهو خيرة المحقّق البروجردي القائل بعدم أخذ واحد منهما في صدق الأمر مستدلاً ، بقوله : إنّ حقيقة الطلب على قسمين : قسم يطلب فيه انبعاث المطلوب منه من نفس الطلب ، بحيث يكون داعيه ومحرّكه إلى الامتثال صرف هذا الطلب ، وهذا ما يسمّى أمراً.

وقسم يقصد فيه انبعاث المطلوب منه من الطلب منضماً إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في نفسه ، كطلب المسكين من الغني ، وهذا القسم من الطلب يسمّى التماساً (١) والقسم الأوّل يناسب العالي. ولا يراد منه كون الطالب عالياً ، مأخوذاً في مفهوم الأمر ، حتى يكون معنى « آمرك بكذا » أطلب منك وأنا عال.

فعلى هذا فحقيقة الطلب على قسمين غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منه حقّ من كان عالياً ، ومع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان أمراً أيضاً ولكن يذمّه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأناً له فيقولون أتأمره؟! كما أنّ القسم الثاني يناسب شأن السافل ، ولو صدر عن العالي أيضاً لم يكن أمراً فيقولون لم يأمره بل التمس منه ويرون هذا تواضعاً منه. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ تقسيم الطلب إلى قسمين ، وإن كان تقسيماً صحيحاً ، لكن الكلام في كيفية وضع لفظ الأمر للقسم الأوّل فما هو المخصص لعدم شموله للقسم الثاني ، فلابدّ أن يضمّ إلى معنى الطلب شيء آخر حتى يصدّه عن الشمول للقسم الآخر ، فما هو ذاك القيد؟ فهل هو :

١. ما يكون الانبعاث من نفس الطلب ، وهو كما ترى.

__________________

١ ـ طلب السافل من العالي يسمّى سؤالاً ودعاءً لا التماساً.

٢ ـ نهاية الأُصول : ١ / ٧٥ ـ ٧٦ بتلخيص.

٢٧٢

٢. ما يكون الطالب ، عالياً بالنسبة إلى المطلوب منه.

ولا ثالث ، والثاني هو المتعيّن ، ولا يعني هذا القول دخول العلو بالمعنى الاسمي في مدلول الأمر حتى يكون معنى قوله : « آمرك » أي أطلب منك وأنا عال ، ولو فسّر بذلك فهو من قبيل زيادة الحدّ على المحدود ، بل يراد دخوله على وجه الإجمال وعلى نحو المعنى الحرفي.

الجهة الثالثة : في دلالة مادة الأمر على الوجوب

اختلفت كلمتهم في أنّ لفظة الأمر حقيقة في الوجوب ، أو مشترك معنوي بينه وبين الوجوب.

ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل ، واستدلّ عليه بوجوه تالية :

١. انسباق الوجوب منه عند الإطلاق.

٢. الأمر بالحذر من مخالفة أمر الرسول ، كقوله سبحانه : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أَليم ) (١) والضمير في « أمره » يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تقدم من قوله سبحانه : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَينكُمْ كَدُعاءِ بَعْضكُمْ بَعْضاً ) (٢) و « المخالفة » يتعدى بنفسه يقال خالف أمره ، ولكن جاءت هنا مقروناً بـ « الجارّ » لتضمنها معنى الإعراض ، أي يعرضون عن أمر الرسول. (٣)

٣. وقوله : « لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك » (٤) الدالّ على أنّ الأمر

__________________

١ و ٢ ـ النور : ٦٣.

٣ ـ مجمع البيان : ٤ / ١٥٨ ط صيدا.

٤ ـ وسائل الشيعة : الجزء٢ ، الباب ٣ من أبواب السواك ، الحديث ٤.

٢٧٣

يلازم المشقة وهي آية الوجوب.

٤. قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول اللّه؟ قال : « لا إنّما أنا شافع » أي أتلزمني بالبقاء مع الزوج؟ فأجاب : لا.

٥. وصحّة توبيخ العبد الذي خالف أمر المولى ، كقوله سبحانه : ( ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذ أَمَرْتُك ). (١)

٦. والإيعاد بالسجن عند المخالفة ، كقوله سبحانه حاكياً عن امرأة العزيز : ( وَلئن لَمْ يَفْعَل ما آمره لَيُسْجَنَنّ ). (٢)

ثمّ إنّه قدس‌سره أجاب عن أدلة القائلين بالاشتراك المعنوي حيث استدلّوا بالوجوه التالية :

أ : الأمر ينقسم إلى الإيجاب والاستحباب والتقسيم آية أنّه حقيقة في الجامع بينهما.

يلاحظ عليه : أنّ التقسيم بنفسه قرينة على أنّ المراد من المقسم هو الأعم من الوجوب ، والكلام فيما لا يكون هناك قرينة.

ب : انّ الأمر يستعمل في الوجوب والندب فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم أن يكون إمّا مجازاً في الندب أو مشتركاً لفظياً وكلاهما على خلاف الأصل.

يلاحظ عليه : بأنّه لا دليل على هذه الترجيحات ـ كما تقدّم في تعارض الأحوال ـ فانّ الأُصول اللفظية إنّما يحتجّ بها فيما إذا كان الشكّ في المراد لا في مثل المقام حيث إنّ الهدف تبيّن كيفية الإرادة ، وانّها هل على نحو الحقيقة أو الأعمّ منها ومن المجاز؟ إلى غير ذلك.

__________________

١ ـ الأعراف : ١٢.

٢ ـ يوسف : ٣٢.

٢٧٤

ج : انّ فعل المندوب طاعة ، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به ، ففعل المندوب ، فعل المأمور به.

يلاحظ عليه : منع الكبرى لو أُريد من المأمور به ، المعنى الحقيقي أي فعل الواجب ، ولو أُريد الأعم منه ومن غيره لا يثبت المدعى. هذا توضيح ما في الكفاية.

هناك نكتة مهمة كان على صاحب الكفاية التنبيه عليها ، وهي :

أنّه لا شكّ في استفادة الوجوب من لفظة الأمر ومن مرادفه في الفارسية ( فرمان ) إنّما الكلام في مَنْشَئِها ، فهل الوجوب مدلول لفظي وضعي ، بمعنى أنّ لفظه موضوع للوجوب ، أو هو مقتضى الإطلاق وانّ الوجوب لا يحتاج إلى بيان زائد ، بخلاف الندب ، فإذا لم يكن هناك بيان زائد يحمل على الوجوب ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل هو مقتضى حكم العقل؟ هنا احتمالات ثلاثة ندرسها.

لا سبيل إلى الأوّل ، إذ ليس الوجوب والندب من مداليل لفظ الأمر ، بل الكل من المفاهيم الانتزاعية ، فانّ لفظ الأمر وضع لنفس الطلب وحده ، وإنّما ينتزع الوجوب من استعماله مقروناً بشيء يدل على شدّة رغبة المولى بالفعل وعدم رضاه بتركه ، كما أنّ الندب ينتزع من استعماله مقروناً بما يدل على خلاف ذاك. (١)

نعم الاحتمال الثاني قريب بناء على إلقاء الأمر (٢) بلا قرينة دالة على الندب كاف في بيان الوجوب ، بخلاف الندب فهو رهن بيان زائد من تجويز المخالفة وسيوافيك أنّ مقتضى صيغة الأمر هو كونه نفسيّاً ، عينياً تعيينياً ، لأنّها لا تحتاج إلى

__________________

١ ـ وسيوافيك تفصيله في دلالة صيغة الأمر على الوجوب أو الندب والكلام في المقام في لفظ « الأمر » فلا يختلط عليك البحث.

٢ ـ من فرق بين لفظ الأمر وصيغته.

٢٧٥

بيان زائد سوى الأمر والبعث ، بخلاف مقابليها فانّها رهن القيود التي تفيد انّ الأمر غيري لا نفسي ، أو كفائي لا عيني ، أو تخييري لا تعييني ، وسيأتي توضيح ذلك في محله العاجل.

والاحتمال الثالث هو الأقرب وهو حكم العقل بأنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب ، وانّه يلزم تحصيل المُؤمِّن من العقوبة ، ولا يجوز تركه باحتمال انّه يرضى لتركه.

ولذلك ، يجب العمل بالأمر إلاّ إذا دلّ الدليل على الترخيص ، فيكون الوجوب من المداليل العقلية ، لا اللفظية الوضعية ، ولا الإطلاقية.

الجهة الرابعة : في أنّ الموضوع له هو الطلب الإنشائي

لما اختار المحقّق الخراساني أنّ مفاد الأمر ، هو الطلب ، حاول بيان واقع هذا الطلب وأنّ المراد منه هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي الذي يقال له الطلب بالحمل الشائع الصناعي.

ولا يختص هذا البحث بمادة الأمر ، بل يعم صيغته فانّها أيضاً موضوعة ـ حسب مختاره ـ للطلب ، وانّ المراد منه هو الإنشائي ، لا الحقيقي.

وعلى هذا كان الأنسب إيراده في الفصل الثاني المختص بصيغة الأمر ، وأن يبحث عن مفاد الأمر بمادته وصيغته بصفقة واحدة.

وعلى كلّ تقدير ، انّ الطلب على قسمين :

١. اعتباري إنشائي.

٢. واقعي حقيقي.

والذي يمكن إنشاؤه باللفظ هو المعنى الاعتباري منه ، لا الحقيقي كما هو

٢٧٦

الحال في عامّة الإنشائيات ، فانّ الزوجية الحقيقية غير قابلة للإنشاء ، بل القابل له ، هو الاعتباري المنتزع من الحقيقي بنوع من التشبيه.

وكذا الرئاسة ، فمنها تكويني وقد منح اللّه سبحانه الرأس تدبير الأعضاء فهو يدير ويدبّر تكويناً ، ومنها اعتباري وهو المدير المنصوب لإدارة مجتمع خاصّ ، يأمر وينهى.

والتكويني من كلّ هذه الأُمور ، رهن علّة تكوينية ، فاللّه سبحانه خلق العين والأُذن زوجين ، بخلاف الاعتباري منه ، فهو رهن ترتّب غرض عقلائي لاعتباره وفرضه ، فالرجل الهندي يتزوج امرأة إيرانية ، وبينهما من حيث الموطن والثقافة ، بعد المشرقين ، لكن الاعتبار يفرضهما زوجين يتساهمان في الحياة حلوها ومرّها.

ونظير ذلك ، الإرادة ، فمنها حقيقيّة تتجلّـى في الذهن بعد مقدّمات ، من تصوّر الشيء المراد والتصديق بفائدته ، والميل إليه ، و ... إلى أن تنتهي تلك الأُمور إلى استتباعها حركة العضلات ، نحو إنجاز العمل أو نحو الأمر به فالإرادة التكوينية ، رهن علّة تكوينية توجب ظهورها على لوح النفس.

كما أنّ منها قسماً إنشائياً ، يفرض لأجل ترتب غرض عقلائي عليه فقول المولى : « افعل » أو آمرك بكذا إنشاء للإرادة باللفظ على غرار الإرادة التكوينية ، غير انّها تفترق عن الثانية ، انّ الإرادة الحقيقية أمر واقعي ظاهر على لوح النفس ، بخلاف الأُخرى فهي صرف اعتبار وفرض.

وعلى ضوء ذلك فالطلب والإرادة كفرسي رهان في عامّة المجالات والمظاهر من حيث المفهوم والمصداق والإنشاء.

الف : فالطلب والإرادة يتّحدان مفهوماً وبينهما من الحمل ، الحمل الأوّلي.

ب : الطلب والإرادة يتّحدان مصداقاً ، فالظاهر في لوح النفس طلب وإرادة بالحمل الشائع.

٢٧٧

ج : الطلب والإرادة يتّحدان إنشاءً ، فالمنشأ بلفظ الأمر أو افعل أمر واحد ، له اسمان لكن كلّما أُطلق الطلب ينصرف إلى القسم الإنشائي من هذه الأقسام ، وكلما أُطلقت الارادة تنصرف إلى القسم الحقيقي منها.

ولعلّ بعض من ذهب إلى تعدّد الطلب والإرادة ، وعدم وحدتهما ، أراد مغايرة الإنشائي من الطلب ، مع الفرد الحقيقي من الإرادة وإلاّ فلا وجه للتعدد.

ويشهد على الوحدة أنّ الإنسان إذا حاول أن يفعل شيئاً مباشراً ، أو يقوم به غيره نيابة لم يجد في قرارة ذهنه ، سوى شيئاً واحداً يعبّر عنه تارة بالطلب التكويني وأُخرى بالإرادة الحقيقية ، ولذلك ذهب الأصحاب إلاّ من شذّ إلى وحدتهما في مجال التكوين والحقيقة ، كوحدتهما في عالم المفهوم والإنشاء ، ومن ذهب من الأصحاب إلى التعدّد ، فإنّما أخذ من الطلب ، الجانب الإنشائي ومن الإرادة القسم الحقيقي ، ولا شبهة في مغايرتهما ، إنّما الكلام مقايسة كلّ إلى الآخر في رتبة واحدة.

وليس هذا من خصائص الطلب والإرادة ، بل الأمر كذلك في مورد النهي فلا تجد في لوح النفس إلاّ أمراً واحداً كالكراهة وليس شيء آخر سواها حتى تسمّيه بلفظ آخر ، خلافاً لمورد الأمر حيث نجد هناك لفظين مختلفين ، لكن يشير إلى معنى واحد.

ومثلهما : الترجّي والتمنّي ، بل الجمل الخبرية ، فليس في مورد الجميع سوى أمر نفساني ، يعبّر عنه في مورد الإنشاء بالترجي والتمنّي ، وفي مورد الخبر بالعلم ، فليس في عامة الموارد ـ إنشائية أو إخبارية ـ سوى أمر واحد ، ويعبّر عنه بلفظ واحد كما هو الغالب أو بلفظين كما في مورد الأمر.

هذا توضيح ما في « الكفاية » مع ما في تعبيره من التعقيد.

٢٧٨

وكان عليه قدس‌سره الإشارة إلى نكتة مهمة وهي ما هو السبب لطرح هذه المسألة؟ أي : وحدة الطلب والإرادة أو تعددهما.

ولأجل إزاحة النقاب عن وجه الحقيقة يلزم البحث في النقاط التالية :

أ. ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟

ب. ما هو المراد من الكلام النفسي الذي أعقب طرحَ تلك المسألة؟

ج. الأدلة الأربعة للأشاعرة على إثبات الكلام النفسي ونقدها.

د. ما معنى كونه سبحانه متكلّماً عند المعتزلة والإمامية؟

هـ. ما هو موقفنا من المسألة المطروحة : وحدة الطلب والإرادة؟

وإليك البحث فيها واحدة تلو الأُخرى.

الأُولى : ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟

ربّما يسأل الإنسان نفسَه عما هو السبب لطرح مسألة وحدة الطلب والإرادة ( كما عليه الإمامية والمعتزلة ) أو تعددهما ( كما عليه الأشاعرة ) وما دور تلك المسألة في علم الكلام؟

ويعلم السبب من خلال الوقوف على سيرها التاريخي.

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي وفعلي ، والمائز بينهما هو أنّ الأوّل أُحادي التعلّق ، بمعنى أنّه لا يقبل النفي والإثبات ، وهذا كالعلم والقدرة ، فهو سبحانه يعلم ويقدر على الإطلاق ولا يصحّ أن يقال ولو في مورد خاص لا يعلم ولا يقدر عليه ، وهذا بخلاف صفات الفعل المنتزعة من إيجاده سبحانه وخلقه ، فهي ثُنائية التعلّق ، أي تقبل النفي والإثبات ويقال : يُحيي ولا يحيي ، يميت ولا يميت ، يخلق ولا يخلق ، ولو باعتبار تعلّق أحدهما بموجود والآخر بغيره.

٢٧٩

وقد ذكر شيخنا الكليني ذلك الميزان في كتاب الكافي حيث قال : ألا ترى انّا لا نجد في الوجود ما لا يُعلم ولا يُقدر عليه وكذلك صفاته الذاتية الأزلية ، فلسنا نصفه بقدرة ، وعجز ، وعلم ، وجهل ، وسفه ، وحكمة ، وعزة ، ودولة. ولكن يجوز أن يقال : يُحب من أطاعه ، ويُبغض من عصاه ، ويُوالي من أطاعه ، ويُعادي من عصاه ، وانّه يرضى ويسخط ، إلى آخر ما أفاد. (١)

هذا وقد اختلفت كلمة أهل العلم في صفة التكلّم ، فأهل الحديث أي أتباع أحمد بن حنبل ( المتوفّى عام ٢٤١ هـ ) والأشاعرة الذين يقتفون أثر الشيخ أبي الحسن الأشعري ( ٢٦٠ ـ ٣٢٤ هـ ) على أنّها من صفات الذات كالعلم ، والقدرة والإرادة ، وهي غير هذه الثلاثة.

واختارت الإمامية والمعتزلة أنّها من صفات الفعل وإن اختلفت الطائفتان في كيفيّة تقرير كونها من صفات الفعل بعد الاتفاق على عدم كونها من صفات الذات ، وسيوافيك الفرق بين التقريرين.

ولما كان القول بأنّ التكلّم من صفات الذات مستلزماً لكونه قديماً كالذات ذهب أهل الحديث والأشاعرة برُمّتهم إلى أنّ كلامه سبحانه قديم ليس بمخلوق.

قال أحمد بن حنبل : القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام اللّه عزّ وجلّ ، ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل ، ومن زعم بأنّ ألفاظنا وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه ، فهو جهمي ، ومن لم يُكفّر هؤلاء القوم فهو مثلهم. (٢)

وعلى هذا اتّفقت الحنابلة والأشاعرة على أنّ التكلّم وصف ذاتي قديم ، وكلامه مثل ذاته قديم ، وبالتالي : القرآن قديم.

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ١١١.

٢ ـ السنة : ٤٩.

٢٨٠