إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

مسائل في المشتق

المسألة الأُولى : في خروج الذات عن مفهوم المشتق

هل المشتق في مفهومه الابتدائي يدلّ على الذات أو لا؟ فالمحور في المقام هو التركيز على دخول الذات في المشتق وعدمه ، وأمّا ما هو الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية ـ أعني : الفرق بين المبدأ والمشتق ـ فسيوافيك بيانه.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ في المسألة أقوالاً :

الأوّل : انّ الذات خارجة عن المشتق ابتداءً وانتهاءً ، فالمشتق لا يدلّ عليها لا بمفهومه الابتدائي ولا بمفهومه الانحلالي ، وهذا هو قول الشريف على ما في تعليقاته على شرح المطارح ، وهذا مبنيّ على أنّ المفهوم من المشتق ، نفس المفهوم من المبدأ والاختلاف في أنّ الأوّل لابشرط والثاني بشرط لا. (١)

الثاني : أنّ المشتق مشتمل على الذات ، والمبدأ والنسبة ، ابتداء وانتهاء ، أي في مفهومه الابتدائي والانحلالي ، وهذا القول يقابل القول الأوّل تماماً.

الثالث : أنّ المشتق يدلّ على معنى بسيط ، غير أنّه ينحلّ عند التحليل إلى ذات وعنوان ونسبة ، فهو بسيط لفظاً ودلالة ومدلولاً في مقابل الجمل المركبة.

والمختار هو الأخير ، وببيان برهانه يظهر عدم تمامية القولين ، وإليك البيان :

إنّ المشتق بسيط لفظاً ودلالة ومدلولاً ، في مقابل الجمل التي هي مركبة لفظاً

____________

١ ـ شرح المطارح : ١١.

٢٤١

ودلالة ومدلولاً ، لكنّه ينحل عند العقل إلى أُمور ثلاثة : ذات وعنوان واتّصاف ، في مقابل الجوامد التي هي بسائط في المراتب الثلاثة ، وغير منحلّة إليها عند التعمّل ، وفي مقابل المركبات التي تتألف ابتداءً من أُمور ثلاثة من ذات وعنوان واتصاف.

وإن شئت قلت : إنّ العقل تارة يدرك الذات بلا عنوان ، كزيد ، وربّما يدرك العنوان بلا ذات كالعلم ، وربّما يدرك الذات مع العنوان ، فقد وضع للأوّل الجوامد ، وللثاني المبادئ ، وأمّا الثالث فله صورتان :

الأُولى : يدرك الذات والعنوان والاتصاف على وجه التفصيل ، بحيث يتعلّق بكلّ منها إدراك مستقل ، فهذه هي المركبات التفصيلية ، ويقال : زيد متصف بالعلم.

الثانية : يكون الذات والعنوان والنسبة مدركة بنحو وحدانيّ وبإدراك واحد فيعبّر عنه بالمشتق ، فهو حاك لا عن الذات وحدها ، ولا عن العنوان كذلك ، ولا عن الذات والعنوان والنسبة تفصيلاً ، بل عن المعنون بما هو مفهوم واحد منحل عند التعمّل إلى الثلاثة عند الإطلاق.

والفرق بين الصورتين واضح ، ففي الأُولى ألفاظ ودلالات ومدلولات تفصيلية ، بخلاف المشتق ففيه لفظ واحد ودلالة واحدة ومدلول واحد ، لكن تنحل إلى ألفاظ ودلالات ومداليل عند التعمّل.

والدليل على ذلك هو التبادر ، ومعه لا نحتاج إلى إقامة دليل آخر « فالكاتب والضارب » في لغة العرب و « نويسنده وزننده » في لغة الفرس ، تدلاّن على معنى وحداني له التحليل في مرحلة ثانية. فمن قال ببساطة المشتق وأراد هذا المعنى فهو صحيح ، كما أنّ من قال بالتركيب وأراد التركّب عند التحليل فهو أيضاً صحيح.

وأمّا من قال بالبساطة في المرحلتين ، أو التركيب كذلك فقد نازع وجدانه

٢٤٢

وإليك تحليلهما :

أمّا الثاني : أعني دلالة المشتق على الذات والمبدأ والنسبة في مفهومه الابتدائي فهو ساقط جدّاً للفرق الواضح بين قولنا « ضاحك » وقولنا « الإنسان له الضحك » أو « كاتب » و « الإنسان له الكتابة » فادعاء التركيب في المفهوم الابتدائي من السخافة بمكان.

أمّا القول الأوّل فظاهره أنّه يريد نفي دخول الذات في مفهوم المشتق مطلقاً ، لا ابتداءً ولا تحليلاً ، فقد استدلّ عليه بوجوه.

الأوّل ما استدلّ به الشريف وقال :

لو قلنا بدخول الذات في المشتق يلزم أحد محذورين :

أ. دخول العرض العام في الفصل ، إذا كان الداخل فيه مفهوم الشيء كما في قولنا « الإنسان ناطق ».

ب. انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية ، إذا كان المأخوذ مصداق الشيء كما في قولنا « الإنسان كاتب ».

فدخول الشيء في مفهوم الناطق يستلزم دخول العرض العام في الفصل ، كما أنّ دخول الإنسان في المثال الثاني يوجب انقلاب القضية من الممكنة إلى الضرورية ، لأنّ معنى قولنا : « الإنسان كاتب » هو « الإنسان ، إنسان كاتب » وثبوت الإنسانية للإنسان بالضرورة.

وقد أُجيب عن الشق الأوّل بوجوه :

١. ما أفاده صاحب الفصول من أنّ أخذ الناطق فصلاً مبني على تجريده عن مفهوم الشيء. (١)

__________________

١ ـ الفصول : ٦٢ ، ط الحجرية.

٢٤٣

وهو غير تام ، لأنّ المنطقيين جعلوا الناطق فصلاً للإنسان بما له المعنى من دون تجريد.

٢. ما أجاب به المحقّق الخراساني من أنّ الناطق ليس فصلاً حقيقياً بل من أظهر خواص الإنسان ، ولذا ربّما يجعلون لازمين وخاصتين مكان فصل واحد ، فيعرفون الحيوان ، بأنّه حساس متحرك بالإرادة ، مع أنّ الشيء الواحد لا يكون له إلاّ فصل واحد.

والوجه في عدم كون الناطق فصلاً حقيقياً ، هو أنّ المبدأ للناطق لو كان هو النطق بمعنى التكلّم فهو كيف محسوس ، وإن كان بمعنى التفكّر ودرك الكليات فهو كيف نفساني على القول بأنّ العلم من مقولة الكيف.

٣. انّ الفصل الحقيقي للإنسان هو النفس ، غير أنّ الناطق عنوان وصفي لهذا الفصل الحقيقي ومن أظهر خواصه ، فلما كانت حقيقة الفصل مجهولة لنا ، أُشير إلى توضيحه بالعنوان الوصفي كما لا يخفى.

وأمّا الشقّ الثاني : فقد أجاب عنه صاحب الفصول بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء والذات وحده بل المقيّد بالوصف ، وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة ، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضرورياً.

والحقّ أنّ ما أجاب به صاحب الفصول جواب كاف ، وما أورد عليه صاحب الكفاية ليس بكلام جدير بالدراسة بل يورث الإطالة بلا فائدة.

كما أنّ ما تنظر صاحب الفصول ـ حسب ما نقله في الكفاية لا على النحو الموجود في نفس الفصول ـ فيما أفاده سابقاً ليس كلاماً تامّاً جديراً بالدراسة ، فنحن نضرب صفحاً عن كليهما.

والذي أضيف في المقام ردّاً على دليل الشريف هو أنّ ما ذكره إثبات اللغة

٢٤٤

بالدليل الفلسفي وهو بعيد عن جادة الصواب ، فانّ لتحليل مسائل كلّ علم أُسلوباً خاصاً به ولم يكن الواضع يحمل ذهنية فلسفية حتى يخرج الذات على المشتق بغية الفرار من دخول العرض العام في الفصل ، أو انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية ، فهذا الجواب يحسم هذا الدليل كما يحسم سائر الأدلّة التي هي على غرار هذا الدليل.

الثاني : ما ذكره صاحب الفصول استلهاماً من دليل المحقّق الشريف الذي طرح قضية منفصلة وقال : « لو كان المأخوذ مفهوم الشيء يلزم دخول العرض العام في الفصل ، ولو كان المأخوذ مصداقه يلزم الانقلاب » ، وقد انتقل صاحب الفصول منه إلى أمر آخر ، وهو أنّ الانقلاب غير منحصر بأخذ المصداق فيه ، بل يلزم من أخذ مفهوم الشيء أيضاً فيه ، لأنّ الشيئية أمر ضروري للإنسان.

يلاحظ عليه : بمثل ما أورد هو على كلام الشريف في الشق الثاني ، وحاصله : أنّ المحمول ليس الشيئية المطلقة بل المتقيدة بالكتابة وهي ليست بضرورية.

الثالث : لو كان الشيء داخلاً فيه بمفهومه أو مصداقه لزم تكرار الموصوف في قولنا : « زيد الكاتب ».

يلاحظ عليه : بأنّ المأخوذ فيه هو المفهوم المعرّى من كلّ قيد ، ما عدا قيام المبدأ به ولا تعيّن له لينطبق على ذوات معينة كزيد وعمرو ويلزم التكرار.

وبعبارة أُخرى : إنّما يلزم التكرار لو كانت الذات مأخوذة على نحو التفصيل ، ولا أظن أنّ القائل يعتقد به ، لأنّها مأخوذة على نحو الإجمال.

الرابع : أنّ المادة في المشتق تدل على نفي الحدث ، والهيئة من الدوال الحرفية ، فيجب أن يكون مدلولها معنى حرفياً لا اسمياً ، وليس هو إلاّ نسبة الحدث إلى

٢٤٥

الذات بحيث تكون نفس الذات خارجة والتقيّد داخلاً. والقول بأنّ المشتق موضوع للذات المتلبّسة ، قول بدلالة الدوال الحرفية على المعنى الاسمي ، وهو غير تام ، فانتزاع المشتق من الذات المتلبسة ودلالته عليها أشبه شيء بدلالة الدوال الحرفية على المعاني الاسمية.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو قلنا بدخول الذات على وجه التفصيل في المشتق وأمّا لو قلنا بأنّ المتبادر منه في المفهوم الابتدائي أمر بسيط ، لا الذات وحدها ولا العنوان وحده ، ولا النسبة وحدها ، بل شيء بسيط ينحل لدى التحليل إلى أُمور ثلاثة ، وذلك البسيط القابل للانحلال هو المعنون فلا يتوجّه الإشكال.

إلى هنا تمّ ما أُقيم من الوجوه على خروج الذات عن المشتق ، وكلّها أدلة غير صالحة لإثبات اللغة ـ حتى وإن خلت من الإشكالات المذكورة ـ لما عرفت من أنّ اللغة لا تثبت بالدليل العقلي.

المسألة الثانية : في الفرق بين المشتق ومبدئه

لمّا ذهب الشريف ومن تبعه إلى أنّ الذات خارجة عن مفاد المشتق ابتداءً وتحليلاً ، توجه إليه سؤال وهو انّه ما هو الفرق بين « الضارب » الذي هو ـ على مختاره ـ بمعنى الضرب ، فحاول إبداء الفرق بينهما.

والحاصل : انّه لو قلنا بأنّ مفاد المشتق مركّب دالّ على الذات والعنوان والنسبة.

أو قلنا بأنّ مفاد المشتق بسيط وحداني ـ أي المعقول ـ ولكن ينحلّ إلى أُمور ثلاثة.

٢٤٦

لكُنّا في غنى عن عقد مسألة باسم « ما الفرق بين المبدأ والمشتق » لأنّ الفرق جوهري واضح لا حاجة إلى البيان.

نعم لو قلنا بمقالة الشريف أي بخروج الذات عن المشتق ، ابتداء وتحليلاً ، وانّ مفاد المشتق نفس مفاد المبدأ جوهراً ، لزم عقد مسألة باسم الفرق بينهما ، ولذلك عمد القائل إلى بيان الفرق.

قال في « الكفاية » : الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبّس بالمبدأ ، ولا يعصي على الجري عليه لما هما عليه من نحو من الاتحاد.

بخلاف المبدأ فانّه بمعناه يأبى عن ذلك ، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو ، وملاك الحمل والجري إنّما هو نحو من الاتحاد والهوهوية ، وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أنّ المشتق يكون لابشرط والمبدأ يكون بشرط لا. أي لا يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل ومفهوم المبدأ يكون آبياً عنه.

ثمّ إنّهم شبّهوا الفرق بين المشتق والمبدأ بالفرق بين الجنس والمادة ، فهما اسمان لشيء واحد كالحيوان ، غير أنّه بما أنّه لابشرط يسمّى جنساً ويحمل على النوع ، ويقال : الإنسان حيوان ، وبما أنّه بشرط لا ، مادة فلا يحمل على الإنسان.

ومثله الناطق فهو باعتبار كونه لابشرط فصل ، وباعتبار كونه بشرط لا صورة.

هذا خلاصة ما ذكره المحقّق الخراساني وهو من الإجمال بمكان.

وتوضيحه : أنّ اللابشرط وبشرط لا ، يستعمله أهل المعقول في موردين :

الأوّل : أحدهما لحاظ مفهوم واحد تام بالنسبة إلى عوارضها وطوارئها

٢٤٧

كالرقبة حيث يلاحظ بالنسبة إلى الإيمان بأنحاء ثلاثة ، فيقال : رقبة بشرط الإيمان ، ورقبة بشرط عدمه ، ورقبة مطلقة سواء كانت مؤمنة أو كافرة.

وفي هذا الصدد يقول المحقّق السبزواري :

مخلوطة مطلقة مجرّدة

عند اعتبارات عليها موردة

من لابشرط وكذا بشرط شيء

ومعنيي بشرط لا استمع إليّ

ففي هذا النوع من اللحاظ ، الملحوظ ، ماهية واحدة تامّة ، تلاحظ بالنسبة إلى ما يعرضها من الطوارئ وتطرأ المفاهيم الثلاثة الاعتبارية ، أعني : بشرط شيء ، ولا بشرط ، وبشرط لا ، وهي خارجة عن واقع الملحوظ ومفهومه وإنّما يعرض عليها بنوع من اللحاظ ، فهذا القسم من لحاظ الماهية لا صلة له بالمقام ولا بما ذكره أهل المعقول في باب الفرق بين الجنس والمادة ، أو الفصل والصورة.

الثاني : ما ذكروه في التفريق بين كون الحيوان جنساً ومادة ، أو كون الناطق فصلاً وصورة ، فيفارق الملحوظ في هذا المورد ما هو الملحوظ في المورد الأوّل ، بالوجه التالي :

إنّ المفهوم في القسم الأوّل مفهوم واحد تعرض عليه الاعتبارات الثلاثة ، ولا تنثلم وحدة الملحوظ بعروضها عليها ، ولذلك قلنا تلاحظ الماهية بالنسبة إلى عوارضها وطوارئها ، بخلاف القسم الثاني فانّ الملحوظ يخرج عن كونه مفهوماً واحداً باعتبار كون اللابشرطية داخلاً في صميم الجنس ، والبشرط اللائية داخلاً في صميم المادة ، فيكون المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر ، فالجنس هو المفهوم المبهم المغمور الذي هو على عتبة الاكتمال بالفصل ولذلك يكون قابلاً للحمل ولذلك يوصف باللا بشرط بالنسبة إلى الحمل.

وأمّا المادة فهي ماهية محصّلة مبينة غير قابلة للحمل ولذلك توصف بشرط

٢٤٨

لا ، فيكون كلّ من القيدين : اللابشرط وبشرط لا ، داخلاً في جوهر المعنى ومكملاً له على خلاف ما مرّ في السابق. فيسمّى الحيوان والناطق عند اعتبارهما جنساً وفصلاً ، بالأجزاء الحملية ، وعند اعتبارهما مادة وصورة ، بالأجزاء الحدّية.

وبهذا يعلم عدم صحّة ما اعترض به صاحب الفصول على هذا النوع من الفرق حيث قال :

إنّ أخذ العرض لابشرط لا يصحح حمله على موضوعه ، فانّا إذا قلنا : زيد عالم ، أو متحرك ، يمتنع حمل العلم والحركة عليه وإن اعتبر لابشرط ، بل مصحح الحمل أنّ مفاد المشتق باعتبار هيئته مفاد ذو هو فلا فرق بين قولنا ذو بياض وقولنا ذو مال ، فكما أنّ المال إن اعتبر لابشرط لا يصحّ حمله على صاحبه ، فكذلك البياض ، ومجرّد استقلال أحدهما ( المال ) بالوجود دون الآخر ( البياض ) لا يجدي فرقاً في المقام ، فالحقّ أنّ الفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين الشيء وذي الشيء ، فمدلول المشتق أمر اعتباري منتزع من الذات بملاحظة قيام المبدأ بها. (١)

وجه الإشكال : انّه خلط بين المقامين وزعم أنّ لحاظ الماهية لابشرط في المقام الثاني على غرار لحاظ الماهية لابشرط في المقام الأوّل ، ولذلك أورد انّ العلم والحركة مهما لوحظا لابشرط ، لا يصحّ حملهما على الذات ما لم يقدّر فيهما لفظة « ذو » ولكنّه غفل عن الفرق بين اللحاظين ، فاللابشرطية والبشرط لائية في المقام الأوّل غير داخلين في جوهر الملحوظ ، ولذلك يبقى الملحوظ على وحدته ، بخلاف المقام الثاني ، فالمفهومان داخلان في جوهر الملحوظ فيصبح الملحوظ كمفهومين مختلفين يكون لأحدهما قابلية الحمل دون الآخر. ولذلك يقول الشيخ الرئيس في المقام الثاني :

__________________

١ ـ الفصول : ٦٢.

٢٤٩

إنّ الماهية قد تؤخذ بشرط لا ، بأن يتصور معناها بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده بحيث يكون كلّ ما يقارنه زائداً عليه ، فيكون جزءاً لذلك المجموع مادة له ، فيمتنع حمله على المجموع ( الإنسان ) لانتفاء شرط الحمل ، وقد تؤخذ لابشرط ، بأن يتصوّر معناها مع تجويز كونه وحده ، وكونه لا وحده ، بأن يقترن مع شيء آخر فيحمل على المجموع ، والماهية المأخوذة كذلك قد تكون غير محصلة بنفسها في الواقع ، بل يكون أمراً محتملاً للمقولية على الشيء مختلفة الماهيات ( كما هو شأن الجنس ) ، وإنّما يتحصل بما ينضاف إليها فيتخصص به ويصير بعينها أحد تلك الأشياء فيكون جنساً والمنضاف إليه الذي قومه وجعله أحد تلك الأشياء فصلاً. (١)

إلى هنا أوضحنا ما ذكره صاحب الكفاية ، كما أوضحنا مقصود صاحب الفصول وعدم تمامية كلامه ، غير أنّ الواجب إيضاح ما ذكره أهل المعقول حول كون الحيوان جنساً تارة ومادة أُخرى وكذلك الناطق فصلاً وصورة.

والذي يمكن أن يقال في المقام ( والتفصيل موكول إلى محله ) هو أنّ الحد كالحيوان الناطق ، بالنسبة إلى المحدود كالإنسان يلاحظ على وجهين :

الأوّل : أن يلاحظ كلّ من المفهومين على وجه الإبهام والإجمال من دون أن يكون لها مفهوم تام ، فيلاحظ الحيوان بما انّه جسم نام حساس متحرك بالإرادة الذي يصلح لأن يشكّل أحد الأنواع كالإنسان والفرس ، فعندئذ إذا نسب إلى الإنسان أو غيره من الأنواع يكون نفس النوع ، لا جزءاً من النوع ، إذ معنى ذلك أن الحيوان في حركته الجوهرية يصل إلى مقام الإنسانية ، وعندئذ يتّحد مع الناطق ، وفي هذا اللحاظ لا يعد الحيوان جزءاً ( للمحدود ) ولا الناطق كذلك ، بل تُتناسى الجزئية لما عرفت من أنّ الجنس في هذا اللحاظ يتحصّل بالناطق ويكون نفس

__________________

١ ـ المنظومة : قسم الحكمة : ٩١. نقلاً عن الشيخ الرئيس.

٢٥٠

الإنسان ، فلذلك يصحّ أن يقال : الإنسان حيوان أو الحيوان ناطق ، أو غيرهما ، ويسمّى « الحيوان الناطق » أجزاء حملية في مقابل ما سيوافيك في المورد الثاني.

الثاني : أن يلاحظ كلّ من الحيوان والناطق بما هما مفهومان متحصلان ويكون كلّ واحد جزءاً من ماهية الإنسان ويتشكل الإنسان من اجتماعهما ، ففي هذا اللحاظ أي النظر إليها بعنوان الجزئية للمحدود يسمّى الحيوان مادة ذهنية ، والناطق صورة ذهنية ، ويمتنع حمل الحيوان على الإنسان لأنّه أصبح عندئذ جزء الإنسان لا نفسه ، ولا يصحّ حمل الجزء على الكلّ فلا يقال : زيد يد ، ولأجل تلك الحالة يوصفان بكونهما أُخذا بشرط لا ، غير قابلين للحمل ، كما يسمى بالأجزاء الحدية.

وبذلك يعلم مضمون الجملة المعروفة بين أهل المعقول حيث قالوا : إنّ الجنس والفصل (١) من أجزاء الحد لا من أجزاء المحدود أي الإنسان ، ومعنى الجملة أنّ الحيوان والناطق إذا لوحظا جنساً وفصلاً للمحدود ، يصبح كلّ منهما نفس الإنسان لا جزئه ، ولو وصفا بالجزئية فإنّما هو باعتبار كونهما من أجزاء الحد ، لا من أجزاء المحدود ـ أي الإنسان ـ لما عرفت من أنّهما في هذا اللحاظ عين المحدود ونفسه.

نعم لو لوحظا بما انّهما مادة وصورة ففي هذه الحالة يكون كلّ جزء للمحدود فيكون الحيوان جزءاً لماهية الإنسان فيمتنع الحمل ، كما يكون الناطق جزءاً له فيمتنع الحمل فيطلق عليهما المادة والصورة ( الذهنيتين ) مكان الجنس والفصل.

ولعلّ هذا المقدار من الإيضاح كاف في المقام ، والتفصيل يطلب من محله.

__________________

١ ـ أي ما ينطبق عليه الجنس والفصل كالحيوان الناطق لا عنوانهما ، إذ بهذا العنوان ليسا من أجزاء الحدّ كما مرّ.

٢٥١

هذا هو الكلام في المشبه به ، وأمّا الكلام في المشبه فنقول :

إنّ المشتق والمبدأ كالجنس والمادة ، فالأوّل منهما مفهوم مبهم غير متحصّل وإنّما يتحصّل بما يحمل عليه ، بخلاف الثاني فانّه مفهوم متحصّل في نفسه آب عن الحمل.

أقول : إنّ قياس المشتق والمبدأ بالجنس والمادة ، قياس مع الفارق ، فانّ مصحح حمل الجنس على الفصل هو تقوّمه بالفصل في عالم المفهوم ، لما عرفت من أنّ الجنس مفهوم مغمور ، مبهم ، يحتاج إلى ما يخرجه من الإبهام في ذلك الظرف ، وهذا بخلاف المشتق بالنسبة إلى موضوعه لعدم تقوّم مفهوم المشتق بالموضوع فهو غير الموضوع مفهوماً ، وإن اتحدا وجوداً ، وشتّان بين الاتحادين ، فالأوّل يتّحد مع الموضوع في المفهوم ، والآخر يختلف معه فيه ويتّحد معه في الوجود.

وبعبارة أُخرى : انّ الجنس هو المفهوم المغمور الذي لم تتعين حدوده وخصوصياته إلاّ بالفصل بحيث لو وجد في الخارج يكون عين الفصل عينية اللامتحصل مع المتحصل ، وهذا بخلاف المشتق فانّ مسوغ الحمل ليس إبهام مفهومه ، فانّه ذو مفهوم متحصّل ومتعيّن إلاّ من جهة الموضوع ، وهذا غير الإبهام في المفهوم ، بل مسوّغ الحمل قيامه بالموضوع في عالم التكوين ، فشتان بين المسوّغين ، فوجه الشبه بين الجنس والمشتق غير موجود كما لا يخفى.

إيضاح وإكمال

لما كان ما ذكروه من الفرق بين المشتق والمبدأ من خلال التشبيه بالجنس والفصل ، مجرّد دعوى بلا برهان ، بل كان صرف التشبيه ، حاول غير واحد من أهل المعقول إقامة البرهان عليه بوجوه أربعة ، ترجع بعضها إلى المحقّق الدواني ، وإليك البيان :

٢٥٢

الأوّل : ما ذكره أهل المعقول في الفرق بين العرض والعرضي ، أنّ العرض تارة يلاحظ بما هو هو وانّه موجود في قبال موضوعه فهو بهذا اللحاظ بياض ولا يصحّ حمله على موضوعه مثل الجسم ، كيف والمفروض أنّه لوحظ بنحو المبائنة مع الموضوع ، والحمل هو الاتحاد في الوجود.

وأُخرى يلاحظ بما أنّه ظهور موضوعه وطور لوجوده وشأن من شؤونه ، وظهور الشيء وطوره وشأنه لا يباينه فيصحّ حمله عليه ، إذ المفروض انّ هذه المرتبة من مراتب وجود الشيء ، والحمل هو الاتحاد في الوجود.

وبعبارة أُخرى : انّ واقع البياض يطرد العدم من جانب ماهيته أوّلاً ، فيكون اللا بياض بياضاً ، ومن جانب موضوعه فيكون اللا أبيض ، أبيض ، فبما أنّه يطرد العدم عن جانب ماهيته يقال له البياض ، وبما انّه يطرد العدم عن جانب موضوعه ، يقال له : الأبيض.

وهكذا الضرب بما أنّه يطرد العدم عن ماهيته ، يطلق عليه الضرب ، وبما أنّه يطرد العدم عن جانب موضوعه يطلق عليه الضارب.

فتحصل من ذلك أنّ للبياض والأبيض مفهوماً واحداً ، يختلفان بالاعتبار ، فوزان الضرب وزان البياض ، ووزان الضارب كوزان الأبيض.

وهذا التقرير ، بيان جديد لكون الفرق بين المبدأ والمشتق بشرط لا ولا بشرط.

يلاحظ على ذلك البيان بوجهين :

أوّلاً : انّه لا يتم في كلّ مشتق كأسماء الأزمنة والأمكنة حيث لا يعدّ المبدأ « الضرب » من شؤون الزمان والمكان ، ومع ذلك يصح حمله عليه هنا مقتل الحسين أو هذا اليوم مقتله عليه‌السلام ، وإنّما يجري في بعض المشتقات كالمبدأ بالنسبة إلى الفاعل والمفعول.

٢٥٣

وثانياً : انّ ابتناء الفرق بين المبدأ والمشتق على هذا التقرير الوارد عن الحكماء في دراسة عالم الكون من غير نظر إلى عالم الألفاظ ابتناء غير صحيح ، فانّ معاني الألفاظ إنّما تؤخذ من الإمعان فيما يتبادر منها عند أهل اللسان لا ممّا حقّقه الحكماء عند دراسة صحيفة الكون الذي لا صلة له بعالم الألفاظ فإنّ ما ذكروه في الفرق بين العرض والعرضي يرجع إلى دراساتهم صحيفة الكون ، يقول الحكيم السبزواري :

وعرضي الشيء غير العرض

ذاك البياض ذاك مثل الأبيض

الثاني : ما نقله الحكيم السبزواري في تعاليقه على الأسفار من انّا إذا رأينا شيئاً أبيض ، فالمرئي بالذات هو البياض ، ونحن قبل ملاحظة أنّ البياض عرض والعرض لا يوجد قائماً بنفسه ، نحكم بأنّه بياض وأبيض ، ولولا الاتّحاد بالذات بين البياض والأبيض لما حكم العقل بذلك في هذه المرتبة ، ولم يجوِّز قبل ملاحظة هذه المقدمات ، كونه أبيض ، لكن الأمر بخلاف ذلك.

يلاحظ عليه : بأنّا وإن نحكم عند رؤية البياض ـ قبل ملاحظة أنّه عرض وانّ العرض لا يوجد قائماً بنفسه ـ بأنّه أبيض ، والملاحظة التفصيلية وإن كانت غير موجودة عند الرؤية ، لكن الملاحظة الإجمالية موجودة ارتكازاً ، لأنّ الإنسان طيلة حياته يشاهد أنّ البياض لا يوجد إلاّ مع موضوعه ، فهو مع هذا العلم الموجود في خزانة ذهنه إذا رأى البياض ، وحمل عليه الأبيض ، فإنّما حمل على البياض الذي لا يفارق الموضوع ، فلا يدلّ ذاك الحمل على خروج الذات والنسبة عن مفهومه.

الثالث : أنّ المعلّم الأوّل ومترجمي كلامه عبروا عن المقولات بالمشتقات ، ومثلوا لها بها فعبّروا عن الكيف بالمتكيف ومثلوا لها بالحار والبارد ، فلولا الاتحاد

٢٥٤

بالذات لم يصحّ ذلك التعبير والتمثيل إلاّ بالتكلّف ، بأن يقال : ذكر المشتقات لتضمنها مبادئها. (١)

الرابع : نقل عن بهمنيار تلميذ الشيخ الرئيس قال : إنّ الحرارة لو كانت قائمة بذاتها ، لكانت حرارة وحارة. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّه لا حجّية لكلام أرسطو ومترجمي كلامه.

ومثله ما نقل عن تلميذ الشيخ الرئيس ، إذ هو قضية شرطية لا تثبت بها اللغة.

المسألة الثالثة : في ملاك الحمل

قد اشتهر بينهم أنّ ملاك الحمل أمران :

المغايرة من جهة والاتحاد من جهة أُخرى ، والمغايرة إمّا تكون بالاعتبار كما في قولنا : « زيد زيد » فالأوّل منهما يغاير الثاني اعتباراً ، حيث يحتمل فيه في بادئ النظر ، جواز سلب الشيء عن نفسه فيرده بقوله « زيد » ، أو بالإجمال والتفصيل كما في قولنا : « الإنسان حيوان ناطق » أو مغايراً بالمفهوم كما في الحمل الشائع الصناعي « زيد قائم ».

هذا هو حال التغاير ، وأمّا الوحدة فالمثالان الأوّلان يتّحد الموضوع مع المحمول في المفهوم كما أنّ المثال الثالث يتحدان مصداقاً.

هذا هو المعروف بين المنطقيّين واختاره المحقّق الخراساني ، وقال : ملاك الحمل هو الهوهوية والاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر كما يكون بين المشتقات والذوات. (٣)

__________________

١ ـ الأسفار : ١ / ٤٢.

٢ ـ نهاية الدراية : ١ / ٩٤.

٣ ـ كفاية الأُصول : ١ / ٨٤.

٢٥٥

وأوضحه المحقّق الاصفهاني بأنّ ملاك المغايرة في الحمل الأوّلي ، هو المغايرة بالاعتبار الموافق للواقع ، وفي الحمل الشائع هو المغايرة بالمفهوم. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكروه وإن كان صحيحاً لكنّه ليس ملاكاً ومصححاً للحمل وذلك أنّ مناط الحمل هو الوحدة والهوهوية لا التغاير والاثنينية ، فاشتراط وجود التغاير بين الموضوع والمحمول في صحّة الحمل أمر غير صحيح.

نعم يشترط في كون الحمل مفيداً وخارجاً عن اللغو والعبث أن يكون بينهما تغاير إمّا اعتباراً أو إجمالاً وتفصيلاً ، أو مفهوماً.

والحاصل : انّ ملاك الحمل هو تناسي التغاير حتى يجوز الحمل بأنّه هو والتوجه إلى التغاير يعوق الإنسان عن الحمل.

نعم الحمل المفيد رهن وجود التغاير بينهما ، وإلاّيصير أمراً لغواً ، فهؤلاء خلطوا بين ملاك الحمل وكونه مفيداً.

ثمّ إنّه يظهر من صاحب الفصول الاكتفاء بهذا الملاك في مورد يكون التغاير اعتبارياً والوحدة حقيقة ، كما في قولك : « هذا زيد » أو « الناطق إنسان » وأمّا إذا انعكس بأن كان التغاير حقيقياً والاتحاد اعتبارياً كقولك : الإنسان جسم ، فيحتاج وراء ذلك إلى أمرين آخرين :

الأوّل : أخذ الأجزاء لابشرط كما في المثالين ، ولأجل ذلك لا يصحّ حمل البدن والنفس على الإنسان ، ولا يصحّ أن يقال : الإنسان بدن ( مكان الجسم ) ، أو نفس ، مكان الناطق.

الثاني : تنزيل الأشياء المتغايرة منزلة شيء واحد وملاحظتها من حيث المجموع والجملة ، فتلحقه بذلك الاعتبار وحدة اعتبارية ، فيصحّ حمل كلّ جزء من

____________

١ ـ نهاية الدراية : ١ / ٩٧.

٢٥٦

الأجزاء لابشرط ، عليه. وحمل كلّ واحد منها على الآخر بالقياس إليه نظراً إلى اتحادهما فيه. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ملاحظة التركيب يعطي للمحمول وصف الجزء من الكل ، وعندئذ يمتنع حمله عليه كامتناع حمل كلّ جزء على الكلّ ، مثل زيد يد أو رجل ، اللّهمّ إلاّ بالعناية والمجاز ، وإلى هذا الإشكال يشير المحقّق الخراساني بقوله : « بل يكون ذلك مخلاً لاستلزام المغايرة بالجزئية والكلية أي كون الموضوع كلاً والمحمول جزءاً.

وثانياً : انّه خلط بين الأجزاء الحدية والأجزاء الحملية ، فلو لوحظ كلّ من الجنس والفصل جزءاً للنوع وتركبه منهما فعندئذ يصير كلّ من الحيوان والناطق من الأجزاء الحدية ولا يصحّ حمل واحد منهما على النوع ، وهذا بخلاف ما لو لوحظا على نحو الإبهام على نحو يكون كلّ عين الآخر ، وعندئذ يصبحان من الأجزاء الحملية ، فيصحّ أن يقال « الإنسان حيوان » فما ذكره من حديث الجزئية والكلية من آثار الأجزاء الحدية لا الأجزاء الحملية.

المسألة الرابعة : مغايرة المبدأ للذات

قد مرّ سابقاً أنّه يشترط في صحّة الحمل أو كونه مفيداً ـ على ما عرفت ـ مغايرة المحمول مع الموضوع ، فعند ذلك ربّما يشتبه الأمر على بعضهم من أنّه إذا كان ملاك الحمل هو المغايرة ، فكيف تحمل صفاته سبحانه مثل « العالم » و « القادر » عليه سبحانه مع أنّه صفاته تعالى عين ذاته لا تغاير بينهما؟

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني من أنّ المراد من المغايرة هو التغاير

__________________

١ ـ الفصول : ٦٢.

٢٥٧

الاعتباري أو الإجمالي والتفصيلي أو التغاير المفهومي ، وكلّ منها لا ينافي الاتّحاد العيني والخارجي ، فمفهوم العالم والقادر وإن كان غير مفهوم الموضوع ولكنّهما عينه خارجاً ، وعلى هذا لا نحتاج في إجراء الصفات إلى التأوّل بالنقل أو التجوز.

أقول : لو كان محور البحث وروح الإشكال هو ما ذكره المحقّق الخراساني في وجود توهّم التضاد بين شرطية التغاير في صحّة الحمل وعينية صفاته مع ذاته لكان لما أجابه مجال ، وذلك لأنّه يشترط في التناقض الوحدات الثمانية وهي هنا منتفية ، وذلك لأنّ مصب التغاير هو المفاهيم ، ومصب الوحدة هو العينية الخارجية ، فلا تصادم بين الكلامين.

وأمّا لو كان محور البحث أمراً آخر وهو أنّ المتبادر من المشتق هو زيادة العنوان على الذات ، وعندئذ يصبح جواب المحقّق الخراساني أجنبياً عن البحث ، وإليك التفصيل :

إنّ مذهب الحقّ أنّ صفاته تعالى قديمة لا حادثة خلافاً للكرامية.

وانّها عين ذاته لا زائدة عليها خلافاً للأشاعرة.

فالإمامية والأشاعرة يتفقان في كون الصفات قديمة لا حادثة ، ولكنّها عند الأشاعرة زائدة على الذات تمسّكاً بظواهر بعض الآيات مثل قوله سبحانه : ( أنزله بعلمه ) (١) الظاهر في أنّ علمه غير ذاته ، ولكن الإمامية قائلة بعينية الصفات ، وإلاّ يلزم القدماء الثمانية عدد الذات والصفات السبعة الجمالية.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون ، لا المبدأ فقط كما عليه الشريف ، ولا الذات والنسبة والمبدأ على نحو التفصيل ، بل المفهوم الوحداني المنحل عند التعمل إلى ذات وعنوان.

__________________

١ ـ النساء : ١٦٦.

٢٥٨

فإذا كان المتبادر من الصفات كالعالم والقادر هو المعنون بما هو معنون يلزم عدم صحّة إجراء الصفات الثبوتية عليه تعالى ، لأنّ مقتضى المحمول في قولنا : « اللّه عالم » هو زيادة العنوان على المعنون مع أنّ العقيدة على خلافها.

فلو كان محور البحث هو هذا لأصبح كلام المحقّق الخراساني في « أنّ صفاته وإن كانت عين ذاته خارجاً لكنّه غيرها مفهوماً » أمراً لا صلة له بالإشكال.

نعم يكون كلام صاحب الفصول من الالتزام بالنقل والتجوّز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى كلاماً مرتبطاً وإن كان غير صحيح ، وذلك لانّا نجري تلك الصفات على اللّه سبحانه كجريها على غيره من دون تجوّز ولا نقل. فعلى ذلك يجب حلّ المسألة من طريق آخر.

ويمكن حل الإشكال بوجهين :

الأوّل : ما أجاب به سيدنا الأُستاذ بأنّه لا يفهم من لفظ العالم إلاّ المعنون من حيث هو كذلك ، وأمّا زيادة العنوان على المعنون وقيامه به فهو خارج عن مفهومه ، فالمشتق يدل على المعنون ، والعينية والزيادة من خصوصيات المصاديق. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ دلالة الهيئة على مغايرة المبدأ لما يحمل عليه ليس أمراً خفياً لقضاء التبادر بذلك.

الثاني : أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون ، والذات المتلبّسة بالمبدأ ، وظاهره زيادة العنوان على الذات ، ونحن نجري أوصافه سبحانه عليه بهذا المعنى ، ونستعملها في المعنى المتبادر عرفاً بالإرادة الاستعمالية غير انّ البرهان قام على

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ٢٢٨.

٢٥٩

عينية صفاته مع ذاته ، فترفع اليد عن هذا الظهور بالدليل العقلي ، فالمراد الجدي عند من قام الدليل عنده على العينية ، غير المراد الاستعمالي الذي يشترك فيه العالم والجاهل والفيلسوف والمتكلّم.

وقيام البرهان على الوحدة لا يكون سبباً لتغيير اللغة والمتبادر العرفي ، غاية الأمر أنّ الأكثرية الساحقة من الناس لا يتوجهون إلى هذه الدقائق ، فيستعملون اللفظ فيه سبحانه على النحو الذي يستعملونه في غيره ولا يرون الزيادة مخلّة بالتوحيد.

والحاصل أنّ هنا مقامين :

الأوّل : اللغة ، الظهور ، والتبادر.

الثاني : العقيدة والبرهان والاستدلال.

وليس من شأن العقيدة تفسير اللغة والمتبادر العرفي ، كما أنّه ليس للظواهر أنْ تصادم البراهين العقلية ، فلكلّ طريقه ومجراه.

المسألة الخامسة : في قيام المبدأ بالذات

هل يشترط في صحّة الحمل قيام المبدأ بالموضوع أو لا؟ وجوه وآراء.

الأوّل : يشترط قيام المبدأ بالذات قياماً حلولياً ، وهذا ما عليه الشيخ الأشعري حيث فسّر كونه سبحانه متكلّماً بأنّ التكلّم من صفات الذات القائم بها قياماً حلولياً ، وكلامه هو الكلام النفسي لا الكلام اللفظي ، ولا ما هو المفهوم من اللفظ.

الثاني : عدم اعتبار قيامه بالذات ، بشهادة أنّه يصدق على الفاعل أنّه ضارب ومؤلم مع أنّ الضرب غير قائم بهما بل بالمولم والمضروب.

٢٦٠