إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

فالانتقال بالآية من مفادها الضيّق البدوي إلى هذا المعنى الوسيع تأويل وبطن لها ، وبذلك تستفيد الأُمّة من الآية حقائق ومعاني كثيرة. ولا صلة للتأويل بهذا المعنى لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني فسّر التأويل والبطن بوجه آخر لا يخلو من إشكال وقد بين شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ إشكاله في الدورة السابقة فليُرجع إلى المحصول.

٢٠١

الأمر الثالث عشر

في المشتق

اتّفقت كلمة علماء الأُصول على أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدأ ، ومجازٌ فيما يتلبس به في المستقبل ، واختلفوا فيما انقضى عنه المبدأ ، وقبل الدخول في صلب الموضوع ، نقدّم أُموراً :

الأوّل : تعريف المشتق

المشتق هو اللفظ المأخوذ من لفظ آخر ، ويسمّى الأوّل فرعاً ، والثاني أصلاً ، ولابدّ بينهما من مناسبة حتى يتحقّق الأخذ وقد قسّموه إلى صغير وكبير وأكبر. لأنّ الفرع إمّا أن يشتمل على حروف الأصل وترتيبه ، فهو الأوّل ، وإذا أطلق لا ينصرف إلاّ إليه. وإمّا أن يشتمل على حروفه دون ترتيبه ، وهو الاشتقاق الكبير ، كما قيل : إنّ « فسر » مأخوذ من سفر ، ويقال : « أسفر النقاب » إذا رفع ، والتفسير أيضاً رفع النقاب عن وجه المراد ؛ وإمّا أن لا يشتمل على حروفه فضلاً عن ترتيبه وهو الأكبر كثلم وثلب. (١)

__________________

١ ـ لاحظ في الوقوف على تفصيل الأقسام : الفصول الغروية : ٥٨ ـ ٥٩.

٢٠٢

الثاني : النزاع لغوي لا عقلي

الظاهر أنّ النزاع في المقام لغوي ، والبحث في حدود الموضوع له ، وانّ الواضع هل وضعه لخصوص المتلبّس بالمبدأ أو وضعه للأعم منه وممن تلبّس به آناً ما وإن زال عنده؟ والدليل على أنّه لغوي هو استدلال الطرفين بالتبادر وصحّة السلب وعدمه ، ولو كان النزاع عقلياً لما كان لهذه الاستدلالات وجه ، خلافاً لصاحب المحجة حيث ذهب إلى أنّ النزاع عقلي ، وانّه لا خلاف في المفهوم والمعنى ، بل الاختلاف في الحمل ، فانّ القائل بعدم صحّة الإطلاق على من انقضى عنه المبدأ يرى وحدة سنخ الحمل في المشتقات والجوامد ، فكما لا يصحّ إطلاق الماء على البخار بعد ما كان ماءً ، كذلك لا يصحّ إطلاق المشتق على ما زال عنه المبدأ بعد تلبّسه به ، والقائل بصحّته يدّعي تفاوت الحملين ، فانّ الحمل في الجوامد « حمل هو هو » ، فلا يصحّ أن يقال للهواء ماء ، والحمل في المشتقات « حمل ذي هو » و « حمل انتساب » ويكفي في الانتساب مجرّد الخروج من العدم إلى الوجود فيصحّ الحمل على المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ.

حاصله : انّ المفهوم واحد عند الطرفين ، والقائل بالمجازية يدّعي كون الحمل في الجامد والمشتق حمل مواطاة ، والقائل بالحقيقة يقول إنّ الحمل في الجامد مواطاة وفي المشتق « حمل ذي هو ».

يلاحظ عليه : أنّه لا معنى للنزاع في صحّة الإطلاق وعدمه عقلاً إذا تسالموا على المفهوم ، والمعنى بداهة بطلان عدِّ ما كان واجداً للمبدأ ثمّ صار فاقداً ، من مصاديقه بحسب نفس الأمر ، لأنّ الصدق والجري يدور مدار الواجدية ومعه لا وجه له.

٢٠٣

الثالث : المشتق بين الأُدباء والأُصوليين

قد عرفت معنى المشتق عند الأُدباء ، وهو أخذ اللفظ من لفظ آخر ، وأمّا المشتق في لسان الأُصوليين فهو عبارة عمّا يجري على الذوات باعتبار كونها واجدة للمبدأ واتحادها معه بنحو من الاتحاد.

وبذلك يعلم أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه ، فالأفعال قاطبة ماضيها ومستقبلها وأمرها ، وإن كانت مشتقة عند الأُدباء لكنّها خارجة عن تعريف المشتق عند الأُصوليين ، لأنّ الأفعال تدلّ على قيام مبادئها بالذات ، قيام صدور أو حلول أو طلب فعل أو طلب ترك ، ولا تدل على وصف الذات بها ، ونظير الأفعال المصادر المجرّدة والمزيدة لعدم جريها كالأفعال على الذوات بنحو الهوهوية ، بل هي تدل على نفس المبادئ.

كما أنّ بعض الجوامد الذي يجري على الذوات ، وينتزع منه باعتبار اتحاده بالمبدأ كالزوج والرق والحرّ ، داخل في تعريف المشتق عند الأُصوليين وخارج عن تعريف المشتق عند الأُدباء.

وأمّا الاجتماع فيصدقان جميعاً على أسماء الفاعلين والمفعولين وأسماء الزمان والمكان ، وأسماء الآلة والصفات المشبهة وصيغ المبالغة ، لوجود الملاك في الجميع وهو : انتزاعها من الذات وحملها عليه.

وبالجملة : الميزان وجود ذات ومبدأ قائم بها ، من غير فرق بين القيام الصدوري والحلولي ، أو كون المبدأ فعلاً ، أو حرفة ، أو ملكة ، كما لا فرق بين النسب ، أي النسبة القائمة بين الصفات والذات ، سواء أكانت النسبة ثبوتية ، أو تجددية ، أو وقوعاً عليه ، أو وقوعاً فيه ، أووقوعاً به ، أو غير ذلك ممّا يجده الإنسان في أسماء الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة والصفة.

٢٠٤

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أيّد كون ملاك البحث أعمّ من المشتق عند الأُدباء وانّه يعمّ بعض الجوامد كالزوج للفرع الذي طرحه صاحب الإيضاح فيمن كان له زوجتان كبيرتان ارضعتا زوجته الصغيرة ، قال : تحرم الأُولى والصغيرة ، وأمّا الثانية فحرمتها وعدمها مبنيّة على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس ، أو كونه حقيقة في الأعمّ منه وممّن انقضى عنه المبدأ ، فإن قلنا بالأوّل ، لم يصدق على الثانية انّها أُمّ زوجته ، بل هي أُمّ البنت ، وليست أُمّ البنت محرّمة ، وإن قلنا بالأعمّ ، يصدق أنّها أُمّ من كانت زوجته سابقاً. (١)

ثمّ إنّ الكلام يقع في تحريم المرتضعة أوّلاً ، والكبيرة الأُولى ثانياً ، والكبيرة الثانية ثالثاً.

أمّا المرتضعة ، فلا شكّ أنّها تحرم على الزوج إذا كان اللبن له ، إذ حينئذ تكون الزوجة الصغيرة المرتضعة ، بنته الرضاعية ، والبنتية والزوجية غير مجتمعتين.

نعم لو كان اللبن لزوجها السابق الذي خرج عن حبالتها وتزوّجت بالثاني ، تكون المرتضعة عندئذ ربيبة رضاعية للزوج الثاني ، وحرمتها مبنية على حرمة الربيبة النسبية إذا تأخرت ولادتها ، كما إذا طلّقها الزوج وتزوّجت بآخر وأنجبت بنتاً فلو قلنا بحرمة المتأخّرة للزوج الأوّل فتعمّ الحرمة البنت الرضاعية المتأخّرة في المقام أخذاً بقوله : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

وأمّا الكبيرة فقد اتّفقت كلمتهم على بطلان زوجيتها ، لأنّها صارت أُمّ الزوجة مع أنّها كالكبيرة الثانية لا تحرم إلاّ على القول بوضع المشتق للأعم لا لخصوص المتلبس فلا خصوصية للأُولى في ذلك.

بيان ذلك بوجهين :

__________________

١ ـ إيضاح الفوائد في شرح القواعد : ٣ / ٥٢.

٢٠٥

الأوّل : انّ المتضائفين متكافئان قوّة وفعلاً ، ولا يمكن التفكيك بينهما ، وعليه فبنتية المرتضعة وأُمومة المرضعة متضائفتان ، لأنّه عندما صارت المرضعة أُمّاً صارت المرتضعة بنتاً ، فهي أُمّ البنت ، لا أُمّ الزوجة ، وإلاّ لزم تفكيك أحد المتضائفين ( الأُمومة ) عن الآخر ( البنتية ).

الثاني : إنّ زوجية المرتضعة وبنتيتها ، متضادتان شرعاً ، فمرتبة البنتية ، مرتبة زوال الزوجية ، والمفروض أنّها أيضاً مرتبة حصول الأُمومة ، فينتج أنّ مرتبة الأُمومة ، مرتبة زوال الزوجية فليس لنا زمان ولا مرتبة تضاف فيه الأُمومة إلى الزوجية.

وحاصل التقرير الأوّل : أنّ صدق الأُمومة على الكبيرة ، والزوجية على الصغيرة غير معقول ، لعدم صحّة انفكاك أحد المتضائفين ( الأُمومة ) عن المتضائف الآخر ( البنتية ).

وحاصل التقرير الثاني : أنّ مرتبة حصول البنتية والأُمومة ، مرتبة زوال الزوجية ، فكيف تكون أُمّاً للزوجة بل تكون أُمّاً للبنت ، وأُمّ البنت ليست من المحرمات.

هذا هو الإشكال ، وانّ المرضعتين في الحكم على حد سواء ، وحرمة الكل مبنيّة على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر أجاب عن الإشكال بما هذا لفظه : من أنّ صدق البنتية للمرتضعة وزوال زوجيتها ، وأُمومة المرضعة الأُولى ، متّحدات في الزمان ، فآخر زمان الزوجية متصل بأوّل زمان حدوث الأُمومة. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الاكتفاء بهذا المقدار ، خلاف منصرف العمومات ، فانّ الظاهر من « أُمّهات نسائكم » أن تكون المرأة أُمّاً حقيقة أو تنزيلاً لزوجة فعلية ، وأمّا الأُمومة المقارنة لآخر جزء الزوجية الزائلة ، فليست داخلة تحتها.

__________________

١ ـ الجواهر : ٢٩ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

٢٠٦

والأولى أن يقال انّ التفريق بين المرضعتين لأجل النصّ الخاص ، وذلك لمعتبرة علي بن مهزيار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قيل له : انّ رجلاً تزوج بجارية صغيرة ، فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها امرأة له أُخرى.

فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « أخطأ ابن شبرمة ، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلاً ، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه ، كأنّها أرضعت ابنته ». (١)

ولعلّ الرواية تؤيد ما ذكره صاحب الجواهر من أنّه يكفي صدق الأُمومة عند زوال الزوجية. وذلك من خلال انّ حكم التفصيل بين المرضعتين ، مقتضى القاعدة : دخول الأُولى تحت الآية دون الثانية ، ولا وجه لهذا الاستظهار إلاّ إذا قلنا بمقالة صاحب الجواهر.

الأمر الرابع : في دخول أسماء الزمان في محط النزاع

ربّما يتوهم خروج أسماء الزمان عن حريم النزاع كالمضرب إذا أُريد منه زمان الضرب ، إذ لا يتصور له إلاّ قسم واحد وهو الذات المتلبّسة بالمبدأ ، أي الزمان الذي وقع فيه الضرب ، وأمّا القسم الآخر ، أعني : ما انقضى عنه المبدأ فلا يتصوّر في الزمان ، لأنّ الذات في اسم الزمان كالمضرب والمقتل هو الزمان وهو ليس شيئاً باقياً بل هو أمر منقض جزءاً فجزءاً.

وقد أجاب عنه في « الكفاية » بأنّ انحصار مفهوم في فـرد لا يلازم وضع اللفظ لهذا الفرد كما في لفظي الإله (٢) والواجب ، فهما كليان مع أنّ المصداق

__________________

١ ـ الوسائل : ١٤ ، الباب ١٤ من أبواب الرضاع ، الحديث ١.

٢ ـ وفي المصدر لفظ الجلالة ، والظاهر انّه علم للذات الجامعة لصفات الجلال والكمال ، ولم يقل أحد بكونه كلياً وإنّما قال به من قال في لفظ الإله.

٢٠٧

منحصر في واحد.

يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين اسم الزمان وذينك اللفظين ، فانّ انحصار اسم الزمان في مصداق واحد ، أعني : المتلبس أمر تدركه عامّة الناس ، وهذا بخلاف انحصار الإله والواجب في فرد ، فهو ليس بهذا الوضوح ، ولذلك ذهبت الثنوية إلى تعدد الإله والواجب.

أضف إلى ذلك أنّ عطف « الواجب » على الإله غير تام ، لعدم انحصار الثاني بفرد خاص ، بل هو يعم الواجب بالذات والواجب بالغير ، والواجب بالقياس إلى الغير كالمتضائفين ، فانّ وجود الأب واجب بالقياس إلى الابن وبالعكس.

وقد أجاب المحقّق النائيني عن التوهّم بأنّه لو كان الزمان المأخوذ فيها ، شخص ذاك اليوم بعينه لا كليه فللتوهم المذكور مجال ، لكن كون المأخوذ فيها هو الشخص ، في حيّز المنع ، بل الظاهر أنّه الكلي. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه لو كان الإشكال منصبّاً على صدق عنوان المقتل على اليوم الثاني أو الثالث من السنة الثانية والثالثة كان لما ذكره وجه ، وهو أنّ المقتل اسم كلي له مصاديق متعددة عبر الزمان حسب السنوات ، غير أنّ الإشكال منصبّ على صدقه في نفس اليوم الأوّل بعد طروء القتل ، فانّ المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل وهو جزء من اليوم ، مع أنّه يطلق على جميع الأجزاء.

وثانياً : انّ المقتل وإن كان كلّياً ، لكنّه بعد انطباقه على اليوم المعيّن تشخّص الكلي في ضمن ذلك الفرد ، فصار ذلك اليوم ( اليوم العاشر من محرم عام ٦١ هـ ) مصداقاً لمقتل الحسين عليه‌السلام فقط فلا يكون له مصداق آخر.

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ٥٦.

٢٠٨

والصحيح أن يقال : انّ لكلّ شيء بقاءً بحسبه ، فالأشياء المادية على أقسام ثلاثة ، ولكلّ بقاء عند العرف :

١. الجوامد ، كالإنسان والفرس.

٢. الزمانيات كالتكلم وسيلان الماء.

٣. الزمان كاليوم والليل.

ولا شكّ أنّ للقسم الأوّل بقاء ًحسب الحسّ ، فزيد اليوم هو نفس زيد في الأمس أو الغد.

وأمّا القسم الثاني ـ فمع أنّ الإنسان يحس زواله وعدم بقائه ، ومع ذلك يفترض الإنسان له بقاءً كسيلان الماء ونبعه فانّ له ابتداء وانتهاء ، وللتكلم مبدأ ومنتهى ، فيتلقاها العرف أمراً واحداً ثابتاً ، ومثله الزمان كاليوم فانّه له مبدأ بطلوع الشمس وبقاءً إلى غروبها عند العرف مع أنّ أجزاءه غير مجتمعة ، فإذا وقع القتل في أوّل اليوم صحّ إطلاق المقتل إلى آخر اليوم لما عرفت من أنّ لليوم في نظر العرف بقاءً ، ولذلك يقول : رأيته في أوّل اليوم أو وسطه أو آخره.

وأمّا صحّة إطلاقه بعد مضي سنة أو سنوات فلأجل اعتقاد الناس بعود الزمان بنفسه في ذلك اليوم وهم يرون اليوم في السنة الثانية نفس اليوم الماضي وعينه لا مثله. ولذلك يقولون اليوم مقتل الحسين عليه‌السلام.

ثمّ إنّه ربّما يتوهم أيضاً بخروج اسم المفعول عن حريم النزاع لا لأجل عدم بقاء ذاته على ما توهم في اسم الزمان ، بل لأجل كونه متلبساً دائماً ، فالشخص مادام موجوداً يطلق عليه أنّه مضروب أو مقتول فتكون أسماء المفعولين خارجة عن محط النزاع.

يلاحظ عليه : أنّه يجب أن يُحدّد مفهوم المضروب ، فلو أُريد منه المعنى

٢٠٩

الحدوثي التجددي فهو قابل للانقضاء ، ففي الآن الذي وقع عليه الضرب هو مضروب دون الآنات المتتالية.

نعم لو أُريد منه المعنى الناعت والمعرّف كما يقال : علي قالع باب خيبر فلا يتصوّر فيه الانقضاء.

وبعبارة أُخرى : فهو بالمعنى الحدوثي يتصوّر له التلبس والانقضاء ، وبالمعنى الوصفي فهو متلبّس دائماً لا يتصوّر له الانقضاء.

ثمّ إنّ المحّقق النائيني استثنى من محط البحث ، ألفاظ العلة والمعلول والممكن والواجب والممتنع ، قائلاً : بأنّ منزلة هذه الألفاظ منزلة العناوين الذاتية كالإنسان ، إذ لا يعقل بقاء الذات مع ذهاب الإمكان وإلاّ لزم انقلاب الممكن إلى الواجب والممتنع.

يلاحظ عليه بوجهين : أوّلاً : أنّ ما ذكره إنّما يتم في العلل غير الاختيارية فلا يمكن ذهاب الوصف ( العلية ) مع بقاء الذات ، دون العلل الاختيارية فلا مانع من بقاء الذات وازالة وصف العلية في العلل المختارة.

وثانياً : أنّ ما ذكره إنّما يصحّ لو كانت هذه الألفاظ موضوعة بوضع خاص ، فبما أنّه لا يتصور فيها الأعمية ، فلا معنى للوضع بالأعم ، وأمّا إذا كان الموضوع له هو الهيئة الكلية في أسماء الفاعلين والمفعولين من دون نظر إلى مادة ، فعدم جريان النزاع في بعض الموارد لا يوجب عدم جريانه في الهيئة على الوجه الكلّي من دون نظر إلى مادة خاصّة ، كما لا يخفى.

الأمر الخامس : في دلالة الأفعال على الزمان

المعروف بين الأُدباء أنّ الفعل يدلّ على الزمان ، فالماضي يدل على تحقّق

٢١٠

الحدث فيما سبق ، والمضارع على تحقّقه فيما يأتي أو الحال ، وصيغة الأمر تدلّ على الطلب في زمان الحال حتى أنّ ابن الحاجب عرّف الفعل بقوله : ما دلّ على معنى في نفسه مقترناً بأحد الأزمنة الثلاثة. (١)

ولكن المشهور بين الأُصوليين المتأخّرين عدم دلالته على الزمان ، واستدلّوا عليه بوجوه غير تامّة ، وإليك سردها :

الأوّل : انّ المادة في الأفعال تدلُّ على نفس الحدث ، والهيئة على نسبة الحدث إلى الفاعل ، فما هو الدال على الزمان؟

يلاحظ عليه : بأنّ الدالّ عليه ـ عند القائل بدلالة الفعل على الزمان ـ هي الهيئة التي تدلّ على نسبة الحدث إلى الفاعل في زمان خاص كما سيوافيك بيانه.

الثاني : النقض بصيغة الأمر والنهي ، فانّ مدلولهما إنشاء طلب الفعل أو الترك ، غاية الأمر أنّ نفس الإنشاء بهما متحقّق في الحال وهو غير القول بدلالتهما عليه.

يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فانّ الأفعال من قبيل الإخبار الملازم للزمان لكونه ينبئُ عن فعل محقّق أو سيتحقق في المستقبل ، بخلاف الأمر والنهي فانّهما من مقولة الإنشاء ، ولا يلازم مدلولُ الإنشاء الزمانَ.

أضف إلى ذلك انّ القائل بالفورية في كلتا الصيغتين يقول بدلالة الأمر والنهي على الزمان الحاضر.

الثالث : لو دلّ على الزمان لما صحّ اسناده إلى نفس الزمان ، كما في قوله « مضى الزمان » وإلاّ لزم أن يكون للزمان زمان. ولما صحّ اسناده إلى المجرّد من دون فرق بين أن يكون المجرّد فاعلاً كما في قولك : « علم اللّه » ، فانّ فعله فوق

__________________

١ ـ شرح الكافية : للرضي : ١ / ١١.

٢١١

الزمان ، أو مفعولاً كما في قولك « خلق اللّه الأرواح ».

يلاحظ عليه : أنّ ذلك إثبات اللغة بالبرهان ، مع أنّ الوضع لا يقتضي أن يكون على وفقه ، فالبرهان العقلي شيء والوضع شيء آخر ، فانّ الواضع لم يكن فيلسوفاً حتى يلتفت إلى هذه المحاذير ويضع الفعل للحدث المنتسب إلى الفاعل المجرّد عن الزمان حتى يصحّ اسناده إلى المجردات فاعلاً ومفعولاً ، والمحذور المتوهم في المثال الأوّل ممّا يلتزم به العرف بشهادة أنّه يعتقد أنّ للزمان زماناً ويقول : « كان يوم ، ولم يكن مع اللّه سبحانه شيء ، ثمّ خلق السماوات والأرض والأيّام والليالي » حتى أنّ هذا الزعم سرى إلى بعض المتكلّمين الذين أثبتوا لمجموع العالم حدوثاً زمانياً ، فقالوا : كان زمان ولم يكن شيء سوى اللّه ثمّ خلق ما خلق.

ومن هنا يعلم الحال في المثال الثاني ، فإنّ قولنا « علم اللّه » يدلّ على الزمان وإن كان البرهان يقتضي كون فعله فوق الزمان بمعنى أنّ علمه سابق على الزمان أو أنّ فعله غير مقيّد به.

وأمّا قوله : « خلق اللّه الأرواح » فمعنى تجرّد الأرواح كونها غير متقيدة بالزمان وإن كانت غير خارجة عنه.

والحاصل : انّ إثبات اللغة بالبراهين الفلسفية ليس طريقاً صائباً ، فاللازم تحليل مسائل كلّ علم حسب الأُسلوب الخاص به.

الرابع : المضارع عندهم مشترك في الحال والاستقبال وليس بمشترك لفظي ، وإلاّ لزم استعماله فيهما استعمالاً في أكثر من معنى واحد كما في قولنا : « يضرب زيد اليوم وغداً » ، ولا معنوي لعدم الجامع بين الحال والاستقبال لتباين أجزاء الزمان.

يلاحظ عليه : بأنّ الجامع بين الحال والاستقبال أمر انتزاعي ، وهو « ما لم

٢١٢

يمض من الزمان » ، وهو كاف في الوضع إذ يمكن به الإشارة إلى الموضوع له.

الخامس : انّ الماضي عندهم ربّما يستعمل فيما هو مستقبل حقيقة ، وبالعكس ، مثل قولك : « يجيئني زيد بعد عام ، وقد ضرب قبله بأيّام » وقولك : « جاء زيد في شهر كذا ، وهو يضرب في ذلك الوقت » أو « فيما بعده » أو « فيما مضى ».

يلاحظ عليه : أنّ الملاك في كون الشيء ماضياً أو مضارعاً ، إمّا حال التكلّم أو الحدث الذي قورن به الكلام ، والمثالان من قبيل الثاني لا الأوّل ، فانّ الملاك هو المجيء و « ضرب زيد » ماض بالنسبة إليه ، كما أنّ « ضربه » مضارع بالنسبة إليه فلا تعارض.

فهذه الأدلّة التي ذكر أكثرها المحقّق الخراساني في الكفاية لا تسمن ولا تغني من جوع.

والحقّ أن يقال : أنّ الأفعال ماضيها ومستقبلها تدلّ على الزمان الماضي أو المستقبل بالدلالة الالتزامية ، لا بالدلالة المطابقية ولا التضمنية.

ويعلم ذلك بملاحظة أمرين :

أ. لا يمكن لأحد أن يُنكر وجود الفرق بين قولنا : ضرب ويضرب ، فانّ الأوّل يقارب من قولنا ضرب في الماضي مثلاً ، والثاني من قولنا يضرب في المستقبل.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ الزمان ماضيه ومستقبله من المفاهيم الاسمية ولا معنى لأخذها في مداليل الهيئة التي هي من المفاهيم الحرفية.

فالأمر الأوّل يجرّنا إلى القول بدلالته على الزمان ، والأمر الثاني يصدّنا عن القول به ، فالذي يمكن أن يقال : انّ المتبادر من الهيئة معنى ينبئُ عن صدور الحدث من الفاعل كما في الأفعال المتعدية ، أو قيامه به كما في الأفعال اللازمة ، أو

٢١٣

ترقّب الصدور عن الفاعل أو ما يقرب من ذلك في الفعل المضارع ، ومن الواضح أنّ الإخبار عن التحقّق أو الترقّب يلازم دلالة الفعل على الماضي والحال والمستقبل ، فالقول بالدلالة صحيح إذا أُريد منه ما ذكرنا.

وإن شئت قلت : إنّ الهيئة موضوعة لسبق الحدث ، أو لترقّب وقوعه ، والسبق والترقّب يلازمان الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال.

نعم ليس المراد من وضع الهيئة على مفهوم التحقّق والسبق أو مفهوم الترقّب واللحوق بصورة المعنى الاسمي حتى يقال : انّ الهيئة من الأدوات الحرفية فكيف تدل على المعنى الاسمي؟! بل المراد واقع السبق وحقيقته أو مصداقه ، وهذا نظير ما يقال انّ لفظة « من » موضوعة للابتداء وانّ « إلى » موضوعة للانتهاء ، فليس المراد انّهما موضوعان لمفهومهما الاسمي بل لواقعهما ومصداقهما وما يعد ابتداءً وانتهاء في الخارج.

وما ذكرناه هو خلاصة ما أفاده المحقّق الاصفهاني في تعليقته والسيّد الأُستاذ في درسه.

قال الأوّل : إنّ هيئة الماضي موضوعة للنسبة المتقيّدة بالسبق الزماني بنحو يكون القيد خارجاً والتقيّد داخلاً ، وهيئة المضارع موضوعة للنسبة المتقيّدة بعدم السبق الزماني ، لا أنّ الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال أو غير الماضي بهذه العناوين الاسمية ، مأخوذة في الهيئة كي يقال انّ الزمان عموماً وخصوصاً من المعاني المستقلة بالمفهومية فلا يعقل أخذها في النسبة التي هي من المفاهيم الأدوية. (١)

والحاصل : انّ هنا دلالة واحدة وهي الدلالة على سبق الحدث أو ترقّب

__________________

١ ـ نهاية الدراية : ١ / ٧٥ ، ط عبد الرحيم ، طهران.

٢١٤

حصوله ، لكن العقل يحلّله إلى دلالات كثيرة ، وهو أنّ هنا حدثاً ونسبة وفاعلاً وصدوراً سابقاً أو لاحقاً. كما هو الحال في قولنا باللغة الفارسية « زد » أو « مى‌زند ».

الأمر السادس : ما هي مادة المشتقات؟

لا شكّ انّ العارف باللغة يُحسّ أنّ هناك معنى سارياً في عامّة المشتقات بحيث إنّ المفاهيم المختلفة تطرأ على ذلك المعنى ، ويصوّره بصور مختلفة ، وهذا ما يسمّى بمادة المشتقات ، فالهيئات تفيد معاني مختلفة لكن الجميع ينصبُّ على معنى واحد ، فتارة يلاحظه صادراً عن الفاعل ، وأُخرى واقعاً عليه ، وثالثة متحقّقاً في زمان ومكان ، إلى غير ذلك من المعاني الطارئة ، وهذا يدلّنا على أنّ في المشتقات مادة سيّالة متضمّنة معنى سارياً في عامّة الصحيح في جميع الصور.

ويؤيد ذلك أنّه كثيراً ما يعلم الإنسان مفهوم الهيئة ولكن يجهل بمفاد المادة ، وهذا آية تعدد الوضع وانّ هناك شيئا موضوعاً لمعنى ، والهيئة موضوعة لمعنى آخر ، وقد اختلفت كلمتهم في تعيين ما هي المادة السارية لهذه المشتقات الكثيرة إلى مذاهب :

الأوّل : انّ المصدر أصل ، والفعل والوصف مشتقان منه ، وهذا خيرة البصريين.

الثاني : انّ الفعل أصل ، والمصدر مشتق منه ، وهذا مذهب الكوفيين ، وإلى المذهبين يشير ابن مالك في ألفيته ، يقول :

المصدر اسم ما سوى الزّمان من

مدلولي الفعل كامن من أمن

بمثله أو فعل أو وصف نصب

وكونه أهلاً لهذين انتخب

الثالث : انّ المصدر أصل ، والفعل مشتق منه ، والصفات مشتقة من الفعل.

٢١٥

الرابع : انّ كلاً من المصدر والفعل أصل برأسه. (١)

وهناك مذهب خامس سيوافيك بيانه وهو خيرة السيّد الأُستاذ قدس‌سره.

وهم وإزاحة

إنّ بعض المتأخّرين من الأُصوليين نفوا كون المصدر أصلاً ومادة للمشتقات قائلين بأنّ الأصل يجب أن يكون محفوظاً في فروعه بمادته وهيئته مع أنّ هيئة المصدر مانعة من كونه أصلاً لسائر المشتقات ، لعدم إمكان حفظ الهيئة فيها.

وبالجملة : انّ نسبة مادة المشتقات إليها كالمقسم بالنسبة إلى سائر الأقسام ، فكما أنّه يشترط وجود المقسم في عامة الأقسام ، فيجب وجود المصدر بهيئته ومادته في جميع المشتقات ، ولكنّه أمر غير ممكن ، لأنّ هيئة المصدر آبية عن انضوائها في هيئة أُخرى ، فلابد من إزالة الهيئة السابقة وهي لا تجتمع مع مبدئيتها للمشتقات.

يلاحظ عليه : بأنّه نشأ من قياس المبدأ في عالم الألفاظ بما هو المبدأ في عالم التكوين والحقائق العينية ، فانّ الهيولى الأُولى مادة الكون وهي عارية عن كلّ الفعليات حتى تصلح لئن تتعاقب عليها صور كثيرة ، وأمّا المبدأ في عالم الألفاظ فلا دليل على لزوم كونه عارياً عن كلّ الخصوصيات ، بل يكفي وجود سريان حروفه مع ترتيبها في عامة المشتقات.

فالمصدر أشبه بالمبدأ في التراكيب الصناعية ، فانّ القطن يُعد مبدأ لكثير من الألبسة حيث إنّه مادة للخيط والثياب ، والنفط مادة للصناعات البلاستيكية

__________________

١ ـ لاحظ شرح ابن عقيل : ١ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤.

٢١٦

مع أنّهما غير مأخوذتين بعامة الخصوصيات في فروعهما.

فإذا كان الحال كذلك في التراكيب الصناعية ، فليكن كذلك في عالم الألفاظ فانّ المصدر لما كان أقل وأبسط من حيث المعنى عن سائر المشتقات ، أخذ مبدأ لها ، وأمّا لزوم حفظ عامّة خصوصيات المبدأ في الفروع فهو أشبه بلزوم ما لا يلزم.

فإن قلت : إنّ المصدر يشتمل على نسبة ناقصة ، فهي تمتنع عن كون المصدر مادة المشتقات.

قلت : إنّ اشتمال المصدر على النسبة الناقصة لا يضرّ بالمقصود ، لأنّها نسبة مبهمة قابلة لتوارد النسب المختلفة عليه.

نعم لو اشتمل على نسبة تامّة كالفاعلية أو المفعولية فهي تمنع عن التلوّن بألوان النسب.

فإن قلت : فعلى هذا فاسم المصدر أولى بأن يكون مادة المشتقات ، لأنّه فاقد حتى نفس هذه النسبة الناقصة ، وإنّما يدل على مجرّد الحدث.

قلت : إنّ اسم المصدر نادر الوجود فلا يكن اتخاذه مبدأ ومصدراً.

فإن قلت : لو كان للمادة وضع مستقل وراء وضع الهيئات ، للزم تعدد الدلالة ، وهو يستلزم تعدد المداليل ، وهو لا يناسب بساطة المشتق الذي اتّفقت عليه كلمتهم في هذه الأعصار ، على أنّ تعدد المداليل خلاف المتبادر في عامّة الصيغ.

قلت : إنّ وجود المادة لما كان مندكّاً في الهيئة ومتحصلاً بتحصلها ، ومتحداً معها بنحو من الاتحاد ، اندكت دلالتها في دلالة الهيئة ، فصار اللفظ بهيئته ومادّته مفيداً لمعنى واحد.

ثمّ إنّ هيئة المصدر لما كانت مانعة عن كون المصدر مادة للمشتقات عند

٢١٧

السيّد الأُستاذ قدس‌سره ذهب إلى أنّ المبدأ عبارة عن الحروف المترتبة مجرّدة عن كلّ هيئة ، كحروف « ض ، ر ، ب » فهي موضوعة لنفس المعنى مجردة عن كلّ خصوصية ونسبة فاعلية أو مفعولية.

فإن قلت : إنّ اللفظ الموضوع لابدّ وأن يكون قابلاً للتنطّق والتلفظ ، والمادة العارية عن كلّ صورة غير قابلة له.

قلت : إنّ وضع المادة لما كان وضعاً تهيئياً لأن تتلبس بالهيئات الكثيرة من الماضي والمضارع ، فلا يلزم أن تكون قابلة للتنطق. (١)

يلاحظ عليه : أنّ العرف العام لا يضع لفظاً لمعنى ما لم ينطق به فهو بالنطق به يضع اللفظ غالباً ، وقد مرّ أنّ وضع غالب الألفاظ وضع تعيني لا تعييني ، ووضع المادة بلا هيئة يحتاج إلى قدرة فكرية خارج عن إطار قدرة الواضع الساذج. ولذلك استقرّ نظره أخيراً على أنّ المصدر مادة المشتقات ، لكن الهيئة غير دخيلة في المبدئيّة بل دخيلة في إمكان النطق به ، ولو أمكن النطق به بلا هيئة لوضعها بلا هيئة ، وعلى ذلك يصبح النزاع أشبه باللفظيّ.

الأمر السابع : التفصيل في بعض المشتقات ونقده

ربّما يفصل بين المشتقات فيتوهم أنّ بعضها حقيقة في المتلبّس والبعض الآخر في الأعم ، وذلك فيما لو كان المبدأ فيه حرفة أو قوّة أو ملكة فانّ المشتق يصدق مع عدم التلبّس بالمبدأ وذلك كالكاتب والمثمر والمجتهد.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما حاصله : أنّ اختلاف المشتقات في المبادئ وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة ، وفي بعضها قوّة وملكة ، وفي بعضها

__________________

١ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ١٠٥ ـ ١٠٦.

٢١٨

فعلية ، لا يوجب تفصيلاً في المسألة ، بل يوجب طول التلبّس وقصره حسب اختلاف المبادئ ، فلو كانت المادة فعلية يكون المتلبّس أقل مدّة مما إذا كانت المادة حرفة أو ملكة أو قوّة.

توضيح ذلك : أنّ المبدأ تارة يؤخذ على نحو الفعلية كقولنا قائم ، وأُخرى على نحو الحرفة كقولنا تاجر ، وثالثة على نحو الصناعة كقولنا : حدّاد ونسّاج ، ورابعة على نحو القوّة كالشجر المثمر ، وخامسة على نحو الملكة كالطبيب والمجتهد ، وسادسة على نحو الانتساب إلى الأعيان الخارجية كقولنا لابن وتامر.

فعند ذلك يختلف واقع التلبّس حسب اختلاف المبادئ ، ففي القسم الأوّل : يشترط كونه واجداً للمبدأ فعلاً ولذلك لا يصدق القائم على القاعد.

وفي الثاني والثالث : يكفي اتخاذه حرفة وصنعة مادام لم يعرض عنهما وإن لم يكن يمارس فعلاً.

وفي الرابع : يكفي كونه واجداً لقوة الإثمار في مقابل فقدانها وإن لم يثمر الآن ، فالشجرة الواجدة لتلك القوّة شجرة مثمرة حتى في أيام الشتاء. نعم لو زالت قوّة الاثمار لخرجت عن كونها مثمرة. وهكذا الأمر في الخامس والسادس ، فمادام الطبيب والمجتهد يملكان ملكة الطبابة والاجتهاد يصدق عليهما أنّهما طبيب ومجتهد إلاّ إذا زالت الملكة.

وإلى ذلك يرجع قول بعضهم من أنّ تلبّس كلّ شيء بمادة حسب اختلاف المادة. وعند ذلك يقع النزاع في أنّ هيئة المشتق هل رخصت للمتلبّس الذي تقتضيه مادته أو للأعم منه وممّن انقضى عنه المبدأ؟

وبذلك يعلم أنّ اختلاف كيفية التلبّس لا يوجب اختلافاً فيما هو الملاك غير أنّ الظاهر من المحقّق الخراساني أنّ الاختلاف في كيفية التلبّس ينشأ من

٢١٩

جانب المادة كما هو الغالب فيما مضى ، ولكنّه ربّما ينشأ من الهيئة وذلك كما في المفتاح والمسجد ، فانّ المادة فيهما أعني الفتح والسجود من قبيل الفعليات لكن الهيئة وُصفت لما يصلح للفتح أو يكون معداً للسجود وإن لم يفتح به أو لم يسجد فيه.

بل ربّما ينشأ الاختلاف من كيفية الجري ، فإذا قلت : هذا المائع سم قاتل ، يستفاد منه أنّ المبدأ أخذ بالقوّة ، وأمّا إذا قلت ، زيد قاتل ، فيراد منه أنّه قاتل بالفعل.

الأمر الثامن : ما هو المراد من الحال في عنوان البحث؟

المذكور في عنوان المسألة في الكتب هو أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس في الحال أو الأعم منه وممّن انقضى عنه المبدأ ، فاختلفت كلمتهم في تفسير الحال إلى أقوال :

الأوّل : أنّ المراد هو زمان النطق بالمشتق.

وهذا الاحتمال مردود بوجوه :

أ. عدم دلالة المشتق على الزمان.

ب. اتّفاقهم على أنّ قولنا : كان زيد ضارباً أمس ، أو سيكون ضارباً غداً ، حقيقة إذا كان متلبّساً بالمبدأ في ظرف النسبة ، وهذا يدل على أنّ المشتق لم يوضع للمتلبّس في زمان النطق.

ج. أنّ هذا الاحتمال يوجب كون المشتق مجازاً في أغلب الموارد ، لأنّ التلبّس في زمان النطق أقلّ مصداقاً من غيره.

الثاني : انّ المراد زمان التلبّس.

٢٢٠