إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

١
٢

٣

بِسم اللهِ الرّحمن الرحيم

فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدِّينِ

وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إذا رَجَعُوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ

التوبة : ١٢٢

٤

كلمة المحاضر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته ، وردعت عظمتُه العقولَ فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته.

والصلاة والسلام على من بعثه بالنور المضي ، والبرهان الجلي ، محمّد نبي الرحمة ، وعلى آله الذين هم كنوز الرحمن إن نطقوا صدقوا ، وإن صَمتوا لم يُسبقوا.

أمّا بعد ، فإنّ من مفاخر الشيعة الإمامية هو فتح باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية منذ رحيل الصادع بالحق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا ، والاجتهاد هو الذي يضفي على الشريعة ، غضاضة وطراوة ولا يناله إلاّ ذو حظ عظيم.

إنّ الخوض في عباب هذا الفن رهن علوم جمّة ، من أهمها : علم الأُصول الذي هو : العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية أو ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل.

وممّن وفّقه اللّه لدراسة هذا العلم ، دراسة معمّقة الشيخ الفاضل المحقّق الثبت محمد حسين الحاج العاملي ( حفظه اللّه ) فحرّر ما ألقيناه من محاضرات على فضلاء الحوزة العلمية ببيان سهل وأُسلوب جزل بعيداً عن الإطناب والاقتضاب ،

٥

وها هو الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ يقدّمه لطلاب هذا العلم ، وقد لاحظته فرأيته وافياً بالمطلوب جامعاً لنكات البحث.

فأسأل اللّه سبحانه أن يوفّقه لصالح العلم والعمل ، وأن يجعله ذخراً للإسلام والمسلمين.

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

١ شعبان المعظم ١٤٢٢ هـ

٦

كلمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي خضع له كلّ شيء ، وقام به كلّ شيء ، والصلاة والسلام على الداعي إلى الحقّ والشاهد على الخلق الذي بلّغ رسالات ربّه محمّد خاتم رسله وأفضل سفرائه ، وعلى آله الذين هم أساس الدين وعماد اليقين.

أمّا بعد ، فقد أسعفني الحظ في سالف الزمان وقمت بنشر ما استفدته من شيخي العلاّمة الحجّة الفقيه آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني ( مد ظلّه ) وقد كان لما نشرته من المباحث العقلية لعلم الأُصول صدى واسع في الأوساط العلمية ، ولم يخطر ببالي نشر ما استفدته من أُستاذي الكبير في مجال المباحث اللفظية ، ولكن لما شجّعني غير واحد من الأعزّاء على نشر ما بقي من المباحث لتكتمل الدورة الأُصولية ، شمّرت عن ساعد الجد وقمت بتبييض المباحث المذكورة في قوالب واضحة غير مخلّة بالمراد ، ولا مطنبة في البيان ، سائلاً المولى عزّ وجلّ أن يطيل عمر شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ الذي كان ولم يزل يربي جيلاً بعد جيل بعلمه وفكره وقلمه وبيانه.

٧

كما أسأله سبحانه أن يجعل ما بذلته من الجهود في إخراج الجزءين الأخيرين كتاباً نافعاً ينتفع به روّاد العلم وطلاّب الفضيلة.

محمد حسين الحاج العاملي

جبل عامل ـ جزين

١٥ شعبان المعظم ١٤٢٢ هـ

يوم ميلاد الإمام القائم ـ عجلّ اللّه تعالى فرجه ـ

٨

مقدمة وفيها أُمور :

١. موضوع العلوم ومسائلها وتمايزها و ...

٢. الوضع وفيه جهات من البحث

٣. الحقيقة والمجاز

٤. استعمال اللفظ في اللفظ وأقسامه

٥. وضع الألفاظ للمعاني الواقعية

٦. وضع المركبات

٧. علائم الوضع أو تمييز الحقيقة عن المجاز

٨. تعارض الأحوال

٩. في الحقيقة الشرعية

١٠. ألفاظ العبادات والمعاملات أسام للصحيح أو للأعم

١١. الاشتراك اللفظي

١٢. استعمال المشترك في أكثر من معنى

١٣. المشتق وانّه حقيقة في المتلبس أو الأعم

١٤. مسائل في المشتق

٩
١٠

الأمر الأوّل

في موضوع العلوم ومسائلها وتمايزها

بحث المحقّق الخراساني في الأمر الأوّل عن الموضوعات التالية :

١. تعريف موضوع العلم.

٢. ما هي النسبة بين موضوع العلم وموضوع المسألة؟

٣. لزوم وجود موضوع لكلّ علم.

٤. تمايز العلوم.

٥. ما هو موضوع علم الأُصول؟

٦. ما هوتعريف علم الأُصول؟

٧. ما هو الفرق بين المسائل الأُصولية والقواعد والمسائل الفقهية؟

فهنا جهات من البحث :

الجهة الأُولى : تعريف موضوع العلم

قالوا : إنّ موضوع كلّ علم بأنّه « ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية » ، المهم هو التعرف على أمرين :

١. العرض في المنطق والفلسفة.

١١

٢. الذاتي وأقسامه.

أمّا الأوّل فانّ العرض في الفلسفة يقابل الجوهر ، فالماهية إذا وجدت وجدت لا في موضوع فهو جوهر كالإنسان ، وإذا وجدت في موضوع فهو عرض كالسواد.

هذا هو العرض حسب الاصطلاح الفلسفي.

وأمّا العرض في الاصطلاح المنطقي فهو أوسع من سابقه ، وهو يطلق على الخارج عن ذات الشيء ، المحمول على الشيء لاتّحاده معه في الخارج ، وعلى هذا فالناطق عرض بالنسبة إلى الحيوان لخروجه عن حقيقته وصحّة حمله عليه لوحدتهما في الخارج في مورد الإنسان ، والمراد من العرض هنا هو المصطلح المنطقي لا الفلسفي ، وربّما صار الخلط بين الاصطلاحين منشأً للاشتباه.

أمّا الثاني أي الذاتي فيطلق ويراد منه أحد المعاني الثلاثة :

١. الذاتي في باب الايساغوجي ( الكلّيات الخمس ) ، والمراد منه ما كان جنساً أو فصلاً أو نوعاً للشيء ، وبعبارة أُخرى : ما يكون مقوّماً للموضوع ومن ذاتيّاته ، ويقابله العرضيّ ، وهو ينقسم بدوره إلى عرض عام وخاص كما هو مفصّل في المنطق.

٢. الذاتي في باب البرهان ، وهو عبارة عن الخارج عن ذات الشيء ، المحمول على الشيء من دون حاجة في الانتزاع أو في الحمل إلى وجود حيثية تقييدية في جانب الموضوع ، وهذا كما في قولنا : الإنسان ممكن ، فانّ الإمكان ليس مقوّماً للإنسان ، إذ ليس هو نوعه أو جنسه أو فصله ، ومع ذلك ينتزع منه أو يحمل عليه بلا حاجة إلى حيثية تقييدية على نحو يكون وضع الإنسان ملازماً لوضع الإمكان.

١٢

وربّما يمثّل بحمل الموجود على الوجود ، والأبيض على البياض ، وربّما يطلق عليه المحمول بالصميمة ، ويقابله ما يسمّى المحمول بالضميمة كحمل الأبيض على الاسم ، فلا يوصف بكونه أبيض إلاّ بعد ضمّ البياض إليه وعروضه عليه.

٣. الذاتي في باب الحمل والعُروض ، ويقابله الغريب ، وهو المراد من قولهم موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية فمحمولات المسائل أعراض ذاتية لموضوع العلم.

وقد اختلفت كلمتهم في تفسير العرض الذاتي في المقام ، فذهب المحقّق الخراساني تبعاً للمحقّق السبزواري في تعاليقه على الأسفار (١) بأنّ المعيار في كون العرض ذاتياً أو غريباً هو أن يكون العرض من قبيل الوصف بحال الشيء لا الوصف بحال متعلّق الشيء.

وبعبارة أُخرى : العرض الذاتي ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض.

توضيحه : انّ الواسطة تطلق على عدّة معان :

١. الواسطة في الثبوت ، وهي ما تكون علّة لعروض المحمول على الموضوع كالنار الموقدة تحت القِدْر التي تكون علّة لعروض الحرارة على الماء في قولنا : الماء حار.

٢. الواسطة في الإثبات ، وهي ما تكون علّة لحصول اليقين بثبوت المحمول للموضوع ، كقولنا : العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث ، فالتغيّر سبب لحصول اليقين بحدوث العالم. وبذلك يطلق على الحد الأوسط ، الواسطة في الإثبات.

٣. الواسطة في العروض ، وهي المصحِّحة للنسبة بحيث لولاها لما صحّت

__________________

١ ـ الأسفار : ١ / ٣٢.

١٣

النسبة ، كما في قولنا : جرى الميزاب ، فانّ الجاري حقيقة هو الماء لكن علاقة المجاورة أو الحالّية والمحلّية تُصحح نسبة الجريان إلى الميزاب لكـن ادّعاءً ومجازاً.

إذا وقفت على ذلك فنقول : إنّ الميزان في عدّ العرض ذاتياً أو غريباً هو كون الوصف بحال الموصوف ، أو بحال المتعلّق ، وهذا هو المقياس لذاتية العرض وغرابته سواء كان عارضاً بلا واسطة ، أو بواسطة مساو ، أو بواسطة أخصّ أو أعمّ. فوجود الواسطة وعدمها ونسبتها مع ذي الواسطة ليس مطروحاً في المقام ، وإنّما المطروح كون النسبة حقيقية أو مجازية ، وعلى ذلك تكون الأمثلة التالية من العرض الذاتي.

أ : إذا عرض للموضوع بواسطة مباينة ، كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار.

ب : إذا عرض للموضوع بواسطة أعمّ كالمشي العارض للإنسان بواسطة الحيوان الأعمّ من الموضوع.

ج : إذا عرض للموضوع بواسطة أخصّ ، كالضحك العارض للحيوان بواسطة الإنسان.

فكلّ ذلك يعدّمن العرض الذاتي دون العرض الغريب. فأخصّية الواسطة أو أعمّيتها أو تباينها لا يضرّ بكون المحمول عرضاً ذاتياً بالنسبة إلى موضوع العلم إذا كان الوصف حقيقياً لا مجازياً.

تفسير الذاتي عند القدماء

إنّ القدماء من علماء المنطق ( الذين هم الأساس لتعريف موضوع العلم

١٤

بأنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ) ذهبوا إلى أنّه يشترط فـي مقدّمات البرهان أُمور أربعة :

الأوّل : أن تكون النسبة ضرورية الصدق بما لها من الجهة ، وإن كانت ممكنة ، بمعنى أنّه إذا صدق أحد النقيضين كالإيجاب ، يكون النقيض الآخر أي السلب ممتنعاً ، فقولنا : الإنسان كاتب بالإمكان ، ضروري الصدق أي ممتنع خلافها ، بمعنى انّ قولنا : « ليس الإنسان كاتباً بالإمكان العام » محكوم بالامتناع.

الثاني : أن تكون دائمة الصدق بحسب الأزمان ، فقولنا : الإنسان كاتب بالإمكان العام ، قضية صادقة في عامّة الأزمان.

الثالث : أن تكون كلّية الصدق بحسب الأحوال ، فالإنسان في كلّ أحواله كاتب بالإمكان ، سواء أكان قائماً أم قاعداً.

الرابع : أن يكون المحمول ذاتياً للموضوع ، وقد عرّفوا المحمول الذاتي بما يكون الموضوع مأخوذاً في حدّ المحمول ، مثلاً انّ الفطوسة من العرض الذاتي بالنسبة للأنف ، لأنّا إذا أردنا أن نعرف الفطوسة نعرفها بقولنا : « الأنف الأفطس ».

ونظير ذلك إذا قلنا : الإنسان متعجّب ، والعدد زوج أو فرد ، حيث إنّ الإنسان مأخوذ في تعريف المتعجّب ، فانّه الإنسان الذي تعرضه الدهشة والاستغراب ، كما انّ العدد مأخوذ في تعريف الزوج ، إذ هو العدد المنقسم إلى متساويين.

فلو كان هناك معروض وعارض فلا يكون الثاني عرضاً ذاتياً إلاّ إذا كان المعروض مأخوذاً في حدّه وتعريفه.

ومن ذلك يعلم أنّ تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن ، والممكن إلى

١٥

الجوهر والعرض ، والجوهر إلى العقل والنفس والهيولى والصورة والجسم ، والعرض إلى الكم والكيف ... كلّها أعراض ذاتية بالنسبة إلى الموجود ، لأنّه مأخوذ في حدّ كلّ واحد من هذه المحمولات.

هذا هو الغالب ولكن يكفي كون الموضوع أو أحد مقوّماته واقعاً في حدّ المحمول فتعمّ الأقسام التالية :

١. أن يؤخذ موضوع المعروض في حدّ العارض.

٢. أن يؤخذ جنس المعروض في حدّ العارض.

٣. أن يؤخذ موضوع جنس المعروض في حدّ العارض.

وقد ذكر الشيخ الرئيس لكلّ واحد مثالاً من العلوم الطبيعية ، وبما أنّ الأمثلة التي ذكرها لا تخلو من تعقيد نذكر لها مثالاً من العلوم الاعتبارية ، مثال الأوّل : « الفاعل مرفوع » فانّ الفاعل لا يؤخذ في تعريف المرفوع ، ولكن موضوع الفاعل ، أعني : الكلمة مأخوذة في حدّ المرفوع فيقال : المرفوع هو الكلمة المرفوعة.

ومثال الثاني : « الفعل الماضي مبني » فانّ الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني ، ولكن جنس الفعل ، أعني : الكلمة مأخوذة في حدّ المبني ، فيقال : الكلمة مبنيّة.

ومثال الثالث : « المفعول المطلق منصوب » فانّ المفعول المطلق لا يؤخذ في حدّ المنصوب ولا جنسه ، أي المفعول بما هو هو ولكن معروض المفعولية وهو الكلمة مأخوذة في حدّ المنصوب.

وهناك قسم آخر فاجعله رابع الأقسام وهو أن يؤخذ المحمول في حدّ الموضوع كما في قولنا : « الواجب موجود » فالمحمول مأخوذ في حدّ الواجب الذي هو الموضوع ، فانّ الواجب عبارة عن الموجود الذي يمتنع عليه العدم.

١٦

وقد أشار إلى هذا التفسير للعرض الذاتي الشيخ الرئيس بقوله : بأنّ من المحمولات ما لا يكون مأخوذاً في حدّ الموضوع ، ولا الموضوع أو ما يقوّمه مأخوذاً في حدّه ، فليس بذاتي ، بل هو عرض مطلق غير داخل في صناعة البرهان مثل البياض للققنس (١). (٢)

هذا هو العرض الذاتي عند القدماء ، وقد رتّبوا على ذلك لزوم مساواة العرض الذاتي لمعروضه ، وبالتالي مساواة محمولات المسائل لموضوع العلم وذلك :

إنّ حصول اليقين بالنسبة الموجودة في القضية فرع أن يكون المحمول مساوياً للموضوع بحيث يوضع المحمول بوضع الموضوع ، ويرفع برفعه ، مع قطع النظر عمّا عداه ، إذ لو رفع مع وضع الموضوع أو وضع مع رفعه لم يحصل اليقين ، وهذا هو الموجب لكون المحمول الذاتي مساوياً لموضوعه.

مثلاً إذا كان المحمول أخصّ من الموضوع ، كما إذا قلنا : كلّ حيوان متعجب ، لم يفد اليقين ، إذ لا يلازم وضع الموضوع وضع المحمول لكونه أعمّ.

فإن قلت : هذا إنّما يتمّ إذا كان المحمول أخص من الموضوع ، وأمّا إذا كان المحمول أعمّ من الموضوع فوضع الموضوع يكفي في وضع المحمول كقولنا : كلّ إنسان ماش ، وهذا المقدار يكفي في حصول اليقين وإن لم يستلزم رفع الموضوع رفع المحمول.

قلت : إنّ ما أخذ موضوعاً ليس بموضوع ، فانّ القيد في جانب الموضوع أمر لغو ، لأنّ الموضوع للمشي هو الحيوان لا الحيوان الناطق ( الإنسان ) إذ كونه ناطقاً كالحجر في جنب الإنسان ، ولذلك قالوا بأنّه يشترط أن يكون المحمول مساوياً

__________________

١ ـ الققنس : طائر جميل الصوت واللفظ رومي.

٢ ـ الفن الخامس من المنطق في برهان الشفاء : ١٢٧.

١٧

للموضوع لا أعمّ ولا أخصّ.

فإن قلت : إنّ المحمول في كثير من المسائل في الفلسفة الإلهية غير مساو للموضوع كما إذا قلت : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، فإنّ كلّ واحد من الواجب والممكن ليس مساوياً للوجود.

قلت : إنّ المحمول عبارة عن الجملة المردّدة وهي بأجمعها مساو للموجود.

فإن قلت : إنّ كلّ واحد من الواجب والممكن ذات محمول خاص ، فنقول واجب الوجود بالذات بسيط من جميع الجهات.

أو نقول : كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود.

فالمحمول في كلّ واحد غير مساو للموجود.

قلت : إنّ الموضوع للبساطة ليس هو مطلق الوجود حتى لا تساوي البساطةُ مطلقَ الوجود ، كما أنّ الموضوع في القضية الثانية ليس مطلق الوجود ، بل الموضوع في الأوّل هو الموجود الواجب ، وهو يساوي البساطة ، وفي الثاني الموجود الممكن ، وهو يساوي التركب العقلي ، وإلى ما ذكرنا يشير الأُستاذ الطباطبائي بقوله :

« إنّ كلاًّ منهما ( الواجب والممكن ) ذاتيّ لحصة خاصّة من الأعم المذكور ، لأنّ المأخوذ في حدّ كلّ منهما هو الحصة الخاصة به. (١)

توضيحه أنا إذا قلنا : واجب الوجود بسيط ، فالموضوع ليس مطلق الوجود الأعم ، بل الحصة الخاصة التوأمة للواجب ، وتكون البساطة من أعراضه الذاتية لمساواتها له ، نعم إذا قلنا ( الموجود إمّا واجب أو ممكن ) ، فالموضوع هو مطلق الوجود الأعم ، ليصحّ تقسيمه إلى القسمين.

__________________

١ ـ تعليقة الطباطبائي على الجزء الأوّل لكتاب الأسفار : ٣٠ ـ ٣١.

١٨

وبذلك يتبيّن أنّ مساواة العوارض مع موضوع العلم ، شرط في المحمولات الأوّلية ، كقولنا : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، وأمّا المحمولات الثانوية كالبساطة والتركّب فلا تشترط المساواة مع موضوع العلم ، بل تكفي مساواتها ، مع موضوعها ، أي الموجود المتحصص بالوجوب ، أو الإمكان ، وهكذا سائر الموارد ، لكفاية هذا المقدار في حصول اليقين بالنسبة.

هذا إجمال ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في تعاليقه على الأسفار ، ونهاية الحكمة.

غير أنّ هنا نكتة : وهي أنّ ما ذكره من أنّ شرط كون القضايا يقينية هو أن يجتمع فيها شروط أربعة :

كون النسبة ضرورية أوّلاً ، ودائمة الصدق ثانياً ، وكلّية الصدق ثالثاً ، وكون المحمول من العوارض الذاتية للموضوع رابعاً ، إنّما يختص بالعلوم الحقيقية ولا يعم العلوم الاعتبارية ، لأنّ الاعتباريات قائمة بلحاظ المعتبر ، وتتغير بتغيير الاعتبار ، ولا يلزم أن تكون ضرورية الصدق ودائمية وكلية.

وبذلك يتضح انّ الأُمور الاعتبارية لا يقام عليها البرهان العقلي بالشكل الذي يقام في العلوم الحقيقية ، فانّ الموضوع فيها ليس من علل وجود المحمول حقيقة إلاّ بالاعتبار والمواضعة ، وتدوم العلية مادام الاعتبار قائماً فإذا زال ، زالت العلية.

كما أنّه لا يعتبر كون المحمول عرضاً ذاتياً ( الشرط الرابع ) لأنّ العلوم الاعتبارية تدون لتحقيق غرض اجتماعي كالعلوم الأدبية ، فانّ الملاك في كون شيء من مسائل تلك العلوم كونه واقعاً في دائرة الغرض المطلوب من ذلك العلم سواء أكان العروض بلا واسطة أو معها ، وسواء أكانت الواسطة مساوية أو أعمّ أو

١٩

أخصّ أو مبائنة ، وسواء عدّ عرضاً ذاتياً أو غريباً ، فانّ اشتراط واحد من هذه الأُمور من قبيل لزوم ما لا يلزم ، بل انّ استعمال الذاتي والغريب في مسائل تلك العلوم من باب التشابه ، وإلاّ فلا عرض حقيقة فضلاً عن كونه ذاتياً أو غريباً.

الجهة الثانية : نسبة موضوعات المسائل إلى موضوع العلم

قال المحقّق الخراساني : إنّ موضوع كلّ علم هو نفس موضوعات مسائله وما يتّحد معها خارجاً وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلي ومصاديقه ، والطبيعي وأفراده.

أقول : كأنّه قدس‌سره بصدد الجواب عن الإشكال المذكور في المقام ، وهو أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يعرض موضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة مساو ، فإذا كان هذا هو معنى العرض الذاتي فهو منقوض بمسائل العلوم قاطبة فانّ موضوعات المسائل أخصّ من موضوع العلم من دون فرق بين العلوم الحقيقية والاعتبارية.

أمّا الأُولى كقولك : كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود ، فمحمول المسألة أعني التركيب عارض لموضوعها أعني ( كلّ ممكن ) ، وهو أخصّ من الموجود المطلق ، الذي هو موضوع العلم في الالهيات بالمعنى الأعمّ.

وأمّا الثانية كقولك : كلّ فاعل مرفوع فالرفع من عوارض الفاعل وهو أخصّ من موضوع علم النحو أعني الكلمة والكلام.

هذا وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ نسبة الموضوعين إنّما هي نسبة الافراد إلى الطبيعي ، والمصاديق إلى الكلي ، والتغاير المفهومي لا يضر بعد اتحادهما في الوجود.

٢٠