إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

الحقائقَ ، ونمثل لذلك مثالين :

١. انّ أهل اللغة يذكرون للفظ الوحي معان : كالإشارة السريعة ، والصوت الخفي ، والإلهام القلبي ، والتسخير ، إلى غير ذلك من المعاني ، ولكلّ واحد منها شاهد في القرآن الكريم (١) ، لكن الإمعان فيها يقضي أنّ له معنى واحداً وهو الافهام بخفاء والبواقي صور له.

٢. يذكر أهل اللغة للقضاء عشرة معاني كالحكم ، الصُنع ، الحتم ، البيان ، الموت ، الإتمام ، بلوغ النهاية ، العهد ، الإيصاء ، والأداء ، ولكن الإمعان يثبت أنّ الجميع مصاديق مختلفة لمعنى واحد ـ وهو العمل المتقن ، والباقي صور له ، ولذلك أرجع صاحب المقاييس الجميع إلى أصل واحد.

وعلى ذلك فالرجوع إلى هذه القواميس على النحو المذكور ربّما يرفع الستار عن وجه الحقيقة.

__________________

١ ـ الإشارة ، كقوله سبحانه : ( فَأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيّاً ) ( مريم : ١١ ).

الصوت الخفي ، كقوله سبحانه ( شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض ) ( الأنعام : ١١٢ ).

الإلهام القلبي ، كقوله سبحانه : ( وَأوحينا إلى أُمّ موسى أن ارضعيه ) ( القصص : ٧ ).

التسخير ، كقوله سبحانه : ( وأوحى في كلّ سماء أمرها ) ( فصلت : ١٢ ).

١٢١

الأمر الثامن

في تعارض الأحوال

لا شكّ أنّه إذا دار الأمر بين حمل اللفظ على المعنى الحقيقي والمجازي ، فالأصل هو الحقيقة حتى يثبت خلافه ، أو إذا دار الأمر بين العام والخاص ، أو المطلق والمقيّد ، فالأصل هو الأخذ بالعموم والمطلق حتى يثبت خلافها.

إنّما الكلام فيما إذا دار الأمر بين أحد الأُمور الخمسة التي كلها على خلاف الأصل كالتجوز والتخصيص والاشتراك ، والنقل والإضمار ، وغيرها كالاستخدام والتقييد فهل هناك ترجيح لأحدها على الآخر ، أو لا؟ قد ذكر الأُصوليون وجوهاً استحسانية لترجيح بعض على البعض الآخر ، وقد أطنب المحقّق القمي (١) الكلام في ذلك لكنّها وجوه عقلية ظنية ، لا تثبت الظهور.

مثلاً إذا دار الأمر في قوله سبحانه : ( وَاسْئَلِ الْقَرْيَةِ الّتي كُنّا فِيها ) (٢) بين إضمار لفظ « أهل » ، أو استعمال القرية في غير معناها الحقيقي فقد ذكروا لكلّ وجهاً غير مقنع ، فالبحث عن هذه الوجوه ونقدها إضاعة للعمر والمتّبع لدى أهل المحاورة هو الظهور فإن تحقّق فهو وإلاّ فلا تعتبر ، لأنّ هذه الوجوه ، علل فكريّة ، أشبه بأُمور عقلية بعيدة عن الأذهان العرفية ، فلا يلتفت إليها العرف الدقيق حتى يثبت بها الظهور للكلام.

__________________

١ ـ قوانين الأُصول : ١ / ٣١ ـ ٣٥.

٢ ـ يوسف : ٨٢.

١٢٢

الأمر التاسع

في الحقيقة الشرعية

الحقيقة الشرعية عبارة عن صيرورة ألفاظ العبادات حقائق في المعاني المخصوصة بوضع الشارع تعييناً أو تعيّناً ، أو بنحو آخر ـ كما سيوافيك ـ وهل هي ثابتة أو لا؟

وتحقيق المقام يتوقف على نقل الآراء في المسألة.

إنّ النظريات المطروحة في المقام لا تتجاوز عن أربع :

الأُولى : بقاء ألفاظ العبادات على معانيها اللغوية.

وهذه النظرية هي المنسوبة إلى أبي بكر الباقلاني ( المتوفّى٤٠٣ هـ ) وهو من أكابر الأشاعرة وقد ادّعى أنّ ألفاظ العبادات استعملها النبي في معانيها اللغوية وطبَّقها على تشريعاته ، لأنّها من مصاديقها التي كشف عنها الشارع وإن كان العرف غافلاًعنها ، فالألفاظ باقية على معانيها اللغوية إلى يومنا هذا.

الثانية : انّ ألفاظ العبادات نقلت على لسان النبي من معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية بالوضع الجديد.

الثالثة : انّ النبي استعملها في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق في تلك المعاني في لسان المتشرعة ، فهي حقائق متشرعية لا شرعية.

الرابعة : انّها كانت حقائق في تلك المعاني الشرعية قبل بعثة النبي وبعده

١٢٣

وانّ العرب كانت تستعمل تلك الألفاظ في هذه الماهيّات بلا قرينة مقالية أو حالية ، وقد خاطب النبي الأُمّة الإسلامية بلغتهم. وإليك دراسة الأقوال :

أمّا النظرية الأُولى : فهي مردودة ، إذ كيف يمكن أن يدّعى أنّ الصلاة من مصاديق الدعاء التي كشف عنها الشارع ، إذ بين الدعاء والصلاة بون شاسع ، فإذا استعملها النبي في تلك المعاني في حين مغايرتها مع المعنى اللغوي فلابدّ له من مسوّغ ، وهو أحد أمرين : إمّا النقل والوضع فيدخل في القول الثاني ، أو العلاقة بين المعنيين فيدخل في القول الثالث ، فنظرية الباقلاني مردّدة ثبوتاً بين القولين ولا يمكن أن تكون نظرية مستقلة.

واستدلّ للنظرية الثانية بتبادر المعاني الشرعية من هذه الألفاظ في محاورات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو رهن الوضع ، إذ لولا الوضع لم يصح التبادر.

وبالجملة : انّ المثبِت يعتمد على التبادر في لسان النبي ويراه ملازماً للقول بالوضع.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح لو لم يصحّ تفسير التبادر عن طريق القول الرابع ، وإلاّ فلو كانت تلك الألفاظ حقائق عرفية في عصر التشريع في لسان العرب لصحّ تفسير التبادر عن ذلك الطريق من دون أن يكون للنبي دور في تحقّق التبادر كما سيوافيك. فهذا القول متين إذا لم يثبت القول الرابع.

واستدل للنظرية الثالثة بأنّ كونها حقائق شرعية في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوقف على الوضع وهو إمّا تعييني أو تعيّني ، والأوّل بعيد جداً ، وإلاّ لنقل ، والثاني يتوقف على الاستعمال بكثرة ولا يكفي عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستعمالاته في تحقّق النقل.

يلاحظ عليه بوجهين :

الأوّل : لماذا لا تكفي فترة الرسالة لتحقق الوضع التعيّني مع أنّ بلالاً

١٢٤

ينادي كلّ يوم ويقول : « حي على الصلاة » عشر مرات ، فيكفي في تحقق الحقيقة الشرعية مضيّ أيام أو شهور؟!

الثاني : الوضع غير منحصر بالتعيينيّ والتعيّني ، إذ هناك طريق آخر للوضع وهو الاستعمال بداعي الوضع كما يقول الأب عند تسمية المولود الجديد مخاطباً أُمّه : إئتيني ولدي الحسين يحاول بذلك تسميته به.

ومن الممكن أن يتولّى النبي عملية الوضع من خلال هذا الطريق ، فلما صلّى أمام قومه ، فقال : صلّوا كما رأيتموني أُصلي ، فهو بنفس ذلك الاستعمال نقل الصلاة من معناها اللغوي إلى الحقيقة الجديدة.

نعم ربّما يقال بأنّه يمتنع الاستعمال بداعي الوضع ، لأنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين المختلفين في آن واحد ، فبما انّه بصدد الوضع فيلاحظ لفظ الحسين لحاظاً استقلالياً ، وبما انّه بصدد استعماله في المولود الجديد يلاحظ اللفظ استعمالاً آلياً ، فليزم الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ وضع اللفظ يستلزم لحاظه على وجه الاستقلال ممّا لا غبار عليه ، إنّما الكلام في الشق الثاني وهو أنّ الاستعمال يلازم لحاظ اللفظ آلياً وتبعياً ، إذ حينئذ يسأل عن معنى التبعية والآلية فإن أُريد منها مغفوليةُ اللفظ ، فهو غير صحيح ، فانّ الإنسان في مقام إظهار الفصاحة يتوجه إلى اللفظ مثل توجهه إلى المعنى فينتخب السهلَ العذْب ويترك خلافه لا سيما إذا كان سياسياً يحاسَب على كلّ لفظ يتفوّه به.

وإن أُريد من التبعية كون اللفظ وسيلة لإفادة المعنى والمعنى ، هو الأصل ، فهذا النوع من التبعية لا ينافي اللحاظ ولا يلازم المغفوليّة.

١٢٥

دراسة النظرية الرابعة

وحاصل هذه النظرية : أنّ هذه الألفاظ كانت حقيقة في هذه المعاني قبل البعثة ومتزامناً معها وقد استعملها النبي فيها كاستعمال سائر الألفاظ من غير فرق بينها. وتوضيح ذلك يتوقف على ثبوت أمرين وإن ذكر أحدهما القوم وغفلوا عن الثاني ، ولذلك استشكلوا على تلك النظرية غفلة عن الأمر الثاني.

١. انّ هذه العبادات كانت موجودة في الشرائع السابقة ، ويشهد لها كثير من الآيات القرآنية ، ونكتفي بالبعض منها.

قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيام كَما كُتِبَ علَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ). (١)

وقال تعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُل ضامر يَأْتينَ من كُلِّ فَجّ عَميق ). (٢)

وقال تعالى : ( قالَ إِنّي عبدُ اللّه آتاني الكتابَ وَجَعَلني نَبيّاً * وَجَعَلَني مُباركاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوصانِي بالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً ). (٣)

وقال تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتاب إِسماعيل إِنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْد وَكانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكانَ يَأْمُرُ أَهلهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرضِيّاً ). (٤)

فانّ هذه الآيات وغيرها ممّا يجده المتتبع في القرآن ، تدل على وجود تلك الماهيات في الشرائع السابقة وانّها ليست ماهيات مخترعة.

هذا هو الأمر الأوّل وإليك الكلام في الأمر الثاني :

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٣.

٢ ـ الحج : ٢٧.

٣ ـ مريم : ٣٠ ـ ٣١.

٤ ـ مريم : ٥٤ ـ ٥٥.

١٢٦

٢. إذا كانت هذه الحقائق موجودة في الشرائع السماوية ، وكانت للعرب صلة وثيقة باليهود والنصارى ، فقد كانت « يثرب » معقل اليهود و « نجران » مركزاً للنصارى ، وكانت لقريش رحلتان في الشتاء والصيف ، فرحلة في فصل الشتاء إلى « اليمن » التي كانت تتواجد فيها اليهود بكثرة ، ورحلة في فصل الصيف إلى الشام التي كانت يوم ذاك مركزاً للنصارى ، فلم يكن للعرب يوم ذاك بُدّ من وجود لفظ ، يعبّر به عن عباداتهم : صلاتهم وصومهم ، ولم يكن ذلك اللفظ سوى نفس هذه الألفاظ.

ويؤيّد ذلك انّ القرآن استعملها في نفس تلك المعاني في بدء البعثة فجاءت الآيات التالية في السور المكية النازلة في صدر البعثة :

١. ( أَرأيتَ الذي ينهى * عبداً إِذا صلّى ). (١)

٢. ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى * وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَولّى ). (٢)

٣. ( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكين ). (٣)

٤. ( إِنّا أَعْطَيْناكَ الكَوثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ). (٤)

فقد نزلت هذه الآيات في أوائل البعثة ، مع أنّ الصلاة فرضت في ليلة المعراج وكان عروجه إلى السماء في العام العاشر من الهجرة ، وقد ورد لفظ الصلاة في السور المكية قرابة ٣٥ مرة. كلّ ذلك يدلّ على أنّ العرب المعاصرين لعصر الرسالة كانوا يستعملون تلك الألفاظ في نفس هذه المعاني ، بلا قرينة. وانّ الوحي اتبع اللغة الدارجة بين قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبالجملة : المهم في هذا الأمر ، هو الوقوف على أنّ العرب كانت لهم صلة

__________________

١ ـ العلق : ٩ ـ ١٠.

٢ ـ القيامة : ٣١ ـ ٣٢.

٣ ـ المدثر : ٤٣ ـ ٤٤.

٤ ـ الكوثر : ١ ـ ٢.

١٢٧

وثيقة ، مع أتباع الشرائع السماوية الذين كانوا يصلّون ، ويصومون ولم يكن لهم بدّ من التعبير عن هذه الحقائق بلفظ خاص ، وليس هذا اللفظ إلاّ ما استخدمه القرآن في بدء البعثة غاية الأمر قد أضاف جزءاً أو شرط شرطاً ، وعين موانع وقواطع لها.

ويؤيد ذلك أيضاً أنّ جعفر بن أبي طالب عرّف دين النبي لملك الحبشة بكلام مفصل وكان ذلك في العام الخامس من البعثة ، وقد جاء في ثناياه :

أيّها الملك كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ـ إلى أن قال : ـ وأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا ... ». (١)

كل ذلك يعرب عن شيوع استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني يوم ذاك وقد خاطب رئيس الوفد ( جعفر بن أبي طالب ) ملكَ الحبشة بلغة قومه ، وبالتالي خاطب النبي الناس أيضاً بلغة قومه وقال سبحانه : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ بِلِسانِ قَومِهِ ). (٢)

ثمّ إنّ القوم نظروا إلى القسم الأوّل من الآيات الدالة على ثبوت هذه الحقائق في الشرائع السماوية ، وغفلوا عن القسم الثاني منها الدال على التعبير عنها في بدء البعثة بنفس هذه الألفاظ ، كما غفلوا عن انتشار هذه المفاهيم بين الجزيرة العربية فقد كانوا يعبّرون عنها بهذه الألفاظ ، ولذلك استشكل على هذه النظرية جماعة منهم المحقق النائيني حيث قال :

إنّ المعاني وإن كانت ثابتة في الشرائع السابقة إلاّ أنّها لم تكن يعبّر عنها

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ١ / ٣٣٨ ؛ اقناع الاسماع : ٢١ ؛ بحار الأنوار : ١٨ / ٤١٤.

٢ ـ إبراهيم : ٤.

١٢٨

بهـذه الألفاظ بل بألفاظ أُخر ، فلا يكون ثبوتها في الشرائع السابقة مانعاً عن الحقيقة الشرعية. (١)

ومنهم المحقّق المشكيني حيث قال :

إنّ وجود هذه المخترعات عند الأُمم السابقة لا يقدح في الحقيقة الشرعية ، لأنّ تلك الألفاظ لم تكن حقيقة في هذه المعاني كما هو كذلك بالنسبة إلى أكثر الشرائع الواردة على غير لسان العرب. (٢)

ومنهم المحقّق الخوئي حيث يقول : إنّ مجرّد الثبوت هناك لا يلازم التسمية بهذه الألفاظ ، وليس في المقام إلاّ التعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز ، ومن الواضح أنّه لا يدل على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات والقصص القرآنية التي كانت بالسريانية كما في لغة عيسى أو العبرانية في لغة موسى ، ومن المعلوم أنّ تلك المعاني كان يعبر عنها بألفاظ سريانية أو عبرانية. (٣)

وأنت ترى : أنّ أساس الاستدلال ليس مجرّد ورودها في الشرائع السابقة حتى يستشكل بما ذكر ، بل أساسه هو وجود هذه المفاهيم وانتشارها في الجزيرة العربية بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين اليهود والنصارى ، فلم يكن لهم بدّ من ألفاظ يعبّر بها عن هذه الحقائق.

وتوهم أنّ ما هو الموجود من هذه الحقائق ، يغاير ما هو الموجود في الشريعة الإسلامية مردود بتصريح القرآن على الوحدة في مورد الصيام والحج كما هو صريح الآيات السابقة.

__________________

١ ـ أجود التقريرات : ١ / ٣٤.

٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ٣٣ قسم التعليقة.

٣ ـ المحاضرات : ١ / ١٣٨.

١٢٩

وعلى كلّ تقدير تظهر الثمرة فيما إذا وردت هذه الألفاظ في لسان النبي والأمير ، بلا قرينة مفهمة ، فعلى القول بالحقيقة الشرعية يحمل على تلك المعاني ، وعلى القول الآخر ، تحمل على المعنى اللغوي.

لكن الثمرة افتراضية بحتة إذ ليس لنا مورد نشك في المراد من تلك الألفاظ حتى يُتوقف رفع إجماله ، على تلك المسألة.

* * *

لو افترضنا مورداً دار الأمر فيه بين الحمل على المعنى اللغوي أو الشرعي ، فهل هنا أصل يعيّن أحد المعنيين أو لا؟ نقول : إنّ هنا صوراً :

١. إذا كان تاريخ النقل والاستعمال معلومين.

٢. إذا كان تاريخ النقل والاستعمال مجهولين.

٣. إذا كان تاريخ النقل مجهولاً والاستعمال معلوماً.

٤. إذا كان تاريخ النقل معلوماًو الاستعمال مجهولاً.

أمّا الصورة الأُولى فخارجة عن مورد الافتراض ، كما أنّ الصورة الثانية لا يجري فيها الأصلان ، ولو جرى تساقطا بالتعارض.

أمّا الكلام في الصورتين الأخيرتين :

الف : إذا علم تاريخ الاستعمال وأنّ النبي قال في العام الأوّل من الهجرة : « إذا رأيتم الهلال فصلّوا » وجهل تاريخ النقل وانّه هل كان قبل ذلك العام أو بعده ، وجاره أمر الصلاة بين الدعاء والعبادة الخاصة فهل تجري أصالة عدم النقل إلى زمان الاستعمال فتكون النتيجة ، هو الحمل على المعنى اللغوي؟ فيه خلاف بين المحقق الخراساني وشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري ، فقال الأوّل : بالمنع ، لأنّ أصالة عدم النقل أصل عقلائي مجراه هو الشكّ في أصل النقل ، لا

١٣٠

العلم بالنقل والشك في تقدّمه وتأخره كما في المقام.

وقال الثاني : إنّ الوضع السابق لا ترفع عنه اليد إلاّ بعد العلم بالوضع وحيث لم يعلم وجوده حين الاستعمال فيحمل على المعنى اللغوي فتكون النتيجة موافقة لأصالة عدم النقل.

يلاحظ عليه : أنّ الحجّة هو ظهور الكلام لا العلم بالوضع الأوّل ، ومع هذا العلم الإجمالي بالنقل والشك في تقدمه أو تأخره عن الاستعمال ، لا يبقى للكلام ظهور حتى نتبعه.

ب : إذا علم تاريخ النقل وانّه كان في العام الأوّل من الهجرة ، ولكن جهل تاريخ الاستعمال وانّه هل كان قبل النقل أو بعده ، فهل تجري أصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل فتكون النتيجة هو الحمل على المعنى الشرعي أو لا؟ وجهان :

١. أنّ الأصل المزبور ليس أصلاً عقلائياً إذ ليس عندهم منه عين ولا أثر ، بل هو أصل شرعي ، وجريانه فرع وجود أثر شرعي مرتب عليه بلا واسطة وهو ليس بموجود.

٢. ما عليه شيخ مشايخنا العلامة الحائري بحمل اللفظ على المعنى اللغوي ، لأنّ الوضع الأوّل حجّة ولا يرفع عن الحجّة إلاّ بالحجة ، فتكون النتيجة موافقة لأصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل ، وقد عرفت أنّ الحجّة هو الظهور وهو غير متحقّق مع العلم الإجمالي.

١٣١

الأمر العاشر

في أنّ ألفاظ العبادات

وضعت للصحيح أو الأعم

تمهيد

عنون صاحب الكفاية المسألة بالنحو التالي وقال : « ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصحيحة أو للأعم منه » فخصّ البحث بالعبادات لأجل أنّه عقد باباً خاصّاً للمعاملات ، وعنوان البحث في كتب القوم بالنحو التالي : أسماء العبادات والمعاملات « هل هي موضوعة للصحيح أو للأعم منه؟ » أو هل هي أسام للصحيح أو الأعم؟

وعنوان البحث متفرع على ثبوت الحقيقة الشرعية عندهم ، وأمّا على القولين الآخرين ، أعني : استعمالها في لسان الشارع في معانيها الشرعية مجازاً وصيرورتها حقائق متشرعية كما هو القول الثالث ، أو بقائها على معانيها اللغوية إلى يومنا هذا وقد أضاف الشارع أجزاءً وشرائط لها ، فالعنوان غير شامل لهما إذ ليس من الوضع والتسمية أثر على القولين.

لكن عدم شمول العنوان شيء ، وعدم جريان النزاع على ذينك القولين أمر آخر ، بل النزاع يجري على جميع الأقوال الأربعة.

١٣٢

١ ـ ٢. أمّا جريانه على القول بالحقيقة الشرعية أو الحقيقة العرفية التي كانت هي المختار فواضح ، فانّه يبحث عمّا هو الموضوع له عند الشارع على القول بالحقيقة الشرعية ، أو ما هو الموضوع له عند العرب المعاصرين لنزول القرآن عند نقلهم ألفاظ العبادات من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية.

٣. وأمّا جريانه على القول بالحقيقة المتشرعية فيقع النزاع في أنّ الشارع هل لاحظ العلاقة بين المعاني اللغوية والمعاني الصحيحة ، أو لاحظ العلاقة بينها وبين الأعم من هذه المعاني الجديدة؟ وعلى كلّ تقدير يكون الأصل في استعمالات الشارع هو المعنى الذي لاحظ العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، ويكون إرادة المعنى الآخر محتاجة إلى القرينة ، وإلاّ فيحمل على المعنى الذي وقع طرفاً عند ملاحظة العلاقة.

٤. وأمّا جريانه على القول ببقاء الألفاظ على معانيها اللغوية وانّ إرادة الخصوصيات من طريق الدوال الأُخر ، فيقع النزاع في أنّ القرينة التي نسبها الشارع لإفادة الخصوصيات هل كانت دالة على إرادة المعنى الصحيح أو كانت دالة على المعنى الأعم؟ ويكون الأصل في الاستعمال هو المعنى الذي نصب عليه القرينة في هذا الاستعمال بحيث يكون إرادة المعنى الآخر محتاجة إلى القرينة المعينة.

إذا عرفت هذا فيقع البحث في جهات :

الجهة الأُولى

ما هو معنى الصحّة؟

قد ادّعى المحقّق الخراساني أنّ الصحّة بمعنى التمام ، ثمّ ذكر أنّ تفسير

١٣٣

المتكلّم الصحّة بموافقة الشريعة ، أو الفقيه بما يسقط الإعادة والقضاء ، تفسير باللازم ، وبما يهم كلّ واحد منهما ، فالمتكلّم يهمّه التعرف على ذاته سبحانه وصفاته وأفعاله والعقاب والثواب من أفعاله ، وهما يترتبان على الموافقة والمخالفة ، ولأجل ذلك فسره بموافقة الشريعة ، كما أنّ الفقيه يهمه تعيين تكليف المكلّف من الإعادة والقضاء وعدمهما ولذلك فسّره بسقوطهما.

يلاحظ عليه : أنّ بين الصحّة والفساد تقابل التضاد ، فالصحّة كيفية وجودية عارضة للشيء باعتبار اتصافه بكيفية ملائمة لنوعه أو باعتبار ترتب أثر يترقب منه ، كما أنّ الفساد كيفية منافرة لطبعه أو باعتبار ترتّب أثر لا يترقب منه ، وبهذا المعنى توصف الدهون والأدوية والمعاجين بالصحّة والفساد. وعلى هذا فلا وجه لتفسير الصحّة بمعنى التمام ، لأنّ الصحّة بمعنى التمام لا يقابلها الفساد بل يقابلها النقص ، يقال : تام وناقص ، فيطلقان على الشيء باعتبار اجتماع أعضائه أو أجزائه وعدمه ، وبذلك ظهر أنّ الصحة في مقابل الفساد والتمام في مقابل النقص وتفسير الصحّة بالتمام ليس تفسيراً تاماً.

ويظهر من أهل اللغة أنّ الصحّة تستعمل تارة في مقابل المرض وأُخرى في مقابل العيب ، قال ابن فارس : الصحّة ، أصل يدلّ على البراءة من المرض والعيب ، وعلى الاستواء من ذلك. الصحّة ذهاب السقم ، والبراءة من كلّ عيب ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ ». (١)

فقوله : « يدلّ على البراءة من المرض » يعرب عن أنّ الصحّة كيفية وجودية في مقابل المرض الذي هو أيضاً كذلك ، وقوله : « على البراءة من العيب » يدل على أنّ الصحّة بمعنى تام الأجزاء في مقابل المعيب الذي هو ناقص الأعضاء.

هذا هو حال اللغة ، وأمّا اصطلاحاً فتطلق الصحّة تارة على الجامع للصفة

__________________

١ ـ المقاييس : ٣ / ٢٨١.

١٣٤

المعتبرة في العبادة في مقابل الآخر إذا كانت متصفة بصفات مقابلها. ككون القراءة صحيحة أو ملحونة ، فيكون بينهما من التقابل ، هو تقابل التضاد. وأُخرى على الجامع للأجزاء والشرائط وغير الجامع لهما ، فيكون بينهما من التقابل هو تقابل العدم والملكة. فالأوّل يناسب كون الصحّة في مقابل المرض ، والآخر كون الصحّة في مقابل المعيب.

الجهة الثانية

ما هو المقصود من الوضع للصحيح؟

هل المراد من الصحيح هو الصحيح بالحمل الأوّلي ، أو المراد هو الصحيح بالحمل الشائع ، أو لا هذا ولا ذاك بل ماهية لو وجدت في الخارج لوصفت بالصحّة؟

لا طريق إلى القول الأوّل لاستلزامه كون الصلاة مرادفة لمفهوم الصحّة ، كما لا طريق إلى الثاني لاستلزامه أن يكون الموضوع له خاصّاً مع أنّ الجميع متفق على أنّ الموضوع له هو الأمر الكلي المردد بين الصحيح أو الأعم منه وغيره ، فتعيّن الثالث ، أي الماهية الاعتبارية التي لو وجدت في الخارج لوصفت بالصحّة ، فالصحّة الفعلية من صفات وجودها والتعليقية من أوصاف الماهية.

الجهة الثالثة

ما هو الداخل في المسمّى؟

لا شكّ أنّ الأجزاء داخلة في المسمّى ، إنّما الكلام في دخول الشرائط فيه على

١٣٥

القول بالصحيح سواء أكان شرطاً شرعياً كالطهارة ، أو شرطاً عقلياً غير قابل للأخذ في المتعلق كقصد الأمر ، أو شرطاً لتحقّق المأمور به كعدم الابتلاء بالضد.

ذهب الشيخ الأنصاري إلى خروج الشرائط عن تحت المسمّى ، قائلاً : بأنّ رتبة الأجزاء رتبة المقتضي ، ورتبة الشرائط متأخرة عن رتبة المقتضي ، فلا يسوغ إدخالها في المسمّى لتستوي مع الأجزاء رتبة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ تقدّم الأجزاء على الشرائط في عالم العين والكون لا يكون مانعاً من اجتماعهما في مقام التسمية ، كما أنّ الواجب والممكن كذلك ولكنّهما داخلان تحت عنوان الوجود.

أقول : الظاهر دخول الشرائط في المسمّى على القول بالصحيح ، بشهادة أنّ المحقّق الخراساني يجعل الموضوع له هو الجامع بين أفراد الصحيح الذي يترتب عليه النهي عن الفحشاء ، ومن المعلوم أنّ ذلك الأثر لا يترتب إلاّ على الجامع للأجزاء والشرائط ، ويدلّ على ذلك ( دخول الشرائط في المسمّى عند الصحيحي ) اعتراض الأعمّي على الصحيحي من أنّ القول بالوضع للصحيح يلزم تكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلّقة بها ، لأنّ الأمر حينئذ يرجع إلى الأمر بالمطلوب إذ هو معنى الصحيح ، فيكون المعنى أطلب المطلوب. (٢) ومن المعلوم أنّ المطلوب هو التام جزءاً وشرطاً. ومع ذلك فالرائج بين العقلاء هو الفرق بين شرائط الماهية وشرائط التحقق بإدخال الأوّل في المسمّى كالطهارة ، وعدم دخول الثاني « كعدم الابتلاء بالأهم منه » وأمّا قصد الأمر فهو متفرّع على القول بإمكان أخذه في المتعلق أو لا. فعلى الأوّل يكون داخلاً في المسمّى دون الثاني.

__________________

١ ـ مطارح الأنظار : ٦.

٢ ـ الفصول : ٤٨.

١٣٦

الجهة الرابعة

في لزوم جامع على كلا القولين

إنّ الأثر الفقهي المترتّب على المسألة هو صيرورة المسمّى مجملاً على القول بالصحيح ، ومبيّناً على القول بالأعم ، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق على القول بالصحيح دون القول بالأعم. ومن المعلوم أنّ تصوير ذلك الأثر الفقهي فرع وجود جامع واقع تحت الأمر يكون مبيّناً على أحد القولين ومجملاً على القول الآخر.

أضف إلى ذلك أنّه لولا القول بوجود الجامع يلزم أن يكون لفظ العبادات مشتركاً لفظياً ، لأنّ للصحيح مراتب مختلفة كما للأعم كذلك ، وجواز الإطلاق على الجميع رهن أحد الأمرين : كونه مشتركاً معنوياً أو مشتركاً لفظياً والثاني باطل ، فتعيّن الأوّل ، وهو يلازم وجود الجامع في البين.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ تصوير الجامع على القول بالأعم من السهولة بمكان ، لأنّه يقسم الأجزاء إلى قسمين : أجزاء المسمّى ، وأجزاء المأمور به ، فالأركان الأربعة مثلاً ، أجزاء للمسمّى ولا تخلو صلاة منها إمّا بعينها أوبأبدالها ، وخلوّ صلاة الغرقى غير مضر ، لأنّها ليست صلاة ، بل دعاء وابتهال ، بخلاف الصحيحي فانّ الاجزاء كلّها عنده أجزاء للمسمّى وليس من أجزاء المأمور به لديه عين ولا أثر ، وعندئذ يشكل تصوير جامع ، يصدق على عامة الصلوات الصحيحة رباعيتها ، وثلاثيتها ، وثنائيتها وأحاديتها ، مع أنّ لكلّ منها مراتب مختلفة حسب اختلاف حالات المكلّف ، لأنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء الكثيرة

١٣٧

هو خروج الصلوات الصحيحة القليلة الأجزاء عن المسمّى. كما أنّ وضعه للأجزاء القليلة من الصلوات الصحيحة يستلزم كون الأجزاء الأُخرى أمراً خارجاً عنها.

والحاصل : أنّ الأعمّي جعل بعض الأجزاء جزء المسمّى ، أعني : الأركان الأربعة ، والأجزاء الباقية جزء المأمور به وبذلك تخلّص عن الإشكال.

وأمّا الصحيحي فبما أنّه يدّعي الوضع للصحيح يجعل الجميع جزء المسمّى وليس عنده من جزء المأمور به عين ولا أثر ، فعند ذلك يتوجه إليه الإشكال المتقدم ، حيث إنّ وضعها للأجزاء الكثيرة يوجب خروج الأجزاء القليلة عن المسمّى ، كما أنّوضعها للأجزاء القليلة يوجب اشتمال الأجزاء الكثيرة على الصلاة وغير الصلاة.

ثمّ إنّ ذلك صار سبباً لالتجاء المحقّق الخراساني إلى الجامع البسيط حتى يتمكن له ادّعاء وجوده في عامة الصلوات قليلة كانت أو كثيرة.

وبالجملة : انتخابه كون الموضوع له هو الأمر البسيط لأجل الفرار عن الإشكال المتقدم ، فإليك تقريبه مع سائر التقريبات الواردة للأعلام.

التقريب الأوّل للمحقّق الخراساني

حاصله : انّ الجامع بين أفراد الصلاة ليس مشخصاً باسمه ، ولكنّه يمكن الإشارة إليه بخواصه وآثاره ، قال : فانّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع ، فيصحّ تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلاً ، بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما. (١)

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ٣٦.

١٣٨

يلاحظ عليه أوّلاً : وجود التعارض بين الصدر والذيل ، فالصدر ظاهر في أنّ الموضوع له شيء والأثر المترتب عليه معرف له ، ولكن الذيل ظاهر في أنّ الموضوع له هو نفس الناهية عن الفحشاء ، إلاّ أن يحمل حرف الباء في قوله بالناهية على السببية أي بسبب الناهية عن الفحشاء ومن خلالها.

وثانياً : أنّ الهدف من الوضع تفهيم ما قام في الذهن في المعنى ، فلو كان المعنى غير قابل للتفهيم إلاّ بالإشارة إليه بالأثر الخاص كان الوضع له لغواً ويتعين الوضع للأثر ، وهذا يجرّنا إلى القول بوجوب كون الجامع أمراً عرفياً مخطوراً إلى أذهان العرف.

وثالثاً : أنّ استخدام قاعدة الواحد ـ أعني : « لا يصدر الواحد إلاّ عن الواحد » ـ في المقام حيث استدلّ باشتمال عامة الصلوات الصحيحة في الأثر الواحد ، أعني : النهي عن الفحشاء على وجود جامع بينها ، غير تام ، وذلك لأنّها حسب برهانها مختصة بالواحد الشخصي البسيط من جميع الجهات من دون أن يكون فيه أي شائبة كثرة وإلاّ فيخرج عن تحت القاعدة.

وأمّا برهان القاعدة فهو أنّ المعلول الواحد البسيط من جميع الجهات الخالي عن شائبة أيّة كثرة يجب أن يصدر عن علّة معينة فقط ، وإلاّ فلو صدر عن كثير يلزم طروء الكثرة عليه.

وذلك لأنّه يلزم أن يكون بين المعلول والعلة رابطة ظلية تصحح صدوره عنها ، وإلاّ فلو صدر عنها بلا تلك الرابطة يلزم صدور كلّ شيء من كلّ شيء ، وعلى ذلك فلو صدر المعلول البسيط عن علة فلابدّ أن يصدر عنها بحيثية خاصّة ، ومع ذلك فلو صدر عن علّة أُخرى يلزم أن يصدر عنها بحيثية مغايرة للحيثية الأُولى ، وهذا يستلزم انقلاب الواحد إلى الكثير ففرض كون المعلول واحداً

١٣٩

بسيطاً لا كثرة فيه يساوق حصر صدوره عن علة واحدة.

وعلى ضوء ذلك فالقاعدة مختصة بالواحد البسيط من جميع الجهات ، وأين هو من النهي عن الفحشاء الذي هو واحد بالنوع حيث إنّ النهي عن الكذب غير النهي عن الغيبة وكلاهما غير النهي عن النميمة؟!

ورابعاً : انّ الأثر المترتب على الصلاة مختلف ، واختلافه يكشف عن وجود الكثرة في الصلاة ، فالصلاة كما هي تنهى عن الفحشاء ، فهي عمود الدين ، وقربان كلّ تقي ، ومعراج المؤمن ، فيلزم أن يكون في الصلاة جوامع كثيرة كلّ مصدر لأثر خاص.

وخامساً : انّ القول بوضع الصلاة للجامع البسيط الموجود في جميع المراتب وإن كان يرفع الإشكال وهو وجود الجامع في عامة مراتب الصحيح أُحادية كانت الصلاة أو ثُنائية أو ثلاثية أو رباعية ، كانت الصلاة صلاة اختيار أو صلاة اضطرار ، لكنّه يوجب الإشكال في أمر آخر وهو أنّ مشاهير الأُصوليين في مبحث الشك في الجزئية والشرطية ذهبوا إلى القول بالبراءة بادّعاء انحلال العلم الإجمالي إلى أمر يقيني وشكّ بدوي ، وهذا إنّما يصحّ إذا تعلّق الأمر بأمر مركب ذي أبعاض حتى يكون بعضه متيقناً والبعض الآخر مشكوكاً ، الذي هو قوام الانحلال ، وأمّا إذا كان الأمر متعلّقاً بأمر بسيط وكانت نسبة الأجزاء إليه نسبة المحصِّل إلى المحصَّل يكون المرجع هو الاشتغال لكون المأمور به واضحاً ، والشكّ إنّما هو في محقّقه ودورانه بين الأقل والأكثر ، ومن المعلوم انّ العقل يحكم عندئذ بالاحتياط للعلم بالاشتغال القطعي والشكّ في سقوطه بالأقل ، وهذا ما يعبّر عنه تارة بالشكّ في المحصل أو الشكّ في السقوط.

هذا هو الإشكال الذي تنبّه إليه المحقّق الخراساني وأجاب عنه بقوله :

١٤٠