إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الحاج العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٢٨

وضع لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم يسبق إليه ، إذ المركب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد.

توضيحه : انّه لو كان للمجموع وراء المفردات والهيئة وضع للزم أن تكون صحة الاستعمال متوقفة على الوضع المذكور ، وعلى ذلك فلو كانت الجملة مما سبق استعمالها وتعلق بها وضع الواضع يصحّ لنا الاستعمال ، وأمّا إذا كانت من الجمل المحدثة التي لم يسبق استعمالها ولم يتعلق بها الوضع لزم عدم صحّة استعمالها ، لأنّها ليست على موازين الوضع كقولنا : « ارمسترونغ أوّل رائد فضائي ».

وربّما يورد على تلك النظرية بأنّه : لو صحّ لزم الانتقال إلى المعنى مرتين في آن واحد ، لفرض وضع المفردات مرّة ، والمجموع من حيث المجموع مرّة أُخرى ، وهذا يكون نظير ما إذا أتى الإنسان أوّلاً بأسماء كلّ عضو من أعضاء الإنسان ، ثمّ أتى بلفظ الإنسان الجامع للأعضاء كلّها مرة ثانية.

يلاحظ عليه : أنّ الانتقال معلول للأُنس الحاصل من الاستعمال المعلول للوضع ، وتعدّد الوضع لا يوجب تعدّد الانس فلا يلزم الانتقال.

إكمال

المعروف انّوضع المواد شخصي ووضع الهيئات نوعي ، ويراد منه أنّ المصدر بوحدته الشخصية كالضرب والقتل موضوع لمعناه ، بخلاف الهيئات فانّها موضوعة بجامعها العنواني فيقال هيئة فاعل وضعت لمن قام بالفعل.

وقد أورد عليه بأنّه إن أُريد من نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاصها بمادة معينة فانّ المادة أيضاً غير مختصة بهيئة معينة ، فانّ المصدر له صيغ مختلفة كالضارب والمضروب التي هي كالهيئة بالنسبة إلى المصدر.

١٠١

وإن أُريد من شخصية الوضع في المواد امتياز كلّ مادة عن الأُخرى ، فكل هيئة أيضاً تتميز عن الأُخرى إذ هيئة الفاعل غير هيئة المفعول.

والظاهر انّ مراد القائل بنوعية الوضع في الهيئات وشخصيته في المواد هو انّ الهيئة غير قابلة للحاظها مستقلّة بل تلاحظ في ضمن مادة لكن وضعها كذلك كالضارب يوجب عدم اطّرادها في مادة أُخرى ، فيجب أن توضع بشكل لا يكون للمادة ( الضرب ) فيها أي مدخلية كأن يقال : هيئة ضارب وما يشبهها ، وهذا معنى نوعية الوضع في الهيئة ، فليس الوضع متعلّقاً لهيئة شخصية قائمة بمادة معلومة ، بل لها ولما يشبهها.

وأمّا المادة فهي قابلة للحاظها استقلالاً فلا تكون مقيدة بالهيئة ولو استخدمنا الهيئة فإنّما هي لإمكان النطق بها لا للحاظها مستقلاً.

فإن قلت : فعلى ذلك يكون المصدر هو مادة المشتقات مع أنّ المادة يجب أن تكون موجودة بعامة خصوصياتها في المشتقات ، ومن المعلوم انّ المصدر وإن كان موجوداً بمادته في سائر المشتقات ولكن هيئته غير موجودة ، لأنّها تمنع طروء الصيغ المختلفة عليه.

قلت : إنّ هيئة المصدر ليست جزءاً ، وإنّما استخدمنا الهيئة لإمكان النطق بها. فالموضوع هو ( ض ، ر ، ب ) والهيئة آلة لإمكان النطق بها. وعليه تكون المادة متوفرة في جميع الصيغ.

١٠٢

الأمر السابع

في علائم الوضع

أو

تمييز الحقيقة عن المجاز

قد ذكروا لتمييز الموضوع له عن غيره أو تمييز الحقيقة عن المجاز علائم أربع ، نذكرها واحدةً بعد الأُخرى.

العلامة الأُولى :

التبادر

التبادر عبارة عن سبق المعنى من اللفظ عند الإطلاق بنفسه من غير قرينة.

وبعبارة أُخرى : انسباق المعنى إلى الذهن من حاقِّ اللفظ لا عن القرينة بحيث كان السبق مستنداً إلى اللفظ نفسِه لا إلى القرينة فيكون دليلاً على أنّه موضوع له ، إذ ليس لحضور المعنى منشأ إلاّ أحد أمرين : إمّا القرينة أو الوضع فإذا انتفى الأوّل ثبت الثاني.

ثمّ التبادر إنّما يكون كاشفاً عن الوضع إذا كان سبق المعنى من اللفظ أمراً

١٠٣

مرتكزاً في النفس كما هو الحال في أهل اللغة حيث إنّ الإنسان إذا نشأ وترعرع بين أهل اللغة يرتكز معنى اللفظ في ذهنه فإذا تبادر بلا قرينة يكون دليلاً على الوضع.

فإن قلت : إنّ سبق المعنى إنّما يكون دليلاً على الحقيقة إذا فُسّـر المجاز باستعماله في غير ما وضع له ، وأمّا على القول المختار من أنّ المجاز هو اللفظ المستعمل في الموضوع له ـ كالحقيقة ـ لكن بادّعاء انّ المنطبق عليه من مصاديق اللفظ ، فلا يكون دليلاً على الحقيقة لاشتراكهما في أنّ المستعمل فيه هو الموضوع له.

قلت : إنّ المستعمل فيه في الحقيقة والمجاز وإن كان واحداً لكن يفترقان بانسباق نفس المعنى الحقيقي من اللفظ مجرداً عن الادّعاء بخلاف المجاز فانّ الانسباق فيه على أساس الادّعاء.

مشكلة الدور في التبادر

وقد أورد على كون التبادر علامة الوضع لاستلزامه الدور ، فانّه يُستخدم للعلم بالوضع ، وعلى ذلك فالعلم بالوضع متوقّف على التبادر ، وهو متوقّف على العلم بالوضع ، إذ لولا العلم به لما تبادر.

يلاحظ عليه : بأنّ المستعلِم ( بالكسر ) إمّا من أهل اللسان أو من غيره ، فإن كان من أهل اللسان فالعلم التفصيلي بالوضع ، موقوف على تبادره ولكن تبادره موقوف على العلم الارتكازي بالوضع الذي ربّما يعبّر عنه بالعلم الإجمالي ، وهذا النوع من العلم الارتكازي يحصل للإنسان الناشئ بين أهل اللغة منذ نعومة أظفاره.

وإن كان المستعلم من غيرهم فعلمه تفصيلاً بالوضع موقوف على تبادر

١٠٤

المعنى من اللفظ عند أهل اللسان وتبادرهم موقوف على علمهم بالوضع من طرق شتّى.

ثمّ إنّ هناك كلاماً للمحقّق العراقي في رفع الدور حيث قال : إنّ العلم المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقف عليه التبادر حتى لو قلنا بتوقفه على العلم التفصيلي ، لأنّه يكفي في ارتفاع الدور تغاير الموقوف والموقوف عليه بالشخص لا بالنوع ولا بالصنف ، ولا شبهة في مغايرة العلم الشخصي الحاصل بالتبادر للعلم الشخصي الذي يتوقف عليه التبادر. (١)

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان العلم التفصيلي الثاني موجوداً في لوح النفس قبل التبادر ، فلا معنى لتحصيل مثله كما لا يخفى.

بقيت هنا أُمور :

الأوّل : ربما يقال إذا كان الموضوع للاحتجاج هو ظهور الكلام سواء أكان حقيقة أم مجازاً فلا فائدة في معرفة الموضوع له ، وتمييز المعنى المجازي عن المعنى الحقيقي والذي يعتبره العقلاء هو ظـهور الكلام سواء كان الموضوع له أو لا. (٢)

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان الكلام ظاهراً في معنى ، كان لما ذكره وجه ، وأمّا إذا كان الكلام مجملاً فانعقاد الظهور موقوف على العلم بالوضع ، وهو يُعرف بالتبادر فيكون لمعرفة الموضوع له أثر وفائدة.

الثاني : انّ تبادر المعنى من اللفظ في زماننا لا يثبت كونه المعنى الحقيقي في عصر الرسول والأئمّة عليهم‌السلام حتى يحمل اللفظ الوارد من الكتاب والسنّة عليه إلاّ أن يعضد بأصالة عدم النقل ، وقلنا بأنّ مثبتاتها حجّة ، ولعلّه على هذا جرت سيرة

__________________

١ ـ المحقّق العراقي : بدائع الأفكار : ١ / ٩٧.

٢ ـ المحقّق العراقي : المقالات : ٣١ ، والتعبير منّا.

١٠٥

المفسرين للقرآن حيث يفسرون الأشعار الجاهلية والرسائل القديمة بالمعاني الرائجة في أيامهم.

الثالث : انّ التبادر كما قلنا إنّما يكون حجّة على الموضوع له إذا كان التبادر مستنداً إلى اللفظ لا إلى القرينة ، وإلاّ فالمعنى المجازي أيضاً يتبادر مع القرينة ، وعلى هذا فلو أحرزنا أنّ التبادر مستند إلى حاق اللفظ أو إلى القرينة فهو ، وإلاّ فهل يُجدي أصالة عدم القرينة لإثبات كون المعنى متبادراً من حاق اللفظ أو لا؟ الظاهر لا ، لا لأجل عدم حجّية الأصل المثبت ـ لما علمت أنّ الأصل اللفظي حجّة في مثبتاته ـ بل لأنّ العقلاء إنّما يستخدمون ذلك الأصل عند الشكّ في المراد فيعيّنون به المراد ، وأمّا إذا علم المراد وشك في كيفية الإرادة وانّه هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز فلا ، وما هذا إلاّ لأنّ العقلاء يستخدمون الأُصول فيما يمسّ بحاجاتهم ، وأمّا تعيين كيفية الإرادة وانّها هل هي على وجه الحقيقة أو المجاز فخارج عن مقاصدهم.

بحث استطراديّ

قد انتهى البحث عن التبادر وهناك بحث استطرادي ، وهو أنّ الدور المتوهم في التبادر ، نفس الدور المتوهم في الشكل الأوّل ، حيث إنّ العلم بالنتيجة موقوف على العلم بكلّية الكبرى ، والعلم بكليتها موقوف على العلم بثبوت الأكبر للأصغر ، ففي المثال المعروف : العالم متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث ، فلا شكّ أنّ العلم بالنتيجة موقوف على العلم بكلية الكبرى ، أي أنّ كلّ متغير ( حتى العالم ) حادث ، والعلم بكليّتها فرع العلم بالنتيجة ، إذ لولا العلم بأنّ الأصغر ( العالم ) من مصاديق الأوسط ( المتغير ) لما أمكن له الحكم بنحو الكلية.

وقد نقل أنّ العارف أبا سعيد أبا الخير أورد تلك الشبهة على الشيخ الرئيس

١٠٦

أبي علي ابن سينا قائلاً : بأنّ الاستنتاجات كلها من طرق الأشكال الأربعة والثلاثة الأخيرة تنتهي إلى الشكل الأوّل وهو مستلزم للدور ، لأنّ ثبوت النتيجة يتوقف على كلية الكبرى ، ولا يعلم صدق الكبرى على النحو الكلي حتى يكون الأكبر ( الحادث ) صادقاً على الأصغر ( العالم ).

وكان في وسع الشيخ أبي سعيد تبيين الشبهة بأقوى من ذلك بأن يقول : إنّ الموادّ التي تتألف من الأقيسة لا تتجاوز عن خمسة أقسام.

فالقسم الشعري والمغالطي خارجان عن حيّز الاعتبار ، وقسم الجدل لإسكات الخصم وتبكيته ، وربما يكون باطلاً عند المجادل ، والقياس الخطابي لإقناع الإنسان العاجز عن إدراك البرهان ، والقياس البرهاني يصاغ بأحد الأشكال الأربعة ، وأفضلها هو الشكل الأوّل وهو لا ينتج لاستلزامه الدور.

وقد نقل انّ الشيخ ملا خليل القزويني الذي تتلمذ على الشيخ بهاء الدين العاملي والمحقّق الداماد كان ممّن يجوّز الترجيح بلا مرجّح ويستشهد برغيفي الجائع وطريق الهارب وانّه يختار أحدهما بلا مرجح ، كما يعتقد ببطلان الشكل الأوّل لاستلزامه الدور بالبيان الآتي ، ولما وقف على أنّ المحقّق آغا حسين الخوانساري أجاب عن شبهته ، غادر قزوين متوجهاً إلى إصفهان ولما نزل بها ودخل المدرسة صادف بها أحد تلاميذ الخوانساري أعني الشيخ ميرزا محمد حسن الشيرواني فسأله عن سبب مجيئه إلى إصفهان ، فقال : جئت لأناظر الخوانساري لاعتقاده بصحّة الشكل الأوّل وأنا أعتقد بكونه عقيم.

فقال الشيرواني : لماذا؟

أجاب : لأنّه مستلزم للدور ، والدور باطل ، فالشكل الأوّل باطل.

فقال الشيرواني : يا للعجب ما أتقن برهانَك حيث تستدل بالشكل الأوّل على بطلان الشكل الأوّل ، فانّ ما ذكرته نفس الشكل الأوّل.

١٠٧

فلمّا سمع القزويني الجوابَ ركب راحلتَه وعاد إلى قزوين من دون أن يرى حاجة لمواجهة الخوانساري.

إنّ هذا النوع من التفكير الذي كان عليه القزويني شائع بين أهل العرفان المجرّدين عن البرهان حتى انّ جلال الدين الرومي من تلك الزمرة حيث يبرهن بالعقل على عدم حجّية العقل ويقول :

پاى استدلاليان چوبين بود

پاى چوبين سخت بى تمكين بود

وحاصله : انّ البرهان كالقدم الخشبي ، والقدم الخشبي ضعيف المقاومة ، فينتج انّ البرهان ضعيف المقاومة ، ترى أنّه يستدلّ بالبرهان العقلي على صورة الشكل الأوّل على بطلان البرهان.

هذا وقد أجاب الشيخ الرئيس عن الدور الذي طرحه العارف أبو سعيد أبو الخير وقال : إنّ كلية الكبرى موقوفة على العلم باندراج الأصغر في الأكبر إجمالاً ، والمقصود من النتيجة حصوله تفصيلاً ؛ وقد أوضحه المحقّق السبزواري في شرحه على منطق منظومته وقال : إنّ الحكم يختلف باختلاف العنوان ، حتى يكون الموضوع بحسب وصف ، معلوم الحكم ، وبحسب وصف آخر مجهولاً ، فيستفاد حكمه باعتبار وصف ، من العلم بحكمه باعتبار وصف آخر ، فإذا قلنا كلّ إنسان حيوان ، وكلّ حيوان حساس ، أخذنا أفراد الحيوان الذي هو الحد الأوسط بعنوان الحيوان ، لا بعنوان الإنسان ومجانساته ، فلا دور ولا مصادرة ، وتختلف الأحكام باختلاف العنوانات اختلافاً بيناً. (١)

فالإنسان بما انّه حيوان ، نعلم أنّه حساس ، ونريد أن نقف على أنّه حساس ، بما انّه إنسان فالعلم الثاني موقوف على الأوّل بلا عكس.

__________________

١ ـ الحكيم السبزواري : شرح المنظومة : قسم المنطق ، ٧٩.

١٠٨

وأوضحه المحقّق الآشتياني بقوله : إنّ العلم بالنتيجة ، أي أنّ العالَم ـ بالخصوص وبالتفصيل ـ حادث يتوقف على العلم بالمقدمتين ، وأمّا العلم بأنّ كلّ متغيّر حادث لا يتوقف على العلم بأنّ العالم بما هو عالم وبعنوان كونه عالَماً بخصوصه وتفصيلاً ، حادث ، بل على العلم إجمالاً بعنوان انّه شيء متغير ، حادث لا بعنوان انّه عالَم بخصوصه ، فالعلم به من حيث إنّه متصف بعنوان خاص وهو العالمية محكوم بصفة أُخرى وهي الحدوث ، متوقف على العلم به من حيث إنّه متصف بصفة أُخرى بعنوان آخر ، وهو كونه شيئاً متغيراً ، فلا دور لاختلاف طرفي التوقف. (١)

جواب آخر عن الدور

وهو انّ العلم بالنتيجة موقوف على كلية الكبرى ، ولكن العلم بكلية الكبرى موقوف على الدليل العقلي الدال على الملازمة بين التغيّر والحدوث من دون نظر إلى مصداق دون مصداق ، فإذا دلّ الدليل العقلي على أنّ التغير عبارة عن التدرّج في الوجود ، والتدرج يلازم تحقّق الشيء شيئاً فشيئاً يكون التغير ملازماً للحدوث ، فالعقل ينتزع من هذه الملازمة قانوناً كلياً باسم كل متغير حادث.

هذا إذا كان الموضوع في الكبرى دليلاً على الملازمة كالتغير ، وربما لا يكون كذلك وإنّما تعلم كلية الكبرى من دليل خارجي ، مثلاً نقول : هذا مثلث وكلّ مثلث زواياه تساوي زاويتين قائمتين ، فالعلم بالكبرى رهن البرهان الهندسي على انّ مقدار زوايا المثلث ، تساوي زاويتين قائمتين.

تمّ الكلام في التبادر وإليك البحث في العلامة الثانية.

__________________

١ ـ الآشتياني : التعليقة على شرح المنظومة.

١٠٩

العلامة الثانية :

صحّة الحمل وصحّة السلب

إنّ صحّة الحمل تعرب عن كون الموضوع هو المعنى الحقيقي كما أنّ صحّة السلب آية كونه مجازاً.

وتحقيق المقام يحتاج إلى بيان أُمور :

الأوّل : انّ الحمل إمّا أولي ذاتي أو شائع صناعي ، فالأوّل عبارة عمّا إذا كان بين المحمول والموضوع وحدة مفهومية ، وأمّا الثاني فهو عبارة عن كون الموضوع من مصاديق المحمول ، وكان الاتحاد في مقام الوجود والعينية دون المفهوم كما إذا قلنا : زيد إنسان.

ثمّ إنّ صحّة الحمل إنّما تجدي في القسم الأوّل كأن يقال : الحيوان المفترس أسد ، والحيوان الناطق إنسان ، بخلاف الحمل الشائع الصناعي فانّه لا يثبت كون الموضوع هو الموضوع له للمحمول ، وإنّما يثبت كونه من مصاديق المحمول ، وهو ليس بمطلوب في المقام ، ولذلك نركّز في المقام على الحمل الأوّلي دون الحمل الشائع الصناعي.

الثاني : انّ كيفية الاستعلام تتحقّق بالنحو التالي :

يُتخذ المعنى موضوعاً وينظر إليه لا بما هو لفظ بل بما انّه مفهوم ، ويجعل اللفظ الذي نريد استعلام معناه ، محمولاً ويقال : الحيوان المفترس أسد أو الحيوان الناطق إنسان ، فإذا صحّ الحمل يكون ذلك علامة على أنّ الموضوع ، هو الموضوع له ، كما أنّ صحّة السلب آية انّه ليس بموضوع له ، كما إذا قال : الرجل الشجاع ليس بأسد حقيقة.

الثالث : انّ المحقّق القمي فرّق بين صحّة الحمل وصحّة السلب ، فاكتفى

١١٠

في الأوّل بصحّة حمل معنى واحد على الموضوع ، وقال في الثاني بأنّه لا يكون علامة إلاّ إذا صحّ سلب جميع المعاني الحقيقية عن المستعمل فيه لئلا يرد النقض في المشترك فانّه يصحّ سلب بعض المعاني عن مورد ، كالعين بمعنى الذهب عن الفضة ولا يصحّ سلب جميعها. (١)

الرابع : قد أورد السيّد الأُستاذ على كون صحّة الحمل علامة الوضع ، أو صحّة السلب علامة المجاز ، بأنّ الاستعلام حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع ، السابق على الحمل وسلبه ، فيكون اسناده إلى الحمل وسلبه في غير محله.

فإن قلت : إنّما يصحّ ما ذكر إذا كان المستعلم من أهل اللسان ، وأمّا إذا كان من غيرهم فلا تبادر ولا وحدة عنده بين الموضوع والمحمول فحينئذ إذا رأى صحّة الحمل عند العرف أو صحّة السلب يجد ضالّته.

قلت : إنّ صحّة الحمل عند أهل اللغة أو عدم صحّته يرجع إلى تنصيص أهل اللغة واللسان وليست بعلامة مستقلة ، لأنّ العلم بصحّة الحمل لا يحصل إلاّ بتصريح الغير. (٢)

يلاحظ عليه : انّا نختار الشق الأوّل وانّ المراد هو صحّة الحمل عند المستعلم لكن إنّما تكون صحّة الحمل مسبوقة بالتبادر إذا كان زمان الاستعلام مقارناً بزمان الحمل وسلبه فيسبقه التبادر ويغني عن غيره.

وأمّا إذا كان زمان الحمل مقدّماً على زمان الاستعلام ، كما إذا صدر الحمل عن الإنسان في مقام إلقاء الخطابة أو المحاضرات العلمية ولم يكن حينذاك بصدد الاستعلام وإنّما تكلم بما تكلم ارتجالاً ، ولما صار بصدد الاستكشاف وقف

__________________

١ ـ قوانين الأُصول : ١ / ٢١.

٢ ـ تهذيب الأُصول : ١ / ٥٨.

١١١

على حمله أو سلبه السابقين ، فيستدل به على كون الموضوع حقيقة أو مجازاً.

ونختار الشق الثاني ونقول : إنّ المراد من تنصيص أهل اللغة هو تصريحهم بالموضوع على وجه تفصيلي كقاموس اللغة وأساس البلاغة ولسان العرب ، وما أفاده من أنّ العلم بصحّة الحمل لا يحصل إلاّ بتصريح الغير فيرجع إلى تنصيصه ، غير تامّ ، بل العلم بها يحصل من الوقوف ولو بالقرائن الخارجية على كون الحمل أو السلب صحيحاً عندهم وإن لم يصرّحوا بصحّة الحمل.

الخامس : قد سبق انّ التبادر لا يثبت إلاّ انّ الموضوع هو المعنى الحقيقي في عصر المتعلّم ، وامّا انّه هو الموضوع له في عصر النبي والأئمّة فلا يتم إلاّ بأصالة عدم النقل المتفق عليها عند العقلاء ، ومثله صحّة الحمل أو عدم صحّة السلب فلا يثبت إلاّ كون الموضوع هو المعنى الحقيقي في عصرنا.

نعم لو قلنا بأنّ المدار في الحجّية هو الظهور الواصل للسامع كفى نفس التبادر وصحة الحمل المثبتين لهذا الظهور.

وأمّا لو كان المدار هو الظهور حين صدوره من المتكلّم فهو يحتاج ـ وراء التبادر أو صحة الحمل ـ إلى أصالة عدم النقل.

السادس : انّ مشكلة الدور وحلها في المقام نفسها في التبادر طابق النعل بالنعل.

* * *

١١٢

العلامة الثالثة :

الاطّراد

إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد كلي بحيثية خاصة ، كرجل باعتبار الرجولية في زيد وعمر ، مع القطع بكونه غير موضوع لكل واحد على حدة ، استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها وبين ذاك الكلي ، وعلم أنّه موضوع للجامع بين الأفراد. واحتمال كونه مجازاً لأجل العلاقة ، مدفوع بعدم الاطّراد في علائق المجاز ، فانّ علامة الجزء والكل ليست مطردة بشهادة انّه يصحّ استعمال العين في المراقب ولا يصحّ استعمال الشعر فيه ، ويصحّ استعمال اللسان في الوكيل دون الصدر فيه وغير ذلك.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :

١. انّ المجاز وإن لم يطرد في نوع علائقه ومطلق المشابهة إلاّ انّه في خصوص ما يصحّ معه الاستعمال في المجاز مطرد كالحقيقة. (١)

يريد أنّ استعمال الجزء في الكل وإن كان ليس بمطّرد في نوع تلك العلاقة بأنْ يطلق الجزء كالشعر ويراد الكل أي الإنسان ، لكنّه مطّرد في خصوص ما كان للجزء دور خاص في مورد الاستعمال كالعين في المراقبة ، والتبيين في اللسان ، والعمل في اليد.

ثمّ إنّه لما التفت إلى وجود الفرق بين الاطّرادين حيث إنّ الاطّراد في الحقيقة عار عن التأويل ، بخلاف الاطّراد في المجاز فانّه لا يصحّ إلاّ مع التأويل ، أي تنزيل الجزء منزلة الكل ، وكأنّه ليس للإنسان الجاسوس شأن سوى العين والنظر ،

__________________

١ ـ كفاية الأُصول : ١ / ٢٨.

١١٣

وللعامل سوى العمل باليد ، وهكذا ، وعلى ذلك فالاطّراد بلا تأويل علامة الحقيقة ، والاطّراد معه آية المجاز.

ولما التفت إلى ذلك الإشكال حاول الإجابة عنه من دون أن يذكر الإشكال وقال :

٢. وزيادة قيد من غير تأويل أو على وجه الحقيقة وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك في الحقيقة إلاّ انّه حينئذ لا يكون علامة لها إلاّ على وجه دائر. (١)

توضيحه : انّ العلم التفصيلي بالحقيقة موقوف على الاطّراد من غير تأويل أي الاطّراد على وجه الحقيقة تفصيلاً فيلزم اتحاد الموقوف والموقوف عليه.

ثمّ قال : إنّه لا يمكن الإجابة عن الدور بما ذكر في التبادر وصحة الحمل ، لأنّ أحد الطرفين فيهما كان تفصيلياً والآخر إجمالياً بخلاف المقام فانّ الطرفين على نحو التفصيل.

٣. وإلى الإشكال الثالث يشير المحقّق الخراساني بقوله : ولا يتأتّى التفصّي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره. (٢)

وحاصل كلام المحقّق الخراساني يرجع إلى أُمور ثلاثة :

الأوّل : انّ المجاز مطرد كالحقيقة في صنف العلامة.

الثاني : انّ إضافة قيد « بلا تأويل » في تعريف الاطّراد يوجب الدور.

الثالث : الجواب المذكور عن الدور في العلامتين الماضيتين لا يأتي هنا.

وقبل الإجابة عن هذه الإشكالات نوضح واقع الاطّراد وانّه لو كان هناك

__________________

١ و ٢ ـ كفاية الأُصول : ١ / ٢٩.

١١٤

علامة للتعرف على الحقيقة لمن يريد الوقوف على اللغة هو الاطّراد غير انّ المشهور لم يعيروا أهمية لهذه العلامة حتى أنّ البعض ترك البحث فيها ، غير أنّ المتتبع لاستعمالات اللغة يجد أنّ الاسلوب الوحيد للتعرّف على معاني الألفاظ هو الاطّراد.

توضيح ذلك : انّ الجاهل باللغة إذا أراد أن يعرف معاني اللغات الأجنبية من أهل اللسان ليس له طريق إلاّ الاستماع لمحاضرات أهل اللغة في مقامات مختلفة ، فإذا رأى أنّ لفظاً خاصاً تستعمله طوائف مختلفة مع ثقافات متنوعة بحيثية واحدة في معنى واحد ينتقل إلى أنّه هو الموضوع له وانّ الاستعمال خال عن القرينة ، مثلاً : رأى أنّ الفقيه يقول : الماء طاهر ومطهّر ، أو قليل أو كثير ، ويقول الكيميائي : الماء مركب من عنصرين أوكسيجين وهيدروجين ، ويقول الفيزيائي : الماء لا لون له ، والكل يستعمل ذلك اللفظ في مورد خاص بحيثية واحدة وهو المايع السيال ، وبما انّ المستعملين ذوو ثقافات مختلفة فمن البعيد أن يكون بينهم اتفاق على الاستعمال ، فإذاً ينتقل الإنسان إلى أنّ الماء في لغة العرب موضوع للجسم الرطب السيال ، فالفقيه العربي كالكيمياوي العربي مثل الفيزياوي كلّ يطلق ذلك اللفظ على هذا المعنى بما هو من أبناء تلك اللغة لا بما هو فقيه أو كيمياوي أو فيزياوي.

وبذلك يعلم أنّ طريق اقتناص معاني اللغة الأجنبية إنّما هو الاطّراد ، فلنفترض انّا لا نعلم معنى الغنيمة الواردة في قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا انّما غَنِمْتُم من شَيْء فأَنّ للّهِ خُمُسَه ) (١) حيث إنّ معناها مردد بين غنيمة الحرب أو مطلق ما يفوز به الإنسان ، فالسنّة على الأوّل ، والشيعة على الثاني ، ومن الطرق الموضحة

__________________

١ ـ الأنفال : ٤١.

١١٥

لمعناها هو التتبع في لغة العرب واستعمالها في كلمات أهل اللسان في خصوص الغنيمة الحربية أو مطلق ما يفوز به الإنسان ، فإذا رجعنا إلى القرآن نرى أنّه يستعمله في المعنى الثاني ويقول : ( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثيرَة ) (١) ، فالمراد من الغنائم عند اللّه هو الثواب الأُخروي ، وإذا رجعنا إلى السنّة نرى أنّها تستعمله في ذلك المعنى ، يقول رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « غنيمة مجالس الذكر الجنة » (٢) وفي حديث آخر : « رمضان غنم المؤمن » (٣) إلى غير ذلك من الموارد التي تستعمل في ألسنة أهل اللغة في معنى عام ، فإذاً يحدس الإنسان بأنّه الموضوع له ، وأمّا استعمالها في الغنيمة الحربية فلأجل أنّها من مصاديق ذلك المعنى ، وإن شاع الاستعمال الثاني في ألسن المفسرين والفقهاء.

إذا وقفت على ما ذكرنا فلنرجع إلى نقد ما ذكره المحقّق الخراساني.

أمّا الإشكال الأوّل : أعني وجود التسوية بين الحقيقة والمجاز حيث إنّ الثاني مطرد في صنف العلائق كالحقيقة.

فالإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّ المجاز غير مطّرد حتى في مورد صنف العلاقة ، لأنّ المجاز عبارة عن حسن استعمال اللفظ في الموضوع له لكن بادّعاء أنّ المورد من مصاديق المعنى الحقيقي ، ولكن حسن هذا الادّعاء رهن أمرين :

أ : أن يستحسنه الذوق ، فلو قال أسد وأراد به الحيوان المفترس وطبّقه على الرجل الشجاع يستحسنه الذوق ، دون ما إذا قال أسد وأراد الحيوان المفترس لكن طبقه على الرجل الأبخر بادعاء أنّ الحيوان المفترس أيضاً أبخر.

ب : كون المقام مناسباً لإظهار هذا الادّعاء ، فلا يستعمل الأسد في المعنى

__________________

١ ـ النساء : ٩٤.

٢ و ٣ ـ انظر الاعتصام بالكتاب والسنّة : ٢٩٢ تجد فيها أحاديث أُخرى مع مصادرها.

١١٦

المجازي إلاّ إذا كان المقام مناسباً لإظهار بطولته وشجاعته ، كما في قول الشاعر :

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

بخلاف ما إذا لم يكن المقام مقتضياً له كما إذا حاول أن يشاركه في الغذاء فلا يصحّ أن يقول يا أسد تفضل إلى الطعام بل يجب أن يقول : يا صديق تفضل إلى الطعام.

فهناك فرق بين يا رجل ويا أسد ، فالثاني لا يصحّ إلاّ إذا كان المقام مختصاً ببيان شجاعته ، بخلاف الأوّل فانّه يطّرد مطلقاً في عامة المقامات ، وبذلك يظهر اختصاص الاطّراد بالحقائق دون المجازات ، ولأجل ذلك قلنا لو صحّ استعمال اللفظ في موارد مختلفة مع محمولات مختلفة ، لكشف عن كون المجوز هو الوضع دون القرينة.

ومثله إذا قلنا « فلان عين » فليس له اطّراد ، كاطّراد لفظ الإنسان إلاّ في مقام خاص وهو كونه مراقباً للأُمور.

وأمّا الإشكال الثاني : أعني إضافة « من غير تأويل » إلى تعريف الاطّراد يستلزم الدور.

فالظاهر أنّ المحقق الخراساني زعم أنّ العلم بالموضوع له على وجه الحقيقة متوقف « على الاطّراد من غير تأويل » على نحو يجب أن يحرز قبل الاستعلام « الاطّراد بلا تأويل » ثمّ يستخدمه المستعلم في التعرف على الموضوع له ، فلو كان هذا هو المراد لكان لإشكاله وجه ، إذ مع العلم بالمعنى الحقيقي ، لا جهل حتى نتوسل إلى رفعه ، مضافاً إلى اتحاد الموقوف والموقوف عليه.

وأمّا إذا كان المراد أنّ العلم بالمعنى الموضوع له على وجه الحقيقة موقوف على إعمال الاطّراد بكثرة حتى يقف المستعلم بأنّ الاستعمال في هذه الموارد

١١٧

الكثيرة ليس مقروناً بالتأويل ، فهو لا يستلزم الدور ، لأنّ قيد « من غير تأويل » ليس قيداً للاطّراد من أوّل الأمر وإنّما هو نتيجة الإطراد.

وعلى ذلك فالعلم بالموضوع له على وجه الحقيقة متوقّف على الاطّراد ، لكن إلى حد يحصل العلم بأنّه ليس في المقام أي تأويل وتنزيل ، وإلاّ فلو كان لعُلم ، فهو ( أي من غير تأويل ) نتيجة الاطّراد وفي طوله لا في عرضه.

وعلى ذلك فينشأ من الاطّراد أُمور ثلاثة :

أ. انّ الاطّراد نتيجة الوضع.

ب. الاطّراد ليس مقروناً بالتأويل.

ج. انّ المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي.

إلى هنا تمّت الإجابة عن الإشكالين.

وأمّا الإشكال الثالث من انّ الجواب عن الدور على النحو السابق في التبادر وصحّة الحمل لا يأتي في المقام فقد علم جوابه ممّا ذكرنا ، وذلك لأنّ العلم بالحقيقة على وجه التفصيل هو الموقوف ولكن الموقوف عليه هو الاطّراد إلى حد ينتهي إلى العلم بعدم التأويل ، فعندئذ يحصل العلم بالعلم بالحقيقة.

وقد أورد على الاطّراد السيّد الأُستاذ إشكالاً آخر وحاصله :

أنّ الاطّراد مسبوق بصحّة الحمل فيكون غير محتاج إليه.

ويمكن الإجابة عنه ، بأنّ الاطّراد إنّما يكون مسبوقاً بصحّة الحمل لو علم انّ الحمل صحيح بلا قرينة ، وأمّا إذا شكّ في أنّ المصحّح للحمل ذات الموضوع ، أو بضميمة قرينة فلا يكون مسبوقاً به ، فعندئذ يكون اطّراد الاستعمال في موارد مختلفة مع الحمل عليه بمحمولات متنوعة كاشفاً عن الحقيقة ، وأنّ المجوز هو الوضع ، دون القرينة من دون أن يكون لصحّة الحمل دور في مجال الاستكشاف.

١١٨

ثمّ إنّ كون الاطّراد دليلاً على الحقيقة ليس بمعنى أنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة كما عليه المرتضى ، وذلك للفرق بين القولين فانّ ما ذكره يرجع إلى أنّ الأصل في كلّ استعمال ما لم يعلم كونه مجازياً كون المستعمل فيه معنى حقيقياً ، ولأجل ذلك ذهب إلى أنّ اشتراك صيغة الأمر في الوجوب والندب لأجل استعماله فيهما.

وبالجملة : هو يكتفي بمجرّد الاستعمال ويجعله دليلاً على الحقيقة.

وما ذكرنا يرجع إلى أنّ استعمالاً واحداً أو اثنين لا يكشف عن كون المستعمل فيه حقيقة إلاّ إذا انتهى إلى حدّ نطمئنّ بأنّ الانتقال من اللفظ إلى المعنى ، مستند إلى الوضع لا إلى القرينة إذ لو كان لبان ، ولو خفي في مورد فلا يكاد يخفى في الموارد المختلفة ، وكم فرق بين القولين.

العلامة الرابعة :

تنصيص أهل اللغة

قد ذكروا انّ تنصيص أهل اللغة على معنى اللفظ من أسباب التعرّف على المعنى الحقيقي وتمييزه عن المعنى المجازي ، والمراد من أهل اللغة هم الذين ألّفوا معاجم اللغة وقواميسها ، منهم :

١. الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي سيد أهل الأدب ، فهو أوّل من دوّن لغة العرب على وفق حروف المعجم لكنّه رتب الحروف حسب مخارجها من الحلق ، فاللسان فالأسنان ، فالشفتين ، وبدأ بحرف العين وختمها بحروف العلة ( واي ) وقد طبع أخيراً ، توفّـي عام ١٧٠ هـ.

١١٩

٢. محمد بن الحسن بن دريد ، صاحب الجمهرة في اللغة ( المتوفّى عام ٣٢١ هـ ).

٣. إسماعيل بن حمّاد الجوهري ، صاحب كتاب صحاح اللغة ، ( المتوفّـى عام ٣٩١ هـ ).

إلى غير ذلك من أُمّهات كتب اللغة المؤلفة في العصور الأُولى ، أو المؤلفة في العصور الوسطى ، كلسان العرب لابن منظور المصري ( المتوفّـى عام ٧٠٧ هـ ) ، و « القاموس المحيط » للفيروز آبادي ( المتوفّـى عام٧١٧ هـ ).

ثمّ إنّه استشكل على تلك العلامة بأنّ شأن اللغوي هو بيان موارد الاستعمال من غير فرق بين كونه معنى حقيقياً أو مجازياً ، مع أنّ المطلوب هو تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي.

يلاحظ عليه بوجهين :

الأوّل : أنّ كتب اللغة على قسمين : قسم منه يتعرّض للمعنى الأصلي الذي اشتقّ منه سائر المعاني وتفرّع منه بمناسبة من المناسبات ، ومن أحسن ما ألف في هذا المضمار كتاب « المقاييس » لأحمد بن فارس بن زكريا ( المتوفّـى عام ٣٩٥ هـ ) ، و « أساس البلاغة » للزمخشري ( المتوفّـى عام ٥٣٨ هـ ) فقد بذل المؤلفان الجهودَ لتعيين أُصول المعاني وتميزها عن متفرعاتها ، فالرجوع إلى هذين المعجمين يوقف المراجع على المعنى الموضوع له ، دون خصوص المستعمل فيه.

الثاني : ان همّ أغلب المعاجم وإن كان بيان المستعمل فيه ، من دون تركيز على المعنى الأصلي ، لكن الممارس لها ، ممارسة تامة يكتسب ملكة يستطيع بها تمييز المعنى الحقيقي عن المعاني المشتقة منه ، وذلك رهن الممارسة الممتدة بكتب اللغة ، على نحو يخالط علمُ اللغة دمَه ولحمَه ، مضافاً إلى قريحة أدبية يقتنص على ضوئها

١٢٠